قبسات من روائع البيان

قبس من روائع البيان في سورة الأنبياء

اسلاميات

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ(1))

لا يخفى عليك أخي الكريم هذا الأسلوب البديع في افتتاح سورة الأنبياء لما فيه من غرابة وإدخال للروع على المنذرين، فالاقتراب يوحي بأن شيئاً محبباً سيقص على السامع، وإذا بالسامع يفاجأ بأن الذي اقترب هو الحساب ، ولم يقل السياق اقترب الناس من الحساب ، بل الحساب هو الذي يدنو ويقترب. وما ذاك إلا ليسرح الخيال بهذا المشهد المهيب مشهد اقتراب الحساب وكأنه غارة تداهم الناس لتأخذهم كل مأخذ .

(ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ(9))

أي لطف يحمله الله لعباده في هذه الآية ، تأمل أخي المؤمن كيف انتقل السياق القرآني من صيغة الماضي (فَأَنجَيْنَاهُمْ) إلى صيغة المضارع والتقدير(نَّشَاء)، فلم يقل تعالى (فأنجيناهم ومن شئنا) بصيغة الماضي بل عدل عن الماضي إلى المضارع والتقدير فقال (وَمَن نَّشَاء) ، وفي هذا تأميل للمكذبين بأن يؤمنوا ، ثم عدل إلى الماضي في الإهلاك فقال (وَأَهْلَكْنَا) ولم يقل (ونهلك المرفين) وفي ذلك ترغيب للسامعين في الإيمان .

(وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً (11))

انظر أخي الكريم إلى مشاهد العذاب في الآية ، ودقة التصوير التي رسمها البيان الإلهي ، والقصم أشد حركات القطع ، وجرسها اللفظي يصور معناها ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة ، فإذا هي مدمرة محطمة .

(وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ(11))

تأمل أخي هذه اللفتة الرائعة في بيان الله عز وجل، فهو عند القصم يوقع الفعل على القرى ، (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ) ليشمل ما فيها ومن فيها ، وعند الإنشاء من جديد يلقي الفعل على القوم الذين يبشؤون ويعيدون إنشاء القرى (وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ). وفي هذا النظم مراعاة للحقيقة والواقع ، فالدمار يحل على الديار وأهلها ، ولكن الإنشاء يبدأ بأهل الدار الذين يعيدون إنشاء البنيان ، إضافة إلى أن عرض هذه الحقيقة في هذه الصورة يضخم عملية القصم والتدمير لشمولها على القرى ، ما فيها ومن فيها ، وهذا هو الظل المراد إلقاؤه على طريقة التصوير .

 (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ(12))

تطالعك هذه الآية – أخي الكريم – على حركة القوم في تلك القرى المقصومة وبأس الله يأخذهم. فهم كالفئران في المصيدة ، يضطربون من هنا إلى هناك ، ثم يسارعون بالخروج من القرية ركضاً وعدواً ، وقد تبين لهم بأس الله وأحسوه ، وكأنما الركض يفيدهم ، ولكنها حركة الفأر في المصيدة بلا تفكير ولا شعور ، وعلى هذا ترتقي الآية إلى أعلى مراتب التصوير الحركي بكلمات قليلة .

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(18))

أخي الحبيب – إن حقيقة القذف هي رمى سهم على جسم ، والدمغ كسر الجسم الصلب الأجوف . وانظر إلى هذه الصورة الفنية الرائعة ، صورة الحق الذي يقذف على جسم الباطل الأجوف الفارغ الخاوي ، فماإن يلامسه حتى يحطمه ويلقيه طريح الأرض ، والحق يصبح قذيفة القدرة الإلهية . وهذه القذيفة تتحرك حركة سريعة خاطفة نحو الباطل الأجوف ، فتكسره كسراً عنيفاً ، فإذا هو هالك زائل .

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30))

إن الرتق هو الاتصال ، والفتق ضده وهو الانفصال ، وإذا أمعنت النظر في الآية وجدت أن الله أخبر عن اتصال السموات والأرض بالمصدر دون الفعل فقال (كَانَتَا رَتْقًا) ، وفي حالة الفتق أخبر عن ذلك بالفعل فقال (فَفَتَقْنَاهُمَا) ولم يقل (صارتا فتقاً) . وذلك ليبين لك أن الرتق كان متمكناً من السموات والأرض أشد التمكن ، وفي هذا إشارة إلى عظيم قدرته سبحانه في فتقهما بعد أن كانتا رتقاً . فتعالت قدرتك يا رب !

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(33))

إليك أخي المؤمن واحداً من بدائع الإعجاز في هذه الآية، ففيها محسن بديعي (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) تقرأ حروفه من آخرها على الترتيب كما تقرأ من أولها ، فإنك إذا قرأتها من اليسار تلفظها (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) كأنك قرأتها من اليمين . وهذا ما يسمى عند أهل الاختصاص (المقلوب المستوي) ، وهو من مبتكرات القرآن إذ لم يذكروا منه شيئاً وقع في كلام العرب ، ومثله (سر فلا كبا بك الفرس).

(وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) )

لسائل أن يقول: لم عبّر البيان عن الله تعالى باسم (الرَّحْمَنِ) دون غيره من الأسماء ، فلم يقل مثلاً (وهم بذكر الله هم كافرون) ؟ أخي الحبيب إن الإتيان بهذا الاسم فيه تعريض بالمشركين ، إذ كانوا يأبون أن يكون (الرَّحْمَنِ) اسماً لله تعالى . قال تعالى في سورة الفرقان (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا(60)) وفيه تسفيه لهم ، إذ لا يعقل أن يجحد الإنسان الغافل ويكفر بمن تكون له الرحمة ، فكيف إذا كان الراحم هو مالك السموات والأرض ورحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما .

 (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ(37))

أخي الكريم انظر كيف استطاعت الآية تحويل الحقيقة المعقولة المجردة ، وهي (العجَل) ، إلى مادة تدخل في أصل التكوين ، فالعَجَل السرعة ، وخلق الإنسان منها استعارة واضحة على تمكن هذه الصفة من جبلة الإنسان ، فيكون كأنه مخلوق منها ، فلم تعد العجلة صفة له وحسب بل هي أصل تكوينه وخلقته .

 (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ(39))

تأمل أخي هذا التمثيل الحي الذي يرسمه القرآن الكريم لمشهد العذاب يوم القيامة ، فهو يخص بلفح النار الوجه والظهر دون غيرهما من أعضاء الجسم ، فهل في ذلك زيادة فائدة أرادتها الآية؟ الحقيقة أن ذكر الوجه والأدبار جاء للتنكيل بالكفار وتخويفهم ، فالوجوه أعز الأعضاء على الناس ، والأدبار والظهور يأنف الناس من ضربها لما فيه من شدة إهانة وخزي، ولذلك كانت الآية بهذا الشكل أبلغ مما لو قالت (حين لا يكفون عن أنفسهم النار) .

(وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(46) )

تدبر أخي المشاهد في هذا التعبير الذي يصور حالة المعذبين في الآخرة بدقة متناهية ، ويشف عما يختلج في نفوس الظالمين المعتدين ، فقلوبهم منخلعة وصدورهم متجلجلة مضطربة ، وهذا الهلع والخوف يساورهم عند أدنى عذاب يمسهم .ولهذا آثرالقرآن أن يعبر عن هذا الهلع بقوله (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) دون (ولئن أصابهم عذاب ربك) لأن النفح هو العطاء القليل ، والمس اتصال خفيف بظاهر الجسم لا يكاد يشعر به ، ومع صغر هذا المس يهرع الظالمون بالدعاء على أنفسهم بالويل والثبور. وإمعاناً في تصغير هذا المس عبر عنه بمصدر المرة ، فقال (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) دون (ولئن مسهم نفح) . فبالله عليك لئن كان هذا هو حالهم وشأنهم مع أدنى العذاب المعد لهم فما موقفهم مع ما أعد لهم من العذاب البئيس.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ(51))

انظر أخي الحبيب إلى هذا التكريم والتشريف الذي كلل سيدنا إبراهيم ، فقد نسب الله لذاته إيتاء إبراهيم رشده ، فقال (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ) ولم يقل (ولقد أوتي إبراهيم رشده) بصيغة المجهول، للتنويه بشرف إبراهيم ولتفخيم منزلته . وزاد ذلك المقام تعظيماً بقوله (وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ) ، ألا ترى أن ذلك يوحي إلى أن إبراهيم آتاه الله رشداً عظيماً ، لأن الله يعلم من هو إبراهيم ، أي يعلم أنه أهل لذلك الرشد .

(أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ(67))

أخي الحبيب إن إبراهيم عليه السلام أراد أن يظهر لقومه شدة الحنق والغيظ الذي ملأ صدره من سوء تصرفهم ، فعبر عن هذا الغيظ بقوله : (أُفٍّ لَّكُمْ) ، وقد آثر هذا اللفظ لما فيه من رسم ملامح السخط والغضب ، فهو يمثل صورة تنفس المتضجر لضيق نفسه من الغضب . فهذا اللفظ يؤدي المعنى لفظاً ومعنى ، فمعناه التضجر ولفظه يدل على التذمر (أُفٍّ لَّكُمْ) ، وزاد من هذا المعنى عندما نوَّن (أُفٍّ) أي إني ضجرت منكم ضجراً قوياً عظيماً بلغ غايته ومنتهاه .

(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ(68))

عزيزي المشاهد : لم طلب قوم إبراهيم إحراقه بقولهم (حَرِّقُوهُ) ولم يكتفوا بالفعل الثلاثي المخفف (احرقوه) ؟ (حَرِّقُوهُ) يدل على الحرق كما يدل عليه الفعل الثلاثي ( احرقوه) ولكنه يزيد في إظهار مبالغة الحرق ، أي لا تقفوا عند حرقه وحسب بل احرقوه حرقاً متلفاً ، فعلام هذا التشديد في إحراق إبراهيم عليه السلام ؟ لما غلب إبراهيم قومه بالحجة القاهرة لم يجدوا مخلصاً إلا بإهلاكه ، وكذلك المبطل إذا فزعت باطلت حجة فساده غضب على المحق ولم يبق له إلا مناصبته والتشفي منه ، وبذلك عبروا من خلال قولهم (حَرِّقُوهُ) عما يجيش في نفوسهم من الحقد المتأجج ، لما أظهر إبراهيم من سوءتهم وعورهم .

(وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ(73))

لم أعيد الفعل( َجَعَلْنَاهُمْ) عقب قوله (وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) ولك يكتف بقوله (وكلاً جعلنا صالحين وأئمة) ؟ في إعادة فعل (جعل) في قوله تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) دون أن يقال ( وأئمة يهدون بأمرنا) اهتمام بهذا الجعل الشريف ، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم ، فأعيد الفعل ليكون له فريد استقرار وتكريم بجعلهم أئمة هادين .

 (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76))

؟ ماهو الكرب الذي نزل بقوم نوح حتى امتن الله عليه وعلى أهله بالإنجاء ، ولم وصف بالعظيم؟ عبّر الله عن الطوفان بالكرب لأن الكرب في أصله يدل على شدة حزن النفس ، بسبب خوف أو حزن ، وآثر القرآن أن يكني عن الطوفان بالكرب العظيم لما فيه من تهويل للناس عند ابتدائه وعند مده ، ولا يزال لاحقاً لمواقع هروبهم حتى يعمهم فيبقوا ملازمين آلام الخوف ، فتارة يغرقون وتارة يطفون . وهذا كله يدل على أن الكرب الذي خيم على قلوبهم ، ولا شك بأنه كرب ، وكرب متكرر عظيم لا يعرف قدره إلا من ذاقه ، حماني الله وإياك من البلايا والكروب .

(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83))

تأمل أخي المؤمن في هذا الأدب الذي يتسربل به سيدنا أيوب عليه السلام ، فهو في حالة ضر وألم وقد اضطره هذا الحال إلى رفع الشكوى إلى كاشف البلوى ، فهل قال ( رب إني مريض فاشفني ، أو إني سقيم فأزل عني ما أجد)؟ إنه لم يزد على أن قال (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، واستعمل المس الذي يعني الإصابة الخفيفة ، ولا شك أنه لو كان في اللغة عبارة ألطف من كلمة المس لاستعملها ، فقد عبّر بالمس جرياً مع الأدب الذي سلكه أيوب في دعائه مع الله ، إذ جعل ما حل به من الضر كالمس الخفيف .

(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ(84))

انظر أخي الحبيب إلى روعة التعبير في قوله (فَكَشَفْنَا) إذ أن الكشف يعني إزالة الغطاء عن الشيء بسرعة ، ولذلك آثر القرآن أن يعبر عن استجابة الله لدعاء أيوب بكشف الضر دون ( فشفيناه) لأن الشفاء قد يقتضي وقتاً حتى يتماثل المريض إلى البرء التام ، وأما الكشف فلا يستغرق إلا مدة الإزالة ، وهي مدة لا تكاد تحسب لسرعة حصولها .

(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87))

لطيفة : دخل ابن عباس على معاوية رضي الله عنهما ، فقال له معاوية : (لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بآية ، قال : وما هي؟ فقرأ معاوية هذه الآية (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقال : أويظن نبي الله أن الله لا يقدر عليه؟ قال ابن عباس : هذا من القدر لا من القدرة ،يعني التضييق عليه .

(فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ)

لم جمع ربنا الظلمات فقال (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) ولم يقل (فنادى في الظلمة )؟

وصف ربنا مكان نداء ذي النون بأنه في الظلمات بصيغة الجمع ، للإشارة إلى ظلمة الليل وظلمة مقر البحر وظلمة بطن الحوت .

 (إٍنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90))

أخي المؤمن تقول سارعت إلى الصلاة في المسجد ، فتعدي الفعل (سارع) بحرف الجر (إلى) ، فلم عدى ربنا الفعل (سارع) بحرف الجر (في) فقال (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) ولم يقل (يسارعون إلى الخيرات)؟ لو تأملت في قولنا (سارعت إلى الصلاة) لرأيت أن المسارع لم يشرع بعد بالصلاة ، بل يسعى ليدخل فيها ، وأما قول ربنا سبحانه وتعالى (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)فيدل على أن الأنبياء ليسوا خارج نطاق الخيرات ، بل هم في لجج الخير وأعماقه ، ومع ذلك يبذلون قصارى جهدهم ليبلغوا ذروة الحق .

(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ(96))

أخي الحبيب ، لم عبّر ربنا عن خروج يأجوج ومأجوج وسيرهم في الأرض ب (يَنسِلُونَ ) دون (يمشون) ؟ إن الفعل (يَنسِلُونَ) يعني (يمشون) وقد آثر ربنا أن يعبّر عن مشي يأجوج ومأجوج ب (يَنسِلُونَ) لأن لأن هذا الفعل في أصله مستخدم لمشي الذئب ، وهو المشي السريع ، وإن إيثار التعبير به هنا من نكت القرآن الغيبية ، لأن يأجوج ومأجوج لما انتشروا في الأرض انتشروا كالذئاب جياعاً مفسدين ،وكذلك سيخرجون فيأكلون الأخضر واليابس .

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(103))

تبصر أخي المشاهد في كلمة (حسيس) ، إنها لفظ يصور بجرسه معناه وحقيقة دلالته ، إنه لجرس وإيقاع ينفزع له الجلد ويقشعر ، وكيف لا ترتعد فرائص من يسمع حسيس النار ، ولذلك نجي من سماعه الذين سبقت لهم الحسنى ونجوا من الفزع الأكبر ، وإمعاناً في تكريمهم تتولى الملائكة مصاحبتهم لتطمئن قلوبهم .

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(107))

تدبّر أخي المشاهد في هذا التعبير الذي صيغ بأبلغ نظم ، فقد اشتملت هذه الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام ، إذ هو رحمة للعالمين ، ومدح مرسله تعالى لأن من أرسله رحمة هو الله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) ، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة ، وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه .