قبسات من روائع البيان

قبسات من روائع البيان – سورة النور

اسلاميات

سورة النور

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (2)) لاحظ كيف تقدّم ذِكْرُ المؤنث على المذكر في هذه الآية إذ ذكر البيان القرآني الزانية قبل الزاني على خلاف كثير من التشريعات الإلهية في القرآن الكريم. وذلك لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل بما تقوم به من إغراء ومقدّمات من شأنها إيقاع الرجل في شباك الخطيئة. أما لو منعت المرأة نفسها وصانت فرجها لما وجد الرجل إليها سبيلا.

(وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)) تأمل كيف فرض رب العزة شهود جماعة من المسلمين لعذاب من يُقام عليهما حدُّ الزنا وذلك لتحقيق إقامة الحدّ والحذر من التساهل فيه. وحتى لا يكون ذلك مدعاة لاستخفاف المسلمين به. وأما الغرض الأسمى من حضور جماعة من المؤمنين فهو أن يتّعِظ الحاضرون ويرتدعوا عن إتيان ما يوجِب الحدّ.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (4)) تبصَّر في مدلول هذه الآية التي تشير إلى أن يكون الشهداء أربعة غير الذي رمى، فما الغاية من هذا العدد وقد وجب وجود شاهدين لا أربعة في تعاملات أخرى؟ ذلك حتى لا تكون إقامة الحد بفِرية من متواطئين على الكذب لغاية في أنفسهم ضد من يرمونهم. ثم لتعذر اجتماع أربعة من الشهود إلى جانب القاذف في مشاهدة حادثة الزنى. وإذا تمّ ذلك فإنه يعني أن هناك مجاهرة من الزُناة وبذلك حقّ عليهم الحدّ حفاظاً على المجتمع وطهارته وأمنه.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ (6)) انظر كيف أُعفي الزوج من إحضار أربعة شهود واكتُفي منه بأَيمان أربعة. وذلك لأن الزوج بما عنده من الغيرة يأنف من الإتيان بأربعة رجال ليشهدوا على زوجه وهي على هذه الحالة من التلبّس بالزنا لما في ذلك من تشنيع لها وفضحٍ لعِرضه قبل عِرضها.

(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ (11)) لاحظ كيف جاء لفظ (عُصْبَةٌ) نكِرة مع أن الذين أشاعوا حادثة الإفك أُناس معروفون. وما ذاك إلا لتقليل شانهم وتحقير قولهم وإثبات كونهم فئة نكِرة لا يُعبأ بهم. ثم أعقبه ذلك وقال (مِّنكُمْ) ليدل على أنهم من المسلمين وأن ظلمهم أشد من صدوره من الكافرين والمشركين.

(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ (11)) انظر كيف عطف البيان الإلهي الجملة الإسمية (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) على الجملة الفعلية (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم) ولم يعطف مفرداً على مفرد فيقول لا تسحبوه شراً لكم بل خيراً لكم. وذلك لأن الجملة الإسمية تدل على الثبات والدوام والاستمرار مما يعني أنه خير متواصل. ولو عطف مفرداً على مفرد لأفاد خيراً آنياً مؤقتاً في هذه الحادثة.

(لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)) تأمل هذه الصياغة الموحية فلم يكتف تعالى بقوله “فأولئك الكاذبون” بل قال (فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) وذلك للمبالغة في كذبهم وشناعته وعِظَم إثمهم عند الله سبحانه وكأن غيرهم لا يُعدّ كاذباً لهول ما جاؤوا به من الإفك.

(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)) تبصَّر كيف استعمل ربنا (أَفَضْتُمْ) ولم يقل “لمسّكم فيما تحدثتم فيه عذاب عظيم”. وذلك لأن الإفاضة صبّ الماء في الإناء والإكثار منه وخروجه من جوانبه. وهذا ما حصل منهم فعلاً فهم لم يتحدثوا فقط بل أسرفوا في الحديث وأشاعوه وتزيّدوا فيه حتى بلغ حدّاً لا يُحتمل.

(وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)) لاحظ هذه الجملة الاعتراضية (سُبْحَانَكَ) التي توجَّه فيها الخطاب إلى الله عز وجل وذلك للإشارة أن الغاضب الأكبر من إشاعة الفواحش والإفك والبهتان هو الله سبحانه. فهو الأَوْلى بأن يُتوَجه إليه بالتوبة من الذين مسّهم الإفك.

(وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)) تأمل هذه الصيغة (أَلَا تُحِبُّونَ) فهي لم تُستعمل لمجرد الاستفهان وإنما أُريد منه الحضّ على العفو والصفح والحثّ على التسامح بما يضمن مغفرة الله عز وجل فهو غفر رحيم فكيف بالبشر؟!

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)) من المعروف أن أعضاء الجسد كلها تشهد على صاحبها يوم القيامة فلِمَ خصّ الله عز وجل هذه الأعضاء هنا دون غيرها؟ ذلك لأن الذين جاؤوا بالإفك استعملوا هذه الأعضاء خاصة فنطقوا بألسنتهم بالزور والبهتان وأشاروا بايديهم إلى من طعنوا في طهارتها ونزاهتها أي السيدة عائشة رضي الله عنها ومشوا بأرجلهم لمجالس القوم وتواديهم إشاعة الخبر ونشر حديث الإفك.

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)) لك أن تتسائل لِمَ وصف الله عز وجل ذاته بالمصدر (الْحَقُّ)؟ ذلك لأن الوصف بالمصدر يدل على ثبات الصفة في الموصوف كأن تقول: هذا رجل عدْلٌ. مما يعني أن ذاته سبحانه وتعالى متحققة بما لا يتطرق إليه العدم. وأنه صاحب حق وعدل من شأنه إثبات الحقيقة بعد شيوع الإفك والبهتان.

(أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)) لاحظ أن الله تعالى لم يقل “أولئك مبرأون من الإفك” بل قال (أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) وذلك ليشير إلى أن ما زعموا لا يعدو أن يكون قولاً غير مطابق للواقع ولا يمُتُّ إلى الحقيقة بصلة ولا حاجة للاكتراث به والاهتمام بمضمونه.

(لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ (29)) انظر كيف قال تعالى (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) ولم يقل “بيوتاً غير مأهولة” وذلك ليدل على أن المراد من قوله (غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) ليس خلوّها من السكان. فبيوت الأشخاص والأُسر لا يجوز دخولها بغير إذن سواء وُجد فيها أصحابها أم لم يوجدوا. إنما المراد أنها معدّة للسكن الدائم المتعارف عليه كالخانات والفنادق مما لا حاجة لأخذ الإذن بدخولها. فقاطنوها يعلمون بدخول القاصي والداني إليها. فهم على استعداد دائم من دخول أي شخص إليهم فلا حاجة في الاستئذان منهم.

(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ (30)) لِمَ قال ربنا (يَغُضُّوا) ولم يقل “يصرفوا” في قوله (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)؟ ذلك لأن غضّ البصر هو صرف البصر عن التحديق وعدم تثبيت النظر مع حياء وخجل. ثم أعقبه بقوله (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) لأن النظرة الأولى مسموح بها وما بعدها منهيٌ عنه. وهذا ما وضّحه النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ كرّم الله وجهه “لا تُتبع النظرة النظرو فإنما لك الأولى وليست الثانية” ولذا وجب الغضُّ من الأبصار ما كان تالياً.

(وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (33)) انظر إلى هذه الجملة (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) والتي يظن البعض أنها من قبيل الإطناب. وأن قوله تعالى (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء) يفي بغرض النهي وذلك لأن إكراه الفتيات على البغاء يدل على إباءٍ منهن واعتراض وهذا الإباء قد يكون لسبب أو لآخر لكن الأبشع والأشنع أن تجبر الفتيات على ارتكاب الفاحشة مع إرادتهن التحصن والعفة والطهارة. ففي ذلك تشنيع بهؤلاء المكرهين وتصوير لتكالبهم على الدنيا وأمرهم بالفواحش مقابل مال قليل وعَرَض ٍزائل.

(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ (35)) تأمل كيف قال رب العزة والجلال (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) ولم يقل “نوره كمشكاة”. وذلك حتى لا يتوهم البعض تشخيص الذات الإلهية بشيء من المحسوسات. فهم ليس بجسم ولا عرض فلا شبيه ولا مثيل له سبحانه وتعالى. ولذلك أعقب القول بعدد من التشبيهات التمثيلية المتراكبة فقال (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) وذلك حتى لا يُتوصل إلى صورة مشخصة للذات الإلهية. فهذا مما لا يمكن تصوره أو حصره في تخيّل أو تشبيه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

(نُّورٌ عَلَى نُورٍ (35)) قد تتساءل عن سبب هذه الزيادة في قوله (نُّورٌ عَلَى نُورٍ) مع أنه ذكر قبلها ما يدل على ذلك كما رأينا عند قوله (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)؟ ذلك ليدل على الغاية من كل هذه التشبيهات التمثيلية. فليس الغرض منها التشخيص والتصوير إنما هو توضيح هيئة هذا النور مما لا حدّ له. فالمصباح في مشكاة أشد إضاءة وإذا كان في زجاجة صافية تضاعف نوره وإذا كان زيته نقياً كان أشد إسراجاً.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (36)) تبصَّر كيف قال تعالى (أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ) ولم يقل “أمر الله أن تُرفع” لأن الله عز وجل لم يأمر أهل التوراة والإنجيل باتخاذ الأديرة والصوامع والبيَع. لكنهم أحدثوها للاستعانة بها عند الانقطاع للعبادة. ولم ينههم الله تعالى عنها فدخلت في قسم المباح مما أذن الله فيه لعدم نهيه عنه.

(رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ (37)) لعلك تتساءل عن سبب تخصيص الرجال دون النساء في هذه الآية. ذلك لأن الرهبان والنُسّاك كانوا رجالاً. فانقطاعهم عن البشر واعتكافهم في صوامع وبِيَع بعيدة عن تجمعات الناس أمرٌ لا تقوى عليه النساء ولم تجترئن على فعله. ثم أعقبه بقوله (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ) ليؤكد ذلك المعنى فهو ما اختص به الرجال دون النساء في تلك الأزمنة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء (39)) لاحظ تشبيه المعقول بالمحسوس. فقد شبّه البيان القرآني أعمال الكفار مما ليس محسوساً أو مشاهداً بالسراب في أرض منبسطة وهو مما يُدرَك ويُشاهَد وذلك لتقريب الحالة إلى الأذهان ومحاولة تصويرها وتشخيصها ليتم فهمها واستيعابها وتكون بذلك أقرب إلى الواقع وأوضح في التصور والإدراك.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ (43)) لِمَ عدَل ربنا سبحانه عن قوله “يسوق سحاباً” إلى قوله (يُزْجِي سَحَابًا)؟ ذلك لأن الغاية هنا هي الحديث عن منشأ السحاب وليس عن تسييره من مكان لآخر. ثم إن الفعل (يُزْجِي) يدل على دنو السحاب وانضمامه مع بعضه وبذلك يصير كثيفاً متراكباً مكتنزاً بالماء مُصدراً البرق والرعد أثناء التحامه.

(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ (45)) تأمل كيف استعملت (من) لغير العاقل عند قوله تعالى (مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) (مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) وذلك لأن المشي أكثر ما يُطلق على بني البشر. وقد استعمل المشي لهذه الكائنات كلها فلزم من ذلك تغليب ضمير العقلاء عليها. ولم يبدأ في ترتيبه بـ (مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) وهم البشر المعنيون بالمشي لأن ترتيب الأجناس هنا ليس لغرض تمييز جنس على آخر بل لإظهار قدرة الله عز وجل وعظمته. فالزاحف على بطنه دون ظهور أعضاء المشي أعجب ممن يمشي على رجلين ومن يمشي على رجلين أعجب ممن يمشي على أربع. فبدأ بأكثرها تعقيداً وصولاً إلى أبسطها صورة.

(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48)) إن من عادة المؤمنين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا تخاصموا أن يحتكموا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأن يتداعوا إلى الأخذ برأيه وحُكمه. فلِمَ قيل (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) مع أنهم دعوا إلى النبي الكريم وحده؟ ذلك لأن حُكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف شرع الله عز وجل ولا يكون إلا عن وحي وإلهام. لذلك أعقبه بقوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي يُصدر حُكمه من شرع الله تبارك وتعالى.

(أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ (50)) لحظ كيف جاءت الجملة الأولى (أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) إسمية ثم جاء بعدها جمل فعلية. وذلك لأن الجملة الإسمية تدل على الثبات والتمكن. فالمرض في قلوبهم متأصّل ولم يدخلها إيمان قوي مع يقين. ثم أعقبها بجمل فعلية ليدل على الحدوث والتجدد. فقد حصل لهم الإرتياب لأن قلوبهم مريضة لم يدخلها إيمان راسخ.

(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)) إن الخطاب في أول الآية شمل طاعة الله عز وجل ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. فلِمَ قال هنا (وَإِن تُطِيعُوهُ) ولم يقل “وإن تطيعوهما”؟ ذلك إثبات أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تخرج عن كونها طاعة لله سبحانه وتعالى. فمن أطاع النبي الكريم وقصد في ذلك وجه الله تعالى لم يكن في طاعته خروج عن طاعة الله تبارك وتعالى في كل أوامره ونواهيه.

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ (55)) لاحظ كيف قيّد رب العزة والجلال استخلاف المؤمنين الصالحين في الأرض. وذلك ليدل على أن سطوتهم وجبروتهم لن تقتصر على الأمكنة التي يسكنونها من الأرض بل ستشمل كل أرجاء المعمورة بطريقة أو بأخرى. فيمكن أن يحكموها ويمكن أن تكون لهم صولة وجولة بين بقية الأمم والشعوب التي ستسعى عندئذ إلى مسالمتهم ومراضاتهم وبذلك يتم استخلافهم في الأرض كلها.

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ (55)) قد يتوهم البعض أن الله عز وجل لم يكن قد مكّن للمؤمنين دينهم بعد وأن ذلك سيتم لهم بعد إيمانهم وصلاحهم وليس هذا هو المقصود. وليس المراد من التمكين التثبيت والترسيخ بل الغرض منه الشيوع والانتشار. فعندما ينتشر دين الإسلام بين الأمم والشعوب ويكثر متّبعوه يصبح كالشيء الراسخ الثابت الذي لا يُخشى زواله. ولذلك أضاف الجين إلى أولئك المؤمنين الصالحين فقال (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) لزيادة تشريفهم وإعلاء شأنهم.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ (61)) تأمل كيف رخّص الله تعالى لهؤلاء ممن أصيبوا بعاهات تعذرهم. لكن لم يعدّها مباشرة فيقول “ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج” بل عدّها كلٌ على حِدة فقال (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وذلك لأن أعذراهم متفاوتة باختلاف أسبابها. لذلك فالحرج مرفوع عن كلٍ منهم بحسب مرضه وعذره. فيرخّص للأعمى فيما يشترط فيه البصر وللأعرج فيما يشترط فيه المشي أو الركض وللمريض بحسب مرضه وما يمكا أن يسقطه عنه من التكليف. وبدأ بالأعمى لأنه أشدهم عذراً.

(وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ (61)) لاحظ كيف عطف ربنا قوله (أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ) على قوله (مِن بُيُوتِكُمْ) ولم يذكر “بيوت أولادكم” وذلك لأن بيوت الأبناء متاحة للآباء أو مما يدخل في ملكيتهم يصورة أو بأخرى لقوله صلى الله عليه وسلم “أنت ومالك لأبيك”. فلزِِم من ذلك عدم ذكر بيوت الأبناء مما هو معلوم حكمه بالضرورة وليست بيوت الآباء والأمهات من قبيل ذلك. ولا يجوز للأبناء التصرف فيها إلا بإذن الوالدين أو أحدهما.

(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا (63)) انظر إلى كلمة (يَتَسَلَّلُونَ) كم تعبِّر عن مضمونها. فالتسلل هو الإنسلال من صُرّة. أي الخروج بخفية خروجاً كأنه سلّ شيئاً من شيء. ويقال تسلل أي تكلّف الإنسلال مثل ما يقال تدخّل إذا تكلّف إدخال نفسه. ولذلك قال عنهم (يَتَسَلَّلُونَ) ولم يقل “ينسلون” ليصور شدة تكلفهم الخروج دون أن يشعر بهم أحد وأنّى لهم ذلك.

(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)) هل يريد الله تعالى أن يخبر المسيئين بما اقترفوا وحَسْب حتى قال (فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا)؟ أراد بـ(فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) مجازاتهم وعقابهم جرّاء أعمالهم. فالإخبار إن لم يعقبه عقاب لا جدوى تُرجى منه