سورة الفرقان
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)) في هذه الآية خصّ الله تعالى كتابع بإسم الفرقان فقال (نَزَّلَ الْفُرْقَانَ) ولم يقل “نزل القرآن” للإيماء بأن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانية وإنزال القرآن هي دلائل قيّمة تفرّق بين الحق والباطل. وثمة نكتة ثانية وهي أن الله تعالى آثر وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنذير دون البشير فقال (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) بينما في سورة أخرى قال (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (28) سبأ) فلِمَ خصّه الله بالنذير في مفتتح سورة البقرة؟ إن الاقتصار في وصف الرسول على النذير دون البشير لأن المقام في الفرقان مقام تهديد للمشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم فكان ذلك مقتضياً لذكر النذارة دون البشارة.
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)) كان المشركون على علم ويقين بأميّة الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف يتهمونه بكتابة أساطير الأولين؟ إن أميّة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ما دفع المشركين إلى التعبير بـ (اكْتَتَبَهَا) دون كتبها. لأن الاكتتاب يدل على التكلّف لحصول الكتابة. وهذا التكلف يقتضي أن يسأل النبي من يكتبها له. ولذلك قيّد الكتابة بالإملاء فقالوا (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ).
(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ (7)) لِمَ اعترض المشركون على نبوة الرسول من خلال أكله الطعام ومشيه بالأسواق فقط ولم يعترضوا على نبوته بالنكاح مثلاً؟ خصّوا أكل الطعام والمشي في الأسواق للاعتراض على نبوته دون غيرها من الخصائص البشرية لأن هذين الحالين أي أكل الطعام والمشي في الأسواق هما من الأحوال المشاهدة المتكررة.
(إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)) لِمَ جعل إزجاءهم في النار ورؤيتها لهم من مكان بعيد؟ وما الوجه من ذكر القيد (مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ)؟ جعل الله إزجاءهم إلى النار من مكان بعيد زيادة في النكاية بهم لأن بُعد المكان يقتضي زيادة المشقة في الوصول ويقتضي طول الرعب مما سمعوا. فما أعظم موقف الرعب إذا طال أمده.
(وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)) تأمل هذا الوصف المهين لأولئك المساقين إلى النار فقد عبّر عن إدخالهم النار بالإلقاء. فلم يقل تعالى “إذا أُدخلوا منها” لأن الدخول فيه شيء من التكريم. بل قال (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا) لأن الإلقاء ليس فيه إلا المهانة. فالإلقاء هو الرمي. وهل يرمي الإنسان ما فيه نفاسة أو قيمة؟ وكذلك لا قيمة للكافرين فهم لا يستحقون إلا الرمي والإلقاء.
(لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا (16)) المسؤول هو الذي يسأله مستحقه ويطالب به. فمن له حقٌ عند الله تعالى حتى يسأله ويطالب به؟ في هذا اللفظ (مَسْؤُولًا) مبالغة في تحقيق الوعد والكرم. كما يشكرك شاكر على إحسان فتقول: ما أتيت إلا واجباً. وكذلك الوجوب على الله تعالى ليس فيه معنى سوى أنه تفضّلٌ ألزم الله تعالى به نفسه.
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)) انظر إلى ترابط آي القرآن مع بعضها. فآخرها يؤيد أولها وأوسطها لا يضرب بآخرها ولا أولها. فقد قرن الله تعالى بعثة موسى بهارون الذي أيّده به ليؤازره في الدعوة. وفي ذكر تأييد موسى بهارون تعريض بالرد على المشركين إذ قالوا (لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) الفرقان) فإن موسى لما اقتضت الحكمة تأييده لم يؤيده بملك ولكن أُيِّد برسول مثله.
(وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)) إن قوم نوح لم يرسل لهم إلا نوح عليه السلام حيث لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً. فلِمَ نسب إليهم تكذيب الرسل بصيغة الجمع حيث قال تعالى (لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ)؟ جعل الله قوم نوح مكذبين للرسل مع أنهم كذبوا رسولاً واحداً لأنهم أول من كذب رسولاً. فكانوا قدوة للمكذبين من بعدهم فنزلوا منزلة المكذبين للرسل جميعاً. وأمر آخر أنهم استندوا في تكذيبهم رسولهم إلى إحالة أن يرسل الله بشراً فقالوا (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) المؤمنين) فكان تكذيبهم مستلزماً تكذيب الرسل عموماً.
(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)) إذا نظرت في هذه الآية رأيت أن الله قصر على المشركين صفة واحدة وهي كونهم مثل الأنعام. وتشبيههم بالأنعام وقع لعدم فقههم ما يخترق آذانهم من أصوات الدعاة وعدم انتفاعهم بها. والسؤال الذي يطرح نفسه لِمَ أبطل الله تعالى تشبيههم بالأنعام إلى ما هو أشد وهو كونهم أضلّ منهم؟ إنتقل في صفة حالهم إلى ما هو أشد من حال الأنعام وبأنهم أضل سبيلاً من الأنعام. لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رعاتها وسائقيها. بينما هؤلاء لا يفقهون شيئاً من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)) الدليل هو المُرشد إلى الطريق والهادي إليه فكيف جعل الشمس دليلاً؟ جعل البيان الإلهي امتداد الظلّ كامتداد الطريق وجعل به علامات مقادير الأوقات كما أن الطريق عليه علامات تدل السائر والتائه. وجعلت الشمس دليلاً تعرِّف المستدل من خلال الظل بأوقات أعماله ليشرع فيها كما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق.
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا (63)) لِمَ أضيفت كلمة (عباد) إلى (الرحمن) من بين أسماء الله الله وصفاته الحسنى؟ إختار الله تعالى لهم الإضافة إلى إسمه إسن (الرحمن) لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذي قبل لهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ (60)) وفي هذا تعريض بأولئك. فلئن أعرضتم عن عبادة الرحمن فهناك عباده الذين يتقربون إليه في كل حال من أحوالهم. وقد خصّ عباد الرحمن أول ما خصّهم بالمشي هوناً لأن التخلّق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة والتواضع المناسب لعباد الرحمن. لأن الرحمة ضد الشدة فالهَوْن يناسب ماهيتها ويُظهره.
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)) الإنسان يقوم بين يدي ربه ثم يسجد. فلِمَ قدّم الله السجود على القيام مع أن القيام يقل قبل السجود؟ قدّم تعالى السجود على القيام للإشارة إلى الاهتمام بالسجود. لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد. ولهذا المعنى قال (سُجَّدًا) دون ساجدين للمبالغة في كثرة سجودهم بين يدي خالقهم سبحانه وتعالى.
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ (68) الفرقان) عندما ذكرت الآيات السابقة صفات عباد الرحمن تطرر إسم الموصول عند كل خصلة من خصالهم فقال تعالى (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ (65)) (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا (67)) ولكن عندما عرض تخليهم عن الجرائم اقتصر على الإسم الموصول في أول الآية ولم يكرر فقال (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ (68)). فلِمَ اقتصر على الإسم الموصول عند وصفهم بعدم الإشراك بالله ولم يكرره؟ لقد جمع التخلي عن الجرائم الثلاث وهي عدم الإشراك بالله وعدم قتل النفس إلا بالحق وعدم الزنى ولم يكرر الإسم الموصول لأنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يدعوا مع الله إلهاً آخر فقد أقلعوا عن كل ما يعارض وحدانية الله وكل ما له صلة بالشرك من قتل وزنى. فجُعلت تلك الخصال وكأنها خصلة واحدة.
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)) تأمل كيف يعلمك الله تعالى أن تكون طموحاً في بلوغ أقصى درجات التقوى والإيمان. فلم يقل واجعلنا متقين بل (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغ الدرجات العظيمة من التقوى. فالقدوة يجب أن يكون بالغاً أقصى غاية العمل والتمام. وقد وقع الإخبار بـ (إِمَامًا) وهو مفرد مع أن حقه من حيث الظاهر أن يكون واجعلنا للمتقيم أئمة للإشارة بأن يكون كل واحد منهم إماماً يُقتدى به.
(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)) الإمام أصله المثال والقالب الذي يُصنع على شكله ما يشابهه ويماثله. كما قال النابغة:
أبوه قبله وأبو أبيه بنوا مجد الحياة على إمام
ثم أُطلق الإمام على القدوة تشبيهاً بالمثال والقالب الذي يُتخَذ قدوةً يُحتذى به.