سحر القرآن

سحر القرآن 16

اسلاميات

الحلقة 16:

 

في إستعراضي لسحر القرآن كنت أحضر معاني إعجاز القرآن وسجلت أشرطة وما زلت أبحث في سحر القرآن الذي يبهر أهل القانون والعلم والفلسفة وكل العلوم الإنسانية نجد أن للقرآن سحراً ليس كسحر البشر سحراً يسيطر على العقول والقلوب وكنت أظن أني انتهيت من التحضير ولكن اكتشفت المزيد ووجدت في كتب العلماء أشياء جديدة لم تخطر على بالي من قبل وفكرت هل يمكن أن أوصل سحر القرآن للمشاهدين في ثلاثين حلقة؟ لا يمكن ذلك فاكتفيت بالسحر البياني في القرآن ولعلنا نلتقي في حلقات أخرى عن الإعجاز العلمي.

 

عندما نتأمل في سحر القرآن نجد أن كل كلمة ساحرة. أنا عادة أحرص على أن يكون لي عدة طرق في قرآءة القرآن: إقرأوا القرآن مرة في كل شهر لكسب الأجر والحسنات ولتكن لكم قراءة تأخذ سنة مثلاً وعيشوا مع آيات القرآن واستعينوا بكتب التفسير ومعاني الكلمات وغيرها حتى تفهموا المعنى، يقول الطبري: عجبت لمن لا يفهم القرآن كيف يتلذذ به؟. ولتكن هناك قراءة ثالثة والتي فيها أستخرج قوانين تحكم البشرية وهذه من إعجاز القرآن وهي غير قواني الكون فعل سبيل المثال قوله تعالى (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (140) آل عمران) هذا قانون أنه ما من أمة تسيطر على البشر، وقوله (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (11) الرعد) هذا قانون يسيطر على حياة البشر. فحاولوا أن تقرأوا القرآن لاستكشاف القوانين.

 

الكلمة أو المفردة القرآنية:

 

اخترت لكم بعض هذه المفردات مما كتبه ساداتنا العلماء

نتأمل جمال كلمة أفرِغ في قوله تعالى (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) البقرة) كأن هناك إناء يفرّغ في إناء ثاني، يفرّغ الأول فيصبح الآخر ممتلئاً كأن الدعاء يقول يا رب أفرغ علينا الصبر داخلنا تعطي معنى الطمأنينة في النفس ويشعر بها من هدأ جسمه بما يُلقى عليه تشبه الراحة النفسية التي يشعرها من منح هبة الصبر الجميل وهذا أسلوب القرآن في استخدام الألفاظ وهذه استعارة. أفرِغ توحي باللين والرفق عند الصبّ بهدوء. القرآن يستعمل هذه الكلمة في حديث عن الصبر لكنها من رحمة الله عز وجل.

 

الصبّ: بينما لما يتكلم عن موضوع العذاب يقول تعالى (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) الفجر) إذن هي مؤذية بشدتها وقوتها. أما كلمة أفرِغ فهادئة ليّنة. وقد يشتد الأمر المعنوي بينما لما يستخدم موضوع العذاب يقوى لديه قوة تجعل الإنسان عندما يقف عند كلمة يشعر بمعناها.

 

كلمة طغى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) الحاقة):

 

يتكلم عن قصة نوح u لما انتشر ماء الطوفان وملأ الأرض كلها عند ذلك حمل تعالى نوحاً u ومن معه في السفينة التي تجري. (طغى الماء) كان الطغيان المؤذن بالثورة والفوران يشبه خروج الماء عن حدّه لما فيها من فورة واضطراب، طغيان كأنه يشعِر بمعنى الثورة.

 

كلمة صرصر: ويمكن أن نأخذ هذا على نسق آخر في قوله تعالى (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) الحاقة): لما يتكلم القرآن عن العذاب يستعمل الألفاظ العجيبة (صرصر) إستعمال عجيب لهذه الكلمة وقد كنت – قبل أ أقرأ كتب البلاغة  أعجب من هذه اللفظة – هذه ريح مدمرة يشبّه خروجها عن حدّها بعنف وجبروت بكلمة صرصر التي تشعرك بوجود صرير واحتكاك شيء بشيء ويدّمره. وهذا من استخدام الألفاظ الموصوفة للدلالة على الأمور الحسّية واستبدالها بالأمور المعنوية فيصبح الأمر المعنوي حيّاً ملموساً.

 

كلمة يهيمون: لذلك قال تعالى في سورة الشعراء (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) الشعراء): كنت أتخيل وأنا صغير أن الشعراء يذهبون في الصحراء ويضيعون بين الوديان ثم فهمت المعنى: استعملت كلمة الأودية الموضوعة أصلاً للدلالة على المنخفض للدلالة على أنهم يهيمون في أنواع المعاني وفي مشارب القلوب فيضيعوا عن الحق.

 

كلمة بأيديهم: الإنسان مهما تعلم عليه أن يستكر ويواصل تعلمه إلى أن يموت لأن الذي يظن نفسه أنه علِم فقد جهل. كنت أقف عند قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) البقرة) وقلت في نفسي أن كلمة بأيديهم أراها زائدة لأنه لم يكن هناك كتابة إلا باليد لكن لما نظرت في كتب التفسير عرفت المعنى. النص يقول أن أولئك ال.محرّفين لكتاب الله كتبوه بأيديهم فيه زيادة تشنيع عليهم وتقريع وتقبيح لأفعالهم لأنهم باشروا هذا الصنع السخيف لآيات الله بأيديهم. يمكن أن نقول كتب زيد كتاباً وليس المقصود أنه كتبه بيده وإنما أخبر أحداً فكتبه له. أما في الآية يقول تعالى أن هؤلاء كتبوا الكتاب بأيديهم وهذا فيه مبالغة بإخفاء حقيقة التزوير وفيه تلبيس عليهم فهم لا يثقون بغيرهم بل فعلوا بأيديهم من باب السرّية، هم فعلوه ثم قالوا هذا من عند الله. وانظر إلى النظم القرآني العظيم (ثم يقولون) ثم تفيد مدة طويلة – أما الفاء فهي تدل على الفورية – هم كتبوا الكتاب وأخفوه فترة طويلة ثم نسبوه إلى الله حتى لا يجدوا معارضاً لصنيعهم لأن الزمن قد تقادم ونسي الناس حقيقة القول الأول. فهذا من عجائب القرآن.

 

كلمة فأمتّعه قليلاً: من الآيات أيضاً التي فيها استعمال دقيق للكلمة – وكل القرآن فيها استعمال دقيق للكلمة – قوله تعالى (قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) البقرة) لما ننظر فيها وننظر في كلمة (فأمتّعه) نحن نعلم أن زيادة المبنى في الكلمة تدل على زيادة المعنى فكلمة متّع تدل على كثرة المتع والنعيم فكيف وصف الكثير بالقليل (فأمتعه قليلاً)؟ السبب أن الله تعالى مهما أغدق على ابن آدم من نعم الدنيا فهي قليلة بالنظر إلى نهايتها فهو سيرحل عن الدنيا ويترك ما فيها كما قال الشاعر:

 

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى        إذا حشجرت يوماً وضاق بها الصدر

 

كثّر الفعل يعني صاحب المتاع (فأمتّعه) بينما في الحقيقة هو قليل لأن شيء يتعلق بالدنيا. أي شيء في الدنيا مهما كان كبيراً فهو قليل إلى جانب نعيم الآخرة ويشبه هذا قوله تعالى (مَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) لقمان) هذا من المعاني الجميلة التي يشير إليها القرآن: مهما وصلتم له من متع الدنيا فهي قليلة.

 

إن وإذا: من الآيات أيضاً (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) هنا في قوله (فإن فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) البقرة) ولكن قال (فإذا أمنتم) لم يقل إن أمنتم كما قال فإن خفتم لأن (إن) جاءت في حالة الخوف وصلاة الخوف بينما جاءت (إذا) في ذكر الأمن والسبب لأن الخوف وصلاة الخوف قليلة الحدوث  وهذا يتناسب مع استعمال إن لأن إن شرطية بينما (إذا) تدل على الإستمرارية للأمن والاطمئنان لأن الخوف وصلاة الخوف قليلة فقال (فإن خفتم)، ولأن الأمن والسلام والاطمئنان هو الأساس إستعمل (إذا).

 

من إملاق وخشية إملاق: من الأمثلة أيضاً مما هو في كتب العلم دقة القرآن في الحديث عن قتل الأولاد (الإجهاض): قال تعالى (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) الأنعام) هنا سبب قتل الأولاد ما يعيشه الآباء من الفقر فيريدون أن يجهضوا الولد لأنه ليس عندهم مال فيخبرهم الله تعالى أنه لا يحق لهم ذلك لأنه تعالى يرزق الآباء ويرزق الأبناء، فقدّم الوعد برزق الآباء على رزق الأولاد لأن الخطاب للفقراء الذين يريدون أن يجهضوا الولد من الفقر. وكأن السياق يشعرنا بتشفيع الأولاد في رفع فقر الآباء. أنت خائف أن الله تعالى لن يرزقك لكن الله سيرزقك وإنما ترزقون بهم لذا قال (نحن نرزقكم وإياهم).

 

أما في سورة الإسراء فيقول تعالى (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31) الإسراء) الآية الأولى كانت (من إملاق) أي أناس فقراء أما في هذه الآية فيقول تعالى (خشية إملاق) فهم ليسوا فقراء إذن ولكنهم خائفين من المستقبل. فالخطاب للأغنياء الخائفين من شيء لم يقع بعد لذا قدّم الوعد برزق الأبناء على الوعد برزق الآباء (نحن نرزقهم وإياكم). إذن في حالة الفقر وعد الآباء بالرزق أولاً وأما في حالة الغنى فوعد الأولاد بالرزق أولاً.

 

كلمة ضيزى:

 

في سورة النجم قال تعالى (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) النجم) كلمة فيها إستفهام توبيخ وسخرية وتهكم. معنى الآية: عجباً يا أهل قريش تجعلون لأنفسكم النوع المحبوب في نظركم أي الأولاد وتجعلون لله تعالى البنات اللواتي تذمونهن أنتم، تلك قسمة غير عادلة جائرة بحيث أنكم جعلتم لله ما تكرهون. يقول حجة الأدب العربي محمد صادق الرافعي: لفظة من أغرب ما فيه كلمة ضيزى، يقول هذه الكلمة ما حسُنت في كلام قطّ ولم يستعملها عربي بشكل جميل لأنها كلمة ثقيلة إلا في موقعها في القرآن فإن حُسنها في نظم الكلام من أغرب الحُسن. الآية صارت أجمل بوجودها. يقول لو أدرت اللغة العربية ما صلح لهذا الموضع في القرآن غير كلمة ضيزى فإن فواصل الآيات في سورة النجم على الألف المقصورة (والنجم إذا هوى) فجاءت الكلمة فاصلة ثم في معرض الإنكار على العرب إذ وردت في ذكر الأصنام فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع كراهتهم للبنات ويقول القرآن (تلك إذن قسمة ضيزى) فكانت غرابة اللفظة تناسب إستغراب القرآن من فعل الكفار أن ينسبوا لله ما يكرهون وجاءت غرابة اللفظة لتناسب معها لتعطي المعنى والفاصلة والغرابة ولها معاني أخرى لا يتسع المجال لذكرها.

 مزيد من سحر القرآن في حلقة قادمة.