الحلقة الحادية والعشرون:
تأملات في سورة النساء (الآيات 37 – 39)
د. عبد الرحمن: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة المشاهدون الكرام في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ةحياكم الله في هذا اللقاء القرآني المتجدد برنامج بينات. ولا يزال الحديث متصلًا مع إخواني المشايخ الفضلاء الدكتور محمد الخضيري والدكتور مساعد الطيار ونحن في هذا المجلس في مدينة النماص في هذه الأجواء الجميلة الصباحية. وقد وقف بنا الحديث في المجلس السابق في الآية في سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة. وقد انتهينا من هذه الآية وهي قول الله سبحانه وتعالى (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا (36)) وخصصنا الحلقة الماضية كلها في الحديث عن هذه الحقوق العشرة التي في هذه الآية العظيمة وكنا قلنا في بداية الحديث عن سورة النساء أنها كلها تسمى سورة الحقوق إلا أن هذه الآية هي آية الحقوق في سورة الحقوق فتميزت بهذه الميزة على سائر الآيات في هذه السورة العظيمة. ولعلنا في هذا اللقاء نبدأ الحديث عن الآية التي تليها وهي قوله سبحانه وتعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (37)) ولعلنا قبل أن نبدأ في الحديث عن تفسيرها أن نستمع إليها مع الإخوة المشاهدين مرتلة ثم نعود للحديث عنها بإذن الله تعالى.
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا (39))
وبعد أن استمعنا أيها الإخوة المشاهدون لهذه الآيات العظيمة من سورة النساء نبدأ الحديث معًا دكتور محمد وكنا تحدثنا في الآية التي قبلها عن سرّ ختم الآية السابقة بقول الله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)) ولماذا ذكر الله سبحانه وتعالى صفة الخيلاء وصفة الفخر والكِبر في نهاية الحديث عن هذه الحقوق العشرة؟
د. محمد: الحقيقة أشرنا في الحلقة الماضية إلى أن سر ذلك -والعلم عند الله سبحانه وتعالى- أن هذه الحقوق لن يقوم بها من كان متصفًا بصفة الكِبر الذي تجتمع فيمن هو فخور بنفسه ومختال في تصرفاته ومشيته وأفعاله، فالكِبر مانع من القيام بالحقوق وكما أن الكِبر مانع من القيام بالحقوق فكذلك البخل ولذلك قرنهما الله سبحانه وتعالى معًا فجاء بالبخل بعد أن ذكر الكِبر لأن أعظم ما يمنع الإنسان من أداء الحقوق هو أن يتكبر على الآخرين وأن يمسك ما بيده وما آتاه الله من فضله علمًأ وجاهًا وقوة ومالًا فلا ينفقه عليهم فهذان أعظم أسباب منع الحقوق.
د. عبد الرحمن: هل هذه الآية يا دكتور مساعد (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) السلف عندما حملوا هذه الآية على اليهود خاصة ما هو وجه هذا التفسير الذي ذهب إليه السلف؟
د. مساعد: إذا نظرنا للأوصاف في الآية عندنا ثلاثة أوصاف (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) هذه واحدة و(وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) السلف توجه حديثهم في هذه الآية على أنه مقصود بها اليهود واختلفت محامل الآية عندهم بمعنى القول الأول والذي عليه جمهورهم أنهم الذين يبخلون بذكر صفة محمد صلى الله عليه وسلم ويأمرون قومهم بالبخل بالإخبار عن محمد صلى الله عليه وسلم ويكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهو ما آتاهم الله من فضله. والوجه الثاني الذين يبخلون بأموالهم ويأمرون الناس أن يبخلوا بأموالهم ويكتمون ما آتاهم الله من فضله من الأموال والأرزاق فلا يحدّثون بها على باب التحديث بالنِعَم. فهذان الآن وجهان وكلا الوجهين له من قال به وإن كان القول الثاني ورد عن ابن عباس وابن زيد فقط، والقول الأول هو قول الجمهور. في الوجه الأول من حملها على العلم بأن معناه الذين يبخلون ويأمرون قومهم فقط بالبخل لأنه خاصة باليهود .
د. عبد الرحمن: فتكون كلمة الناس هنا من العام المُراد به الخصوص
د. مساعد: المراد به الخصوص. والثانية سبب النزول يشير إلى أن اليهود يبخلون بأموالهم ويأمرون الأنصار بأن يبخلوا بأموالهم ويخوفونهم من الفقر لا تدري ماذا يصير لك غدًا! لا تنفق مالك لأنك لا تدري ماذا سيكون عليك غدًا!
د. عبد الرحمن: ألا يمكن أن تكون هذه الآية في قوله (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) امتدادًا للصفة التي قبلها في قوله (إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا)؟ ألا يمكن أن تُحمل هذه الاية وإن كانت نزلت أو كان المقصود بها أصالة هم اليهود ألا يمكن أن يستشهد بها على من يتصف بهذه الصفة من المسلمين؟!
د. محمد: بلى، بل كان ديدن السلف رحمهم الله أن يتخوفوا وأن يذكروا الآيات التي وردت في حق الكفار الخُلّص في مقام التهديد والوعيد وفي مقام تحذير المؤمنين من الإتصاف بهذه الخصلة. صحيح أن الإنسان يعاقَب العقوبة الكاملة على الاتّصاف بالخصلة إذا اكتملت شروطها وانتفت موانعها لكن لا يمنع ذلك من أن يكون قد اتصف بشيء منها أن يكون له جزء من عقوبتها. ولذلك كان الصحابة يستدلون بالآيات التي نزلت في حق الكفار على أحوالٍ يطبقونها على أنفسهم ليس من جهة أنهم سينالون نفس العقوبة التي ستكون لأولئك ولكن لأن الله تعالى يكره هذه الخصلة ويذمّ ذلك الفعل إذن فكل من أشبه هؤلاء بشيء من أفعالهم فربما يُعطَى شيئًا من جزائه.
د. عبد الرحمن: وختم الآية بقوله (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)؟
د. مساعد: أفادنا هنا الآن أن هذا الوصف الذي هو في اليهود أيضًا يكون في الكفار. كأنه من أوصاف الكفار وسيأتينا فيما بعد أوصاف أخرى لكنه واضح جدًا أنه في مقام الظاهر مقام المضمر، لكن واضح عندنا أنه في اليهود وكذلك في الكفار. وعندي ملحظ آخر في قوله (إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) أعني الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، طبعًا هذا أحد وجوه الإعراب فيها ولو تأملنا هذا الوجه الإعرابي سيكون من باب تفسير القرآن بالقرآن. لكن السؤال الذي يرد لو ورد عندنا وصف المختال الفخور في غير هذه الآية فهل يصلح حمل ذاك على هذا؟
د. محمد: لا يظهر
د. مساعد: عندنا مثلًا في سورة لقمان (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)) والمختال الفخور في قصة لقمان -في نظري- لا يصلح أن تحمل على هذا المعنى فهناك هي أعمّ ومع ذلك نقول هذا من باب تفسير القرآن بالقرآن لكنه تفسير سياقي بمعنى أن المختال الفخور هذا مثّل لهم بمثال وهم اليهود. وإلا لو تأملنا الآية التي قبلها كما قلنا آية الحقوق.
د. عبد الرحمن: فيها فائدة أو ملحظ أحب أن أنبّه إليه الإخوة المشاهدين، في القرآن الكريم غالبًأ يعلِّل يذكر لك علة العقوبة أو على الجزاء. في قوله سبحانه وتعالى هنا (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) لماذا أعتدنا لهم عذابًا مهينًأ؟ لكفرهم، فقوله (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) إشارة إلى أن هذا الكفر هو سبب العذاب فبقدر اتصاف الإنسان بهذه الصفة وهي الكفر بقدر ما يُشدد عليه العقوبة التي ذكرها الله كما في قوله (إن الأبرار لفي نعيم) لبرّهم وقال (وإن الفجار لفي جحيم) لفجورهم
د. محمد: ولذلك يقولون إن ذكر الظاهر في محل المُضمر يفيد فوائد: الأولى تعليم الحُكم لو قال “وأعتدنا لهم” أي لهم خاصة لكن لما قال الكافرين هذه شملت كل من اتصف بهذه الصفة.
د. مساعد: سواء لهذا السبب أو لغيره
د. محمد: ثانيًا الحكم على هؤلاء بما يقتضيه الوصف لأن هؤلاء الذين فعلوا هذه الأشياء ما حكمهم؟ لما قال (للكافرين) عرفنا حكمهم. الثالث لأسباب إفادة العليّة وهي التي ذكرها أبو عبد الله قبل قليل بمعنى أن يربط الحكم بها، لماذا أعتدنا لهم عذابًا أليمًا؟ لكفرهم، لماذا الأبرار في نعيم؟ لبرّهم، لماذا الفجار في جحيم؟ لفجورهم.
د. عبد الرحمن: وهي كثيرة في القرآن.
د. مساعد: هناك ملحظ بلاغي آخر إن تكرمتم وهو تقديم للكافرين على عذابًا مهينًا، الترتيب: وأعتدنا عذابًا مهينًا للكافرين وهذا كما سبق أن ذكرنا أن الفائدة الكبرة فيه رعاية الفاصلة ورعاية الفاصلة مقصد من المقاصد البليغة هذه أولًأ ثم يأتي النظر إلى أنه لما قدّم للكافرين (أعتدنا للكافرين) يجعل هذه علة خاصة بهذا السياق، لماذا قدّم الكافرين قبل ذكر عذابهم؟
د. عبد الرحمن: تبشيعًا لهذه الصفة وأنهم هم أولى الناس بهذا العذاب
د. مساعد: فيمكن أن يكون له أكثر من فائدة بلاغية في تقديم الجار والمجرور
د. عبد الرحمن: بمناسبة ذكر التقديم والتأخير يا دكتور مساعد، الحقيقة هذا التدبر في دلالات التقديم والـتأخير ضرب من ضروب العلم وضرب من ضروب تدبر القرآن الكريم وفهمه رائع جدًا أنا أنصح الإخوة عندما يقرأون القرآن الكريم أن يتأملوا في مثل هذه المواطن وهي كثيرة في القرآن الكريم.
د. محمد: مرّ بنا في الآيات في أول السورة (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ (12)) مع أن الدَيْن مقدّم عندنا على الوصية لكن قُدِّمت الوصية في القرآن لأجل العناية بها وأنه لا يوجد من يقوم بها في الغالب وصاحب الدين يحفظ دَيْنه.
د. عبد الرحمن: وجدت أن العلماء المتقدمين والمتأخرين يتفاوتون تفاوتًا كبيرًا في إدراك دلالات أسرار القرآن الكريم وأن الله سبحانه وتعالى يفتح على بعضهم ما لا يفتح على آخر في مثل هذا الموضع, لماذا قدم ” وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا”, وفي موضع آخر: ” وأعتدنا لهم عذابًا مهينًا”, فيضمر, يعني يذكر الضمير. وأيضًا في الآية التي ستأتي معنا (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ (38)), لماذا قدّم الإيمان بالله على الإيمان باليوم الآخر؟, ولماذا قدم هذه العلة “الذين ينفقون أموالهم” , قدمها ثم جاء بعدها ” ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر”, مع أن الإيمان بالله حقه التقديم لأنه أعظم وهكذا, فالبحث عن دلالات التقديم والتأخير في القرآن الكريم من أهم ما ينبغي على طالب العلم أن يعتني به, وأنا أنصح الإخوة الذين لهم حظ من العلم والبلاغة, أن يقربوا هذا للناس, لأن العبرة الآن فإننا مللنا من الفلسفة, أحيانًا عندما تعرض للناس مسألة علمية بصعوبة وتستخدم فيها المصطلحات العلمية التي لا يدركها إلا المتخصصون هذه سهلة, ولكن الصعوبة والتميز الآن هو أنك تقرّب هذه المعاني للناس لعامة الناس حتى يفهمونها.
د. مساعد: والأعجب أبا أعبد الله في قضية التقديم والتأخير حينما تنظر لهذه الآية والتي تليها (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ (38)), بعدها قال (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ (39))
د. عبد الرحمن: جاءت عكس الأولى.
د. مساعد: لاحظ مثال آخر حين يأتي التقديم والتأخير في آيات متوالية, لما قال (طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)), السماوات والأرض, وهناك قال ماذا؟ قدم الأرض على السماوات, فالنظر هنا يجعل المتدبر ينظر لماذا قدم الأرض على السماء هناك؟, وقدم السماء على الأرض هنا؟ في آيات متوالية, واضح هذا؟
د عبد الرحمن: واضح.
د مساعد: فأنا عندي أنه أيضًا قد ندرك أحيانًا أسرار للتقديم والتأخير وقد ذكر العلماء عشرة أسرار للتقديم والتأخير لكن أن تدرك في سياق كل واحدة سر التقديم والتأخير بين لفظتين فهذا لا شك أنه يحتاج إلى تأمل. وأنا أذكر أن هذه الآية في برنامج بينات, وهو أول برنامج قدمناه, فذكرنا سر تقديم الأرض على السماء والسماء على الأرض, لعلنا نحيل إليها.
د. عبد الرحمن: حلقات البرنامج موجودة بالمناسبة في ملتقى أهل التفسير كاملة, 1428هـ, 1429هـ, 1430هـ, والآن هذه السنة الرابعة.
د. محمد: أشير أيضًا إلى آية الحقيقة ورد فيها هذا ولها نظائر, ولكنها مرت بي قريبًا, وهي (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) الجمعة), أولًا قدّم التجارة, ثم قدم اللهو.
د. مساعد: نفس الفكرة, إذا هل يمكن أن نقول للمشاهدين أن هذا موطن بحث أن يجتهد أحدهم في جمع صورة هذا التقديم والتأخير المتوالي الذي يقدم لفظة على لفظة, ثم يأتي بعدها في نفس السياق تقديم اللفظة المتأخرة على اللفظة المتقدمة، عندنا الآن ثلاث مواطن ذكرناها.
د عبد الرحمن: هذا الحقيقة بحثه ممن رأيته تحدث عنه باحث -المشكلة أني نسيت اسمه- لكن له كتاب قيّم, رسالة دكتوراه : “دلالات التقديم والتأخير في القرآن الكريم”
د مساعد: ثلاث مجلدات؟
د عبد الرحمن: لا, هو مجلد واحد, وهناك أيضًا كتاب: “بلاغة التقديم والتأخير”, في ثلاث مجلدات.
د مساعد: وهناك رسالة صغيرة: “أسرار التقديم والتأخير”.
د عبد الرحمن: وهذا الكتاب موجود على ملتقى التفسير, دلالات التقديم والتأخير في القرآن الكريم قدّم له الدكتور عبد العظيم المطري رحمه الله, توقف الحقيقة لأن موضوع التقديم والتأخير من الموضوعات التي اعتنى بها العلماء قديما حتى سبيويه في كتابه “الكتاب” أشار إليه ولكن إشارات دقيقة وعامة.
د. محمد: تقليد.
د. عبد الرحمن: نعم, فلما جاء عبد القاهر الجرجاني رحمه الله في كتابه: دلائل الإعجاز, فصل تفصيلًا رائعًا في دلالات التقديم وأسراره في اللغة العربية, وفي البلاغة العربية, وجاء الزمخشري في كتابه الكشاف وأبدع أيما إبداع في استخراج دلالات التقديم في القرآن الكريم.
د. مساعد: ومثله صاحب كتاب نتائج الفكر السهيلي, وهذا أنا أرى أنه رجل لم يُبرز ما عنده من العلم, وأخونا الدكتور محمد بن فوزان العمر بحث مسألة التفسير وعلوم القرآن عند السهيلي, والحقيقة نصحته بطباعته لأن كثيرًا من طلاب العلم لا يعلمون ما عند هذا الرجل من البلاغة, ومثله أيضًا وعندي أنه من أنفس من يشير إلى هذا الطيبي, صاحب الحاشية على الكشاف.
د. عبد الرحمن: لكنه غير مطبوع.
د. مساعد: لكنه الآن موجود على النت الآن في رسائل جامعية قرابة ثمانية رسائل ممكن تُقرأ, واستخراج هذه المواطن الحقيقة مهمة جدًا لأنها نوع من إدراك أسرار الإعجاز, وأن الله حين تكلم بهذا الوحي يضع الكلمة في مكانها المناسب, لأنه أعلم بالكلام, وهو سبحانه وتعالى الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
د. محمد: وهذا كتاب حكيم, أحكمت آياته ثم فصلت.
د. عبد الرحمن: بمناسبة ذكرك للسهيلي رحمه الله صاحب نتائج الفكر في النحو, ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد نقل نقولات كثيرة عن السهيلي, وهي من أبرز وأجمل ما ذكره ابن القيم, مع أنه لا يشير إلى المصدر
د. مساعد: أحيانًا يشير.
د. عبد الرحمن: لكن الغالب أنه لا يشير ولذلك أذكر أن الذي حققه الشيخ محمد البنا محمد إبراهيم البنا هو الذي حقق كتاب نتائج الفكر فحمل حملة شديدة على ابن القيم
د. محمد: مع العلم أن منهج كثير من المتقدمين أنهم لا يشيرون إلا نادرًا.
د. عبد الرحمن: صحيح, لكن الشاهد أن البنا ذكر أن معظم ما في كتاب بدائع الفوائد من الاستنباطات والفوائد مأخوذ من كتاب نتائج الفكر, وغيرها من كتب السهيلي رحمه الله .
د. محمد: نعود إلى أصل الفكرة التي أنتم طرحتموها وهي قضية التقديم والتأخير وتطبيقها على الآية التي معنا، هنا يقول (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ (38)), كأنه أشار إلى سبب حصول هذه الخصلة منهم, وهي أنهم إذا أنفقوا أنفقوا رئاء كأن ذلك لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر, فالذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يُتوقع منه إذا أنفق أنه يريد المفاخرة والمكاثرة والجاه والمنزلة مع أنه يبذل المال ويخرجه, والمال عزيز على النفس يعني ما يخرج إلا بقوة وجهد, ولكنه يريد به الجزاء العاجل وهو مراءاة الناس, فأشار إلى هذا بهذه الطريقة, لكن لما جاء إلى بيان الحقيقة كيف تبدأ مع الإنسان قال (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ (39)).
د. عبد الرحمن: أي أن هذا هو الترتيب الطبيعي.
د. مساعد: أن الإيمان أثره أن ينفقوا مما رزقهم الله. أبو عبد الله لو قلنا بما قاله سيبويه أن العرب تقدم ما لهم به عناية, وهذه عبارة قريبة من عبارته, الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم الآن عنايتهم بالناس ومراءاتهم, ويغيب عنهم الإنفاق لوجه الله, أيضًا هذا قد يكون فائدة أخرى.
د. محمد: والفوائد البلاغية يقولون لا تتزاحم, يمكن اجتماعها على معنى واحد. نعود يا إخواني إلى شيء مهم جدًا في الآية لم نفصله ولم نبين معناه وإن كان كثير من الإخوة المشاهدين يفهمونه, لما قال “يبخلون”, ما معنى البخل؟
د. عبد الرحمن: هو قبض اليد وإمساكها عن الإنفاق.
د. محمد: في الأمر الذي يجب على الإنسان, لأنه ما يستحب إن بذل الإنسان فهو محمود, وإن لم يبذل لم يُذَّم, فالمقصود إمساك عن أمر واجب, سواء كان إمساك المال أو إمساك العلم أو إمساك الجاه والمنزلة.
د. عبد الرحمن: كلها تسمى بخلًا.
د. محمد: كلها تسمى بخلًا, والنبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه أنه قال: “وأي داء أدوأ من البخل”, وكان يستعيذ بالله من البخل, وكثير من الأحاديث التي تتبعتها في استعاذاته عليه الصلاة والسلام أجد أن الكبر والجبن والبخل والهمّ والحزَن هذه الخمسة والكفر والفقر وعذاب القبر أو هذه السبعة من أكثر الأشياء التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يركز عليها في تعوذه بالله عز وجل, لأنه إذا أصيب الإنسان بشيء منها حصل بسببها شر كثير على الإنسان, فنحن نقول الذين يبخلون, هناك أناس آخرون أشد منهم وهم من يبخل ويضيف إلى ذلك أن يريد أن يشاركه الناس في هذا البخل, فهو يمنعهم.
د. عبد الرحمن: حشف وسوء كيلة.
د. محمد: أعوذ بالله.
د. عبد الرحمن: لا هو يعطي ولا يترك الناس يعطون.
د. محمد: نعم, فإذا جاء الناس يعطون أو يتصدقون هددهم ونصب نفسه واعظًا لئلا يتصدقوا, وسبحان الله طبيعة من يقع في فاحشة أو منكر يحب أن يكون الناس مثله لئلا يكونوا أفضل منه. لذلك يقولون أن الفتاة التي تقع في الزنا نسأل الله العافية, أحب شيء إليها هو أن يشاركها بنات الحي في الزنا حتى لا تنفرد بهذه الخصلة الذميمة.
د. عبد الرحمن: لذلك قال (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا (19) النور), لاحظ البخل الله سبحانه وتعالى نهى عنه, وذمه في القرآن الكريم ذمًا شديدًا, والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ منه, وكان يحب مكارم الأخلاق عليه الصلاة والسلام, ويرى أن الإكرام من علامات الإيمان, فقال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه “, فهو خلق من الأخلاق, وكان عليه الصلاة والسلام يثني على الكرماء حتى في الجاهلية فكان يذكر عبد الله بن جدعان, ولما وقعت سفّانة رضي الله عنها بنت حاتم الطائي في الأسر فقالت: “يا رسول الله أنا ابنة حاتم الطائي”, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أطلقوها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق”, ويكرم الضيف, والنبي صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه الوحي, لاحظوا يا إخواني سبحان الله العظيم مثل هذه المعاني العظيمة والأخلاقيات أخلاق الكرم والشجاعة والحلم هي من الأخلاق التي اجتمعت عليها الفطر في الجاهلية وفي الإسلام, بل وحتى في الديانات الأخرى, فالنبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي فخاف عليه الصلاة والسلام خوفًا شديدًا, فجاء إلى خديجة رضي الله عنها وهو يرجف فؤاده, صح؟
د. محمد: لا شك.
د. عبد الرحمن: فلما قصّ عليها القصة, قالت له: “والله لا يخزيك الله أبدًا “.
د. محمد: لماذا لا يخزيه الله أبدًا؟
د. عبد الرحمن: لماذا؟ استنبطت ذلك: ” والله لا يخزيك الله أبدًا, إنك لتقري الضيف, وتحمل الكلّ, وتغيث الملهوف, وتعين على نوائب الدهر”,.
د. محمد: ومن كانت هذه حاله فلن يخزيه الله أبدًا.
د. عبد الرحمن: كلها أخلاقيات, إكرام الضيف وإغاثة الملهوف, وغيره. الشاهد أن في قوله: ” الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل”, هنا إشارة إلى ذم هذا الخلق, سواء كان بخلًا يا دكتور مساعد بالمال وهو أول ما يتبادر إلى الذهن عندما يقال هذا إنسان بخيل, أو بخلًا بالجاه, أو بخلًا بالعلم, أو بخلًا بكل ما يمكن للإنسان تقديمه.
د. محمد: والقوة البدنية البخل بها, داخل في هذا الأمر. قال النبي صلى الله عليه وسلم : “البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ علي”, مما يدل على أنه وسع معنى البخل حتى جعلها في الصلاة عليه, عليه الصلاة والسلام.
د عبد الرحمن: وإن كان تلاحظون أنه قال: “ينفقون أموالهم”, فصرح بالمال, مما يشير إلى أن البخل الذي ذكر ينصب أول ما ينصب على البخل بالمال, لكنه أعم أيضًا, فالبخيل بجاهه أحيانًا يكون أشد إثمًا من البخيل بماله لحاجة الناس للجاه, والعلم.
د. محمد: بعد الانتهاء من البخل دعونا نتحدث يا أبا عبد الملك عن الكتمان (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله), ما المقصود بهذه الصفة؟.
د. مساعد: طبعا إن كانت في اليهود فأكبر ما كتموه من الفضل هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه, ولهذا كانوا هم يتوقعون أو كانوا يتمنون أن يخرج منهم, فلما خرج من العرب حسدوهم على ذلك وكتموا.
د. عبد الرحمن: الله سبحانه وتعالى اختص بني إسرائيل وأكرمهم بأن بيّن لهم صفات النبي المنتظر رجاء أن يكونوا أول الناس إسلامًا وإيمانًا به.
د مساعد: يعني يسّر لهم طريق الإيمان به.
د عبد الرحمن: وهذا من فضل الله عليهم ولكن كانت النتيجة أنهم كانوا أول من جحد به عليه الصلاة والسلام, ولذلك أذكر صفية رضي الله عنه عندما أخبرت أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاء اليهود وجاء شيوخ المدينة ينظرون في حال النبي صلى الله عليه وسلم تذكرون أيضًا قصة عبد الله بن سلام عندما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة, وكان من زعماء اليهود ومن علمائهم, قال فلما رأيت وجهه علمت أن هذا ليس بوجه كذّاب, وهو عالم من علمائهم! فتذْكر عن حيي بن أخطب والدها أنها سمعته وهو يتحدث مع عمها مع أخيه فيسأله فيقول له: هل هذا الرجل هو هو؟ هل هذا هو النبي المنتظر؟, قال: نعم إي وربي إنه هو هو. فقال: فماذا أعددت له, أو ماذا ترى؟ فقال: معاداته حتى الموت, أو عداوته ما بقيت, وأنكره وأصبح حتى مات على اليهودية.
د. مساعد: أعوذ بالله, بعض الناس قد يسأل: كيف كتم اليهود أمر محمد صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى قد نصّ (النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة), (ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد), مكتوبًا عندهم, يجدونه.
د. عبد الرحمن: مكتوبا عندهم في النسخ الموجودة بين أيديهم.
د مساعد: ولهذا تجد أمر محمد صلى الله عليه وسلم مصرحًا باسمه ولكنهم حذفوه بطريقة طبعًا بطريقة وهذه طبعًا عبارات أخينا عبد الرحمن احترافية.
د. محمد: يذكر بعض الأناجيل التي وجد فيها التصريح مثل إنجيل برنابا ألغي من الأناجيل المعتمدة.
د. مساعد: ليس من الأناجيل عندهم المعتمدة, فيبدلونه بكلمة هم يعرفون المراد منها وغيرهم لا يعرف, مثل بدل كلمة محمد كتبوا مشتهيات في سفر إذا ما كنت واهمًا يعقوب, وكتبوا في بعض يعني حذفوا أخذوا اسمه ووضعوا إسمًا آخر يوافق إسمه بحساب الجمّل, وطبعا هذه لها قضية أخرى حساب الجمّل, ليس هذا طبعًا وقت عرضها, لكن من باب الفائدة أن حساب الجمّل المعتبر عند اليهود في علمهم وكتابهم فاستخدامه في كتبهم هو الموطن الصحيح أما استخدامه عندنا فليس كذلك لأنه ليس من علوم العرب فلا يصح استخدامه. أو أن يوجد صفته صلى الله عليه وسلم بحيث هذه الصفة لا تنطبق إلا عليه فقط وهذه كثيرة جدًا في التوراة والإنجيل. أو أن توجد ذكر أحوال أمته أحوال لأمته ولا تنطبق هذه الأحوال إلا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما ورد في سفر داوود يسمى المزامير وهو يتكلم عن الحُجّاج الحمّادون والحجاج الحمادون الذين يأتون إلى الأرض إلى وادي بكة طبعًا حرفوه إلى وادي البكاء, ليس هناك أمة فيها حجّاج وحمّادون ويأتون إلى وادي بكة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
د. عبد الرحمن: صحيح.
د. مساعد: وأين الحمّادون؟ كثيرو الحمد لله؟ فإذا المقصود أنه له وجود واضح جدًا عندهم ولكنهم يحرفونه, إما بتحريف الاسم, أو بتحريف الدلالة فيتأولونه على غير المراد منه.
د. عبد الرحمن: سبحان الله حتى بعد تحريفهم وبعد حذفهم لدلالات النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم بقي فيه, وأذكر أنك ذكرت لي أحدًا.
د. محمد: نعم, أنا أذكر أني قابلت رجلًا كان قسيسًا كبيرًا من قسس أثيوبيا كان يتبعه خلق كثير, فالرجل لما طبعًا تعلّم حتى تعلم في إسرائيل تعلم العبرية, وكان يقرأ الكتاب المقدس بها.
د. عبد الرحمن: نصراني هو أم يهودي؟
د. محمد: لا, نصراني.
د. عبد الرحمن: سبحان الله!, هناك تعاون بين النصارى واليهود في الدراسة؟
د. محمد: طبعًا وعندهم معاهد هناك متخصصة, والنصارى كما تعلم يؤمنون بالعهد القديم والعهد الجديد. فهذا الرجل أنا سألته سؤالًا محددًا وكان ذلك في مسجدي لأنه زارني في المسجد جزاه الله خيرًا, فقلت له: هل تجدون في الكتاب المقدس عندكم ذكْرًا النبي صلى الله عليه وسلم؟, فقال لي بالحرف الواحد: أنا وجدت في الكتاب المقدس أكثر من سبعين موضعًا لا يمكن أن تنطبق إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى لو استطعت أن تحرف واحدًا أو اثنين أو ثلاثًا منها لغيره فإنها منطبقة جميعًا, ومجتمعة لا يمكن على أحد من خلق الله أن تجتمع إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن القوم قوم بُهْت أنكروا وكتموا كما ذكر الله عز وجل في هذه الآية. وهذا الرجل لما أسلم بالمناسبة أسلم معه إثنا عشر ألف إنسان وقصته مشهودة وقد كتبت في جرائدنا نحن, لأنهم تقابلوا معه بعد مجيئه لمكة والمدينة.
د. عبد الرحمن: ما شاء الله! تلاحظون يا إخواني حتى في اليهود والنصارى حرفوا الكلم عن مواضعه, وتأولوا تأويلات هي تحريفات في الحقيقة, وكان هذا سببًا من أسباب الانحراف عندهم في اليهودية والنصرانية, أيضًا في الإسلام وقعت كثير من الطوائف في التأويل الذي هو بمعنى التحريف في الحقيقة فحرفوا معاني الصفات وحرفوا دلالاتها لمعاني باطلة, فكان هذا سببًا أيضا من أسباب انحرافهم وضلالهم وبُعدهم عن الحق, ولذلك ليس هناك مثل منهج أهل السنة والجماعة في إثبات ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه من الأسماء ومن الصفات دون تأويل أو تحريف أو تعطيل أو تشويه.
د. مساعد: إذا سمحت يا شيخ عبد الرحمن في قوله (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا (38)), يعني أيضًا لاحظوا من يكن الشيطان قرينًا له, فهذا أيضًا فيه تقديم مع كثرة التقديم والتأخير, طبعًا القرين بمعنى ماذا؟
د. عبد الرحمن: المقارن المصاحب الملازم.
د. مساعد: من قرن الشيء بالشيء كأنه ربط شيئًا بشيء, ومنه أُخذ قرن الشاة وغيره, فمادة قَرَن كما نلاحظ أنها في الأصل تدل على ربط شيء بشيء, طبعًا الآن تستخدم المقارَن بمعنى الموازَن, نقول مثلًا: الفقه المقارن, الفقه الموازن, والمصححون اللغويون يقولون هذا خطأ, وإنما الصواب الفقه الموازَن, التفسير الموازَن, وهكذا, فلأن المقارن لا يؤدي مدلول الموازنة, والعمل الذي يقوم به من يقول الفقه المقارن, أو التفسير المقارن, هو عمل موازنة, موازنة بين أقوال أو بين مذاهب وغيرها, لكن كما يقولون, يقولون ماذا؟ خطأ مشهور خير من صواب …..
د. عبد الرحمن: هذا تصدق حتى من الدلالات اللغوية عند العرب أن القرين المقارِن عندما تقرن جمل بجمل, ونحن عندنا هنا في النماص عندما نستخدم البقر في الحرث عندما تأتي إلى الثورين اللذين تعمل عليهما تضع بينهما مِقْرنة, هذه الخشبة هذه تسمى مقرنة, فيقول الفرزدق:
وابن اللبون إذا ما لُزَّ بقَرَنٍ (هذا هو) لم يستطع صَولة البُزْل القناعيس
يعني جمل كبير بازل مع جمل صغير لا يستطيع أن يجاريه!, يعني أن المقارنة فعلًا فيها هذا المعنى الربط, ليست الموازنة, لكن كما تفضلت أصبحت كلمة شائعة الآن, دراسة مقارنة, فقه مقارن.
د. مساعد: أيضا في دلالات الأفعال أولًا قال “والذين ينفقون”, فجاء بها بماذا؟
د. عبد الرحمن: بصيغة المضارع التي تدل على التجدد والحدوث.
د. مساعد: ثم في الآخر نفى قال: “ولا يؤمنون ” للدلالة على الاستمرار, إذا نُفي الفعل دل على استمرار نفيه في الزمان لأنه أطلق قال: ” ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر “, طبعًا لما يقول: ” بالله ولا باليوم الآخر “, هذا تكون ماذا؟ من باب…
د. عبد الرحمن: أليس الإيمان بالله يشمل الإيمان باليوم الآخر؟.
د. مساعد: بلى.
د. عبد الرحمن: لماذا خصص اليوم الآخر؟
د. مساعد: استقلالًا, وللدلالة على استقلاله جاء بقوله “ولا”, فاستقلاله يدل على أهميته, ودلالة على أيضًا أن الإيمان باليوم الآخر استقلالًا, لو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لكان من لوازمه أنهم يؤمنون بمن؟
د عبد الرحمن: بالله.
د مساعد: ولكن إيمانهم بالله لا يلزم منهم الإيمان باليوم الآخر مثل ما حصل من كفار مكة, يعني كفار مكة كانوا يؤمنون بالله وإن كانوا مشركين, ولكنهم لا يؤمنون باليوم الآخر, لكن من آمن باليوم الآخر فالأصل أنه يؤمن بالله.
د. محمد: والإيمان باليوم الآخر بالمناسبة يتردد ذكره في القرآن كثيرًا, بل هو أكثر أركان الإيمان ذكرًا بعد ذكر الإيمان بالله, والسبب في ذلك أنه لا يمكن أن تستقيم الحياة إلا به, ولا يمكن أن يسعد الناس إلا به, عندما يصبر الإنسان على الأذى, يصبر على الظلم, عندما يصبر على العبادة والطاعة, عندما يجد أنه قد فُضِّل عليه آخرون بأشياء قد أوتوها من مال وجاه وبنين وإلى آخره, كل ذلك الذي يصبره عليه ويجعله يتحمل ولا يحسد الآخرين ولا يتكبر عليهم إيمانه بأنه سيلقى جزاء صبره وتواضعه وإنفاقه وصلاته وقيامه بالليل في الدار الآخرة. ما الذي يمنع أنا أقول لطلابي دائمًا المؤمن عندما يجد 500 ريال ملقاة في مكان لا يراه فيها أحد إلا الله, من الذي يمنعه من أخذها؟!
د. عبد الرحمن: مراقبة الله ورجاء اليوم الآخر.
د. محمد: نعم, يخاف لأنه سيحاسب عليها, كل درهم ستدخله في جوفك هناك حساب وعقاب وعذاب.
د. عبد الرحمن: وانظر إلى إشارة الله إلى هذا المعنى في قوله في سورة المطففين في أولها (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) ثم ترك كل شيء وركز على اليوم الآخر (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))
د. محمد: ذكرهم باليوم الآخر.
د. عبد الرحمن: يا سلام! يعني كأنهم لو كانوا تذكروا اليوم الآخر ما كانوا طففوا المكيال والميزان.
د. محمد: لأنه شيء معلوم, يُعلم أنه من الظلم البيّن, فالله ذكرهم ووعظهم, والموعظة كانت في مكانها.
د. مساعد: أيضًا قرْن الإيمان بالله مع الإيمان باليوم الآخر في القرآن كثير, مما يدل على أهمية هذين الأمرين وارتباطهما ببعض, الذي هو الإيمان بالله واليوم الآخر, وهذا ورد في القرآن في آيات كثيرة. مقارنة الشيطان لمّا قال “ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا”, يعني ماذا يُتصور ممن يكون الشيطان له قرينًا؟! ولهذا نقول سبحان الله لو تأملت أحوال بعض الناس لوجدت بالفعل أن قرينه هو الشيطان لأنه لا يصدر منه إلا الشر.
د. عبد الرحمن: إلا الأعمال السيئة.
د. مساعد: مثل الساحر والكاهن, هؤلاء لا يمكن أن يصدر عنهم خير لا يمكن, لأنهم لا يستطيعون, لماذا؟ لأن قرينه هو من؟
د. عبد الرحمن: الشيطان, يأمره بالبخل وينهاه عن المعروف.
د. محمد: أنظر يا أبا عبد الملك ويا أبا عبد الله, تجد الرجل هذا الذي قرنه الشيطان عندما يأتي بذل المال في خير, افترض هؤلاء المساجين بسبب ديون عليهم, تقول له: يا فلان استنقذ هؤلاء, يقول لك: أتركهم, هؤلاء تخرجهم ويعودون غدًا لنفس عادتهم, أتركهم يتأدبون.
تقول له: فيهم أناس مضطرين, هو يعظك!. نريد عمل حفلة سمر تكلف مائة ألف ريال, أو مائتا ألف, أول من يساهم فيها هو, هنا يكون أول المساهمين وهنا يكون أول الذابّين المنافحين عن عدم فعل الناس للخير, ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا.
د. عبد الرحمن: بارك الله فيكم يا إخوان يبدو أن الوقت أدركنا في هذا المجلس لعلنا نستكمل الحديث عن هذه الآيات في المجلس القادم بإذن الله تعالى. أيها الإخوة المشاهدون الكرام إنتهى وقت هذا اللقاء, تقبلوا تحياتي وتحيات المشايخ الدكتور محمد الخضيري, والدكتور مساعد الطيار, وتحياتي أنا أيضًا من هذا المكان في مدينة النماص, حتى نلقاكم إن شاء الله في اللقاء القادم وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بُثّت الحلقة بتاريخ 21 رمضان 1431 هـ