برنامج بينات

برنامج بينات – 1431هـ- تأملات في سورة النساء الآيات 7-9

اسلاميات

الحلقة السادسة

تأملات في سورة النساء – الآيات (7 -9)

د.  الطــيَّار: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. نحن في صيف واحد وثلاثين وأربعمائة وألف، في قاعة الجنادرية من قرية الأربوعة في تَنومة، نرحب بكم أيّها الاخوة المشاهدون والأخوات، أهلًا. وقبل أن نبتدئ هذا اللِّقاء مع الأخوين الكريمين الدكتور عبدالرحمن الشِّهري، والدكتور محمد الخضيري، لعلَّنا نستمع للآيات ثمّ نعود لتفسيرها بإذن الله.

قراءة للشِّيخ محمد عبد الكريم من سورة النّساء آية (7-9)

(لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (9))

د. الطيَّار: وقفنا عند قول الله سبحانه وتعالى (للرِّجال نصيبٌ ممَّا ترك الوالدن والأقربون)، ولعلَّنا نبتدئ هذا المقطع ونأخذ ما يتعلَّق بهذه الآية الكريمة، فإذا كانَ عند أحد الأخوين تعليق في هذه الآية فلا بأس.

د. الخضيري: طبعاً هذه الآية جاءت للرَّد على أهل الجاهلية، في كونِــهم كانُوا يُؤثرون الرِّجال بالميراث دون النِّساء، ويقولون كيف نوِّرث من لا يذود عن العشيرة ومن نصره بُكاء يقصدون بذلك المرأة والأطفال والصِّغار. فكانت أموالهم تُؤكل ولا يأخذون من حقِّهم شيئاً فجاءت الآية مؤكِّدة لحقوقهم بطريقة عجيبة قال ” للرِّجال نصيبٌ ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنِّساء نصيبٌ ممّا ترك الوالدن والأقربون ممَّا قلَّ منه أو كَثُر ” لاحظ، فما قال للرِّجال والنِّساء هذا أولاً، وإنّما أفردهم ليُعلم أنّ لهم حقّاً خاصًّا ثم أيضاً لمّا ذكرهم قال (ممَّا قلَّ منه أو كثُر) ليُبِيِّن أنّ أخذهم بالحق يستوي سواءً كان الإرث أو التركة قليلة أو كثيرة. طبعاً هذه الآية لها سبب نزول وهي قصّة سعد بن الرَّبيع لمَّا تُوفي رضي الله تعالى عنه وأرضاه وكان له بنتان، جاء عمَّهُمَا فاستولى على مالهما، فجاءت امرأته تشتكي للنبي صلى الله عليه وسلّم تقول سعد ترك ابنتين وليس لهما من يَعُولُهُما، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذا الفَرَج للنَّاس جميعاً بسبب هذه الحادثة.

د. الطَيَّار: نعم، يعني الآن إذاً التفصيل الدَّقيق في قوله للرِّجال نصيبٌ ثم قال وللنِّساء نصيبٌ للتأكيد على اختصاص كل واحدٍ من هؤلاء بحقِّه.

د. الخضيري: وهذا يَرِد في القرآن في مواطن مُناسَبَة لهذا المعنى وأحياناً لغيره، مثلاً في قول الله عزَّ وجل (يا أيُّها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَّ خيراً منهنَّ) قال العُلماء إنّما نُصَّ على سُخرية النِّساء لكثرة ما يجري بينهنَّ من الأحاديث وما يحصل في مجالسهنّ من السُّخرية إمَّا ببعضهنَّ، أو ببعض النَّاس أو غيره، فنصّ الله على كل صِنفٍ على حِدَة ليتأكد كل واحد منهما بذلك، مع دخوله في الأصل في قوم، وإن كان بعض المفسِّرين يرى أنّ كلمة قوم تَرِد إذا جاءت مع النِّساء فهي خاصّة بالرجال لقوله:

وما أدري ولستُ إخالُ أدري   أقومٌ آلُ حِصنٍ أم نساءُ.

د. الشِّهري: لكن يَرُدُّ هذا قول الله تعالى (وصدَّها ما كانت تعبد من دون الله إنّها كانت من قومٍ كافرين) فأدخل بلقيس في القوم.

د. الخِضيري: نعم، قصدنا إذا ذُكرِ النِّساء في القوم، فالقوم المُراد به الرِّجال.

د. الطيـَّار: الآن لو تأمَّلنا الآيات السابقة، فنُلاحظ أنّها مرتبطة بالأموال وتقسيم حقوق، طبعًا ذكر حق اليتامى ثم ذكر حقَّ المرأة في الصَّداق ثم الآن بدأ يدخل في تفصيلاتٍ أخرى .

د. الخضيري: لاحظ يا أبا عبدالملك، في المرَّات الماضيةكان حفظ مال اليتيم ماله هو.

د. الطيَّار: نعم الذي يكون هو أصلاً بسبب ميراث.

د. الخضيري: أو شيءٍ آخر، أو شيءٍ آخر كأن تكون هبة، أو صدقة ،أو زكاة أعُطيت له. لكن الآن يأتي إلى حقٍّ خاص وهو حقُّه من تركة أبيه أو تركة مُوَرِّثه عامّة.

د. الطيَّار: بعض المفسِّرين أراد أن يذكر مناسبة التَّفصيل بالمواريث بعد ذكر حقِّ اليتامى بالذَّات، كأنَّه  قال في الغالب أنّ حقَّ اليتامى إنّما يحصل بعد موت مورِّثه ثم يأتي وكيلٌ عليهم. فكأنَّه قال إنَّ هذا دخول في السَّبب الذي يأتي منه المال لليتيم.

د. الخِضيري: نعم، ولا شكّ أنّ هذا هو أعظم الأسباب التي تأتي من الأموال لليتامى، لكن الآن ولله الحمد والــمِنّة تأتي الحقوق لليتامى بسبب مثلاً التأمينات الاجتماعية، ورواتب التَّقاعد وأحيانا كَفَالات الأسُر التي تكون في بعض الجمعيات والمؤسَّسات.

د. الطيَّار: وقوله (نصيباً مفروضاً) أيّ مَقسُوماً قد قُسِم لهم، لأنَّ الفَرض بمعنى الحَزّ، كأنّه قُطِع لهم شيءٌ من المال فكأنَّه يقول أنّهم قد فُرض لهم وقُطِع لهم خِصِّيصاً فهؤلاء الذين هُم الرِّجال أو النِّساء كلُّ واحد منهم له نصيبٌ معلوم ومحدَّد وكأنَّ هذه الآية فيها عُموم وسيأتي التَّفصيل في قضية حُقوق الإرث بعد ذلك.

د. الخضيري: وزيادةٌ على قولِكَ (مُقُدَّر)، يمكن أيضاً تأتي بمعنى مُحتَّم مفروضًا أي حتمٌ لازمٌ لابد من أخذه وهذا والله أعلم أليق بسياق الآية من جهة أنّها جاءت لتؤكِّد على فرضية احترام هذا المال.

د. الشِّهري: طبعاً هذه الآية تعتبر أصلًا في إعطاء المرأة والضُّعفاء حقوقهم، لأنهَّم -كما تفضلتم- في الجاهلية بل حتى في الحضارات السَّابقة للإسلام عند الفرس وعند الرُّومان كانت المرأة ممتهنة عندهم وكانت تُورَث كما يُورَث سائرُ المتاع، فهذه الآية جاءت لتقرير الحقِّ لهذا الجِنس عندما قال (للرِّجال نصيبٌ ممّا ترك الوالدنِ والأقربون وللنِّساء نصيبٌ ممّا ترك الوالدانِ والأقربون) ثمَّ قال (ممَّا قلَّ منه أو كَثُرَ) فأشَار إلى أنّ المرأة والرَّجل في الحُقوقِ سَوَاء. ولذلك الذَّين يَدعُون الآن إلى المساواة بين الرَّجل والمرأة، وهذه الأُسطوانة التي تُعَاد وتُكرَّر على أنَّ الإسلام قد ظَلَم المرأة، في حين أنَّك عندما تتأمّل في مثل هذه الآية بالذَّات هذه الآية التي جاءت في أوَّل الحديث عن توزيع الحقوق فيها إيضاح واضح أنَّ المرأة والرَّجل في الحقوق سواء، وأنّ الرَّجل يَرِث وأن المرأة ترث كما يرث الرَّجل ثم سوف تأتي معنا بعد قليل الآيات التي تُفصِّل التركة فتجعل للرَّجل مِثلَ حظِّ الأنثيين في بعض التَّفاصيل، هنا العدل سوف يأتي الحديث معها إن شاء الله. لكن هذه الآية بالذّات تُعتبر أصل الحقيقة في إعطاء المرأة حقَّها. ولذلك أنا أرى وأقترح على الإخوة الذِّين يَتَحدِّثون اليوم في مثل هذه القضايا، أن يتأمَّلوا في مثل هذه الآيات قضايا المرأة بِصِفة عامّة، وأنَّ المرأة في القرآن الكريم قد كُرِّمت تكريمًا خاصًا واضحًا وظاهرًا في إشارة إلى أنَّها كانت قبل نزول هذه التَّشريعات ممتهنة ومظلومة قبل الإسلام.

د. الطيَّار: بل لا يزال حتى الآن في الغرب الذي يتبجّح بالحُريِّة، المرأة في العَمل لا تأخذ مثل ما يأخذ الرَّجل.

د. الشِّهري: صَدَقت. الأجور أظن تقل بنسبة خمس وسبعين في المائة .

د. الطيّار: نعم، وتُنسَب إلى زوجها وليس إلى أهلها. مع الأسف أنَّ الضَّعف الذَّي تعيشه الأمة، يعني ضعفاً حتى في التَّصوّر لمثل هذه الأمور، وظنَّ كثير من الرِّجال ومن النِّساء أنّه ما يرونه من هذه الحريّة المزعومة الموهومة هي في الحقيقة عبودية، هي حرية من جانب ولكنَّها في الحقيقة هي عبودية، فمن المهم جداً بالفعل إبراز هذه الجوانب الموجودة في القرآن التي تُكَرِّم المرأة وتجعل المرأة كياناً مستقِّلاً ليس لأحدٍ سلطة عليها في مثل هذه الأمور.

د. الخضيري: في قوله: (للرِّجال نصيبٌ ممّا ترك الوالدانِ والأقربون وللنِّساء نصيبٌ) قدَّم ذكر الرِّجال على ذكر النِّساء على عادة القرآن وهذه عادة وسنّة جارية في كتاب الله عز وجل بناءً على أسباب شرعية وطبيعية جعلها الله عز وجل سبباً لتقديم هذا الجِنس على هذا الجِنس، وليس هذا من باب الإهانة، الإهانة هو أن تجد إنساناً له مكان فَــتُنزِلُهُ عن مكانه لكن إذا وضعته في مكانه الذي يستحقه، فالرَّجل مُقدَّم على المرأة أولاً: هو أصلٌ لها، ثانياً: هو قوَّام عليها، ثالثاً: هو أكمل منها، ولِذَلك المهمِّات الصَّعبة والأشياء القوِّية لا يتولاّها إلاّ الرِّجال يعني من يحمي الدِّيار من يبني البلاد وَيَعمُرها.. إلى آخره مع أنَّ المرأة تقوم بدور لا يُستهان به فليس في هذا إنكارٌ لحقِّها ولكن يجب أن نعترف بأنَّه لو بَقِيت النِّساء بلا رجُلٍ معهنّ فهم في شَرِّ عيشة ويمكن للرِّجال أن يبَقوا ولا يكون معهم من النِّساء أحد، ولذلك يخاف النّاس على بناتهم أشَّد من خوفهم على أبنائهم من هذا الجانب، ولذلك تقديم الرِّجال حتى في الذِّكر هذه سُنَّة القرآن (إنَّ المسلمين والمسلمين).

د. الشِّهري: وسوف تأتي آيات القِوَامة (الرّجال قوَّامون على النِّساء) وآيات (وللرِّجال نصيب) وقال (وللرِّجال عليهنَّ درجة)، كل هذه الآياتِ الشَّرعية التي فيها تُقديم الرَّجل على المرأة شرعاً موجود فيه أدلة واضحة ظاهرة قال (وللرِّجال نصيب) وأيضاً القوامة (الرّجال قوَّامون على النِّساء) قال ولا ينبغي فعلاً أن تُفهَم هذه القوامة أنّها إهانة للمرأة، بل هي في الحقيقة تكريم لها وخدمة لها، ولكن سبحان الله العظيم، الآن عندما أكثر الطَّاعنون في الإسلام وأيضاً كثرة التَّرويج بأنَّ المرأة في الإسلام ممتهنة ومظلومة وحُرِّيتها مسلوبة والرَّجل متسلِّط عليها، كثُرت الكِتاَبات والّتأثُّر بالغَربيين والتأثُّر بالنَّصارى، أصبح بعضُ الكُتّاب من المسلمين يُؤّيد هذا ويدعو إلى إنصاف المرأة ويقول أنَّ المرأة المظلومة.

د. الطَّيار: هو لا شَك أنّه كما قلنا جهل في تصوُّر معاني الإسلام.

د. الشِّهري: أحسنت، هذا الظلم الواقع على المرأة الآن في المجتمعات الإسلامية ليس سببه الإسلام، وإنَّما سببه سوء تصرُّفات المسلمين أنفسهم.

د. الخِضيري: أبو عبد الملك في قوله (وَالأَقْرَبُونَ) الحقيقة لَفتة جميلة جدّاً، وهي أنَّ المواريث مبنية على الأقرب فالأقرب، وليس من باب الإرث، لذلك لم يقل للرِّجال نصيبٌ مما ترك الوالدان والقَريبون أو وذوي القُربى، وإنما قال (وَالأَقْرَبُونَ)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألـحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجلٍ ذَكَر. انظر أقرب واحد يكون لهذا الميِّت، فعبَّر بكلمة أقرب ولها دلالة في هذا المعنى.

د. الشِّهري: وهذا سبب التعبير بالأقربين هنا.

د. الطَّيار: قوله (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ)، طبعاً بعد ما ذكر الآن الآية العامَّة في الـــمواريث، يعني كأنَّها آية عامَّة في التَّوريث، للرِّجال نصيب وللنِّساء نصيب، فأتبعها بقوله (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى)، فطبعا ظهر الآن التَّرابط بين الآيات، فما دلالة قوله: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى).  يعني هذا القيد في الحضور أنّهم حضروا وقت القسمة.؟

د. الشِّهري: دلالته أولاً: أنّهم هؤلاء الذِّين حَضَروا ليسوا من أهل الفرائض، لأنّ أهل الفرائض سيأخذون حقَّهم، حقُّهم محفوظ سواء حضروا أو لم يحضروا، لكن هؤلاء حضروا هذا المناسبة وهم من هذه الأصناف، ولذلك قال أولوا القُربى أو اليَتامى أو المساكين هذه أصناف ثلاثة إذا حَضَرت قسمة فإنَّه يُندب ويُستَحَب لأصحاب الميراث هؤلاء أن يُطيِّبوا خواطر هؤلاء بإعطائهم ما يَرونه مناسباً لجبر خواطرهم وحتى لا يقع في أنفسهم حسد أو ضغينة على هؤلاء أقاربهم أو الذِّين حضروا معهم، هل ترى فيها دلالة أخرى شيخ مساعد؟

د. الطيّار: مثل ما ذكرت أنّ أصحاب المواريث حضروا أو لم يحضروا حقُّهم محفوظ، أمّا هؤلاءِ فالقيد فيهم الحضور.

د. الشِّهري: وإذا لم يحضروا؟

د. الخِضِيري: لا شيء عليهم، لكن هي الحقيقة تُشير إلى لون من ألوان الذَّوقيات الإسلامية الرَّفيعة، وهي أنّه من حَضَر القِسمة ينبغي أن تُطيَّب نفسه، لأنَّ النّفس تتشوَّف- سبحانَ الله-  إلى هذا الشَّيء الذي يُقسَم أو يُعطى لهؤلاء النَّاس، فحريٌّ بأن يُقسَم لهم شيء حَسَب ما تَطيب به نفوس أولئك أصحاب المال، لكنّه يرُد ما في نفوسهم، والغريب أنّ النّاس كانوا عندنا فيما سَبَق يتعاهدُون على مثل هذا، بل إنّهم يفعلونه حتى في أمور البيع والشِّراء، يعني إذا تبايَع اثنان وحَضَر معهم ثالث يقسِمون له شيئاً، مثلاً فرضاً أنّهم تبايعوا قهوة تجدهم يأخذون بالكَفِّ ويقولون هذه لفلان، أو مثلاً من السَّعي بيعَت مثلاً هذه الأرض أو كذا بمائة ألف ريال، السَّعي الذِّي عَقَدَ بينهما، والحاضِرين أيضاً لا ينسونهم من هذا. أذكر إذا كُنَّا جالسين على الطَّعام وجاء إنسان أو مــرّ لازم نقسِم لَه، يقولون العامَّة لنا سابقاً أنَّ هذا يَرُدّ ما في نفسه لأنَّ النَّفس سبحان الله فيها شَرّ، وهذا الشَّر قد يصل إليك، فسبحان الله إذا أرضيت هذه النَّفس قَنِعَت، بل حتى يقولون يا أبا عبد الملك إنّه في الحيوانات أيضاً ينبغي ألا يُهمَل هذا الجانب فيها. إذا جاءت أكرمكَ الله قِطّة أو شيء من الحيوانات ووَضَع نفسه في شيء من طعامك أعطِه منه، يكون لها أنفس شريرة تنبعث وتُؤثِّر عليك.

د. الشِّهري: سبحان الله!.

د. الطيَّار: العجيب الآن مثل ما ذكرت الحقيقة، لاحظ هذِه الذَّوقِيَات بالفعل الموجودة في الإسلام، وتطبيقها بين المسلمين، مع الأسف أحياناً قد يَغفل عنها كثير ممَّن يُعايشها أو يغفل عنها كثير من المسلمين المساكين الذين قد شُغِفوا بما عند الغرب. لكن اُنظر إلى الغَربِّي الذي يُسلِم ويَهتدي، سبحان الله هذه الأمور تُؤثِّر فيه تأثيراً بالغاً، وتجد أنَّه يذكر أشياء يعني من إعجابه بما عِندك أنت تستغرب انتباهه لها، ولهذا أذكر الأخ رودريغو البرازيلي يقول من الأشياء التي كانت لَفَتت نظره أنّه لمّا عزَمه رجُلٌ كبير في السِّن كنت أنا جالسًا بجواره وابنه واقف يصُبُّ القَهوة لَنا، يقول: هذا المشهد أثَّر في نفسي، من إكرام الضَّيف، ووقوفُ الابن بهذه الطريقة ويَصُب للأب، ثمّ الأب يقول له أبداً، أعطي الضَّيف يقول كانت هذه الأشياء يقول أنا أصبحت مثل الصَّدمة الحَضارية التي دَعَا بها الغرب. وهذا الحقيقة أنا أقول أن تنمية هذه الجوانب الإيجابية وإبرازها مهم جِدّاً بالنَّسبة لنا، وعِندنا من القِيم ما ليس عندهم البَتّة.

د. الخِضيري: ولا يوجد في قوامِيسِهم، حتى أحياناً لا يتصَوَّرون وجود مثل هذا أو من يعمل به في العالم، مثل ما حُدِّثنا كثيراً، ومِنهم الطبيب الــمشهور عبدالله خَاطر الذِّي كان في بريطانيا وهو طبيب نفس وهو من الدُّعاة في هذا البَلد المبارك في كتاب له قَصَص مَرَّت به وهو يُداوي النّاس في بريطانيا أثناء تطبيقه وتعلِّمِهِ هناك، فيقول من ضِمن ما مرَّ به من القَصص وجد امرأة في المشفى عليها من الكآبة. قلت لها: لو كُنتِ في بلادنا لرأيتي شيئاً عَجَباً. قالت: وماذا أرى؟ قال: نحن البيت الذي فيه امرأة مِثلُكِ تكون مثل الــمَلِكة الجميع يُقَدِّرها يَكادُون يَلعَقُون الثــَّرى التي تطأ عليه، من كَثرة احترامهم لها، وهذا شيء وَاقع ونحن نراه ولله الحمد في بيوتنا ونَلمسه ولا زال النَّاس بفضل الله إلى اليوم – نسأل الله ألاَّ يُغِّير ما بنا- يحترمون كِبار السِّن والأجداد والجدّات. وهؤلاء النِّساء اللَّواتي قَدَّمن يعتبرونهنّ بيت خبرة ، تجد النّساء الصَّغيرات يَستَفِدنَ من خِبرتهنّ في أمراض الأطفال وفي أمراض النّساء وغيرها. فقال لها: نحن عندنا هذه مثل المَلِكة تماماً. قالت: أنتَ تتكلّم عن خيال، هذا لا يمكن أن يكون في عالم البشر! فَلمَّا أكَّد أنَّ هذا واقع وأنَّ هذا موجود في بيوتنا. قالت: أتمنى ألاّ تُدركِني مَنِيَّتي حتى أراه. ما أتَصوَّر أن فيه بشر عِندهم من الرِّقة والرَّحمة أن يَعطفوا على أمثالنا نحن الذِّين فقدنا أيَّ خُصوصية أو أيّ منفعة، أصبحنا كالمتاع الذي ينتفع النّاس منها. لا معنى لها وليس لها قيمة.

د. الشِّهري: لاحِظوا الآن، السُّورة الآن تـَتحدَّث عن حقوق محدّدة حتى في الآية التي قبلها (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) يعني محدَّد بالرُّغم من أنّ الآية تتحدّث عن حقوق، وبعض النّاس ترى يؤمن يقول أنا إنسان رياضي 1+1=2 يأتي بالرَّغم من هذا ويقول (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) . يعني أنتَ سبحان الله العظيم ينبغي وهَذِه الحقيقة حتى فائدة إدارية، أنا أؤيدك فعلاً أنّك تكون حازم وتكون صارم ولكن أيضاً لا يذهب العَطف والرَّحمة والشَّفقة ومراعاة ظروف النَّاس ومراعاة أعذار النَّاس، يكون لها مجال.

د. الطَّيار: طبعاً الآن رتَّب، قال: أوُلوا القُربى، واليَتامى، والــمسَّاكين.

د. الخِضيري: وهذا التَّرتيب له دَلالة، استنبط الشِّيخ ابن العثيمين منها فائدة فقال: فِيه الدَّلالة على أنَّ حقَّ القَرابة مُقَدَّم حَتى على حقِّ الفُقَراء والمسَّاكين والأيتام الذِّين النَّاس يَتَوَاصون الآن برعاية حُقوقِهم ولهم حقّ عظيم جِدّاً، فالقَرابة لهم من الحقّ ما ليس لغيرهم، وهذا شَيء الحقيقة نُذَّكِر به إخواننا فيه: أنّه لا تنسى قَرابتك، عندك زكاة؟ أوّل ما تبدأ بالنَّظر فيمن حولك من قَرابتك، عِندك دَعوة ودِين؟ ابدأ بالقَرابة، ماذا قال الله لنبيِّه (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)الشعراء)، هؤلاء لهم حقّ عليك خاصّ غير الحقّ العَام الذي يُبذل لكلِّ أحد، أو حق هذه الدَّعوة في أن تُعلَن للنَّاس جميعا، هؤلاء لهم حقّ،.إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام أيضاً بدأ بأبيه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا(41)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ ..(42)مريم). فبدأ بأبيه.

د. الشِّهري: صحيح. هل تتوقّعون أنّ القرابة هنا في الآية، يدخل فيها الأغنياء من القرابة يعني مثلا (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ) ؟

د. الطَـيَّار: كما ذكرتم في قول الله سبحانه وتعالى في أُولي القُربى، وأهمية العِناية بأُولي القُربى والترتيب كما نلاحظ أنّه بعد أولي القربى ذكر اليَتامى لأنّ حالهم أشدّ من حَال المساكين وحاجتُهم إلى العَطف، وكذلك إلى الـــمال ستكون في الغالب أكثر من حاجة المساكين فقدّم أيضاً اليَتامى على المساكين.

د. الخضيري: وأيضاً لِصِغَر نُفوسهم، فإنّ التشَّوفَ الذي يكون عندهم أشدّ من التشَّوف الذي يكون عند غيرهم، لأنّ غَيرهم مع فقره قد يكون عنده من عِفّة النّفس ومن كمالها ما يمنعه من التطّلع أو التشَّوف الشّديد، لكنّ اليتيم لـمّا يرى الأشياء بين يديه تُكسَر والنّاس تتحدث عن الأموال، فردّ هذه النّفس الضَّعيفة الصَّغيرة أولى من غيرها.

د. الشِّهري: أنا عندي فكرة، قد تكون فكرة تفتح الباب للإخوة المسؤولين عن دُور الأيتام، وهي أنَّهم ينظرون في هذا الجَانب، في جانب دعم مشروعات الأيتام ونفقاتهم إلى آخره، بِقَصدهم لِقسمة التَّركات لِبعض الأُسر الثَّرية في المجتمعات الإسلامية، بعض الأُسَر عندما يُتَوفّى عَاِئلها ويكون ثرِّياً، فيترك تركة كبيرة جدّاً، هِذه الآية تفتح الباب لمن يقوم على شؤون اليتامى أن يذهب إلى مثل هذه الأسر ويَعرِض عليها مثل هذه الآية، في أنّ َهذا مَصرِف من مصارف التَّرِكات، الله سبحانه وتعالى قال ((وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) وأنا مَندُوب اليَتامى حَضَرت في مثل هذه القِسمة فأدعوكم للتَّبرع في أوجه البِرّ.

د. الخِضيري: لكن لم يُخبر بأنَّ النّاس اجتمعوا ليَقسِمُوا أموال موَّرثهم، في السَّابق كان يُعرَف هذا الأمر فيهم.

د. الشِّهري: الجنائز تُظهر هذا الأمر، إذا ذَكر أنّه مات فلان فليَتَحرَّى.

د. الطيّار: قال هنا (فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ) وهُنَاك قال (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا(5) النساء) .

د. الخضيري: طبعاً، أشَرنا في المرَّة الماضية إلى أنَّ ارزقوهم منه أيّ من رأس المال فيُقتطع ويخرج، أمّا ارزُقُوهم فيها يعني اجعلوهم هم وهذه الأموال يدورون فَتُنمَّى هذه الأموال ويَأخذون من رَيعها لا مِن رأس المال حتى لا يَفنى عليهم فيها.

د. الطيّار: وهذا الحقيقة كما سَبق أن ذكرنا أنَّ مَلاحِظ الضَّمائر، أنّك تُلاحظ كيف الضَّمير جاء ” فارزقوهم منه” أيّ من المال، طيِّب قد يقول أحد: لماذا لم يقول فارزقوهم منها؟ فعاد إلى المال المعروف من قول القسمة.

د. الشِّهري: في قوله هنا (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ)، أمَّا توزيع الترَّكة فهو مجال توزيع وليس مظنّة استثمار، وإنما مظنة توزيع فقال (فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ).

د. الخِضيري: في قوله (وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) أيضاً هذه التأكيد على الإِحسان بالقول، بعد الإحسان بالفعل والجمع بينهما وأنّ الإسلام لا يقتصر في مُراعاة هذه النّفوس على الجانب الفعلي دون الجانب القولي، فتُقَدِّم هذا الخير لهذا اليتيم أو لهذا المسكين الحاضر وتقول الـمعذرة يا فلان، والله أنّك تستحق أكثر لكن تعرف يعني الترّكة وكذا وإلا والله لو بأيدينا لزِدنا لك فأنت خير من هذا.

د. الشِّهري: طيب الآن، عندما يُؤمَر أهل المال بأن يُعطُوا من حضر، هذا العطاء الذِّي يُعطى لمن حضر يدخل على من في التركة؟ هل يَدخل على الترَّكة كاملة ؟ يعني بمعنى الآن أنت يا محمد مسؤول عن تقسيم الترَّكة، يعني سيأخذ الإخوان هذا سيأخذ نصيبه كاملا، والأخت ستأخذ نصيبها كاملاً، والزوجة ستأخذ نصيبها كاملاً، هؤلاء الحاضرين نُعطِيهم من ماذا؟ من نصيب واحد منّا، أو من رأس المال كله؟

د.الخضيري: من رأس المال الذِّي للورثة.

د. الشِّهري: جميل، يعني يُفترض هذا أن يكون قبل التوزيع؟

د. الطيّار: نعم، في قوله (قَوْلاً مَّعْرُوفًا) القَول المعروف تعرفون أنّ النّفوس سبحان الله يُصيبها الشُّح عند المال، فالتّأكيد على هذا المعنى، أنّ حضور مثل هؤلاء قد يُثير في نفس بعض الورثة شيئاً من الإِحن عليهم لماذا جاؤوا؟! لأنّهم سيقتطعون جزءاً من مالهِ.فكأنَّ الله سبحانه وتعالى يؤكِّد على أمر أبلغ من هذا ليس فقط أنَّك تُعطيه الآن، ولكن تُضيف أيضاً له القول المعروف، ولهذا لمّا قال سبحانه وتعالى (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى (263)البقرة) لأنَّ الآن كونك تتصدّق على الفقير وتُـؤذيه بالكلام لعلك نفعته ولكنَّك أسأت له من جانب آخر. فالحقيقة رعاية الإسلام لهذه الدقائق وللشُّعور النَّفسي، فأقول على المرَّبين أن ينتبهوا له تنبُّهاً تامّاً في جميع المناحي.

د. الشِّهري: سبحان الله ! تكامل التشريع.

د. الطيّار: لأنّه أحياناً قد أنت تقول كلمة لا تُلقي لها بالاً ويتأثّر بها صاحبك.

د. الشِّهري: أنا أتساءل في الأنظمة الوضعية – لم أطِّلع عليها بالضبط-  لكن هل يا تُرى تُراعي الأنظمة الوضعية في قسمة المواريث، وفي قسمة التـــَّرِكات مثل هذه الأشياء النّفسية؟

د. الخِضيري: ما يظهر، هذا مختصٌ بهذا الكلام الرَّباني العظيم، حتى أنَّك لا تكاد تجده في كلام الفقهاء، في كتب الفقه لا تمر بنا هذه المسَّائل بحكم أنّه لا يترتَّب عليها حُكم فقهي خاص، لكنَّك تجدها في كتاب الله عزّ وجل مراعاة أتمّ الرِّعاية، ولاحظ القول المعروف لــمّا أشار إليه الدكتور مساعد يُذكر في عدد من المجالات في الصَّدقة، يّذكر هنا ((وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا)، أيضاً في حفظ أموال السُّفهاء ومن في حكمهم. في قوله (وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) أنا أقول فيها أيضاً بيَان أهمية زراعة الفَأل في نُفوس النّاس، حينما تقول لهؤلاء الحاضرين، وأنتم إن شاء الله ربِّي عزّ وجل برزقكم، إن شاء الله نحضر معكم قسمةً لَكُم لأموال تكونُ لكم بإذن الله، مثل ما حضرتُ اليوم قسمة لغيركم، تزرع في نفوسهم إنَّ الله بِرزقهم ويُغنيهم ويأتي لهم بالخير من حيث لم يحتسبوا، أنا أظن أيضاً أنَّ هذه الزِّراعة زراعة الإيجابية والتفاؤل في نفوس النّاس ضرورية جِدّاً، بعض النّاس يقول والله فلان مسكين ما حصَّل ولا عَيّن خير عُمره كُلُّه، هو أصلاً حظّه رَديء هكذا. لمّا تقول كلمة حظّه رديء يبقى في نفسه سبحان الله السَّلبية في أنَّه لا يمكن أن يُفلح في مجال من مجالات الحياة، وأنَّه سيبقى عالة على النَّاس، لا، أنت ما يُدريك يوم من الأيام أنا قد أكون خادماً عندك. وأذكر بهذه المناسبة يقولون أسرتين مجتمعتين فكان فيهم شاب وكان فيهم فتاة فقالوا: لو أنّ قلنا لفلان يأخذ فلانة، هي كانت تسمع الكلام، فقال الشَّاب: أنا آخذها؟! أنا أكبر قدراً من أن آخذها. فهي أصَابها شيء كثير من الضَيّم، فراحت وصعِدت فوق مكان مثل هذا فقالت: والله يأتي ربي بيوم أنا التي آمرك فيه وتصير ذليل عندي! جزاءً على كلمتك هذه. وسبحان الله يتزّوجها أحد الأثرياء ويأتي هو سائق عندها، فكانت تقول له: يا فلان ما تذكر ذاك اليوم الذي أنت جرحتني فيه انظر سبحان الله بسبب الشماتة . رُبَّ كلمةٍ قالها فَصَعِدَ بها.

د. الشِّهري: أيضاً لاحظوا الآن الآية التي بعدها يا مشايخ، في قوله سبحانه وتعالى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا(9)) تُلاحظون نحن الآن في باب قسمة، في قسمة تركة أنت خُذ الثلُّث، وأنت خُذ الرُّبع، وأنت خُذ النِّصف، وبالرّغم من ذلك تأتيك المواعظ ويأتيك العناية بجانب التَّقوى، ممّا يَدُلّك يا إخواني نحن فعلاً نفصِل فصلاً نَكِداً – إن صحَّ التعبير- بين الحُقوق وبين الأخلاقيات، وكثيرٌ من النّاس يظُنّ أنّ الأخلاق منفصلة عن جَانب الأخذ والعَطاء والدِّرهم والدِّينار.لاحظ هنا كيف تأتي  (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) هذه مسألة ذوقية أدبية أخلاقية، ثمَّ تأتيك بعدها مسألة تُؤرِّق كثيراً من الآباء ومن الأمّهَات الذين أدركهم الكِبَر وخافوا على أولادهم الصِّغار من الضَّياع بعدهم فتأتي هذه الآية في هذا الباب فيقول الله سبحانه وتعالى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ)، يعني خِطاب للآباء والأمَّهات الذين يخافون على أبنائهم من بعدهم الضَّياع، إمّا لفقر إمّا ليُتـم. قال (فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا). رَجعنا لأوّل ما ورد في السُّورة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ) فجاء يأمر بها هُنا أمراً خاصّاً لهذا النّوع من النّاس، الذِّين يتركون ورائهم وَرثة هم مظنّة الضَّياع، وما أكثر هذا في حياة النّاس اليوم تجد الواحد منهم يكبر في السِّن ويرى أولاده من خلفه صغار بعضهم ما أكمل دراسته ويفكِّر كيف سيكونون بعدي سيضيعون فالله سبحانه وتعالى قال (فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا).

د. الطيّار: وهذا كما يقول بعض الــمُفَّسِّرين هذه الآية فيها تنبيه على أنّه يُوجب الاحتياط للضُّعفاء، الذين هم الآن ذرِّيةً ضِعافاً. فالاحتياط لهم قبل وقوعه.

د. الشِّهري: لكن انظر قال (فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا) ما قال فليدَّخِروا لهم، أو فليُثَّمِروا لهم. وإنَّما أرشدهم للوصِيَّة هي في نظر كثير من النّاس ما لها علاقة في الجانب المالي، فوصيَّته بالتّقوى والقول السَّديد. أليس من التَّقوى هنا ما ذكره الشيخ مساعد من قضية الاحتياط لهم في تأمين شيء يَعولهم أويَقوتــهم بعد وفاة هذا الرّجل أو هذا الوالي.

د. الخضيري: لكن أنا يظهر لي في معنى الآية يا مشايخ، إنّه يقول راعُوا من حَضَر في القسمة من اليتامى والضُّعفاء كما أنَّكم تُحبُّون أن يُرَاعَى أيتامكم أنتم، فكَما تُحب أن يُكِرَم أيتامك وضُعفاؤك الذين تُخلّفهم من بعدك، أكرم ضعفاء من قبلك، وهذا تذكير للإنسان بما تؤول إليه الأحوال، كما تدين تُدان ولذلك قال (فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا).

د. الطيّار: جميل، وهذا الأقرب في القسمة. يعني إذا حضروا القسمة فليتَّقوا الله في حضور هذه القسمة ما يأتون ويقطعون يقولون في القِسمة أوصي لفلان، لا تُوصي لفلان لا توصي لفلان، يكونون حضور خير، فيها جانبان إمَّا أن يُوصوه بأن لا يُخرج ماله عن ذُرِّيّته فلا يُوصِي بشيءٍ آخر، وإمّا أن يعكسوا ذلك فيُوصوه بأن يُخرج ماله عن ذُرِّيته ولا يُبقي لذِّريَّته شيء، يعني في محتمل الأمرين هذا وهذا، فهذا تنبيه على أنّ الله سبحانه وتعالى حتى في هذه الدّقائق يوصي المسلم ويعطيه ترتيب الأولويات عنده، وماذا يصنع وماذا يَفعل حتى في مثل هذه الدَّقائق. طبعاً أنا أريد أن أنبِّه لاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى هنا يُرشِد المسلم إلى مثل هذا الأمر الجميل الذي يقبُله كل عقل، وانظر الآن إلى الغرب الذي يتبَجّح كثير مع الأسف من ضِعاف النُّفوس من المسلمين لمحبّتهم ومحبّة ما عندهم، مليونير يجعل تركته كلّها لكلب! وعنده بنتٌ، أو ولدٌ، أو زوجةٍ لا يأبه لها فيخرج هؤلاء كلهم من أملاك هذا الرّجل وتكون للكلب!

د. الشِّهري: طبعاً يمكن هذا سفيه، لا شك سفاهة فوق سفاهة لكن حتى نظام التَّرِكات عند غير المسلمين فيه ظلم، وفيه تَعدِّي وليس فيه هذه المراعاة للحقوق التي ذكرها ونصّ الله عليها في هذه الآيات التي ستأتي معنا فمع أنّ هذا المثل الذي ذكرتَه يعتبر شاذ ونادر لكن أيضا بصفة عامّة هناك ظلم منتشر .

د. الطيّار: ليس هناك قسمة أصلاً .

د. الخضيري: ألا تَرَونَ الآية وردت في جانب رعاية الأيتام والقيام بحقوقهم، ومن أوَّل السُّورة ترى الحديث عن الأيتام (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) يعني انتبه كَمَا ترعى هؤلاء الأيتام سوف يُقيِّض الله لأبنائك من بعدك من يرعاهم، فإذا اتقيت الله فيهم سخّر الله لهم من يتّقي الله فيهم ومن يخاف عليهم، وإذا ظلمت ألا تخشى على هؤلاء الضُّعفاء من الظلم. وكما تدين تُدان.

د. الشِّهري: ويؤكِّد هذا في قصَّة سورة الكهف (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ(82)) هذه نفس الفكرة، لصلاح الوالد وبعض المفسِّرين يقولون الأبُ السَّابع أو الأبُ السادس ولكن لبركة صلاحه وتقواه أدركت الأحفاد.

د. الطيّار: لعلّ إن تكرمتم نختم بقوله: (فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا) طبعاً القول السَّديد هو القول العدل والصَّواب، ومنه التَّلطف بالعِبارة لليَتامى وغيرهم فإذا حضروا عنده نقول “يا بني”، “يا ابن أخيّ” من العبارات التي تُشعر اليتيم بشيء من الرِّفعة. ما يعطيه من العبارات الجارحة والقاسية التي تُزعجه.

د. الخضيري: الوصيّة بالقول السَّديد طبعاً مرّت في القرآن كثيراً

د. الطيّار: نعم، ولعلنا في اللَّقاء القادم نبتدئ بقوله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا (10)). سبحانك اللهم َّ وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

بُثّت الحلقة بتاريخ 6 رمضان 1431 هـ