برنامج بينات

برنامج بينات – آل عمران 23

اسلاميات

الحلقة 23

10 رمضان 1430 هـ

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) آل عمران}

تحدثنا عن قضية الظن الحسن وذكرنا أن المؤمن الموحد يحسن الظن بربه وخاصة في أوقات الشدائد واشتداد الكربات أما المنافق فلخوار قلبه وعدم علمه بالله سبحانه وتعالى يسيء الظن بالله جل وعلا ولذلك قال الله عز وجل ذاماً هؤلاء (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) لا يزيدنا النظر فى هذه الآيات إلا إيمانا بالله وتصديقاً بنصر الله لهذا الدين ولأوليائه. في المعارك الحربية الآن بعد كل معركة يصدر بيان يظهر فيه القائد ما هي الخسائر فى الصفين؟ ما هي الحوادث التي وقعت؟. وهذا ما نتحدث عنه من قوله تعالى (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)) أشبه ما يكون بالبيان بعد المعكرة وليس من الرسول صلى الله عليه وسلم القائد الأعلى للمسلمين إنما هو من الله عز وجل. البيان يتكلم هذه الأحداث. ومن العجيب أنه يتكلم عن أسرار النفوس ولا يوجد بيان عسكرى دنيوي يتكلم عن النفوس دخلها جبن أو وسوسة. ولكن هذا البيان إشتمل على أسرار عجيبة في حديثه عن النفوس. أنظروا إلى هذه الدروس العجيبة في المعركة. إذا كان النصر إستمر للمسلمين فى غزوة بدر وفي أحد خاصة ولم يقع فيهم جروحات, لن تكون هذه الفائدة والعبر والدروس التي لا زالت الأمة تجدها للآن. ولكن الدروس التي تحققت للصحابة في وقت المعركة ولنا نحن إلى اليوم ما كانت لتتحقق إلا بهذا البلاء والإنكسار. قبل المعركة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا. {تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد قال رأيت كأن في سيفي ذا الفقار فلا فأولته قتلا يكون فيكم ورأيت أني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة ورأيت أني في درع حصينة فأولته المدينة ورأيت بقرا تذبح فبقر والله خير فبقر والله خير فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم}  الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الهيثمي – المصدر: مجمع الزوائد – الصفحة أو الرقم: 7/183 خلاصة الدرجة: في إسناده عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف‏‏.

الثلم الذي في سيفه هو أن يقتل أحد من أهل بيته وقد قتل حمزة وأما البقرة التي تذبح فأصحابه قتل منهم نفر وأما الدرع الحصينة فهي المدينة لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تردد بعد أن رأى الرؤية وبقي في المدينة بل إستشار الصحابة. فلما أشاروا عليه بالخروج رأى أن إمضاءه للشورى أكثر مصلحة مع ما فيها من الخسائر. وبعد المعركة لم يعنف أو يعاتب أصحابه وهذه قضية مهمة للقائد عندما يأخذ مشورة أصحابه، فما بالنا اليوم إذا إختلف الواحد منا مع أصحابه يحتج بأنه هو أعلم.

في قوله (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) تذكرت موقف عبد الله بن أبيّ هو انخذل بالجيش وأكثر ما جعله ينخذل أن يقول محمدا يطيع الفتية وقد نصحته أن يبقى بالمدينة .فلما رأى النبي خرج من المدينة إستغل الفرصة وانسحب بالجيش.

هذا البيان الذي صدر من الله سبحانه وتعالى، كم فيه من الدروس التي نستنبطها . كل هذه الدروس من الإنكسارة وأكثرها من القرح الذي أصاب المؤمنين لما فيه من العبر والدروس. نذكر عمرو بن الجموح وهو شيخ أعرج قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أريد أن أطأ الجنة بعرجتي هذه وأبنائي يمنعونني و قد أراد الله له خيرا وقد إستشهد (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) من 140 آل عمران. وأيضاً عبد الله بن حرام أبو جابر في بدر خرج ابنه وإستشهد. فلما جاء يوم أحد طلب أن يخرج فإستشهد { لما قتل عبد الله ابن عمرو بن حرام يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جابر ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك قلت بلى قال ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحا فقال يا عبدي تمن علي أعطك قال يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون قال يا رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله عز وجل هذه الآية ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) الآية كلها . الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: الألباني – المصدر: صحيح ابن ماجه – الصفحة أو الرقم: 2276 خلاصة الدرجة: حسن}

عندما ذكرنا كلمة (بيان) هذه نستفيد فائدة عظيمة لما يحصل مثل هذا الأمر الذي حصل للمسلمين في أحد .ويتكرر في تاريخ المسلمين . لماذا لا يتوقف العلماء أمام ذلك الذي حدث ويستنبطون منه العبر؟ فما يحدث الآن في فلسطين والعراق وفي السودان والصومال وفي أفغانستان وغيرها ومع ذلك الدراسات التي تكتب قليلة لدراسة أسباب الهزيمة وأسباب الفشل. لذلك ندخل تجارب ونحن لا نعرف ما الذي مر بنا قبل ذلك. ألا ترون أن هذا يعتبر منهجاً قرآنياً. مثلا في أفغانستان انتهت بانتصار المسلمين ولكن ما حصل للمسلمين ما يرجونه بسبب إختلاف المجاهدين فيما بينهم وفي النهاية ذهب جهاد 14 عاما. الذين كتبوا عن هذا الموضوع قليل لكن لم تقدم دراسات وبيانات تبين مكمن الداء  حتى لا تتكرر المشاكل علينا (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) من 152 آل عمران. هذه القضايا ليست غائبة عن الدراسات وليست غائبة عن الكتب ولكن المشكلة أنها لا تطبق ولا يعمل بها ولا يراد لها أن تطبق أصلا .

في معركة أحد الآن نتأمل بطولات وتضحيات لا نجدها في معارك أخرى. مثلا قصة حنظلة (غسيل الملائكة) الذي خرج للجهاد ليلة عرسه قصة لا تجدها إلا في هذه المعركة. والأمر الثاني هي البطولات التي وردت عن أبي دجانة وعن حمزة رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب.{ لما كان يوم أحد إنهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له ، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع ، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا ، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل ، فيقول : ( إنثرها لأبي طلحة ) . قال : ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم ، فيقول أبو طلحة : بأبي أنت وأمي ، لا تشرف ، يصبك سهم من سهام القوم ، نحري دون نحرك ، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم ، وإنهما لمشمرتان ، أرى خدم سوقهما ، تنقزان القرب على متونهما ، تفرغانه في أفواه القوم ، ثم ترجعان فتملآنها ، ثم تجيئإن فتفرغانه في أفواه القوم ، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة ، إما مرتين وإما ثلاثا} . الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 4064خلاصة الدرجة: [صحيح]. وأيضا نسيبة أم عمارة رضي الله عنها وكانت تقاتل بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم. وهي التي ضربت إبن قمنة على كتفه ولكنه ضربها ضربة أقوى.

الشاهد أن كل هذا لم يشفع لهم.التضحيات لم تشفع للإختلاف والتنازع الذي حدث بينهم، وهذا درس وهذا ما نريد أن يبرز حتى تتعلم الأجيال. مضت بنا حوالي 200 سنة من إنحطاط المسلمين و تغلب أعدائهم عليهم والقادم قد يكون أكثر ولكن ما استفدنا من هذا كله ولم نستعد. فمثلا الجزائر وما حدث فيها بعد قتال طويل , هذه التجربة لا نقول لم تسجل ولكن لم تبرز منها الدروس التي تستفيد منها الأجيال.

(يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) إعتراض على القدر. من هم المعترضون؟ لماذا لا تكون طائفة من المؤمنين بدليل قوله تعالى (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) الأحزاب )؟ من المفسرين من يحملها على المنافقين. ولكن هنا هم أهل النفاق بدليل ما قبلها . نقول (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ). وقد روى الزبير { لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا , أرسل الله علينا النوم , فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره , قال : فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير , ما أسمعه إلا كالحلم : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } . فحفظتها منه , وفي ذلك أنزل الله : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } لقول معتب } الراوي: الزبير بن العوام المحدث: أحمد شاكر – المصدر: عمدة التفسير -الصفحة أو الرقم: 1/428 خلاصة الدرجة: إسناده صحيح

يرد الله تعالى عليهم (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) وهى آية عجيبة جدا لو نتأملها المتأمل فمن الأمور ما لا يعلمها إلا هو ومنها أن يموت الإنسان فمن قال هذا سواء كان من المنافقين أو من ضعاف الإيمان فهو جاهل. فإن وجوده في المعركة لا يلزم القتل والعكس.

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) وسماها مضاجع وهذا من البلاغة بمكان فالميت المقتول على الأرض بعد موته كأنه مضجع عندما يريد أن ينام (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) من 16 السجدة.  سبحان الله الذي صور هذا المشهد أنت لما ترى القتلى لا تفرق بينه وبين المضجع. وكأنها إشارة إلى أن ما أصاب الإنسان من الموت بعده حياة أخرى مثل المضجع يغفو ثم يقوم. قرأت للواء محمود شيت خطاب في الحرب التي حصلت بين المسلمين واليهود في فلسطين أن أحد القادة يتفقد الجنود ومواقعهم الحصينة  وكان له قريب في موقع غير محصن ويوجد رجل آخر من عامة الجنود في مكان محصن فأخرجه منه ووضع قريبه في هذا المكان المحصن خوفاً عليه. فلما بدأت الحرب انطلقت قذيفة وإستقرت في المكان الذي فيه قريبه وسلم ذاك وانظر إلى النتيجة. المفسرون يذكرون قصة سليمان عليه السلام لما جاءه ملك الموت زائرا وجاءه رجل فنظر إلى هذا الرجل نظرة قوية فخاف الرجل. فلما خرج ملك الموت سأل من هذا الرجل قال سليمان هذا ملك الموت. فقال الرجل أرسلني إلى مكان بعيد وهذا من الخوف فأرسله سليمان إلى مكان بعيد. فملك الموت ذهب إلى هذا المكان وأخذ روحه ثم رجع إلى سليمان وقال كنت أعجب لأن الله أمرني أن أقبض روح هذا الشخص الذي كان عندك في مكان آخر ولكني كنت أراه عندك. وقد يقول البعض أن هذه من الإسرائيليات ولكن المهم العبرة. أعجبني قول الطبري في كلامه عن الإسرائيليات نبه على هذه القضية أنها قضية ممكنة مادامت هذه من القضايا الممكنة فأمرها سهل ودخلت في مجال أنها ممكن أن تكون واقعا ولا شك من المعجزات التي تكون للأنبياء .

(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) عندنا هنا الإبتلاء والتمحيص. الإبتلاء بمعنى الإختبار يعني يبتلي ما فيها من الإيمان والنفاق وحسن الظن بالله وسوء الظن بالله. والتمحيص هو تطهيرها من الذنوب وهو أخص. لماذا قال في الأول (صدوركم) والثانية (قلوبكم)؟ ذكرنا من قبل أن البيان جاء للحديث عن النفوس وتكلم عن المؤمنين وإن بعض المؤمنين صادق الإيمان ومنهم من وقع في التردد والظن وإن هناك منافقين نافقوا وانسحبوا فالله جعل في نهاية هذه المعركة نوع من التمييز بين هذه الصفوف فأنزل النعاس أمنة وهذا ما وقع إلا على المؤمنين الصادقين (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ) هذه الطائفة كأن من علامات أنها صادقة خالصة هذا النعاس. أما المنافقين هؤلاء لم يدخل النعاس عليهم هم الذين قالوا (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) كل هذا ليبتلي الله ما في صدوركم والابتلاء يعني الإختبار تعرض القلوب على محك الاختبار. والإختبار هو هذا الموقف الذي أصابهم بالذهول وبعضهم أسقط في يده لا يدري ماذا يفعل في الموقف العصيب حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف وحيداً أصيب بالجراح وأصيب بالسهام وكان طلحة يقي الرسول وتصيبه السهام هؤلاء هم الفدائيون الحقيقيون. أراد الرسول أن يصعد على صخرة صغيرة فما إستطاع من ثقل الجراح. لا شك أن هذا هو غاية التمحيص. الإبتلاء أعم من  التمحيص. التمحيص كأنه تتبع بقايا الذنوب. ويبدو أن ما في الصدور أعم من ما في القلوب ويبدو أن ما في الصدور يشمل ما في القلوب وما يوسوس حولها أي ما لم يدخل القلب بعد .وإذا عبر عن الصدر فهو يشمل ذات القلب وما حوله من الشكوك والظنون التي لم تستقر. فالإبتلاء جاء شاملا لما في الصدور وفيها القلوب. أما التمحيص للشيء الذي دخل في قلوبكم من الوهن وضعف الإيمان هذا يحتاج إلى التمحيص لكن قبل أن يدخل إلى القلب ويستقر فيه فهو من الابتلاء ولم يتمكن من القلب فعبر عنه بالصدور والتعبير بالصدور أعم من التعبير بالقلوب والتعبير باللاء أعم من الابتلاء بالتمحيص.. فهو الشيء الذي دخل في قلوبكم من الوهن وهذا يحتاج إلى تمحيص. أما الإبتلاء فهو في الصدر.  ألا ترون أيضا لأن الإبتلاء يراد به التفريق بين المؤمن والمنافق (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) المؤمنون ) أما التمحيص أن يقع شيء في هذه القلوب من ذنوب ونحوها فيمحصها الله بهذا الرعب حتى يزول لذا يمكن القول أن القلب هو محل إكتساب الذنب أو الحسنة { كنا عند عمر . فقال : أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن ؟ فقال قوم : نحن سمعناه . فقال : لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره ؟ قالوا : أجل . قال : تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة . ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر . قال حذيفة : فأسكت القوم . فقلت : أنا . قال : أنت ، لله أبوك ! قال حذيفة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا . فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء . وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء . حتى تصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا . فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض . والآخر أسود مربادا ، كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا . إلا ما أشرب من مراه ” . قال حذيفة : وحدثته ؛ أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر . قال عمر : أكسرا ، لا أبا لك ! فلو أنه فتح لعله كان يعاد . قلت : لا . بل يكسر . وحدثته ؛ أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت . حديثا ليس بالأغاليط} . الراوي: حذيفة بن اليمان المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 144خلاصة الدرجة: صحيح

أما الصدر فهو محل للهواجس والخواطر والظنون فذكر له الابتلاء. الخلاف بين العلماء هل القلب هو المقصود به المضغة التي في الصدر؟ في النهاية هو أنه المستقر به الوساوس والمقصود تمحيصه هو.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وهذا الختم للآية هو مناسب جداً لمضمونها، الموضوع في العلم الدقيق وفيما يتصل بالصدور من بداية الآية بل حتى من قوله (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  )

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}

الحديث في الآية السابقة كان مع قوم مرضى أما في هذه الآية فليس مع قوم فيهم نفاق بل هم من المسلمين ولا شك أن المسلم في حال الشدة يلحقه بعض خطاياه وذنوبه فيقع بشيء من الخوف والتولي وهذا لا يسلم منه أحد إلا من عصم الله وكمل إيمانه وقليل ما هم. (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) هذه تزيد من التأكيد أن من أكبر الأخطاء في أحد هي الهيبة التي دخلت قلوب الصحابة من كثرة أعداد المشركين. كانوا 1000 صاروا 700 بعد إنسحاب أبي والمشركين كان عددهم 3000 جاءوا بعدتهم وأتوا بالنساء معهم. فكان الوهن والمهابة التي وقعت في نفوسهم كانت من أسباب الفشل والتنازع بالإضافة إلى ما حدث من الرماة من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. فقوله (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ) هو هذا وأدخل في نفوسهم مهابة الأعداء مما أوقع في نفوسهم الوهن وشىء من التردد. استزلهم الشيطان بالتولي فتولوا وتركوا رسول الله بسبب كسبهم. إستزلهم أى أوقعهم في الزلل (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) من آل عمران 175. الشيطان كان يلقي في نفوس الصحابة نوع من الهيبة من المشركين. وخاصة في أحد كان للمشركين نوع من الشوكة. أولا كان خالد على الميمنة وكان عكرمة على اليسار وأبو سفيان يقود الجيش وحتى هند جاءت لتشفي غليلها. في الآية (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) آل عمران ) أذكر أن كل هؤلاء الذين ذكرناهم أسلموا وكلهم كانوا قواداً وهذا فضل الله تعالى. أبو سفيان في أحد كان ينظر المسلمون إليه كعدو بل رأس الأعداء وكذلك خالد و هند ولكن بعد ذلك أعزّ الله بهم الدين (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) الممتحنة)

وأيضا هذه الآية نستفيد منها أن الإنسان لا يستهين بالذنوب لأنه إذا جاء الجد خذلته ذنوبه. فإذا كان أحدهم يعصي الله في شعبان ثم يقول أتوب في رمضان لكن المشكلة أن هذا ستخله ذنوبه، يريد أن يصلي يمنع من الصلاة، يريد أن يقرأ القرآن يجده أثقل عليه من جبل أحد والسبب الذنوب ولذلك العلماء يقولون (الحسنة تقول أختي أختي والسيئة تقول أختي أختي). علينا أن لا نتهاون في الذنب ونحن خطاؤن وأبناء الخطائين ولذلك نبادر بالتوبة ولا نتأخر في أن نتوب إلى الله تعالى وأن ننتبه للذنب وإن صغر. نتوب إلى الله تعالى حتى لا تدركنا عواقب هذه الذنوب وإلا ما الذي جعل بعض الصحابة ينخذلون في أحد وقال تعالى (ببعض ما كسبوا) هذا بعض ما كسبوا فكيف لو كان بكل ما كسبوا؟!

من لطائف الآية (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)) تكلم هناك عن بداية المعركة وإنسحاب المنافقين وهنا تكلم عن ماحصل في المعركة (التولي) . هناك قالوا (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) من 147 آل عمران وهنا قال (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ) هناك يطلبون التثبيت وهنا يشير إلى ما وقع من أن الشيطان طلب لهم الزلة فزلت أقدامهم بسبب ما كسبوا وهذا من تناسب الألفاظ والمعاني في الآيات.

ولو تأملنا (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) كذلك أشار إليها في واقعة بدر (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) من الأنفال 41 . الجمعان مراد بهم هناك أبو جهل ومحمد وهنا أبو سفيان والنبي ويقول العلماء هو جمع محمد وجمع أبو سفيان للقتال في أحد. من لطائف علوم القرآن أن نقول أن “الجمعان” هنا لها معنى وفي بدر لها معنى وإن كان المعنى من حيث المفردة واحدة (الجيشان)

في قوله (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) قدم الرب نموذجا للعفو عن أولئك الذين تولوا وخذلوا النبي صلى الله عليه وسلم في موقف شدة وأصابتهم بعض الظنون السيئة وهم خيار الناس فالله يعفو عنهم .وبعد قليل سيأتي أمر النبي للعفو عنهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) من 159 آل عمران.

فائدة لغوية: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) قال إبن عاشور هي من مبتكرات القرآن مثل (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) من 1 الأنفال. وهذه لم تكن معروفة في لغة العرب قبل القرآن (ذات البين) صلاح العلاقة بينك وبين المسلمين. وذات الصدور تفهم منها بما تخفيه في صدرك وهو غير معروف. ذات الصدر هو المكان الذي لا يعلم ما فيه إلا الله.

ختم الآية (وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) غفور للذنوب لأنه تقدم ذنب. وحليم لا يعاجل في العقوبة لأنه عفا, وهي مناسبة. ومن أعظم المواطن التي ينبغي تدبر القرآن فيها هي تدبر صفات الله وأسمائه ومواضعها من الآيات ومعانيها. وهي أكثر الأشياء التي تورث الإنسان محبة الله وفهم آياته وأسمائه وصفاته. غفور إسم يتضمن صفة والفصة يتضمن أثر والأثر أن الله ستر هذا الذنب وغفر عنه وحليم لم يعاجل بالعقوبة لحلمه سبحانه وتعالى.