برنامج بينات

برنامج بينات – آل عمران 7

اسلاميات
الحلقة 7

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿٥٢﴾ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿٥٣﴾ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿٥٤﴾ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿٥٥﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴿٥٦﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿٥٧﴾ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴿٥٨﴾ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿٥٩﴾ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿٦٠﴾ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴿٦١﴾ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٦٢﴾ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴿٦٣﴾)

د. عبد الرحمن: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. مرحباً بكم في بينات والعيش في ظلال الآيات وقد وقفنا في اللقاء السابق أيها الأخوة عند قصة عيسى عليه الصلاة والسلام مع بني إسرائيل عندما تيقن عليه الصلاة والسلام كفره وأنهم يهمّون بقتله نادى في أنصاره وأصحابه الخُلّص الذين آمنوا به فقال (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿٥٢﴾) يعني من بني إسرائيل (رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿٥٣﴾) تلاحظون في هذه اللحظات العصبية للأنبياء والرسل أنهم يستثيرون في أتباعهم الصادقين المخلصين روح الحمية والدفاع عن هذا الدين وعن التوحيد وعن الإيمان. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الأزمات مثل حنين وأُحد والخندق وغيرها من المواقف كان عليه الصلاة والسلام يستحث الصحابة رضي الله عنهم للدفاع عن الدين وللوقوف وهذه هي سبحان الله العظيم سُنّة المدافعة بين الحق والباطل وأنه لا بد للمؤمنين الصادقين أن يكونوا صادقين في مواقفهم وفي إيمانهم وفي عقائدهم وأن لا يصيبهم التردد والخذلان والتخاذل ولذلك حتى النبي صلى الله عليه وسلم قال “من خذل مؤمناً في موقف يحب أن ينصره فيه خذله الله”. لأن هذا من المواقف التي ينبغي على المؤمن أن يكون فيها قوياً وأن يصبر ويحتسب. فعيسى عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف عندما تيقن من كفر بني إسرائيل وعدم إيمانهم وهمّهم بقتله إستثار الحميّة في نفوس أتباعه الصادقين الذين يسميهم القرآن الكريم “الحواريون”.

د. محمد: ما معنى الحواريين؟

د. عبد الرحمن: الحواريّ هو الصاحب الملازم كأنه من شدة ملازمته لك وخلوصه لمحبتك سُمي حواريّ لذلك. والحواريون هم أتباع عيسى الصادقون الذين آمنوا به واتّبعوه.

د. مساعد: قول الرسول صلى الله عليه وسلم للزبير

د. عبد الرحمن: “إن لكل نبي حواريّ”. لكن السؤال هو قوله تعالى (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ) المفسرون يتكلمون عما يسمى بالتضمين. والتضمين مقصود به هنا التضمين النحوي بمعنى أن يُضمّن الفعل معنى يناسب الحرف أو أن يُضمّن الحرف معنى يناسب الفعل. لأن التضمين له معاني حتى في البلاغة. يعني التضمين في البلاغة هو أن تقتبس من كلام غيرك فتضعه في كلامك مثل الشعر أو في النثر أيضاً. فلو ضمّنت كلاماً للمتنبي أو ضمنت كلامماً للجاحظ في كلامك هذا يسمى تضميناً. لكن لو جئت وضمّنت كلاماً لله سبحانه وتعالى هذا لا يسمى تضميناً وإنما يسمى اقتباساً ولذلك يقولون أنه سمي اقتباساً وكأنه شعلة من القَبَس لجماله وروعته بين كلامك العادي. أما التضمين الذي نقصده هنا في قوله (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ) المقصود به التضمين المعنوي بمعنى كأن السياق الطبيعي الذي يتصوره المستمع أن المعنى من أنصاري مع الله؟ وليس من أنصاري إلى الله؟ ولكنه جاء التعبير فقال (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ) فما توجيهك هنا يا دكتور مساعد في التضمين هنا؟

د. مساعد: من يُعنى بالبلاغة يعنون بالتوجيه الذي ذكرته قبل قليل، فبعضهم قال من أنصاري متضامين أو ضامّين إلى الله من ضمّ الشيء إلى الشيء جعله مضموماً إليه. فبعضهم جعل المضمّن هذا الذي معناه من أنصاري متضامين أو ضامّين إلى الله سبحانه وتعالى ، ضامّين نصرتهم إلى نصرة الله سبحانه وتعالى يعني ينصرونني وينصرون الله، فهذا عند بعضهم. ولا أذكر فيه أيضاً احتمالات أخرى.

د. عبد الرحمن: أنا في تصوري أن من أنصاري إلى الله أنك تضمن مع النصر هنا معنى المرافقة والمصاحبة فكأنك في رحلة إلى الله سبحانه وتعالى

د. محمد: سائرين إلى الله

د. عبد الرحمن: سائرين إلى الله، من أصجابي ومن رفقائي والمناصرين لي في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى وطريق الدعوة إلى الله.

د. مساعد: وهذه ميزة التضمين أنه يمكن أن تتعدد فيه الإحتمالات. والتضمين أعرق لا شك في البلاغة من القول بتعاقب الحروف مع أن هذا مذهب وهذا مذهب.

د. عبد الرحمن: مع أنني رأيت يا دكتور مساعد في بحث قيم وأنصح بالإطلاع عليه وهو كتاب التضمين النحوي في القرآن الكريم، وهذا كتاب لرسالة دكتوراة في مجلدين للدكتور محمد نديم فاضل مطبوع في مكتبة دار الزمان في المدينة المنورة، الكتاب درس دراسة جيدة كل المواضع التي قيل فيها تضمين في القرآن الكريم. فوضع نتيجة أنه غير صحيح أن تقول أن التضمين في الفعل هو الأفضل. مثلاً على سبيل المثال (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) الإنسان) هنا الأنسب و الأبلغ أن تقول عيناً يروى بها عباد الله أن تضمّن الفعل معاني تناسب الحرف مثل ابن تيمية على سبيل المثال في المقدمة عندما قال “قول البصريين أبلغ وهو أن تضمن الفعل معنى يناسب الحرف” لكن هذا الباحث في دراسته وجد أن هذا غير مضطرد وأنه في مواضع كثيرة صحيح أن التضمين في الفعل أبلغ لكن في بعض المواضع التضمين في الحرف أبلغ. فأتصور أنها كما ذكرت في لقاء سابق أن بعض العبارات تؤخذ على أنها مسلّمات أو أنها قاعدة مضطردة في حين أنها ليست كذلك. قد تكون هي قاعدة في كثير من المسائل لكن قد يخرج عنها في بعض المسائل.

د. مساعد: وبعض العلماء مثل الطبري في بعض المواطن ذهب إلى التضمين في الفعل وفي بعض المواطن ذهب إلى تعاقب الحرف. يعني في مواطن مثل (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ذكره على باب التضمين

د. عبد الرحمن: مع شياطينهم أو خلوا بشياطينهم؟

د. مساعد لا، هو قال خلوا ثم ضمّنه فعلاً، ذكره وتكلم عنه تأصيلاً وفي مواطن أخرى يقول بتعاقب الحروف.

د. عبد الرحمن: هل هو بهذه الصورة يا دكتور مساعد أنه تعاقب الحروف؟ لأنه لما تقول تعاقب الحروف كأنها فعلاً ليست مستساغة في كل حين لكن تقول تضمين الحرف معنى يناسب حرفاً آخر أو هي نفس الفكرة؟

د. مساعد: لكن هي قريبة قد تكون مصطلحات. لكن أن أقول ضُمن بمعنى حرف آخر هو في الحقيقة تعاقب أن نقول هذا بدل هذا.

د. عبد الرحمن: إذن لماذا لا نسميها أيضاً تضمين في الفعل تعاقب الأفعال؟

د. مساعد: لا، لأنه يوجد هذا وهذا أما في الحروف فنلغي دلالة هذا ونرجع بمعنى دلالة ذاك. أما في تضمين الأفعال يشرب دلالته موجودة ويروى دلالته موجودة.

د. محمد: ننتقل إلى مبحث آخر وهو في موقف هؤلاء الحواريين لما قال عيسى عليه السلام (قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ) يعني انبروا للدفاع والحمية واستجابوا واسرعوا لم يكن هناك تلكؤ. ما قالوا أنظِرنا الليلة نتشاور وننظر ما هي العقبات وما هي التضحيات والأسباب والمسببات وغير ذلك من الأشياء التي تُدرس وإنما قالوا مباشرة (نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ) وسارعوا بذلوا أنفسهم وضحّوا ويعلمون أن هناك خطر ويعلمون أنه قد يكون هناك مقتلة قد تمر بهم وبنبيهم عليه الصلاة والسلام، هذا ماذا نستفيد منه؟ نستفيد منه سرعة المبادرة إلى امتثال أمر الله سبحانه وتعالى. متى علمت أنك في طاعة وأنك مقبل عليها ودُعيت إليها فلا تتلكأ لأنك تُعان بقدر ما تستجيب سرعة الاستجابة، سرعة الاستجابة هذه لها مزية وحظوة حتى عند الله سبحانه وتعالى ولذلك يقول الله عز وجل (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد) مع أنهم كلهم استجابوا لكن هؤلاء أسرعوا وهؤلاء تأخروا فقال (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا). وهنا أيضاً مسألة أخرى مهمة جداً بعض الناس عندما يُعرض عليه قول من الأقوال أو قضية من القضايا وتعرض بأدلتها وبراهينها يسارع بما طُبع عليه من الجهل بهذا القول يسارع إلى التكذيب مع أنه ما من شيء يدعم ذلك التكذيب يعني كان مفترضاً في أسوأ الأحوال أن يقول دعني أفكر تجده يبادر لا غير صحيح فيُبتلى سبحان الله أن الله يطمس بصيرته فلا يستطيع أن يصل إلى الحق بسبب مبادرته إلى تكذيب الحق من دون بينة ولا برهان. كان المفترض أن يقول والله الأدلة التي جئت بها واضحة والقول الذي تقول به مستقيم وفيه انسجام في الموضع لكن دعني أفكر أكثر. فيكون هناك مجال لنظر الإنسان ويستبرئ لدينه وما كان يعتقده سابقاً ويتحقق ويتأمل في القضية من جميع وجوهها لكن لا يقول أبداً هذا غير صحيح، هذا باطل، هذا لا يستقيم، كيف لا يستقيم؟ رُد عليه وهات ما ينقضه فلا يستطيع أن يأتي. ولعل في سورة الأنعام في قول الله سبحانه وتعالى (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)) يزيغ الله أبصارهم وأفئدهم جزاء ردّهم وتكذيبهم له أول ما جاءهم عقوبة لأنهم ردّوه من غير بينة ولا برهان. وهذا نقوله في هذه القضايا العقلية الاعتقادية ونقوله أيضاً في القضايا العملية. قد تتأخر فيؤخرك الله، تُدعى إلى خير فتقول أفكر، أنظر وأنت تعلم أنه خير وتعلم أنه بِرّ وتعلم أنه طاعة إلى الله فتتأخر فيؤخرك الله كما قال في الحديث “لا يزال قومي يتأخرون حتى يؤخرهم الله في النار”، نسأل الله العافية والسلامة.

د. عبد الرحمن: في قوله سبحانه وتعالى (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)) تلاحظون هنا أنه تكلم عن الحواريين وعن موقفهم المشرّف مع عيسى عليه الصلاة والسلام، يعني قارن موقف عيسى عليه السلام والحواريين وموقف الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بموقف بني إسرائيل مع موسى عليه الصلاة والسلام.

د. مساعد: طبعاً (ومكروا) هنا يرجع إلى بني إسرائيل لا يفهم أنه يرجع إلى الحواريين. الحديث عن بني إسرائيل (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) (وَمَكَرُواْ)

د. عبد الرحمن: لكن أقول في سورة البقرة تقدم معنا موقف اليهود مع موسى وكثرة المماطلة وهنا أنصار عيسى عليه السلام أشار الله تعالى إلى مبادرتهم واستجابتهم لأمر الله سبحانه وتعالى قال (نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)) ولا شك أن هذا موقف مشرّف لهم. ثم رجع الحديث عن اليهود الذين كذبوا عيسى عليه الصلاة والسلام وتآمروا على قتله فقال الله عز وجل (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)) وذكر هذه القصة وهي قصة محاولة اليهود الكفرة من بني إسرائيل محاولتهم قتل عيسى عليه الصلاة والسلام وتآمرهم على قتله ومكتوب في كتب التاريخ أنهم قد وشوا به إلى الحاكم الروماني في ذلك الزمان وكان وثنياً وشوا بعيسى عليه الصلاة والسلام فأرسل في طلبه وهذه في الحقيقة قصة فاصلة في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام، الآن يذكر الله تعالى لنا في الآيات (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)) هذه تظهر لنا حقيقة ما حدث أن عيسى عليه الصلاة والسلام رفعه الله إليه وأنه لم يُقتل كما قال في سورة النساء (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ (157)). الآن النصارى يعتقدونأن عيسى عليه الصلاة والسلام قد قُتل وقد صُلب ولذلك شعار النصارى إلى اليوم هو الصليب مع أن هذا لم يحدث بكل بساطة. كل ما بنيتم عليه عقيدتكم كله غير صحيح.

د. محمد: ليس له اي أساس تاريخي

د. عبد الرحمن: ليس له أساس تاريخي. ولذلك قال (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) الذين هم اليهود، (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) الذين اتبعوك من هؤلاء الحواريين وممن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. قد يقول قائل كيف يكون هذا والحواريون قد قتلوا عن بكرة أبيهم؟ فيقول أين قوله تعالى (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) وهم قد قتلوا؟ فيقال إن المقصود بالفوقية هنا فوقية المنهج والانتصار لأن الانتصار الحقيقي انتصار المنهج وانتصار الدين وليس الانتصار المادي. ولذلك حتى في قصة أصحاب الأخدود وهي معروفة أنهم قتلوا عن بكرة أبيهم لكن الله سبحانه وتعالى قال في حقهم (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) البروج). تأتي مسألة هنا في هذه الآية بالذات (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) يذكرها المفسرون ما المقصود بالتوفي لعيسى عليه الصلاة والسلام؟ نحن الآن نقول عيسى عليه السلام رُفع إلى السماء وأنه لم يمت كما نفهم نحن من معنى الموت أنه يموت وتفنى روجه ويُدفن كما حدث في موسى عليه الصلاة والسلام وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام كلهم دُفنوا وقبضت أرواحهم. عيسى عليه السلام ليس كذلك (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) فما المقصود بالتوفّي هنا؟

د. مساعد: لو سمحت با أبا عبد الله نعرِّف بعلم من العلوم وهذا مثال لكتابه في نفس موضوع التوفّي وهو كتاب الوجوه والنظائر لمقاتل ابن سليمان المتوفي سنة 150 ذكر ما يتعلق بالتوفّي في القرآن ما هو، قال في التوفّي: “تفسير التوفّي على ثلاثة وجوه فوجه منها التوفي يعني ذهن الإنسان الذي يعقل الأشياء وبه يرى الرؤيا وهو النوم (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ (60) الأنعام)، توفي ذهن الإنسان. والتوفي الثاني قال القبض إليه في السماء وذكر فيه قصة عيسى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي (117) المائدة) يعني قابضك من بني إسرائيل ورافعك إلى السماء. ثم قال الوجه الثالث هو قبض الأرواح وهو الموت وهو طبعاً أشهر المعاني”.

د. عبد الرحمن: لكن الذي يبدو لي أن هناك معنى جامع لهذه وهو أن الوفاة في اللغة التوفّي هو الاستيفاء يعني إذا قلت (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ (25) آل عمران) يعني استوفت فالوفاة سميت وفاة لأنها قد استوفت أجلها فتوفي الإنسان بمعنى أنه قد استوفى أجله (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34) الأعراف) وهذا معنى الوفاة في اللغة. وحتى المعنى الاصطلاحي لها وهو قبض الأرواح مأخوذ من المعنى اللغوي.

د. مساعد: لكن نحن الآن نبحث عن الدلالة السياقية وليس عن الدلالة اللغوية في معنى التوفّي. فمن قال (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) بالمعنى الذي ذكرتم أن المراد به استيفاء الأجل المحدد له في ذلك الوقت ورفعه إلى السماء أو قبضه إلى السماء وليس المراد قبض الروح وهذا احتمال.

د. محمد: ولذلك عبر بعضهم عنها بقوله متوفيك يعني مستوفياً عملك يعني مستوفي عملك فتذهب إلى السماء وبعد ذلك تعود إلى العمل مرة أخرى إذا أراد الله أن تعود في آخر الزمان ليستأنف عمله بعد ذلك.

د. مساعد: لكن قد يقع سؤال لو قيل (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) الوفاة المعروفة ويرفع إلى السماء بعد ذلك يعن تقبض روحه ويرفع إلى السماء، هل هناك مانع شرعي في الموضوع بحيث أن بعضهم يستشكل هذا الشيء؟ هل هناك مانع يمنع من ذلك؟

د. عبد الرحمن: أولاً توفّيه ورفعه إلى السماء هذا أمر غيبي، كيفيته، كيف يعيش عيسى عليه السلام الآن في السماء؟ لا شك أن هذا غيبي فالدخول فيه نوع من إدخال العقل فيما ليس له فيه فائدة.

د. مساعد: هم قالوا (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ (11) غافر) أنه ليس للإنسان أن يموت أكثر من ذلك فنقول لما عيسى توفي قبضت روحه معناه أنه ستقبض روحه أكثر

د. عبد الرحمن: ولماذا لا يكون له خصوصية كما أن له خصوصية في ميلاده له خصوصية في وفاته؟

د. مساعد: ولا تؤثر على العموم.

د. محمد: ولكن قوله (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) رافعك إلى السماء هذه هي الحقيقة دلالة على أنه لم يمت لأنه لو كان باقياً لأراد الله سبحانه وتعالى أن يموت شهيداً وتنتهي قضيته لكن أراد أن يطهره من هؤلاء الكافرين فيقبضه إليه ويرفعه إلى السماء ولا يذوق الموت حتى يذوقها من قبله ومن هو خير منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

د. عبد الرحمن: أنا أريد أن أنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. عندما يقول الله سبحانه وتعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) فيأتي مقاتل بن سلميان وأمثاله ممن يكتب في الوجوه والنظائر أو الأشباه والنظائر ، ألاحظ على من يكتب الوجوه والنظائر كمقاتل بن سليمان أو الدامغاني بعده أنهم يتوسعون في الدلالة فيأتون بالدلالة مأخوذة من السياق ومفصولة عن اصلها اللغوي. فمثلاً عندما يقول الآن التوفي الذهني هو موت الذهن واستدل بقوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) أين هذا المعنى الدقيق للوفاة في قوله أنه يموت الذهن وأن هذا المقصود بالموت؟ أنا أعتقد أن في هذا نوع من التوسع وهذا الإطلاق ليس دقيقاً أو صحيحاً أن تطلق على موت الذهن وفاة بدليل (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا (42) الزمر) معنى الآية أن الله سبحانه وتعالى قد ينام البعض ثم لا تعود إليه روحه والتي لم تمت (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) فكأنها وفاة حقيقية وليس المقصود بها وفاة الذهن أليس كذلك يا شيخ؟

د. مساعد: لكن قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ (60) الأنعام) تطلق على النوم ويسموها الموتة الصغرى وليس هناك إشكال فيما تطلق عليه وهي لا تخرج عن الدلالة اللغوية. لكن يبقى الآن أنه عندنا في قضية توفي عيسى لماذا قيل بأن المراد بالوفاة الموت الطبيعي الذي يحصل لكل إنسان؟

د. عبد الرحمن: لأنه المعنى المشهور

د. مساعد: نعم المعنى المشهور فيؤثر هذا المعنى المشهور على المعنى الآخر. والمعنى الآخر هو المقدّم وهو مُعجِز.

د. عبد الرحمن: وإلا لو قلنا (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) فتكون كلمة (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) تمنع أن يكون المقصود بـ(متوفيك) هنا قبض روحه وإنما المقصود بها توفيت مدة بقاءك هذه الأولى في الدنيا وسأرفعك إليّ في السماء ثم ينزل كما ذكر الرسلو صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.

د. محمد: والقول الآخر الذي قال به كثير من السلف وهو أن التوفّي هنا بمعنى النوم يعني متوفيك أي منيمك، ولذلك ألقي عليه النوم فنام فأخذته الملائكة فرفعته إلى السماء. وهذا ينسجم. ومنهم من قال شيئاً آخر وهو أن العطف هنا لا يدل على الترتيب فالمعنى: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ثم متوفيك، يعني العطف هنا لا يقتضي الترتيب.

د. مساعد: ومتوفيك بعد ذلك يعني إذا رجع بعد ذلك..

د. محمد: ولكن يظهر لي من ما عليه أكثر السلف من معنى التوفي هنا النوم ينسجم مع آيات أخرى وأيضاً ينسجم مع ما ورد في بعض الأحاديث بأن الله ألقى عليه اليوم حينما أراد أن يرفعه فبعد ذلك رفعه إلى السماء وانتهت القضية. لكن في قوله (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هذه وعد من الله سبحانه وتعالى أن من اتّبع عيسى حقاً وكان على دينه أنه هو صاحب الرفعة وهو صاحب الحق على ما ذكرتم يا دكتور عبد الرحمن أن النصرة والانتصار قد لا يكون الانتصار المادي. الانتصار المعنوي هو أعظم منه وإذا انضم إليه الانتصار المادي كان ذلك هو النصر التام في الدنيا وفي الآخرة. فهذا وعد من الله الكريم وكأنه جاء إلى هؤلاء النصارى الذين جاؤوا ليجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم من وفد نجران ليقول إن العاقبة لمحمد لأنه من أتباع عيسى، من أتباعه يعني على دينه وملّته (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) الأنبياء) وفي الآية الأخرى (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) المؤمنون) ويصدق هذه الآية الآية الأخرى التي في سورة الصف، لما قال تعالى في آخر سورة الصف (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)) الذين آمنوا بعيسى مؤيدون وسيبقى لهم الظهور والعلو علو الحق والمعنى وعلو العزّ لأنه في نهاية المطاف مهما طال الصراع سيعود الحق إلى نصابه وسيعود المُلك إلى هذه الأمة أو إلى أهل الحق بلا شك ولذلك في آخر الزمان حتى عندما يُسلّط يأجوج ومأجوج على الناس في ذلك الزمان وينحصر عيسى ومن معه من المؤمنين إلى جبل سيناء ثم يرسل الله عليهم النَغَف وهو دويبة تعلق في رقابهم فيموتون ثم يذهبون لينظروا ماذا حصل لهم فإذا هم موتى كنفس واحدة فيستبشرون بذلك ثم يأتي طير يرسله الله سبحانه وتعالى فيأخذ جثث هؤلاء القوم من يأجوج ومأجوج فيلقيها في البحر وهذا ورد في حديث أبي هريرة الطويل في هذا الباب. يبقى العز بعد ذلك لأهل الإيمان ويقال للأرض بعد ذلك أخرجي بركتك فتلقي الأرض بأفلاذ كبدها من الذهب والفضة ويصبح فيها من البركة الشيء العظيم حتى أن القوم ليأكلون الرمانة ويستظلون يقُحفِها أي قشرها من البركة.

د. مساعد: في قوله سبحانه وتعالى (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وردت الإشارة إلى جزء منه في آخر سورة المائدة لما يذكر الله سبحانه وتعالى قصة كلام الله سبحانه وتعالى إلى عيسى عليه السلام قال بعدها (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) آل عمران) لو رجعنا إلى نفس القصة في سورة المائدة لما قال (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ (116)) نجد أن عيسى لما أراد برحمة النبي أن يطلب لهؤلاء شيئاً قال (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)) وهذا ينبه على ان عيسى عليه الصلاة والسلام يعلم يقيناً مقام من فعل هذا يعذبه عذاباً شديداً ومع ذلك سبحان الله رحمة النبي بأمته تجيء في مثل هذا الموطن الشديد جداً ولكنها تأتي بأسلوب من أبلغ ما يكون (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ)

د. عبد الرحمن: كأنه طلب لرحمتهم.

د. مساعد: (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وإن غفرت لهم فليست مغفرتك إلا من جهة عزتك ومن جهة حكمتك وليست عبثاً ولهذا قال بعدها (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) آل عمران) ولاحظ كلمة (فَيُوَفِّيهِمْ) وكلمة (متوفيك) التقارب في المعنى كأن السياق يشير إلى معنى التوفي السابق الذي ورد في قوله (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ).

د. محمد: في قوله تعالى (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)) تأكيد للمعنى الذي ذكرنا في الحلقة السابقة (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ) يعني أن هذه أمور لا علم لك بها يا محمد صلى الله عليه وسلم ولا العرب الذين بُعثت فيهم وأنه من وحي الله لك وأنه غيبٌ في أنه كان في علم الغيب لا علم لك به يا محمد ولا لأمتك لولا أننا أوحيناه إليك للإستدلال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به. وهؤلاء هم النصارى وهذه كتبهم بين أيديهم كلها شاهدة على صدق ما تقول. فيدل هذا على أن القصص القرآن يُساق وهناك أيضاً غايات من وراء تلك القصص فضلاً عما فيها من المعاني وفضلاً عما تتضمنه من الفوائد والحِكَم والدروس إلا أن هناك أيضاً غايات مهمة جداً صِدق النبي وصدق هذا القرآن وأنه من عند الله أيضاً غاية مهمة جداً من وراء هذه القصص.

د. عبد الرحمن: ولا شك أنكم تلاحظون معي شدة وقع هذه الأخبار على النبي صلى الله عليه وسلم أولاً وعلى اليهود والنصارى الذين كانوا يعاضرون النبي صلى الله عليه وسلم. تخيلوا الآن علم الغيب الذي ورد في القرآن الكريم لا شك أنه من أشد أوجه الإعجاز وهو الإعجاز الغيبي في القرآن الكريم سواء كان غيب الماضي البعيد أو غيب المستقبل الذي لا يعرفه أحد. فتأمل في الغيب الماضي هنا، عندما عاش النبي صلى الله عليه وسلم طول حياته في مكة وأعلم الناس في الجزيرة هم اليهود في المدينة وأيضاً ورقة بن نوفل لما كان في مكة فلما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويقص عليهم هذه التفاصيل وهذا اليقين ويذكر لهم قصة عيسى وقصة أمه من قبله وقصة جدته عندما ذكر آل عمران (ومريم بنت عمران) وكيف أنها نذرتها أمها ثم لما حملت بعيسى من غير أب ثم يولد ثم يكون هذه نهايته زيرفع فيذكر الله تعالى هذا (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)) هذه الآية هنا القصة كلها هنا أشبه ما تكون بالرد على اليهود ومجادلة اليهود أشبه منها بمجادلة النصارى الذين

د. مساعد: أنت مصمم على هذا لكن ما أدري ما وجه الشبه

د. عبد الرحمن: يعني الآن عندما يقول (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) خلقه من غير أب

د. مساعد: المخالف هنا ليس اليهود، اليهود لا يرون عيسى

د. عبد الرحمن: بل يتهمونه ويتهمون أمه ويكفرون به

د. مساعد: لكن الذين يقولون بأنه إله يرد عليهم (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) وهذا قياس بل إن آدم الذي أعجب الشرائع بطريقة خلقه أعجب من قصة عيسى.

د. محمد: وأنتم تؤمنون بها جميعاً. يعني قصة آدم يؤمن بها الجميع. إذا آمنتم بتلك التي هي أعظم في العجب فهذه من باب أولى. ولذلك جاء بعدها بقوله (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ (61)) من هم الذين يحاجّون فيه؟ هم النصارى. هذه آية المباهلة. (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) هذه يوصل إليها عندما تصل أنت ومن تناظره إلى مرحلة لا يسلِّم كل واحد للآخر مع قيام الحجة ووضوحها من أحد الطرفين ولكن الثاني معانِد. هنا يقول صاحب الحق (نبتهل) لأن هنا تظهر مكنونات النفوس وهل هم صادقون في إدّعاء أنهم على حق أو ليسوا بصادقين ولذلك دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للمباهلة كما أمره الله عز وجل في هذه الآية (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) جاءك من العلم الواضح البيّن الذي لا مرية فيه ولا شك. (نبتهل) يعني يدعو كل واحد منا على نفسه وصاحبه إن كان كاذباً من كان كاذباً فليُحَن الساعة يعني تنزل عليه آية أو عذاب أو عقوبة أو صاعقة من السماء. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) وهذا فعله الرسول صلى الله عليه وسلم نادى علياً وفاطمة والحسن والحسين وقال هؤلاء هم أهلي أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولما دعاهم للمباهلة قالوا والله إنا نخشى أن يكون نبياً حقاً فلا تفلحوا بعده أبداً أو كما قالوا. فأبوا أن يباهلوا وهذا يدل على أنهم كانوا في نفوسهم (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا (14) النمل) والحق لا يمكن أن مستغلقاً أو غامضاً أو مُلبِساً على الناس إلى درجة لا يوصل إليه، الحق واضح بيّن خاصة في قضايا الاعتقاد وهذه القضايا الكبرى. ولذلك لما أقام عليه هذه الحجج التي قرأناها وبينا بعضاً من معانيها ما يبقى لأحد أي حجة في أن لا يسلِّم بذلك لكن يبقى عندهم الخوف من قومهم والخوف على مناصبهم والخوف على أرزاقهم ودنياهم هذه أشياء تنبعث في الإنسان عندما يظهر له الحق يقول ماذا سيقول الناس عنك؟ كنت تعلمنا الباطل وكنت تعلمنا هذا الي كنت تقول أنه حق وتؤيده وتجمعنا له وتضع الأعياد وغير ذلك أينك اليوم؟ فيأتي الشيطان فيخوفه مثل ذلك. هنا يقال له تعالى نبتهل. والمباهلة كما جاءت مع النصارى جاءت مع اليهود في قوله في سورة الجمعة

د. مساعد: هذه مباهلة ولكن بطريقة أخرى

د. محمد: نعم بطريقة أخرى وهي في قول الله عز وجل (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) الجمعة) إذا كنتم صادقين في أنكم أولياء لله نريدكم فقط أن تتمنوا الموت وبهذا تكونوا أولياء لله والجنة ليست لأحد سواكم، تمنوا الموت إن كنتم صادقين. ثم يقول الله تعالى في نفس الآيات (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)) هم يعرفون أنهم مجرمون ولا يستحقون هذه الجنة وأنهم ليسوا أولياء للخ قال (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) لذلك لم يؤثر في التاريخ أو في السيرة النبوية أن أحدهم تمنى الموت. وكان المفترض أن واحداً منهم يقول أنا أتمنى الموت على أساس أن أكذّب هذا القرآن.

د. مساعد: وما فعل.

د. محمد: كانت فرصة في أيديهم من أجل أن يقولوا سجلنا موقفاً في تكذيب القرآن لكنهم ما استطاعوا سبحان الله. ولذلك قال تعالى (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) البقرة).

د. مساعد: أيضاً المباهلة استخدمها عبد الله بن مسعود ولا أذكر تفاصيل القصة وإن في مسألة فقهية “من شاء أن يباهلني” وأقصد من ذلك أن المباهلة أسلوب في المناظرة يمكن أن يستخدمه الإنسان في إبراز الحق وهو يدل على ثقة المتكلم بما عنده من الحق ثقة مطلقة أن ما عنده هو الحق.

د. محمد: وهذه حصلت مع ثناء الله العالِم الهندي في قصته مع ميرزا غلام أحد القاضيان اشتد الخصومة بينهم طلب ثناء الله المباهلة فتباهلوا فسأل الله عز وجل أن يأخذ الكاذب منهما قبل صاحبه قال فما أتموا سنة واحدة حتى استطلق بطن هذا القاضي الأول ويقول استمر أياماً وبطنه مستطلق وهم يسعون له بكل دواء لا ينفعه ثم مات وبقي ثناء الله بعده أربعين عاماً سبحان الله.

د. مساعد: هذه من المباهلات التي تُحكى هل هناك مباهلات أخرى؟

د. عبد الرحمن: والله ما أعرف لكن أتصور في كتب المناظرات وتاريخها قد يكون فيها خاصة المناظرات الدينية أما المناظرات العلمية فليس فيها إشكال. لكن تلاحظ حتى في الآيات التي معنا الآن كيف يعتذر الله سبحانه وتعالى لأصحاب الحق لأنك قد تناظر مُصرّاً على الباطل ولا يستجيب لك فقال سبحانه وتعالى هنا (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)) أنت أديت ما عليك أيها المناظر فلا تقلق نفسك وفي الآية الأخرى (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)) فأنت عليك أن تبين الحق وأنت على بيّنة وعلى معرفة وحتى في المناظرة والجانب العلمي مهم جداً، يعني لا يمكن أن تناظر أحداً وأنت جاهل وأنت تباهل الناس وأنت جاهل إنما لا بد من العلم إلى درجة اليقين خاصة في مسائل الاعتقاد كما صنع عيسى عليه الصلاة والسلام وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع وهو على بينة وعلى يقين كما قال تعالى (إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ (62) آل عمران)

د. محمد: وهذه الآية الحقيقة يمكن أن يستدل بها يا دكتور عبد الرحمن على أن قصص القرآن ليس فيها شيء من الأسطورة وإنما كلها قصص وقعت بحذافيرها وليس من باب كما يقول بعض العلماء أو بعض المفكرين أنها من باب ضرب الأمثال وأنها أشياء يضرب بها المثل لم تقع في الواقع ولم تكن في الشاهد أو فيما مر من التاريخ. نقول لا يمكن هذا والله أعلم (إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) الحق الواقع الذي لا مرية فيه. ما هو الذي في القرآن يمكن أن يقال هو من نسج الخيال؟ كله يمكن أن يقع فلماذا يقال أن قوله (واضرب لهم مثلاً) أنها من باب ضرب المثل الذي لا يقع فنقول هذه الآية والله أعلم ترد على أمثال هؤلاء.

د. عبد الرحمن: في قوله سبحانه وتعالى في الاية التي بعدها (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (65)) في هذه الاية فهم كثير، كثير من المفسرين يذكره ولكن فيما يبدو لي أنه يحتاج إلى شيء من المراجعة ولكن يبدو أن وقت الحلقة قد انتهى فلعلنا في الحلقة القادمة نتناقش فيها

د. مساعد: شوقتنا يا أبا عبد الله.

د. عبد الرحمن: فحتى اللقاء القادم صلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. محمد: سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

بُثّت الحلقة بتاريخ 27/5/2009م