تحدثنا في الحلقة السابقة من منظومة الإمساك عن بعض فلسفة الصوم فتحدثنا هن ما هو المفروض على المسلم وما هو معنى قوله تعالى في القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) وتكلمنا لماذا أنزل القرآن في هذا الشهر شهر رمضان ولم يقل الكتاب لأنه قال في القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ (185) البقرة) بينما في الكتاب قال (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾ البقرة) وشرحنا الفرق بينهما وتكلمنا أيضاً عن أهمية ليلة القدر وفي أي باب توضع وفي أي موضع يمكن النظر إليها من رحمة الله عز وجل.
والحديث عن الصيام قبل يوم أو يومين من شهر رمضان حديث ممتع يثير في المسلم التحفز العبقري القدسي الشفاف لاستقبال هذا الشهر العظيم الذي هو مهرجان من مهرجانات الله ومن أيامه ولذلك قال تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (185) البقرة) ولم يقل من حضر أو من أدركه الشهر أو من جاءه الشهر بل من شهد. والشهود كما تعرفون شهود المهرجان والحفل العظيم يقال شهد الحفل أو شهد الاجتماع وهذا إيماء إلى ضرورة الحفاوة بهذا الشهر حفاوة متميزة من غير أن يمر متكاسلاً متثاقلاً كبقية الشهور.
نعيد معنى الكلمات القرآنية في هذا الباب قلنا الإمساك هو منع الشيء من الوقوع بقوة إذا كان هناك فعل لا تريده أن يقع وأنت تمنع وقوع هذا الفعل بقوة بحيث لا يقع أبداً يقال إمساك (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ (65) الحج) وكما قال تعالى (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ (37) الأحزاب) أي لا تطلقها أبداً وهذا الإمساك يأخذ في كل فعل من الأفعال مصطلحاً: فالإمساك عن الغضب يسمى حلماً، الإمساك عن الشهوة والشهية يسمى صياماً، الإمساك عن العصيان يسمى طاعة وهكذا. إذاً الإمساك عن كل شيء هو منع وقوعه ولكن هذا المنع قوي ليس فيه تراخي وليس فيه نسبة وإنما هو نوع مطلق وهكذا الإمساك عن الطعام والشراب والجماع للصائم قضية لا نقاش فيها. ولهذا أنصح الصائمين المتزوجين جميعاً بأن لا يتيحوا لأنفسهم فرصة الضعف أمام قضية نفسية وهي أن كل محجوب مرغوب ففي كل رمضان نسأل من عدة أشخاص حتى تكاد تكون ظاهرة يجب معالجتها وهو تعدد الذين يقعون في الجماع مع زوجاتهم في نهار رمضان يجلس وزوجته في غرفة أو في مكان مختلي بها ثم ولأن الأمر ممنوع ولأنهما صائمان هناك ناحية نفسية فتجده يتقرب منها ما أن يلمس يدها أو يقترب منها حتى يجامعها وتقع حالات كثيرة ونظراً لخطورة الكفارة وصعوبتها وهي أنهما يصومان شهرين متتابعين 60 يوم على الزوج والزوجة الذين يقترفان الجماع في نهار رمضان وهو الإختيان (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ (187) البقرة) هذا الإختيان عقوبته أو كفارته أن يصوم الزوجان 60 يوماً ولو أن أحدهم صام 59 يوماً ثم أُجبر على الإفطار في اليوم الستين لمرضٍ أو لعارضٍ عليه أن يعيد الصوم 60 يوماً من جديد. فهذه عقوبة خطيرة ولهذا أنصح جميع المتزوجين ألا يكون قريباً من زوجته أثناء النهار وألا يحاول المداعبة أو ما شاكل ذلك لأن العقوبة خطيرة وذلك يدل كم أن هذا الفعل فظيع وشنيع عند الله عز وجل كالقتل الخطأ. فالله عز وجل جعل كفارة الجماع في نهار رمضان ككفارة القتل الخطأ وهو صيام شهرين متتابعين إلا إذا أغتصب الزوج زوجته فأحياناً الزوج يغتصب زوجته وهي رافضة ولكنها تعجز عن مقاومته لقوة الرجل حينئذٍ هو الذي يصوم وحده فإن طاوعته فعليهما الصيام معاً.
نواصل الكلام في هذا الموضوع الشيق وكونه موضوعاً شيقاً يتفاوت من إنسان لإنسان. لماذا بعض الأقطار العربية تحتفي به حفاوة عظيمة تفوق حفاوة الشعب الآخر؟ وهذا ناتج عن مدى معرفة هذا الشعب أو ذاك بعظمة رمضان وبأهميته ولهذا إن بعض الشعوب تعنى به عناية فائقة كمصر التي تعنى وتحتفي برمضان حفاوة بالغة بحيث أنت تشعر أنك في رمضان أنت في عالم آخر كأنك في مهرجان والصوم في مصر ممتع من أجل هذا علاقات الناس وليلهم وسمرهم وأطعمتهم وتحياتهم فكل شيء على مدار 24 ساعة يشعرك أنك في رمضان. ورأيت أيضاً في ماليزيا الشعب عموماً يحتفي برمضان من أول يوم فعيد الفطر يبدأ عندهم من أول يوم في رمضان فكلهم يلبسون أزهى وأجمل ملابسهم وما من ماليزي يفطر في بيته فطوال السنة كل ماليزي يتبرع بأقل من درهم في صندوق لكي يكون الإفطار جماعياً في المساجد ففي مساجد ماليزيا وهي مساجد كبيرة وعامرة تقام ولائم في غاية الروعة وفي غاية التنظيم وفي غاية الجمال الأسرة كلها تذهب صغاراً وكباراً ونساءً ورجالاً يفطرون مع بعض وناهيك بهذا ألفة ومحبة ومودة وهذا يدل على أن هذا الشعب يعنى عناية شديدة برمضان بحيث لا تراه فيه مفطراً. فأنا قد عشت في مصر مدة طويلة وعشت في ماليزيا رمضان لم أرى في الشارع مفطراً والعراق وأنا عراقيٌ احتفاؤه برمضان يكاد يكون معدوماً، بسيطاً جداً ولهذا الناس في الشوارع مفطرين علناً بالآلاف لعدم التقدير لرمضان. وهذا من طبائع الشعوب ومدى تمسك هذا الشعب أو ذاك بالصيام حينئذٍ رمضان يختلف بين الأفراد كما يختلف بين الشعوب. اختلاف أهمية رمضان بين الأفراد ناتجٌ عن شعور كل فرد من المسلمين بمدى الألم والوجع من الذنب كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم الناس أنواع هناك من يرى ذنبه كذبابة وقفت على أنفه فأطارها ولا سأل زنا، سرق، قتل، شرب خمراً، وهناك من يرى ذنبه كالجبل المرفوع فوق رأسه يكاد يسقط عليه في أي لحظة فعلى قدر ما يوجعك ذنبك وعلى قدر ما يشغلك هذا الذنب تعلم أن رمضان هذا هو الحل الوحيد وأنجحه (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) وما عليك إلا أن تصوم رمضان والكل يصوم والحمد لله وإذا صليت العشاء والتراويح في المسجد وصليت الصبح في المسجد يعتبر هذا قياماً والمعذور من مريض أو المرأة أو المشغول إذا صلى في بيته العشاء وصلى التراويح وصلى الصبح يعتبر قياماً. فما بالك بمن يصلي فعلاً ركعتي التهجد بعد الثلث الأخير من الليل؟ إذاً كلما كان ذنبك موجعاً وكلما كنت شديد الإحساس بهذا الذنب هذا من علامات الإيمان والتقوى أنك أنت يؤلمك هذا الذنب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الهاجس هو مغفرة وتوبة فمن علامة المغفرة لذنوبك أنها تقلقك وتؤرقك أنك فعلت كذا وأذنبت كذا (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ (135) آل عمران) بالله عليك ما هو شعور من يذكر الله بعد الفاحشة إلا شدة الألم؟ ولو لم يكن من أهل الألم لما ذكر الله عز وجل فألمه هو الذي جعله يذكر الله أو أن ذكر الله هو الذي جعله يتألم من الذنب أو كلاهما متلازم مع الآخر.
إذاً غلاة رمضان وأهميته كما قال تعالى (من شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) شهد الحفل، شهد الدعوة، شهد العزيمة، شهد المهرجان، شهد العيد، شهد الواقعة، شهد المعركة، فالشهود يكون لحدث. فرمضان حدث ولذلك لم يقل من أدرك رمضان بل شهد لأنه يتكلم عن موقفك من رمضان. ولهذا الماليزيون والمصريون والمغاربة شهدوا الشهر باحتفائهم به بكل جوانب حياتهم ولهذا الطفل يتربى على حب رمضان. من أجل هذا ما ترى فيهم مفطراً ففي مصر ما رأيت مفطراً في حياتي وأنا قد عشت فيها مدة طويلة وذلك لأن الطفل من صغره يعرف أن رمضان شيء كبير جداً لشدة ما يحتفي به أهله: ملابسهم، كلامهم، أكلهم، تسبيحهم، ذكرهم، صلاتهم، فينشأ على تقديس رمضان ولا يستهان به في عقلهم الباطن بعكس بعض الشعوب التي تستهين به استهانة وترى أنه صيام فقط فيكون نصف أو ثلاثا الشعب مفطر وعلناً.
في التشريع في البداية بدأ رمضان اختيارياً إما أن تصوم وإما أن تدفع فدية. ثم نزل قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فنسخت هذه الآية قوله (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿184﴾ البقرة) ثم بعد ذلك مباشرة بعد هذه الآية (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿186﴾ البقرة). إذاً دعاء الصائم هذا كما قلنا أهمية رمضان فأنت خطاء وكل ابن آدم خطاء (ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم جاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)
أسباب المغفرة كثيرة ولكن الضربة القاضية لكل ذنوبك وكل سيئاتك ولتبييض صفحة أعمالك تبييضاً مطلقاً ما عليك إلا أن تصوم رمضان إيماناً واحتساباً بالشروط التي ذكرناها في الحلقة الماضية وهو ألا ترتكب ما يفسد الصوم بحيث لا يجعله قادراً بأن يؤدي وظيفة المغفرة ولكن فقط يؤدي وظيفة إسقاط الفرض وهي: الغيبة وعقوق الوالدين وأخوان متصارمان متهاجران لا يتكلم أحدهما مع الآخر لا يفغر لهما والله عز وجل يقول (دعوهما حتى يصطلحا)، من يرتكب أحد هذه الذنوب لا يغفر له ذنب في رمضان. والحصيف منا من افترض أن هذا آخر رمضان في حياته فقد نموت بعد ذلك وهذا وارد جداً في هذا الزمان وقد شاع الموت والقتل فينا كما تعرفون في كل مكان فعليك أن تتقن هذا الشهر، هذا الرمضان أن تتقن صيامه وذلك بالامتناع عن الغيبة ولا تحسبن الأمر سهلاً إذا أردت أن تراقب لسانك سوف تكتشف أنك تغتاب كثيراً من غير أن تنتبه. لقد استمرأنا الغيبة واستهنا بها حتى لم تعد تثير انتباهنا فعليك من الآن أن تراقب لسانك هذا الذي يوردك الهلاك ويكب الناس على وجوههم ومناخيرهم في النار فإذا خلص لسانك من هذه الآفات الثلاث فاعلم أنك في اليوم الأخير صحيفتك بيضاء ليس فيها ذنب واحد وخرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك. وبالتالي من هنا تبدو عظمة رمضان في نفوس المسلمين ومدى بشاشتهم واستبشارهم وفرحهم وسعادتهم بهذه المنحة الربانية التي نفذ الله بها عز وجل مكرمته العظيمة عندما قال (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (27) النساء) حينئذٍ هذه الإرادة نفذها الله عز وجل بأساليب كثيرة أعظمها وأسهلها وأصعبها في نفس الوقت السهل الممتنع هو هذا الصوم وهذا الشهر العظيم وهو يسير على من يسره الله عليه. بل إنه مع الأيام ومع معرفة فلسفته وأثاره يصبح متعة المتع والأغلبية العظمى من المسلمين يتمتعون بهذا الصوم برغم مشقته التي تفوق أي صوم من صوم الأمم. والصوم كما قلنا في الحلقة الماضية على كل الأمم (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (183) البقرة) ولكن المسلمين وحدهم يمتنعون امتناعاً تاماً عن كل شيء فهناك صوم عن بعض الطعام دون بعض وهناك صوم في الليل ساعة أو ساعتين هذا الصوم الذي على المسلمين صوم فيه مشقة عظيمة ولا تقس على نفسك الآن على عصر الكهرباء والمكيفات ولكن تأمل هذه الأجيال، قرون مضت وذلك اللهب وقد جربناه في صغرنا هذا اللهب المترامي الذي كان لا يأتي المغرب إلا ونحن نوشك أن نهلك لشدة الحر وشدة العطش وقلة الطعام والشراب وشظف العيش وانشغالنا انشغالاً شديداً والعمل كان مضنياً والآن أنت حتى في الإمارات بلد الخير ترى أناساً يعملون في الشوارع عمال ومهندسين وبناة وكلهم صائمون في هذا الحر وهذا اللهب. إذاً هذا الصوم الفريد يتلذذ به الناس فكلما ازداد الصائم مشقة وعناء ومعاناة كان ذلك أدعى إلى فرحه وسعادته هكذا كان المسلمون ولا يزالون وسيبقون هكذا إلى يوم القيامة برغم ما يقال عنهم وهذه الهجمة الشنيعة القذرة الرخيصة عليهم في كل مكان في صحافة العالم كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها) بل صدق الله إذا يقول (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا (186) آل عمران) ونحن قلنا من قبل أن الفرق بين الأذى والضرر أن الضرر مادي باليد والأذى لساني والكلام عن المسلمين كما سمعتم وتسمعون وسوف تسمعون إلى يوم القيامة ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ هذا الدين حفظاً لم يتعهد بحفظ غيره أبداً وهو باقٍ وينتشر برغم هذه الهجمة يكتسب كل يوم مؤمنين جدد وأنصار جدد وأصوات غير مسلمة ولكنها منصفة تقول الحق وهكذا هي الحياة كلها صراع (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿251﴾ البقرة) (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿40﴾ الحج) والخير والشر في صراع دائم ولكن لا تحجب الشمس بغربال أبداً. وهذا الدين صرح وتعرض لهجمات في التاريخ لا حصر لها ويبقى الإسلام يكتسب كل يوم أرضاً جديدة ويكتسب كل يوم موقعاً جديداً ولهذا
لا يضر البحر أمسى زاخراً أن رمى فيه غلام بحجر
ومن ينتقد الإسلام بهذا اللفظ البذيء الكاذب المخادع الرخيص غير الموضوعي وغير العلمي هو الذي يخسر نفسه والإسلام لا يخسر شيئاً.
إذاً يقول تعالى في نهاية الحديث عن الصوم (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) حينئذٍ نعرف أن ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل والمظلوم والصائم حين يفطر ولهذا لكل صائم دعوة مستجابة وكثيرة هي مناسبات الدعاء المستجاب في الآذان بين حي على الصلاة وحي على الفلاح ادعُ دعوة سريعة فإن تلك ساعة استجابة وعند نزول المطر وتعرضك لأول ما يقع المطر ساعة استجابة وعند إقامة الصلاة وقبل أن يكبر الإمام ساعة استجابة والثلث الأخير من الليل ساعة استجابة وهكذا ولكن الساعة التي لا مراء فيها وسريعة وقوية هي ساعة إفطار الصائم ولذلك إن للصائم فرحتين. ولذلك لم يقل قل بل رأساً ومباشرة فالإجابة من رب العالمين فما كلف نبيه أن يجيب بل هو الله عز وجل أجاب (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان)، قال الله تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴿60﴾ غافر) ادعوني فعل أمر وفي الآية سمى الدعاء عبادة. فالدعاء مخ العبادة وحينئذٍ هذه العبادة هي إبراز لإقرارك بالإلوهية فرب العالمين يحب أن يسمع تضرع عباده ولهذا رب العالمين قد يؤخر دعوة الصالحين ولا يؤخر دعوة الطالحين في الاستجابة يقول لجبريل (أخِّره فإني أحب أن أسمع تضرعه) ولهذا قال (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴿42﴾ الأنعام) ورب العالمين يحب تضرع عبده إذا رفع إليه يديه من أجل هذا الدعاء عظيم وإذا تأخر الدعاء لا تقل أن الله نسيك أو لم يسمعك إنما أخره إنما لمصلحتك أو ليدخلك به إلى الجنة أو لأنه يريد أن يسمع تضرعك إضافة إلى أسباب موضوعية (أن الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يقول: يا رب يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب له). ولهذا هو السؤال الوحيد في القرآن الذي لم يقل فيه قل (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) لأنه يتعلق بالله مباشرة فلا تعجز عن الدعاء وألِحّ في الدعاء ألح فالدعاء هذا قضية يمكن أن تصل بها ما لا تصل بالعبادة في حديث ما معناه أن اثنين من المسلمين أحدهما صالح والآخر دونه فلما حوسبا ودخلا الجنة أحدهما في جنة أعلى فقال الذي هو في الأدنى: يا رب بم سبقني هذا وقد كنت خيراً منه؟ – فأنا لدي مواصفات الرفعة كأن أكون عالم وهو جاهل أو صالح وهو أقل صلاحاً أو مجاهد وهو لم يجاهد أو منفقاً وهو بخيل- فيقول الله عز وجل: أبخستك من حقك شيء؟ قال:لا هذا مكاني وهو بعملي فقال: ذاك كان يدعوني ولم تدعني أنت، هو كان دائماً يقول: اللهم أسألك الفردوس الأعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (سلوا الله الفردوس الأعلى فإنها مقصورة الرحمن). كأن يكون هنالك شخص يدعو خمسين سنة: يا رب أسألك جوارك في الجنة مع النبي فليس من المعقول أن الله لا يستجيب له ولو مرة. إذاً الدعاء هذا يحل جميع المشاكل.
سؤال حول اختلاف رؤية الهلال: مادام العلم قد توصل إلى معرفة طلوع الهلال بالمراصد فهذا من نعمة الله فما المانع في ذلك وليس هذه المشكلة ولكن المشكلة من يرى الهلال ولا يصوم لفرقة المسلمين وقد دخلت الأمراض القاتلة بين المسلمين حتى ضاعت هذه الأمة فهنالك من يرى الشهر والهلال ظاهر ثم لا يصوم ثم يأتي نهاية رمضان ويختفي الهلال ويصوم يوم العيد هذه هي المصيبة.
إذاً هكذا هو الدعاء ولذلك رب العالمين سبحانه وتعالى أمرنا به أمراً فهو الحاسم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الدعاء الجامع. سيدنا العباس رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو الله به قال: يا عم سل الله العافية فسيدنا العباس كأنه استقل هذا الدعاء فسأله في اليوم الثاني والثالث فقال له: يا عم سل الله العافية فما دعي الله دعاء أحب إليه من العافية) وكان يعلم عائشة رضي الله عنها فيقول: (اسألي الله العفو والعافية) في ليلة القدر. فإذا عفا عنك ذنوبك وعافاك ليس فقط في بدنك ولكن في دينك مالك وأهلك وأولادك ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم أحفظني من بين يدي ومن خلفي ومن يميني ومن شمالي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي) فالعافية عامة في كل شيء. فجوامع الدعاء حتى أنت لا تنسى شيئاً ادعُ الله دعاءً شاملاً يعطيك الله الإجابة شاملة. وزين العابدين كان عليه من الديون ما عليه فكان يسأل الله العفو والعافية فقال له ابنه: لم لا تدعو الله أن يقضي عنك دينك فقال زين العابدين: لو عفا عني وعافاني لقضى عني ديني.
ومن شروط استجابة الدعاء أن تصلي على النبي في أوله وآخره كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا تجعلوني كقدح الراكب) وحينئذٍ الصلاة على النبي مقبولة فعندما تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء وآخره فالله يقبل ما بين أول الدعاء وآخره والله أكرم من ألا يقبله جميعاً وقد قبل أوله وآخره ولهذا من شروط استجابة الدعاء أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم والذي قبل هذا أن تثني على الله بما هو أهله فالثناء على الله أولاً ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أوله وآخره. والتذلل في الدعاء ضرورة فلا تدعو الله وكأنك مستغنٍ عنه فكيف أنت في كرب شديد وحينئذٍ هذا التضرع هو الذي يستدر الاستجابة. دخل أحدهم على سيدنا علي رضي الله عنه وكان فيه شيء من المرض فسمعه يتأوه فاستغرب الرجل أن يصدر هذا من علي بن أبي طالب هذا الفارس الذي لا يضاهى، يتأوه فسأله: يا علي أتتأوه وأنت أبو الحسن قال: والله إني لا أشجع على الله، فالتضرع إلى الله هو الشجاعة فالشجاعة أن تحسن التذلل إلى الله. هناك ذل أقوى من العز وهو الذل لمن تحب تذللك للمحبوب أو تذللك للوالدين فما بالك بتذللك لله عز وجل وأنت تتضرع إليه؟.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) فالمغفرة هنا عجب حتى ولو ارتكب جميع الكبائر وقد قلنا في الحلقة الماضية أن رمضان لا يبطله مظالم العباد أي لا تستولي عليه قد تستولي على صلاتك وصيامك أما رمضان أعجوبة العجائب فإذا أحسنت صيامه وابتعدت عن الآفات التي تبطله فعلاً تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمك.
بعض الأحاديث في الصوم:
عن أبي أمامة قال: قلت يا رسول الله مُرني بعمل قال: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له) فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان إلا إذا نزل به ضيف فإذا عرفت أن هذا فضل النافلة (من صام يوم ابتغاء وجه الله باعد الله بينه وبين النار كغرابٍ فرخٍ طار حتى شاب) فكيف إذا كان رمضان؟ فإذا كان من صام يوم تطوع لله عز وجل باعد الله بينه وبين النار كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرماً. يوم تطوع فما بالك برمضان؟ إذاً كم هو أجره فعلاً لا يعلمه إلا الله فأنت تعرف أجر الصلاة والصيام والحج والقرض والجهاد إلا الصوم فأنت لا تعلم مضاعفاته ولا يعلم مضاعفاته إلا الله عز وجل.
وفي الحديث (لو أن رجلاً صام يوماً تطوعاً ثم أعطي ملء الأرض ذهباً لم يستوفي ثوابه دون يوم الحساب) فلو أن من صام يوم تطوعاً وأعطي ملء المرة الأرضية ذهباً هذا الذهب لا يوازن ثوابه يوم القيامة.
عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قال لا إله إلا الله ختم له بها ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة).
عن أبي سعيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً).
سؤال عن الرخصة بالفطر في السفر: اعلم أن أهمية إفطار المريض كأهمية صيام الصحيح وكان هناك رجل صائم وهو مسافر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصيام في السفر) فالرخصة عبادة جليلة وإن لله فيها حكمة كحكمته في العزيمة فإذا قال لك صلي أربع ركعات الظهر في الحضر وأنت في دبي وعندما تسافر إلى أبو ظبي تصليها ركعتين هذه الركعتين تساوي الأربع بالضبط فأهميتها كأهميتها وأجرها كأجرها فلا تتهاونوا في الرخصة فالرخصة فيها بركة من حيث أن الله عز وجل وضع فيها رأفته ورحمته فأنت تأكل في بيتك ولكن أن يدعوك السلطان فتأكل على مائدته فيها شيء آخر.
والغريب والعجيب أننا عندما نقرأ التاريخ نجد أن جل الانتصارات الإسلامية التاريخية كانت في شهر رمضان وإذا أدرك المسلم سر الصيام وفلسفته وانه ليس مجرد امتناع عن طعام وشراب- لأن أي حيوان ممكن أن يمتنع عن الطعام والشراب نهاراً كاملاً- وإنما فهم ما وراء ذلك يصبح إنساناً آخراً، باسلاً نقياً مضحياً تهون الدنيا في عينه يرى الملكوت الآخر. إذاً الصوم هذا إذا تمكن من العبد وفهم معناه ومغزاه يجعل منه إنساناً آخر.
ومن عظمة رمضان أن الله سبحانه وتعالى يسخر حملة العرش يستغفرون للصائمين (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿7﴾ غافر) تأمل في صائمٍ حملة العرش وهم أقرب الملائكة لله عز وجل يستغفرون لك كما في الحديث (أعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً لم يعطهن نبي من قبلي أما واحدة فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله عز وجل إليهم ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبداً وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من رائحة المسك وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة وأما الرابعة فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول لها استعدي وتزيني لعبادي أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي وأما الخامسة فإنه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعاً) إذاً الملائكة 24 ساعة يستغفرون للصائمين وما الذي يصمد- من الذنوب والكبائر- أمام استغفار حملة العرش لك (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا) حينئذٍ هذا الشهر عليك أن تحسنه بحيث تجعل من هذا الصوم عبادة تقوى على أن تغفر الذنوب جميعاً لأنك أديتها كاملة ولهذا الله قال (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي) ولم يقل عبيدي ولكن عبادي وهم الذين أحسنوا أداء الصيام.
بُثّت الحلقة بتاريخ 22/9/2006م وطبعتها الأخت نوال من السعودية جزاها الله خيراً وتم تنقيحها