سحر القرآن

سحر القرآن 15

اسلاميات

الحلقة 15:

 

الكلمة القرآنية:

 بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلي اللهم على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه وسلم

في هذه الحلقة أريد أن أحدثكم عن شيء مختلف عن الحلقات الماضية. كنت قبل يومين مع شخص بريطاني يعيش منذ فترة في البلاد العربية فسألته هل قرأت القرآن؟ قال نعم فيه معاني كثيرة وقصص مثل التي عندنا ولكني لم أتأثر به. فاستغربت، ثم أكمل قائلاً: إلى أن انتبهت لشيء لم أكن منتبهاً له من قبل فجعلني أنهبر بالقرآن. فقلت له: ما هو؟ قال: يجب أن تفهم الجو الذي يطرحه القرآن عندما تقرأه لأن الترجمة مشكلتها أنها لا تطرح الجو. والآن تعلمت شيئاً من العربية . يقول عندما كنت أقرأ سورة الناس لم أتأثر في البداية ولم أفهم ما المقصود منها سوى لأنها تتحدث عن الشيطان ولكن عندما حفظتها وعرفت معانيها في العربية وجدت أن الجو مختلف تماماً، أحسست بالكلمات فعندما تقرأ السورة تعيش في جو كله وسوسة، جو مؤثر فعرفت أنها تتكلم عن مداخل الشيطان إلى نفوس الناس بمدخل لم أحس به من قبل عندها فقط تأثرت بالقرآن.

 

الكلمة القرآنية تختلف عن غيرها في أي كتاب. إستعمال الكلمة هو الذي يعطي هذا الجو. حديثنا ليس عن مقارنة جمل وآيات وإنما نأخذ كلمة واحدة ونرى مزاياها في القرآن. الكلمة القرآنية المفردة تمتاز عن غيرها وإذا أردنا أن نعرف مزية الكلمة في القرآن ننظر إلى ثلاث مزايا رئيسية:

 1} جمال وقعها في السمع أي أن تكون منسجمة مع باقي الكلمات وليست شاذة عنها

2} اتساقها مع المعنى العام أي تعطي المعنى بشكل صحيح ودقيق.

3} اتساع دلالاتها بحيث تعطي معاني كثيرة وليس معنى واحداً.

 

قد تجد هذا في أسلوب بعض الأدباء مثل الجاحظ وغيره لكن أن تجتمع كل هذه المزايا باستمرار في كل كلمة لا تشذ واحدة هذا لا تجده عند أي شاعر أو أديب. امرؤ القيس على عظمته يقول في شعره بعض أبيات فيها كلمات يقول عنها إمام اللغة العربية الأصمعي والله لا أدري ماذا يقول؟ هذه الكلمات فيها شذوذ لا أستطيع أن أفهمها وهذا امرؤ القيس. لكن من المستحيل أن تجد في كلمات القرآن أي شذوذ ولا يمكن أحد أن يجعل كل كلمة متناسقة ومعبّرة كالقرآن الكريم.

 

يقول الله تعالى في وصف الليل والنهار في سورة التكوير: (والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس) هناك معنى وصورة معنى تصل إليك وتبعث الكلمة في خيالك صورة المعنى مجسماً محسوساً دون الرجوع إلى قواميس اللغة. تصور إقبال الليل وتمدده في الآفاق بكلمة عسعس: بدأ وانتشر، بالمقابل تأمل إنفلات الصبح من سجن الليل بكلمة تنفّس، هل هناك أدق من هاتين الكلمتين في المعاجم؟ الصبح يتنفس كأنه بُعثت فيه الحياة صار كأن إنسان كان ميتاُ الليل يغطي عليه وانفلت من الليل فتنفّس وأصبح حياً. ثم يأتي أقبل وانتشر عسعس. شيء عجيب هذا الوصف لو حاولنا أن نستبدل هاتين الكلمتين بكلمات أخرى سنعرف الفرق في المعنى.

 اثّاقلتم: (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) آية (38) من سورة التوبة.

أدرسوا الأداء الذي جاءت به هذه الكلمة (اثاقلتم)، وانظروا حروفها الثقيلة والتشديد على حرف الثاء والقاف التي هي من حروف القلقلة والميم وخروجها من الأنف هل تستطيع أن تتصور أداء الكلمة كيف أوحت لك بالمعنى؟ تتخيل كأن هناك جسم ثقيل يريد أحد رفعه بجهد ولا يستطيع فيسقط على الأرض وفيها بطء تشعر بان الكلمة بطيئة بينما تجد إن كلمة انفروا سريعة فإذا جربنا أن نبدل كلمة اثاقلتم بكلمة أخرى مثلاً تثاقلتم تجدها أخف وأسرع وأنشط من اثاقلتم. إذن هي بسبب رصف حروفها وزوال الشدة منها (تثاقلتم) والتاء بدل الثاء أخف. فالبلاغة تتم باستعمال كلمة اثاقلتم التي تعطي المعنى المراد الذي لا تعطيه كلمة تثاقلتم

 ليبطئن: ( وإن منكم لمن ليُبَطئن) من آية (72) من سورة النساء.

هذه الكلمة توحي بالبطء، فيها جرس ونغمة تشير إلى البطء بالإضافة لحرف النون الذي يسبقها يؤكد هذا الجرس الخاص. أمثلة القرآن الكريم أكثر من أن تعد أو تحصى . في هذه الأمثلة البلاغة وإيحاءات الكلمة الواحدة التي تحوي معاني عظيمة وإلى هذا أشار العديد من العلماء مثل الجرجاني والباقلاني وسيد قطب في تفسير القرآن ومحمد صادق الرافعي. سحر القرآن في بيانه وبلاغته وجمله وآياته وأيضاً إستعمال الكلمات الدقيقة في مواطنها هناك يستعمل خوف وهنا خشية وأمن وأمنة وهذا ليس من باب الصدفة وإنما مقدّر ومحدد. حديثنا عن الكلمة الواحدة كيف تعطي من اللحن ما لا تعطيه كلمة أخرى.

 دعّا: نضرب أمثلة أخرى وقد يشترك الجرس والظل في مفردة واحدة كقوله تعالى: (يوم يدَعّون إلى نار جهنم دَعّا) آية (13) من سورة الطور. يدَعّون ودَعّا بصورة مدلولها وبجرسها وبظلها نلاحظ الدّعّ وهو الدفع في الظهر بعنف نحو جهنم، هذا الدفع في كثير من الأحيان يجعل المدفوع يُخرِج صوتاً غير إرادي ففكأنك باستعمال هذه الكلمة تسمع هذا الصوت غير الإرادي الذي يظهره الشخص أثناء الدفع، فيه عين ساكنة في جرسه أقرب إلى جرس الدّع.

إستمع لقوله تعالى: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذّبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) آية (49) من سورة البقرة.

 

يذّبحون (بتشديد حرف الباء) وليس يذبحون بدون تشديد فهذه الكلمة لم يستخدمها القرآن من دون تشديد لأنه يصور الحدث وكثرته ونوعه وشدة الذبح كما إنها تعطي معنى تكرار عملية الذبح والشدة في الذبح لا تعطيه كلمة يذبحون

 

عبوسا قمطريرا في سورة الإنسان: (إنا نخاف يوماَ عبوساَ قمطريراَ (10) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نَضْرَة وسروراً(11)) يوماً عبوساً:استخدام كلمة العبوس فيها دقة بالغة في تصوير نظرة الكافرين ليوم القيامة وكأن اليوم صار له وصار عابساً فجاءت كلمة قمطرير بثقل الطاء مشعرة بذلك اليوم وفي المقابل (نضرة وسروراً) مقابل (عبوساً قمطريراً) نضرة وسرور تعبير دقيق على إحساس المؤمنين وإشراق وجوههم وما يملأ قلوبهم من البهجة والسرور.

 

يعملون ويشعرون: ومن دقة التمييز بين الكلمات ومعاني الكلمات التمييز بين: يعلمون ويشعرون. عند الحديث عن استعمال العقل يستعمل الله تعالى كلمة غير التي يستعملها لما يكون الحديث متعلقاً بالحواس. (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) من آية (13) سورة البقرة. العلم غير الشعور استعمل كلمة العلم لأن السفه مرجعه إلى العقل وليس الشعور. عندما نأتي للعلم يستعمل الله تعالى كلمة سفاهة والسفاهة مرجعها إلى العقل. نقارن هذا بقوله تعالى: (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) من الآية (26) من سورة البقرة. هنا علم فاستعمل يعملون.

 الإدراك الذي يكون بالعقل.وكذلك في الآيات الآتية فيها الإدراك عن طريق العقل:(أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) الآية (77) من سورة البقرة. (والذين آتيناهم الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) من الآية(144) من سورة البقرة.إذن يستعمل الله تعالى كلمة يعلمون عند الحديث عن العقل وبالمقابل يستعمل كلمة يشعرون عند الحديث عن الأحاسيس والمشاعر. قال الله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) آية (154) من سورة البقرة. هنا الأموات لايمكن رؤيتهم بل نحسهم لذلك يتكلم عن الشعور(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةًً ًوأنتم لاتشعرون) الآية (55) من سورة الزمر.الحديث هنا عن العذاب الذي هو شيء حسي نحسه ونشعر به غير ملموس لذا استعمل كلمة يشعرون.(أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة ًوهم لا يشعرون) الآية(107) من سورة يوسف.

(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون) الآية (11) و(12) من سورة البقرة. عند الحديث عن أعمال جسدية كالإفساد في الأرض فهم يفسدون بأجسادهم وما يفعلوه يشعره الشخص ولا يراه لذا يستعمل كلمة يشعرون.

 

كل كلمة تستعمل من أجل غاية ومن أجل نقل معنى معين وليس عبطاً. فاستشعروا القرآن حين تقرأوه وستجدون فرقا كبيرا في فهمه والتلذذ به وتحس بسحر القرآن الغير العادي.

 

إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح من استعلى(64) قالوا يا موسى إما إن تُلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65)) من سورة طه.

 

إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى، لماذا أطالها ولم يقل أما أن تلقي وأما أن نلقي؟ في أول وهلة قد يُتوهم أن الله تعالى استخدم هذا التعبير من أجل اللحن والقافية لتتفق مع فواصل الآيات التي قبلها وهذا ما كنت أظنه ولكن علمت بعد ذلك وبعد الاستعانة بكتب البلاغة والأدب وعلم اللغة السبب في استخدام هذا التعبير فما يقوله أهل البلاغة: هذا التعبير يكشف عن رغبة القرآن في تصوير نفسية هؤلاء السحرة فقد كانوا خائفين وشاكّين في تحديهم لموسى عليه السلام فتجد في آيات أخرى في القرآن عندما وقف موسى عليه السلام أمامهم وتحداهم قائلا احذروا إنكم تتحدون الله رب العالمين وأنا نبي وهم يعرفون الفرق بين النبي والشاعر لكن فرعون كان قد أغراهم بجزيل العطاء فاستمروا في تحديهم للنبي موسى عليه السلام وراحوا يتناجون ثم أجمعوا أمرهم مع الشك والخوف والريبة من هذه المواجهة فقد يكون نبياً حقاً فيؤذيهم وكانوا يريدون النصر بهذا التحدي سواء هو ألقى أم هم. هذا شيء والشيء الآخر اللفظة تصور معنىً دقيقاً إن هذه الصورة لها ظلال وأبعاد (أما أن تلقي أو نكون أول من ألقى) فيها مشاعر وإحساس بالتردد فلم يقولوا أما أن تلقي أو أن نلقي لأنهم مترددين وخائفين رغم أملهم بالنجاح فالقرآن يكثر فيه وضع الكلمات للأمور المحسوسة ويشعرك بأجواء وإيحاءات الكلمة في نفس القائل فهذا القول من السحرة يشعرك بالتردد لذلك عندما ألقى موسى عصاه بعد ذلك فوراً سجد السحرة وبدون تردد مما يدل أنهم كانوا شاكين بأنفسهم فاستسلموا سريعاً وإلا ما استسلموا بسهولة.

 

القذف: قيسوا على ذلك قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) الآية (18) من سورة الأنبياء. كلمة القذف توحي بشيء مجسم وحيّ وكأن الحق والباطل أصبح حياً فالحق زهق روح الباطل.فلكل كلمة معنى وحسن خاص عجيب. فاستمتعوا بهذا السحر وهذه المعاني وبكل كلمة في القرآن وتأثروا بهذا السحر البياني العجيب.  وإلى مزيد من هذا السحر في حلقات قادمة إن شاء الله.

 (طبعت هذه الحلقة الأخت أم ميس جزاها الله خيراً وتم تنقيحها)