الحلقة 28:
ونحن في الحلقات الأخيرة عندي شعور شديد بالألم. هناك كثير في الصور والمعاني والبلاغة لم أوصلها إليكم لذا أختار بعض الأشياء التي لا بد أن أقولها لذا اخترت التصوير الفني والنغم. تحدثنا عن شيء من هذا في الحلقة الماضية واليوم نتحدث عن المزيد من وصف القرآن للأحداث بحيث يحولها إلى مشهد تراه أمامك وتحدثنا عن غزوة الخندق وكيف صوّر القرآن نفسيات المحاصرين وسنتحدث عن وصف القرآن لغزوة أُحُد في آيات سورة آل عمران (من الآية 152 وما بعدها). نصف الهزيمة من خلال الوصف القرآني. كيف يصف القرآن وكيف يصوّر لنا المعركة التي هزم فيها المؤمنون فيقول (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في بداية المعركة كان النصر للمسلمين (إذ تحسونهم) تستأصلونهم بالقتل، وصف لنا بداية المعركة وماذا حدث ثم يصف الآن كيف تحوّل هذا النصر إلى هزيمة والوصف القرآني عجيب في هذه المسألة. لماذا حدثت الهزيمة؟ (حتى إذا فشلتم) عندما ترك الرماة جبل الرماة بعد أن كانت الأوامر واضحة بأن لا يتركوها مهما حصل (من بعد ما أراكم ما تحبون)، رأيتم النصر. ثم يصف لنا تفاصيل مشهد الهزيمة لا المشهد الظاهر فقط وإنما داخل النفوس (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) يقول أحد الصحابة: والله ما كنا نظن أن فينا أحد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية. دخل الوصف القرآني في النيّات (ثم صرفكم عنهم) كنتم منتصرون والآن صرفكم عنهم ليبتليكم. سمح الله تعالى للهزيمة أن تحدث إختباراً ليبتليكم (ولقد عفا عنكم).الذين إستقر الإيمان في قلوبهم عفا الله عنهم ورغم أن البعض لم ينجح في الاختبار عفا الله عنهم. ثم وصف المشهد (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)) بدأتم تركضون وتهربون وتبحثون عن كل صعيد (ولا تلوون على أحد) لا تلتفتون. هاتان الجملتان (إذ تصعدون ولا تلوون) وصف للهزيمة: ركض سريع وبدون إلتفات. يعاتبهم القرآن أنهم هربوا وتركوا الرسول r وراءهم، كيف تتركونه وراءكم؟ فجاء الوصف (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) النبي يدعوكم ولم تلتفتوا إليه. (فأثابكم غماً بغمّ) غمّ الهزيمة وغمّ الحالة النفسية التي أصابتهم بعدما عصوا الرسول. الوصف إنتقل للحالات النفسية وليس للظاهر فقط ولا يمكن لأي إنسان أن يصف مشاعر إنسان آخر أو يشعر بما يشعر به لكن القرآن من عند الله تعالى وهو المطّلع على خبايا النفوس (لكيلا تحزنوا) جعل بعضكم ينعس (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يصف القلوب أن هؤلاء يشكّون في الدين نفسه (ظن الجاهلية) الله تعالى يصف لنا ماذا قال الواحد منهم في نفسه (هل لنا من الأمر شيء) (قل إن الأمر كله لله) كل هذا الوصف لما في أنفسهم (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا) لو بقيتم في بيوتكم إذا قدّر الله تعالى عليه الموت سيموت ولو كان في بيته. (وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) يصف المعركة والنيّات وحديث النفس للنفس وجاء القرآن ليكشف حديث النفوس فأي وصف أعجب من ذلك؟! لا يمكن لكلام بشر أن يصف ما حصل في أحد كما وصفه القرآن الكريم.
انظروا كيف يصف القرآن لنا الآخرة؟ يصفها بصورة مجسمة أمامكم. عندما تقرأون القرآن بعد اليوم إبحثوا عن الصور في كل آية والوقت لا يسعنا أن نكشف كل الصور في كل الآيات.
أحداث الدنيا وأحداث القيامة صورت كأنها مجسمة، يقول تعالى (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) القمر) حتى إختيار الكلمات فيه شيء عجيب، يصف لنا البعث من الموت (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ) استعمال كلمة (نُكُر) ولم يقل عجيب أو غريب وإنما قال نُكُر. المعروف أن المنكر هو عكس المعروف الذي ألِفناه، أما هنا فالحديث ليس فقط عن شيء منكر وإنما شيء نُكُر كل ما فيها عجيب غريب. فيخرجون من القبور والله تعالى يصفهم ويصف خروجهم تلك الأعداد الهائلة من الناس من زمن آدم إلى يوم القيامة، كل من مات يُبعث حتى الحيوانات (وإذا الوحوش حشرت) يقول تعالى ليقرّب لنا الصورة (كأنهم جراد منتشر) لكثرتهم، تخيل أسطولاً من الجراد يغطي السماء من كثرته فتُظلم وتسودّ الدنيا من كثرته . (مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)) هل بقي من المشهد شيء؟
انظروا إلى مشهد آخر من مشاهد يوم القيامة يقول تعالى (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43) إبراهيم) لا يرجع إليهم نظرهم كأنه يختلس النظر إختلاساً وقلوبهم هواء ليس فيها شيء، فراغ من شدة الفزع والرهبة، إستسلام بكلمات قليلة.
مشهد آخر كيف يدخلون النار أفواجاً فيدخل أشد الناس فجوراً يقتحمون النار إقتحاماً ثم يأتي فوج آخر أقل فجوراً فيقول تعالى في وصف تتالي الكفار في مشهد كأنك تراه (هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) ص) يخاطبون القادمين فيردوا عليهم (قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ) كل جماعة ترد على جماعة أخر فيقولون (قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ). ثم يصف لنا الحوار ثم كيف أنهم يبحثون عن المؤمنين الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا ويعتبرون أن دينهم شر ورسولهم شر فقالوا (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)) الدعاة الذين اتُّهِموا ظلماً وبهتاناً فهم يمثلون الإرهاب (إتخذناهم سخريا) كأنهم يبحثون عنهم في مكان آخر في جهنم، خلف شجرة الزقوم لأنهم ظنوا أنهم سيجدونهم معهم في النار. هذا مشهد تخاصم أهل النار (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ). إقرأوا كتاب مشاهد يوم القيامة لسيّد قطب لمزيد من هذه المشاهد وهذا الوصف.
لو أن الإنسان قرأ ووقف عند الصور سيستمتع بالقرآن ويعيش معه بصورة مختلفة وسيقرأ القرآن بلذة عظيمة. حتى بعض الكلمات في القرآن لم يستعملها أهل الأدب إلا بعد نزول القرآن. وصف القرآن الكفار لما يغشاهم العذاب يوم القيامة (وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) يونس) كأن الذي يغطي وجوههم ليس سواد المعصية وإنما قطع من الليل مظلماً كأننا قطّعنا ظلام الليل ووضعناه على وجه كل واحد منهم قطعة، أيّ وصفٍ للذُلّ الذي هم فيه يوم القيامة؟ من الذي يستطيع أن يصف هذا الوصف إلا خالق الليل؟
انظروا إلى قوله تعالى كيف وصف الكفار في تعاملهم مع القيامة (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) الإنسان) كيف ينسون يوم القيامة؟ لو يقل يوماً شديداً وإنما قال يوماً ثقيلاً والثقيل تستعمل للأشياء المحسوسة فكيف نزِن الليل والنهار؟ الله تعلى وحده سبحانه يزنهم، يقول هذا اليوم يوم ثقيل، يصف الوقت بالوزن. أي إعجاز وتصوير فني في القرآن؟!
ومن إعجاز القرآن في التصوير الفني جانب الإيقاع والفاصلة كأنه شعر ولكنه ليس بالشعر. ننتقل إلى موضوع النغم في القرآن والبعض يسموه الموسيقى. والرسول r أمرنا أن نتغنّى بالقرآن ونستعمل التجويد والمدود والغُنّة. القرآن بنفسه فيه هذا اللحن والإحساس بوجود الوزن ليس كبحور الشعر ولا السجع. القرآن لا يلتزم بالسجع وإنما تجد عدة سور للقرآن فيها هذا اللحن وهذا السجع وخاصة في السور القصيرة. في السور الطويلة تجده في مقاطع وتجد اللحن في السور المكية أما السور المدنية التي تحتاج لتفصيل يوجد فيها اللحن لكن بدرجة أقل من السور المكية. في اللقاء القادم سنتكلم عن هذا الموضوع وسنرى كيف لو غيرنا مكان كلمة كيف ينكسر اللحن.