سحر القرآن

سحر القرآن 6

اسلاميات

الحلقة 6

نتعرض لنفحة من نفحات القرآن لنتعرف على هذا السر الذي أسماه بعض الأدباء السحر وسماه الرسول r (إن من البيان لسحرا). ما هو السحر الذي سيطر على القلوب وحرك النفوس وبهر العرب قبل أن يكون هناك إعجاز علمي أو تشريع؟ ما هذا السر وما هذا السحر الذي سيطر على قلوب كل من سمع القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله r؟ الروعة التي تلحق قلوب سامعي القرآن عند سماع القرآن والهيبة التي تعتليهم عند تلاوة القرآن. هذه الحالة التي يعيشها أي إنسان يفهم العربية ويقرأ القرآن حتى كانوا يستثقلون سماع القرآن أما المؤمن فلا تزال هيبة القرآن تتجلى معه وتكسبه انجذاباً وهشاشة في القلب يلين لها، يقول تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍاللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) الزمر). كل إنسان يقرأ القرآن يجد ظاهرة ويقول الشيخ صالح آل الشيخ أن من مشاكل الناس مع القرآن أنهم لا يعرفون كيف يقرأون القرآن ولا يقصد أحكام التجويد لكن بمعنى أن كل إنسان له آيات معينة يتأثر بها أكثر من غيره فهناك من يتأثر بآيات النعيم ومنهم من يتأثر بآيات العذاب أو بالقصص القرآني أو بآيات العظمة ولذلك يسأل الشيخ كيف تقرأ القرآن؟ أي كيف نتلو القرآن فنركز على الآيات التي نتأثر بها أكثر فنتفاعل معها وأمر طبيعي أن يكون لكل منا سورة معينة يحبها. جاء الصحابة إلى رسول الله r يشكون أن أحد الصحابة وهو إمامهم في الصلاة يكرر قراءة قل هو الله أحد فسأله الرسول r لماذا يكررها فقال: يا رسول الله إني أحبها فلم ينهره الرسول r وإنما قال: إن الله أدخلك الجنة بحُبّك لها. فمن الطبيعي أن نتأثر بآيات معينة. من الآيات التي أحبها شخصياً هي آيات سورة النجم لما فيها من إشارات عظيمة إلى بداية الوحي ونزول جبريل r والإسراء والمعراج وتكذيب الكفار وعظمة الله تعالى وتهديد الكفار. النبي r ووجه بالكفار في بداية الدعوة فقد كانوا يمنعون المسلمين المستضعفين من تلاوة القرآن عند الكعبة والرسول r كان يستغل الفرص ليبلّغهم القرآن ومرة وقف الرسول r عند الكعبة فبدأ بصوت عالي يقرأ سورة النجم بصوته الرخيم وبقراءة تخرج من القلب (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)) وبدأ يتلو هذه الآيات على الكفار – الذين كانوا يندهشون من القرآن وما فيه من سجع ووزن لكنه ليس بشعر ولا بنثر – فبدأوا يتأثرون وتركوا الرسول r يتلو القرآن ويقرأ آيات سورة النجم.

 

سيد قطب في تفسيره الظلال يبيّن تأثير سورة النجم وبالذات عندما وصل النبي r إلى الآية الأخيرة في سورة النجم (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا {س}(62)).

 

أخذ النبي r يتلو سورة النجم على المسلمين الذين كانوا في مكة وعلى الكفار الذين – كانوا يمنعون المسلمين من تلاوة القرآن في الكعبة – تجمعوا حوله يريدون أن يسمعوا فهذه المرة أخذهم القرآن ببلاغته وفصاحته. آيات سورة النجم نزلت بعد الإسراء والمعراج لأن فيها تفصيلاً عن هذه الرحلة. النبي r يتلو عليهم هذا الوصف عن بداية الوحي ثم ما حدث له في الإسراء والمعراج (ما كذب الفؤاد ما رأى). الرسول r رأى جبريل r على صورته الحقيقية مرتين مرة في بداية الوحي ثم المرة الثانية عند سدرة المنتهى في رحلة المعراج. واستكر النبي r بقراءة الآيات من سورة النجم (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا {س}(62)) فسجد النبي r وسجد المسلمون وسجد الكفار تأثراً بهذه الآيات ولم يستطيعوا أن يقاوموا تأثير القرآن، صمتوا وأنصتوا خلال قراءة الرسول r للآيات ثم لما وصل إلى آخر الآيات سجد الجميع حتى سادة قريش وانتشر الخبر في الجزيرة أن قريشاً اسلمت حتى وصل الخبر إلى المسلمين المهاجرين في الحبشة فرجع بعضهم ومنهم عثمان بن عفان لأنهم ظنوا أن أمر قريش قد انتهى.

 

يقول سيد قطب في تفسير الآيات (النص منقول من الظلال): تعقيب على السجود والسيرة والتعليل فاسجدوا لله واعبدوا وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق وفي هذه الظلال وبعد هذا التمهيد الطويل الذي ترتعش له القلوب ومن ثم سجدوا سجدوا وهم مشركون وهم يمارون في الوحي والقرآن وهم يجادلون في الله والرسول سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول ص يتلو هذه السورة عليهم وفيهم المسلمون والمشركون ويسجد فيسجد الجميع مسلمين ومشركين لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن ; ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون بهذا تواترت الروايات ثم افترقت في تعليل هذا الحادث الغريب وما هو في الحقيقة بالغريب فهو تأثير القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب هذا الحادث الذي تواترت به الروايات حادث سجود المشركين مع المسلمين كان يحتاج عندي إلى تعليل قبل أن تقع لي تجربة شعورية خاصة عللته في نفسي وأوضحت لي سببه الأصيل لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود ويخطر لي احتمال أنه لم يقع ; وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة وهو أمر يحتاج إلى التعليل وبينما أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة التي أشرت إليها من قبل كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب يتلو سورة النجم فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل القرآن ترتيلا حسنا وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه عشت مع قلب محمد ص في رحلته إلى الملأ الأعلى عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة عند سدرة المنتهى وجنة المأوى عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي وتحلق بي رؤاي وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة التي تتهاوى عند اللمسة الأولى ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض وأمام الأجنة في بطون الأمهات وعلم الله يتابعها ويحيط بها وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة الغيب المحجوب لا يراه إلا الله والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد والحشود الضاحكة والحشود الباكية وحشود الموتى وحشود الأحياء والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى والنشأة الأخرى ومصارع الغابرين والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة ثم جاءت الصيحة الأخيرة واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فلما سمعت فاسجدوا لله واعبدوا كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقا إلى أوصالي واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي لم أملك مقاومته فظل جسمي كله يختلج ولا أتمالك أن أثبته ولا أن أكفكف دموعا هاتنة لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح وأن تعليله قريب إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع وكانت مني هذه الاستجابة وذلك سر القرآن فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة ; وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير فيكون منها ما يكون لحظة كهذه مست قلوب الحاضرين يومها جميعا ومحمد ص يقرأ هذه السورة يقرؤها بكيانه كله ويعيش في صورها التي عاشها من قبل بشخصه وتنصب كل هذه القوة الكامنة في السورة من خلال صوت محمد ص في أعصاب السامعين فيرتجفون ويسمعون فاسجدوا لله واعبدوا ويسجد محمد والمسلمون فيسجدون. ولقد يقال إنك تقيس على لحظة مرت بك وتجربة عانيتها أنت وأنت مسلم تعتقد بهذا القرآن وله في نفسك تأثير خاص وأولئك كانوا مشركين يرفضون الإيمان ويرفضون القرآن ولكن هنالك اعتبارين لهما وزنهما في مواجهة هذا الذي يقال الاعتبار الأول أن الذي كان يقرأ السورة كان هو محمد ص النبي الذي تلقى هذا القرآن مباشرة من مصدره وعاشه وعاش به وأحبه حتى لكان يثقل خطاه إذا سمع من يرتله داخل داره ويقف إلى جانب الباب يسمع له حتى ينتهي وفي هذه السورة بالذات كان يعيش لحظات عاشها في الملأ الأعلى وعاشها مع الروح الأمين وهو يراه على صورته الأولى فأما أنا فقد كنت أسمع السورة من قارئ والفارق ولا شك هائل والاعتبار الثاني أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة وهم يستمعون إلى محمد ص إنما كان العناد المصطنع هو الذي يحول بينهم وبين الإذعان. ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من محمد ص فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التي لا يملكون أنفسهم إزاءها وأن يؤخذوا بسلطان هذا القرآن فيسجدوا مع الساجدين

 

إذن سجود الكفار كان حقاً لأنهم عرفوا اللغة العربية وعاشوا معها وكان وقع الآيات عليهم مسيطراً.

 هذا سحر القرآن! هناك من يقرأ القرآن لينهي صفحات وهناك من يقرأه ليعيش المتعة الروحية والعقلية فيكون بالله ومع الله ولله. إقرأوا القرآن وعيشوا مع سحر القرآن واستجيبوا بتغيير حياتكم لتوافقوا القرآن.