(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا (92) النساء) انظر إلى هذا الابتداء الذي يهوّل به الله سبحانه وتعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم ولذلك جعله في حيّز ما لا يكون فبدأه بالنفي والحصر في الخطأ بـ (إلا) فقال (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا). (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (92) النساء) علّ سائلاً يقول لِمَ جعل تحرير رقبة العبد ديّة للقاتل وهذا لا يعود على أهل الميت؟ إن تحرير الرقبة جعله الله تعالى بدلاً من تعطيل حق الله تعالى في ذات القتيل فإن القتيل عبدٌ من عباد الله تعالى ويُرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه فلم بخلو القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف. وأمر آخر نبّهت عليه هذه الآية هو أن الحريّة حياة والعبوية موت فمن تسبب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبدة.
(فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ (92) النساء) لِمَ اقتصرت الكفارة هنا على تحرير الرقبة دون دفع الديّة لهم؟ لأن الدية جبر لخاطر أولياء الدم فلما كانوا أعداء الله تعالى لم تكن حكمة في جبر خواطرهم.
(فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً (96) النساء) لِمَ ذكر ربنا سبحانه وتعالى منزلة المجاهدين جمعاً بقوله (درجات) بعد أن ذكره مفرداً (درجة)؟ جمع ربنا سبحانه وتعالى منزلة المجاهدين وفضّلهم على القاعدين عقب قوله (وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) ليبيّن عظمة منزلتهم ودرجتهم ولئلا يظن المرء عندما يسمع تفضيلهم بدرجة أنهم علوا عنهم درجة واحدة وحسب بل هي درجات ومنازل وأجر عظيم.
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ (97) النساء) (توفاهم الملائكة) أي تقبض أرواحهم فلِمَ عدل ربنا سبحانه وتعالى عن التعبير بـ(يموتون) إلى (توفاهم الملائكة)؟ عبّر الله تعالى عن وفاة الظالمين بقوله (تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ) لما في هذه الصورة من مهابة الموقف والرهبة منه فقبض الملائكة وسيلة تبين شناعة فتنتهم عند الموت.
(وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ (102) النساء) الأمر الطبيعي للمجاهد أن يكون مستلاًّ سلاحه حاملاً له فكيف جاء الأمر للمجاهدين بأخذ السلاح حين شروعهم بالصلاة مع أن الأمر أُريد به النهي عن طرح الأسلحة؟ عبّر الله تعالى عن عدم طرح الأسلحة للمجاهدين حين يشرعون بالصلاة بقوله (وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ) للإيذان بضرورة الحذر من الكافرين وللتنبيه على ضرورة اليقظة وعدم التساهل في الأخذ بالأسباب.
(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً (102) النساء) شأن كل محارب أن يتمنى الغفلة من عدوّه فلِمَ خصّ الله تعالى ودّهم في هذا الموقع؟ أراد الله تعالى أن ينبّه المؤمنين إلى أن أعداءهم لديهم ودٌ وأمل قريب في وقوع الغفلة منهم ظانّين أن اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين كصالح دنياهم فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم فنبّه الله تعالى المؤمنين إلى ذلك كي لا يكونوا عند ظنّ المشركين.
(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ (105) النساء) أراد الله سبحانه وتعالى بقوله (بِمَا أَرَاكَ اللّهُ) أي بما عرّفك وأوحى إليك فلِمَ عدل عن اللفظ الحقيقي؟ لقد سمّى الله تعالى معرفة النبي r للمسألة رؤية لأنه علمٌ يقيني لا ريب فيه ولا شك وكأن هذا العلم مُشاهَد له ولذلك أجراه مجرى الرؤية في القوة والظهور.
لطيفة: كان عمر رضي الله عنه يقول: لا يقولنّ أحدٌ قضيت بما أراني الله تعالى فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيّه r وأما الواحد فينا فرأيه يكون ظنّاً ولا يكون علماً.
(وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110) النساء) كيف يجد المستغفر الرحمة والمغفرة حتى قال الله تعالى عنها (يجد الله غفوراً رحيماً)؟ هذا من باب التوكيد فأنت تقول عن شيء وجدته إذا ظفرت به وشاهدته ولذلك عبّر الله تعالى عن تيقّن مغفرته للمستغفر بقوله (يجد) ليكون المؤمن واثقاً من رحمة الله تعالى ومغفرته لطالِبِها بحقّ.
(وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (112) النساء) تأمل كيف صوّر ربنا تعالى ذاك المرء الذي يلقي مخالفاته وعصيانه على الآخر صورة شخص يحمل الإثم والبهتان وهذا تمثيل لهيئة مرتكب الإثم وكأنه مثقلٌ مُنهك من عناء الحِمل والثقل الذي يحمله وهذا يوضح لك عظمة هذا الوزر والبهتان الذي حاق به.
(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى (115) النساء) انظر إلى قوله تعالى (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) حيث عطف هذا الاتباع على مشاقة الرسول r مع أنه من شاقّ الرسول r فقد اتبع غير سبيل المؤمنين فما فائدة هذا العطف؟ في هذا العطف تأكيد على روابط الآصرة الإسلامية وفي عطف إتباع غير سبيل المؤمنين على مشاقة الرسول r الحيطة لحفظ الجامعة الإسلامية بعد الرسول r فقد إرتدّ بعض العرب بعد الرسول r فكانوا ممن اتبع غير سبيل المؤمنين ولم يشاقوا الرسولr.
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (116) النساء) لو وقفنا عند قوله تعالى (فقد ضلّ) لعلمنا جزاء المرشك وهو الضلال المستحق للعذاب فلِمَ أكّده بقوله تعالى (ضلالاً بعيداً)؟ إن غاية هذا التأكيد هي تحذير المؤمنين من مغبة الضلال ولذلك عبّر عن الضلال بالبعيد جون الكبير أو العظيم للدلالة على قوة هذ الضلال حتى لا يُرجى لصاحبه الاهتداء فكلمة بعيد توحي بإبعاد المرء عن غايته وتقصيه عن الرجوع إلى حيث صدر.
(إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا (117) النساء) لِمَ خصّ دعوة المشركين للإناث من الآلهة ولم يقل إن يدعون من دونه إلا أصناماً؟ انظر إلى هذه السخرية والتهكم بمعتقدهم فقد خاطبهم الله تعالى بما يعتقدون ويتصرفون فهم ينظرون إلى الإناث نظرو دون وكل الناس يعلم حالة المرأة بينهم فقد حرموها من حقوق كثيرة واستضعفوها ومع ذلك اتخذوا من الأنثى آلهة بل هي أكبر آلهتهم اللات والعزى ومناة ولذلك نعى على العرب أن يصدر منهم مثل هذه التصرفات.
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (125) النساء) انظر إلى هذا الاستفهام الذي يهز ضمائر المنحرفين الشاذّين عن هدى الله تعالى فهو استفهام إنكاري أراد الله تعالى أن يوجه من خلاله أنظار الناس إلى سبب اتخاذ الإسلام دون غيره ديناً فايس ثمة دين أحسن من الإسلام الذي يأمر أتباعه بالإحسان والتقوى.
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله (125) النساء) لِمَ خصّ الله تعالى إسلام الوجه وهو جزء من الإنسان ولم يحذف كلمة (وجهه) ليشمل المرء الذي منه الوجه بدهياً؟ تأمل هذه الكناية في كلمة (وجهه) فقد صورت تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية لأن الوجه أشرف الأعضاء وبه كان الإنسان إنساناً فعبّر الله تعالى عن إذعانك لأوامره بامتثال وجهك الذي هو أشرف أعضاء جسدك.
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ (127) النساء) انظر إلى هذا التبشير للسائل المتحيّر (قل الله يفتيكم فيهن) وكأن الله تعالى يقولو له قد وجدت طلبك فكن مستبشراً وذلك قدّم إسمه الشريف (قل الله) ولم يقل قل يفتيكم الله للتنويه بشأن هذه الفُتية وعِظمها.
(وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ (131) النساء) انظر إلى هذا التناسب بين آي القرآن فالآية الأولى فيها إشارة إلى إغناء الله تعالى كُلاً عن صاحبه فناسب أن تبدأ الآية الثانية بإظهرا ملكوت الله سبحانه وتعالى. فمن له ما في السموات وما في الأرض قادر على أن يغني كل أحد من سعته وهذا كناية عن عظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى.
(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131) النساء) لِمَ ذكر ربنا سبحانه وتعالى أمره لأهل الكتاب بالتقوى ثم عطف المسلمين عليهم؟ ولو قال: ولقد وصينا المؤمنين أن اتقوا الله ليشمل كل مؤمن منذ أن وُجِد الإنسان على الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ إن الإخبار بأن الله تعالى أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل مقصود منه إلهاب هِمم المسلمين وحثّهم على بلوغ تقوى الله تعالى لئلا تفضلهم الأمم التي من قبلهم من أهل الكتاب وبديهي أن الإنسان إن وُضِع ميزان التفاضل لا يقبل أن يسبقه أحد إلى خير أبداً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (135) النساء) تأمل قوله تعالى (قوامين بالقسط) حيث جاءت كلمة قوامين صيغة مبالغة تدل على الكثرة ولم يقل كونوا قائمين بالقسط ليحضّنا على عدم الإخلال بهذا القيام بالعدل في حال من الأحوال.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ (136) النساء) جاء في صلة وصف الكتاب المنزّل على محمد r بصيغة التفعيل (نزّل) بينما جاء في صلة وصف الكتاب المنزّل من قبل خالياً من التضعيف (أنزل) فلِمَ خصّ القرآن بالتضعيف؟ إنما خصّ الله تبارك وتعالى القرآن بصيغة نزّل التي تدل على التضعيف لأن القرآن حينئذ كان يتنزّل على قلب محمد r بينما التوراة يومئذ كانت قد انقضى نزولها.
(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) النساء) انظر إلى هذا الأسلوب الأدبي الذي سلك مع المنافقين مسلك المشاكلة فالمنافق الذي يتظاهر بالإيمان ويُبطن الكفر يتهكم بالاسلام وأهله ولذلك جاء ربنا في جزاء عملهم بوعيد مناسب لتهكمهم بالمسلمين فبدأ هذا الجزاء بفعل بلغ في التهكم والسخرية منهم مبلغاً عظيماً فقال (بشر المنافقين) وبماذا ستكون البشارة؟! بجنة عرضها السموات والأرض لأن البشارة خبر بما يُفرِح؟! لا، بشّرهم بأن لهم عذاباً أليماً وفي هذا غاية التهكم والسخرية منهم.
(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (141) النساء) تأمل هذا المشهد الحسي الذي يرصد حركة المنافقين وكأنك ترى تقلبهم وتمالؤهم في صورة منفّرة مزرية فها هم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكافرين بوجه ويمسكون العصا من وسطها ويتلوّنون كالثعابين. فكم يفعل الفعل (يتربصون) في النفس مشاعر الكره والنفور من هذه الطائفة أكثر مما يبعثه الفعل (يترقبون).
(مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء (143) النساء) تأمل أسرار القرآن. أن تقرأ عبارة فترسم لك فكرة، هذا أمر معلوم ولكن القرآن تجاوز هذا إلى الكلمة المعبّرة. ألا ترى كيف استخدم القرآن كلمة (مذبذبين) ليعبّر عن شدة خوفهم واضطرابهم ولو ذهبت تضع مكانها أي كلمة لما أدّت المعنى المطلوب فهي تدل على الاضطراب والتعجّل من جهة المعنى وتفيد الكثرة من خلال تكرار الأحرف.
(لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ (148) النساء) استعمل القرآن كلمة الجهر بالسوء والجهر هو ما يصل إلى أسماع الناس فنُهينا عن التلفظ بالكلام السيئ وقيّده بالقول لأنه أضعف أنواع الأذى فدلّنا ذلك على أن السوء بالفعل أشد تحريماً لأنه أشد من القول.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ (150) النساء) انظر إلى كلمة (يكفرون) فقد استعمل القرآن كلمة يكفرون بصيغة المضارع ولم يستعمل لفظ كفروا بصيغة الماضي لينب!هنا إلى أن أمر الكفر منهم متجدد وفيهم مستمر لأنهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لما كانوا أحرياء بالذمّ وصبغهم بصفة الكفر وجعلها سربالاً لا يغادرهم.
(أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا (151) النساء) جعل المبتدأ والخبر معرفة فقال (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) فقد عرّف جزئي الجملة أي إسم الإشارة أولئك والخبر الكافرون لتأكيد قصر صفة الكفر عليهم. تقول لإنسان أنت بطل أي هو بطل من بين الأبطال أما إن قلت له أنت البطل فهذا يعني أنك جعلت البطولة له دون غيره لما رأيت من صفات البطولة لديه. كذلك عندما نقول أولئك هم الكافرون فهذا يعني أننا نزلنا غيرهم من الكفرة منزلة العدم لما تمتع به هؤلاء من أوصاف الكفر ووجه هذه المبالغة هو أن كفرهم قد اشتمل على أحوال عديدة من الكفر وسفاهة في الرأي حيث أن كل فِعلة لهم إذا انفردت هي كفر فكيف بها إذا اجتمعت؟
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ (153) النساء) لو وقفنا عند هذه الآية لرأينا أن هذه الآية صُدّرت بفعل مضارع (يسألك) بغية استحضار حالتهم في هذا السؤال حتى كأنك تعيش معهم وتراهم وأتى الفعل بصيغة المضارع (يسألك) للدلالة على تكرار السؤال وتجدده منهم المرة بعد الأخرى بقصد التحدي والاعجاز ولذلك قال تعالى بعدها (فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ).
(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ (155) النساء) قف وتأمل آيات الله تعالى واجعل قلبك صندوقاً يحوي آيات من القرآن ويعيها حتى لا يختم الله سبحانه وتعالى على قلوبنا ويجعلها مغلقة كما ختم على قلوب من كفروا فقال تعالى عنهم (بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ). والطبع هو إحكام الغلق بحيث لا ينمكن أمر من ولوج ذلك الشيء إلا بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به وكذلك طبع القلب هو إحكام إغلاقه بحيث لا يدخل إليه خير ولا يخرج منه خير ولا معروف.
(لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ (162) النساء) وقفة نحوية: لعله يسترعي الإنتباه قوله تعالى (والمقيمين الصلاة) حيث وقعت كلمة المقيمين منصوبة بالياء وفي الظاهر هي معطوفة على إسم مرفوع وهو قوله تعالى (والراسخون) فلم نُصِبت وحقّها أن تُرفع؟ هذه طريقة العرب في عطف الأسماء الدالة على صفات محامد على أمثالها فينصبون الإسم لتخصيصه من بين المعطوفات بالمدح. فنقول مثلاً: جاء القائد المظفّرا لتلفت نظر القارئ والسامع ولتبيّن له سمة خاصة في هذا القائد فتقدّر فعلاً محذوفاً أي أمدح المظفرا. وكذلك الآية الكريمة أي يمدح المصلين لما للمصلين من فضل وعلو شأن عند الله تعالى.
(وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) النساء) لو قرأنا قوله تعالى (وكلم الله موسى) لفهمنا أن الله تعالى قد وقع منه الكلام لموسى u فلِمَ ذكر تعالى المصدر تكليماً؟ ذكره لأن المعنى يحتمل التكليم المباشر أو عبر جبريل u فلما أتى المصدر تكليماً أكّد تكليم الله تعالى لموسى u بحيث لا يحتمل أن الله تعالى أرسل إليه جبريل بالكلام.
(لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ (166) النساء) في الآية إستدراك وإعلاء لمنزلة النبي r فانظر إلى مقام النبي r وشرفه فالله تعالى يخاطبه لئن لم يشهد أهل الكتاب على صدق نبوتك فالله قد شهَد بذلك وشهادة الله تعالى خير من شهادتهم ومن أعظم من الله شاهدا؟
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (167) النساء) وصف الله تعالى الضلال بالبعيد فما صلة البُعد بالضلال؟ ولِمَ لم يصفه بالكبير؟ إن المرء يسير في طريق الضلال ليقطع أشواطاً وأشواطاً في هذا الطريق وكلما سار في ركابه غاص في أعماقه وابتعد حتى يغدو في قعر الضلال وأعماقه ويبتعد في قعره وفي هذا بيان عن شدة ضلالهم بحيث لا يُدرَك.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (169) النساء) في الآية (إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ) هذا الاستثناء فيه تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه فمثلاً تقول لا خير في الظالم إلا إستغلال المظلوم. فعندما أتينا بـ (إلاّ) وما بعدها يشعر المستمع وكأننا نريد أن نستدرك ونمدح الظالم بشيء ولكن الكلام يتابع تأكيد ذمّه. كذلك قوله تعالى (إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ) فالكلام هنا مسوقٌ للإنذار وفيه تهكّم لأنه استثنى من الطريق في قوله تعالى (وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) والاقحام لهم في طريق جهنم ليس بهديٍ لأن الهدى هو إرشاد الضالّ إلى المكان المحبوب وأنّى لطريق جهنم أن يكون محبوباً!
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ (171) النساء) الغلو مأخوذ من غلوة السهم وهي منتهى اندفاعه واستُعير للزيادة على المطلوب من المعقول. فالغلو في الدين تجاوز الحد المألوف بحيث يُظهِر المتدين ما يفوق حدود الدين فالنصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحد إلى دعوى ألوهييته أو كونه ابن الله.
(لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ (172) النساء) الاستنكاف التكبّر والامتناع بأَنَفة فهو أشد من الاستكبار. ونُكّرت كلمة (عبد) ولم تضف إلى الله أي لم يقل عبد الله لأن التنكير أظهر للعبودية أي عبداً من جملة العبيد ولو قال عبد الله بالاضافة لأوهمت الإضافة أنه عبد الله الخصيص لله وحده.
(وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (173) النساء) تيئيساً لهم فقد عُرِف عند العرب وغيرهم من أمم ذلك العصر الاعتماد عند الضيق على الأولياء والنصراء ليكفّوا عنهم المصائب.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ (175) النساء) الدخول في الشيء يتطلب مكاناً يمكنك من ولوجه فهل الرحمة مكان يُدخَل؟ ولِمَ قال فسيدخلهم في رحمته ولم يقل سيمنحهم رحمته؟ هذا غاية الرضى والرحمة ألا ترى كيف صوّر الله تعالى الرحمة على هيئة جرم ومكان يحوط أهله ويغمرهم ويعمهم بالرحمة حتى يشمل كل جزء منهم.