قبسات من روائع البيان

قبسات من روائع البيان – سورة الحجر

اسلاميات

سورة الحجر

يقول تعالى (الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1)) نُلاحِظُ كيف أتى ذِكرُ الكتابِ والقرآنِ مع أنَّ المُرادُ واحِد ، إضافةً على تقديمِ الكتابِ على القرآن ؟ ذلك لأن سياقَ الكلامِ كَما سيأتي في الآية التي تليها (رُبَمَا يَودّ الذّينَ كفروا لو كانوا مُسلِمين (2)) فيه خِطابٌ للكافرين وهُم مِمّن أنكَروا القرآنَ جُملَة وتفصيلاً، لِذلِك ذُكِرَ الكِتاب لِأَنّهم طَلَبوا نُزًولَهُ في آياتٍ كثيرةٍ كَقَولِه تعالى على لِسانِهم (لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ (157) الأنعام)، ثم عَطَفَ عليهِ القرآنَ مِن بابِ عَطفِ الخاصِ على العامِ  لِيُشِيرَ إلى أن الكتابَ المُنزَّلَ على قَلبِ النَّبي صلّى الله عَليه وسلّم هو القرآن الكريم وسيأتي يومٌ يَتَبَيَّنُ لهم صِدقُ ما جاءَ بِه وعِندها  سَيَتَحسَّرُون على كُفرِهم وعَدمِ إِسلامِهِم .

ويقول عَزَّ مِن قائل (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)) فلنتأمل هذه الغَطرَسة التي فُطِرَ عليها الكافرون فلم يقولوا (يا أيّها النّبي) أو(يا أيّها الرّسول) ذلك لأنهم لم يعترفوا بِنُبُوّته صلّى اللهُ عليه وسلّم ورسالته بل قالوا (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) مُرِيدين التَّهكّم والسّخرِية، ثمّ أعقَبُوا ذلك بقولهم (إِنَّكَ لمَجنون) في هذا استهزاءٌ بِقَــدَرِه ِصلّى اللُهُ عليهِ وسلّم لكنّ اللَه عزّ وجلّ أُنـزَلَ ما فيه تسلِية لِقَـلبِ نبيّه صلّى اللهُ عليهِ وسلّم وتعظيمٌ لِقَـَدِرِهِ ومَنزِلَتِهِ فقال (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) القلم).

ويقول تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) لِنَنظُر كيف أَوْكَلَ اللهُ حِفْظَ القرآنِ الكريمِ من التَّلاشي والزِّيادة والنّقصان والتّبديل والتَّغيير إلى نفسهِ ولم يعْهَدْ بذلك إلى أحد لأَنّ اللَه سبحانهُ وتعالى عندما أَوكَلَ حِفظ التّوراة والإنجيل إلى الأحبار والرُّهبان بقوله (بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ (44) المائدة) ضاعَ مُعظمَها ثمَّ دخل عليها التّبديل والتَّغيير، ثمّ إنَّ حِفظَ اللهِ للقرآنِ فيه تنويهٌ إلى عظيمِ شَأنِ القرآن وتحدٍّ للمشركين بأنّه سيبقى على مرِّ الأزمانِ لا يأتيه البَاطِلَ مِن بَينِ يَديه ولا مِن خَلفِه .

يقول تعالى (وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18)) لِنتأمل هذا التّصوير البلِيغ والتّعبير الموحي، حيث قال تعالى (إِلّا مَن استَرق السّمعَ) ولَم يَقُل (إِلّا مَن استَمَعَ أو أَنصَتَ أو أَصغَى) وذلك لِلدلالة على إِحكامِ السّماءِ مِن اطّلاعِ الشّياطينُ على ما لَم يُرِدِ اللهُ اطِّلاعِهِم عليه، فالإستِماع والإنصات والإصغاء يَدُلُّ على تَمَكُّنِ المُستَمِع مِن الحدِيث مع هدوءٍ واستقرارٍ يَسمَحانِ لَه فَهمُ ما يُقال، لَكِن إِستراق السَّمع يَدُلّ على التَّكَلُّفِ وعَدم إستِقرار حالةِ المُستمِعِ جَسَدِيّاً وَنَفسياً مِمّا يَجعَله في تَوَتّرٍ لا يَسمَحُ بِحُسنِ الإستِماع وإِدراكِ الفَهمِ والفائِدة.

ويقولُ تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)) لِننظُر كَيفَ أَسنَدَ اللهُ فِعلَ التّسوِيَة ونَفخِ الرّوحِ إِلى ذاتِهِ سُبحانَهُ وتعالى وذلك لِتشريفِ الإنسانِ وبَيان مَنزِلَتَهِ وتَكرِيمَهِ وتَفضِيلَهِ على سائِرِ المَخلُوقاتِ، ولِلإِعلام بِأَنّ شَرَفِ المَوجودات بِمزاياها لَا بِمادَةِ تَركِيبها كَمَا ظَنّ إِبليسُ الرّجيمُ حِينَ رَفَضَ السّجُودَ لِآدمَ عليه السّلام.

ويقولُ اللهُ تعالى (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)) نُلاحِظ كَيف أُدخِلَ تَوكيدٌ على تَوكيدٍ ولَم يَكتَفِى بِأَحدِهِما، فَلَم يَقُل سُبحانَهُ وتعالى (فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُم) أَو (فَسَجَدَ المَلائكةُ أَجمَعون) بَل قال (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وَذلك لإظهار مَدى طاعَةِ المَلائِكَة، فالتّوكيد {كُلُّهُم} دَلَّ على اجتِمَاعٍ مكانيٍ، والتَّوكيد {أجمعون} دَلَّ على إجتِماعٍ زمانيٍ، وبذلك تَظهَرُ طاعَةِ المَلائِكة لِأمرِ رَبِّها عزّ وجَلَّ حَيث سَجَدُوا مُجتَمِعينَ في آنٍ وَاحدٍ لَم يَتَخَلّف مِنهُم إِلّا إِبلِيسُ الرّجيمُ.

يقول الله عزّ وجلّ على لِسانِ إبليس الرّجيم (قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)) لِنَتأمَّل هذا السَّبَكَ العجيب وهذه الزِّيادةَ الغرِيبةَ المُلفِتةَ للنّظرِ حيث قال تعالى على لسانِ إبليس (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُم في الأَرضِ)، فما الداعي من ذكر(الأرض) مع أن آدم عليه السلام كانَ حديثِ عهدٍ بالخَلقِ، وقد أَمَرَ تعالى الملائكةَ بِما فِيهم إِبليس بالسُجُودِ لَهُ قَبلَ أَن يَكُونَ هناك هُبُوطً لِآدمَ عليه السلامَ إِلى الأرضِ؟ ذلك للدلالة على أنَّ إبليس قَد اكتَسَبَ شيئاَ مِمّا أَرَادَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن أَخبَارِ العالَمِ العُلوِي قَبلَ عِصيَانِهِ وعِندَما عَصَى أَخرَجَهُ رَبُّنا سُبحانَهُ وتعالى مِنَ الجَنّة فارتَبَطَت عِندَهُ الغِوَايَةِ بالنُّزُولِ إِلى الأَرضِ وهذا ما حَصَلَ فِعلاً عِندما عَصَى آدمُ رَبَّهُ مُصغِيَاً إلى كلامِ الشَّيطان فقالَ تعالى (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة)

ويقول تعالى (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)) نُلاحِظ أَنَّ كَلِمَةَ (الغَاوِينَ) لَم يُقصَدُ بِها مَن كان غَاوِيا ًمُسبَقاً، لِأنَّهُ لَو كانَ غاوِياً بالفعلِ لَم يَكُن لِسُلطَانِ الشَّيطَانِ عَليهِ فائدة، إنَّما قَصَدَ مَن كان عِندَهُ قَبُولٌ لِلغِوَاية ومَن كان مُهَيَّاً لِتَسَلُّطِ الشَّيطانُ عليه

ويقولُ اللهُ عزَّ وجلّ (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ (47)) لِننظُر كَيفَ قالَ اللهُ تباركَ وتعالى {ونَزَعنَا} ولم يقُل (أَخرَجنَا) أو (سَلَبنَا) وذلك لِلدلالة بِأَنّ (الغِلَّ) قد استَحكَمَ في قُلُوبِهِم حتى صَارَ بحاجةٍ إلى قُوةٍ لاستِخرَاجُه وهذا ما دَلَّ عليه الفعل (نَزَعَ) مِن تَكَلُّفِ الجَهدِ والمَشَقّةِ .

يقول عز من قائل على لسان الملائكة (قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55)) تبصّر كيف خاطب الملائكة سيدنا إبراهيم عليه السلام منبِّهين له ألا يكون قانطًا فمن يقنط من رحمة الله عز وجل فهو في عداد الضالين كما ذُكِر في الآية التي بعدها وذلك لأنه لما استبعد بشارة الملائكة له بغلام حليم استبعاد المُتعجِّب ظهر وكأن في نفسه شيء من التردد قَرُب حاله من حال اليائسين من أمر الله سبحانه وتعالى.

ويقول تعالى على لسان الملائكة مخاطبين لوطًا عليه السلام (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ (65)) من عادة القائد والدليل وكبير القوم أن يسير في مقدمة القوم فلماذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه لوطًا عليه السلام بالسير خلف أهله؟ ذلك ليكون حائلًا بينهم وبين العذاب الذي سوف يحل بقومه بعد خروجه ثم إنهم أُمروا بعدم الالتفات فبما أنه وراءهم فهذا يعني تخويفهم من الالتفات لأنه يراقبهم من خلفهم.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (84)) تأمل كيف قال رب العزّة (فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) ولم يقل فما أغنى عنهم ما كسبوا وذلك للدلالة على تجدد الكسب منهم وتكراره مما يدل على إتقان الصنعة وشدة العناية التي أولوها لبيوتهم كما أشار في الآية السابقة (وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82))

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)) تدبر كيف عدل القرآن عن ذكر لفظ الجلالة صريحًا فلم يقل إن الله هو الخلاق العليم بل قال (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) وذلك لإظهار مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند خالقه تبارك وتعالى ولتسلية قلبه عليه الصلاة والسلام عند إحساسه أنه محط اهتمام وخطاب من ربه سبحانه وتعالى فهو خالقه ومدبر أمره لعلمه بصالح شأنه وصلاح حاله.

(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)) تأمل كيف آثر ربنا الفعل (آتيناك) على غيره من الأفعال فلم يقل أوحينا أو أنزلنا أو غير ذلك لأن الفعل (آتيناك) فيه من الملاصقة والقرب ما يشهد بعظيم منزلته صلى الله عليه وسلم وشرف قدره عند ربه تبارك وتعالى ولأنه أدلّ على الإكرام والمنة التي خصّه الله بها

(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)) تبصر هذه البلاغة القرآنية في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى خفض الجناح ذلك لأن الطائر يخفض جناحه ليقترب من شيء يحبه أو عندما يريد حضن فراخه من أيّ أذى إشعارًا بالخوف والعطف عليهم وهذا الدور الذي أسنده رب العزة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون بمنزلة الأب الراعي والمعلِّم الواعي الذي يربي النفوس ويهذب العقول ويحنّ على الصغير ويعطف على الكبير مما أنتج ذلك النشأ البارّ من آله الطاهرين وصحابته الميامين والتابعين الصالحين.