سورة الكهف
(وَيُبَشِّرَ الْمُؤمِنِينَ الّذِّينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أنَّ لَهُمْ أجْرًا حَسَنًا (2) مَكِثِينَ فِيْهِ أبَدًا (3)) إنّ المُكثَ هو الاستقرارُ في المكان، فهل يمكثُ الإنسانُ في الأجرِ الحَسَن؟ هذا من براعةِ التصويرِ القُرآني، فجعل الأجرَ الحَسَنَ بما فيه من المَلَذَّاتِ والثّوابِ والنّعيمِ كالوِعاءِ الذي استقرَّ فيه المؤمنون، والأجرَ الحسن يُحيطُ بهِ من كلِّ جانب لا يُفارِقُهُم طرفةَ عَين، فكلُّ جُزْءٍ منهم يَعُمُّهُ الثّوابُ والنَّعِيمُ.
(مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍٍ ولَا لِأَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةًً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِم (5)) كلمة {كَبُرَتْ} تصوِّرُ هذه الكلمة عِظم الوِزْرِ الذي يَنطِقونَ بهِ، فهم يتكلَّمونَ بكلام هذا الكلام يكبُرُ ويكبُر وهو يخرجُ من فِيهِم لِما فيه من الإسفافِ والشَّنَاعة.
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيْثِ أَسَفًا (6)) لننظر إلى هذا التمثيلِ لِحالِ النبي صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم الشَّفُوقِ على الناس، فقد مَثَّـلَ ربّنا شدَّةَ حرصهِ على اتِّباعِ قومُهُ له، وشّةِ غَمِّهِ مِن إعراضهم ونُفورهم ، بحالِ مَن فارقَ أهلهِ وأحبَّتهِ، فهو يَرَى آثارَهم وبقايا ديارهم فَيَتَفَطَّرُ حُزْنًا وكَبَدًا على مُفارقاتهم، ويكادُ يُهْلِكُ نفسَهُ وَجْـدًا عليهم .
(فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)) إنَّ البيانَ الإلهي يَبْهَرُ الأبصارَبدقَّتهِ واختصارِهِ، كيف عبَّرَ اللهُ عن نَومِ أهلِ الكهفِ بالضربِ على الآذان، فقد شبَّهَ إنامَتُـهُم الثّقيلة بِضَرْبِ الحِجَابِ على الآذان كما تُضْـرَبُ الخَيْمةُُ على السُّكَّانِ، كل هذا ليُبَيِّنَ لنا أنَّ نَوْمَتَهُم كانت ثقيلة، وهذا يَلْزَمُ منه عدم السّمْع.
(وَكَذَلِكَ بَعَثْثَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ (19)) رَقَدَ أهلُ الكهفِ سنينَ طِوَالًا، ثمّ بعثَهُم ُاللهُ مِن رُقَـادِهِمْ، فلِمَ ابْتَدَأ بِعْثَتَهُم مِن نَوْمِهِم بالإشارة فقال {وَكَذَلِك}، ولم يستعمل حرف العطف (ثمّ) الذي يدُلُّ على التراخي في الزَّمن؟ استعملَ اسمَ الإشارة {كَذَلِك} مع حرف العطف (الواو) للتنبيهِ على أنّ إنامَتَهُم وكيفِيتَها كانت كَبِعْـثَـتَهم، ووجْهُ الشّبَه لأنَّ في الإفاقَةِ آيةََ عَظَمَةٍ على قُدرةِ اللهِ تعالى مِثْلُ آيةِ الإنامَة.
(وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)) أكَّدَ أصحابُ الكهفِ على صاحبهم بأن لا يُشْعِـرَ بهم أحدًا بنونِ التوكيد فقالوا{وَلَا يُشْعِرَنَّ}، وهذه النُّون يمكن حذفُها وبيقى النَّهي، ولكنهم آثَرُوا تأكيدَ النهي بالنُّون، وهذا يَعكِسُ حالةََ الخَشْيَةِ التى أصابتْهُم من بطشِ قَومهم بِدليلِ قولهم {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ}.
(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعُلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌٌّ (21)) لِمَ عبّر ربّنا عنِ اكتشافِ مَخْبإهِم (بالعثور) ولَمْ يُعَبِّر عنه (بالكشفِ) أو (الظهور) أو (الاطِّلاع) ؟ العُثُورِ على الشئ هو الاطِّلاعُ عليه والظَّفَرُ به ولكن بعدَ دَأْبٍ وطَلَب، وقد كان الحديثُ عن أهلِ الكهفِ في تلك المدينة يّتَناقَلُهُ أهلُها، فيسَّرَ اللهُ لِأهلِ المدينة العثور عليهِ بعدَ حِرصٍ منهم على معرِفةِ خَبَرِهم ولذلك عبّرَ عن معرفة مكانهم بالفعلِ {أَعْثَرْنَا}
(سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالغَيْبِ (22)) إذا قرأتَ كلمة (الرَّجم) ماذا تفهمُ منها؟ ألا يَتبادرُ إلى ذهنكَ الرَّمْيُ بالحجرِ ونحوهُ؟ فلمَ قال ربُّنا {رَجْمًا بِالغَيْبِ} إذا كان الرجمُ هو الرميُ بالحجر؟ إنّ الرجم لا يتطلَّبُ تَـثَبُّتًا مِن صاحبه، بل تراهُ يُلْقي الحجرَ تِلْو الحجر، فإن لم يُصِبْ الأول أصابَ الثاني وهكذا دأْبُه، وكذلكم شأنُ المُتَنَطِّعين في عِدَّةِ أصحابِ الكهف، فهم يُلْقُونَ بالعددِ جُزَافًا دُونَما عِلم، فكأنهم يَرْمونَ بالغَيب عَلَّهُم أن يُصِيبُوا العَددَ الصَّحيح، فإن لم يُصِبْ هذا العدد أصابَ ذاك كما هو حالُ رَاجمِ الحجارة.
(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)) لِمَ قالَ ربُّنا {وَازْدَادُوا تِسْعًا} ولَمْ يَقل (ثلاث مائةٍ وتسعَ سنين)؟ إنّ نكتةَ التعبير عن التسع سنين بالازدياد للإشارة إلى التقديرِ بالحسابَين الشمسيِّ والقمري، إذِ التفاوتُ بينَ أيامِ السنةِ القمريةِ وأيامِِ السنةِ الشمسيةِ يحصلُ منهُ سنةٌٌ قمريةٌٌكاملة في كلِّ ثلاثَةٍ وثلاثينَ سنةٍ شمسيَّة، فيكونُ التفاوتُ في مائةِ سنةٍ شمسية بثلاثِ سنينَ زائدةٍ قمريّة، فهذا التعبير {وَازْدَادُوا تِسْعًا} يدلُّ على عظمةِ القرآن وإعجازِهِ العلميّ.
(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا (29)) ننظر إلى هذا المشهد المُروِّع، مشهد النارِ وهي تتأجَّجُ وتتضوَّر جوعًا في هيئةِ السُّرادِقُ وهي تُحيطُ بالظالمين وكأنَّها المنزِل، وإنَّما شبَّه ربُّنا دار استقرارهم في الآخرة بالسُّرادق تَهكُّمًا واستهزاءً بهم لأنهم لا يستحقُّونَ أكثر مِنَ الاستخفافِ بعقولهم، ولذلك وَصفَ النّارَ بالسُّرَادِق الذي يكونُ في بُيوتِ أهلِ التَّرف للإمعانِ في استصغارهم والاستهزاءِ بهم.
(وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)) تصوير تهّكُّمِي بأولئك الظالمين، فالنّارُ تَشوي وتُظْمِئ، فلا يَجدون بُدَّاً مِن الاستِغَاثةِ وطلبِ العَونِ، فيَمُدُّونَ يَدَهم طالبينَ الْـمَدَد فَيُغَاثُون {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا} ولكنَّ هذه الإغَاثة لا تَنْفَرِجُ لها أسَارِيرُهم، بل تأتيهم غمًا على غَمّ، وتَهَكُّمًا واستِخْفافًا، فالظَّمِيء يُغَاثُ بماءٍ عذبٍ باردٍ، لا يُغاثُ بِمُهْلٍ، ألَا تَرَى لوأنَّ شخصًا طلبَ مِن إنسانٍ ما أنْ يَسْقِيَهُ، فقالَ سَآتِيك، ألا يَشْعُرُ بالفَرَج؟ فما موقِفُهُ لو أتاهُ بزيتٍ مغلي؟! هذا هو حال أولئكَ الظّالمين فبئسَ الاستِغاثَةُ استِغاثَتُهم، وبئسَ الشَّرَابُ شرابُهم، فهو شَرابٌ يَشْوِي الوُجُوهَ والجُلودَ، بل الحُلُوقَ والأمْعاء.
وثمَّةَ صورة استِخْفافٍ بالمشركينَ في الآية، وهي قَولُُهُ تعالى (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) فالمُرْتَفَقُ هو اسمُ مكانٍٍ يستريحُ به الإنسان إذا أصابَهُ إعْيَاءٌ فَـيَـتَّـكِئُ عليهِ، وشأنُ المُرْتَفَقِ أن يكونَ مكانًا ناعِمًا وَثِيرًا، وأما إطلاقُ المُرْتفقِ على النار ففيهِ مِنَ الاستِخفاف والتَّهَكُّمِِ المَرِيرِ مَا فيهِ، فما هم هُنالِكِ للإتِّكاءِ والإرتِفاق، وإنَّما هم للنَّصَبِ والشِّوَاء، فما لِسوءِ النارِ مكانًا للإتِّكاءِ والإرتِفَاق.
(كِلْتَا الْجَنَّتَينِ ءَاتَتْ أُكُلُهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا (33)) أَلَمْ يَلْفِتْ نظرك استعمالُ (الظلم) في مَوضِعِ نَقْصِ الثِّمار؟ فلمَ عّدّلّ ربُّنا عنِ القَول (ولم تُنْقِص) إلى قول (وَلَمْ تَظْلِمْ)؟ في التعبير عنِ النَّقصِ بالظّلم تمثيلٌ بديعٌ لحالةِ الثِّمارِ وَوَفْرَتِها، وكأنّها لِوَفْرةِ غَلَّتِها أصبحتْ حقًّاً لازمًا لأصحابها، بحيثُ إذا لم تأتِ الجنَّتانِ بما هوَ مُتَرَقَّبٌ منهما كانت كمن حَرَمَ ذا حقٍٍ حَقَّه فظلَمَهُ بذلِك.
يقول تعالى -على لسانِ واعِظِ صاحبَ الجنّة – (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيْعَ لَهُ طَلَبًا (41)) هذا التهديد والوَعيدَ في النقاش فقد هَدَّدهُ بأن يُصْبحَ الماءُ {غَوْرًا} مع أنّ المراد (غائرًا)، فنحن نقولُ ماءٌ غائر وماءٌ عميق، ولا نقولُ هذا ماءٌ غَوْر أو هذا ماءٌ عُمْق، فلِمَ أُختيرَ {غَوْر} دون (غائر)؟ في وَصفِ الماءِ بالمصدر {الغَوْر} مبالغةٌ ٌعظيمة، فقد أصبحَ الماءُ هوَ الغَوْرُ ذاتُه وليس وَصْفًا له، ولذلك أكَّد هذا المعنى وهو (غَوْرُ الماءِ إلى الأعماقِ) بقولِهُ تعالى (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا).
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ (42)) هذه الجملة تُعبِّرُ عن تَلَفِ محصولِ ذاتَ الإنسانِ المشرك، فما علاقةُُ الإحاطةِ بالإهلاكِ؟ وهلَّا كانت الجملة (وأُُهلِكَ ثَمَرُهُ) فنفهم فناءَ تلك المزوعات؟ خصَّ الباري سبحانه وتعالى هلاكَ الثَّمَرِ (بالإحاطة) لِما فيها من التّصويرِ الدّقيق لِما حلَّ بزرْعِهِ، فالإحاطةُُ هي الأخْذُ مِن كلِّ جانِبٍ حتّى لا يُغَادَرَ منه شيء، وهذا وَصفٌ لما أصابَ الأرض، فقد أُتْلِفَ كلُّ ما فيها بلا استثناء، و(الإحاطة) أدقُّ في التعبيرِ على الإتلافِ مِنَ (الهلاك) الذي قد يدلُّ على إتْلافِ الزّرع لكنه لا يفيدُ حصْرَ كلِّ جُزْءٍ منهُ بلا استثناء.
(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌٌ عَلَى عُرُوشِهَا (42)) هذا وَصفٌ يضعنا أمامٍ مشهدٍ حركي، يَنقُلُ لنا حَيْثيَّاتِ ما جَرَى على الأرضِ، فالإنسانُ نَدِمَ أشدَّ النّدَمِِ على ما فَرَّطَ في جَنْبِ الله، فماذا يفعلُ مَن فـقَـدَ كلَّ شيء بِبُرْهة، ولا ثقةََ لهُ باللهِ تَحْجُزهُ عنِ الإعْتِرَاض؟ لا يملكُ إلّا أن يُصَفِّقُ بِكَفَّيهِ تعبيرًا عن ندمه، وهذا ما قامَ بهِ ذاكَ الإنسان فقد غَدَا يُقَلِّبُ كَفَّيهِ تَحَسُّرًا على ما أنفقهُ من المال في تَزْيِينِ الجنّة، ولكنه يُفَاجأُُ بفقدانِ كلّ ما وَضَعَ وكُلِّ ما بذل.
ويقول تعالى – على لسان هذا المشرك- (وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)) إن (يا) هي أداةُ نداءٍ للعاقل، فأنتَ تُنادي شخصًا فتقول (يا خالد) فيُجيبُك، فهل يُنادي الإنسانُ ما لا يَعقل؟ بل كيف يُنادي (ليت) حتى قال ذاك النادم {يَا لَيْتَنِي}؟ إنَّ (يا) هنا ليست للنداء، وكان يمكن حذفُها فتقُول (ليتني لم إشرك بربي)، ولكنَّ ذكرَها هنا استُعمِلَ في الـتـَّلَهُّـف، فأنزلَ (لـَيْتَ) مَنْزِلةَ العاقِل، وكأنَّ هذا الإنسانَ المشركَ يُخاطِبُ (ليت) قائلاً لها أُحْضُرِي فهذا أوَانُكِ، لِيُعَبِّرَ عن شدَّة ندمِهِ، فهو يَحُضُُّ التَّمَنّي (لَـيْـتَ) على المُثُولِ أمامَهُ، ليُعيدَ الأمرَ إلى ما كانَ عليهِ، ولكن أنَّى لَهُ ذلك؟
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِيْنَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (46)) ما من شكٍّ أنّ الولدَ أغلى من مالِ الدنيا فلا أحدَ يَتمنّى أن يَملكَ الملايين مُقابلَ انقطاعِ نَسْلهِ، فلمَ قدَّمَ المالَ على البنين وهو أقلُّ قيمةً وزينة؟ قدَّمَ اللهُ سبحانه المالَ على البنينَ في الذكرِ لِأنَّ المالَ أسْبَقُ وُرُودًا إلى الذِّهنِ منَ البنين، فالمالُ يَرغَبُ فيهِ الصغيرُ والكبيرُ، والشابُ والشَّيْخ، ومن رُزِقَ الأولاد أو حُرِمَ من الولد فحبِّ المالِ لا يُغادرَ الذِهْنَ البَشَرِيّ، ولا يُفارقَ الطَّبْعَ الإنساني صغيرًا كان أم كبيرًا ، مُتَزَوِّجًا أو أعزبَ.
(وَيَومَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)) لِمَ خصَّ ربّنا مَسِيرَ الجبال في تصويرِ أهوالِ القيامة، ولم يقل (ويوم نُسَيِّرُ البحار)؟ في هذا التَّسْيرِ دلالةٌٌ على انقلابِ نظامِ الحياة في العالمِ الدُّنْيَوي، فالجبالُ آيةًُ عظمةٍ في ثباتِ الأرض، فإذا كانت أوتادُ الأرضِ وهي الجبال قد سارت وتَصَدَّعت، فما بالك بالأرض؟ فكم في هذا المشهد (مشهدِ سَيْرِ الجبالِ الراسِية) من الأهوالِ المادية التي تَقْرَعُ مَسَامِعَ الناس حتى يُهَيِّوا أنفسهم للحشرِ الذي لن يَتَخَلَّفَ عنهُ أحد ، فلذلك عبَّرَ عنهُ بقوله (فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحًدًا)
(وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوها (53)) كيف يرى المجرمون النار ثم يَظنّون ظنًّا أنهم واقعونَ فيها ولا يَتَيَقَّنونَ ذلك؟ الظّن هنا مُستَعْمل في اليقين والتحقَّق، أي فّتّيّقُّنوا أنّهم مُواقِعُوها، وإنّما اخْتِيرَ الظنّ دونَ اليقينَ هنا لِلتَّهُّكُمِِ بأنَّهم رَجَّحُوا أنَّ تلك النار أُعِدَّت لِأَجلِهم في حينِ أنَّهم مُوقِنونَ بذلك، وقد أُكِّدَ هذا المعنى بقولهِ (مُوَاقِعُوهَا) دون (واقِعِينَ فيها) للمبالغة في سقوطهم فيها سُقُوطًا لا مَنْجَاةَ منه.
(وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَشِيئٍٍ جَدَلًا (54)) ماذا يعني كلمة (أكثر) ألا يدلُ على التفضيل ؟ فأنت تقول (محمدٌ صلّى اللهُ عليه وسلّم أفضلُ الخَلْق) فَفَاضَلْتَ بين النبي صلى اللهُ عليه وسلم والنّاس، فما وَجْهُ المُفاضَلةِ في الآية (والإنسانُ أكثرُ جدلًا) ولكن مِمْنَ؟ إنَّ اسمَ التفضيل (أكثرَ) هنا لا يدلُّ على المُفاضَلة بل المُرادُ بهِ المبالغة في شدةِ جَدَلِ الإنسان وجُنُوحِهِ إلى المماراةِ والنِّزاع، حتى كأنَّهُ فَاقَ في جدَلِهِ كلَّ من أمْكَنَ أن يَتَّصِفَ بالجدل، ولذلك أضافَ (أكثرَ) إلى (شيء) وهوَ اسمٌ مُتَوغِّلٌ في العموم لِيُبِّنَ لك عُمقَ صِفةِ الجدلِ الضَّاربةِ جذُورها في النَّفسِ الإنسانية.
(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا (59)) إنّ اسمَ الإشارة (تلكَ) يَعُودُ إلى كَلامٍ سابق، ولكنَّ الآيةَ السابقة لم تشتمل على أسماء القرى الهالكة ، فلمَ ابتدأ الآية باسمِ الإشارةِ (تلك) ولم يقل (وَأَهْلَكْنَا الْقُرَى لَمَّا ظَلَمُوا)؟ خصَّ ربُّنا القر ى باسمِ الإشارةِ ( تلك) لتعودَ أذهانُ المُخاطبينَ إلى مقدُرٍ في الذهن، لأنَّ العربَ كانوا يعْرِفونَ ديارَ عادٍ وثمودَ ومَدْين، ويسمعونَ بقومِ لُوط وقَومِ فِرْعَون، فكانتْ هذهِ القُرَى كالحاضرة حين الإشارة فخاطبهم بما يعرفون كأنهُ مُشَاهدٌ أمامهم ، لأنَّهم لا يستطيعونَ إنكاره.
(فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْناهُ رَحْمَةًً مِنْ عِنْدِنَا (65)) لننظر كيف أتى القرآنُ بِلَفْظِ التنكير للعبد الصالح فقال {عَبْدًا} ولو قال (فوجدا العبد) لَدَلَّ التعريفُ على أنه العبدُ المقصود، فلِمَ آثرَ البيانُ القرآنيُ التنكير؟ عدلَ البيانُ الإلهيُ عن تعريفِ العبدِ إلى التنكير، وَوَصَفَهُ بأنَّهُ من عبادِ الله فقال {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} للإشارةِ إلى أنَّ هذا الغريبَ العظيمِ الذي ذكرَ من قِصَّتِهِ ما هو إلَّا عبدٌ من عبادٍ كثيرين للهِ تعالى وَما منهم إلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعلوم.
ويقول تعالى على لسانِ العبدِ الصالح (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)) هل هناك فرقٍ بين قوله (إنَّك لنْ تَصبِر) وبينَ قَولهِ (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا)؟ إنّ العبدَ الصالح أرادَ أن يُبَيِّنَ لِموسى عليهِ السلام بأنهُ نبيّ، ومِن سماتِ النّبي الصبر، ولكنَّ هذا العبد ستصدرُ منه أفعالٌ لا يُفْهَمُ مُرَادُها، وهذا يَقْتَضي نَفَاذَ صبرِ موسى، فأرادَ أن يُأكِّدَ لهُ ذلك فقال {مَعِي}، وهذا يدلّ على أنَّ قِلةَ صبرهِ ستكونُ في هذا المَجَال، لأنَّهُ سَيَجِدُ من أعمالِه ما لا يَجَدُ مِثْلَهُ مع غَيرُه، ولذلك لم يقل لموسى (لن تستطيعَ صبرا) على إطلاقِ النفي، بل قيَّدَهُ بـ {مَعِي}. وقالَ له {لَنْ تَسْتَطِيْع} دون (لن تصبر) ليُبيِّنَ لهُ أنَّهُ مهما حاولَ أن يصبر وأن يتكلَّفَ ذلك فإنَّه لَن يُفْلِح.
(فَانْطَلَقَا حَتَّى لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَله قَالَ أقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ًبِغَيْرِ نَفْسٍٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)) إنَّ القارئَ لهذه الآية يقفُ عندَ قولهِ {نُكْرًا} لأنَّهُ قبلَ آيتينِ قال (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا (71))، فلم خصَّ فعلَهُ في قتلِ الغلام بـ(النُّكْرِ)، وفي خَرْقِ السفينة بـ(الإمْر)؟ إنَّ كلام موسى عليهِ السَّلام في إنكارِ ما صدَرَ من العبدِ الصالح جرى على النَّسَقَ ذاتِهِ في إنكارِ خَرْقِ السفينة، ولكنَّهُ وَصَفَ الفعلَ هنا بأنَّهُ {نُكُرْ}، وفي السفينةِ بأنَّهُ {إمْر} لأنَّ القتلَ بِنظرِهِ أشدُّ من خرقِ السفينة، فالفسادُ في القتلِ حاصل، أمَّا الخرقُ ففيهِ ذَرِيعَةُُ فساد وأن نَجَمَ عنِ الخَرْقُ غَرَقٌ أو مَوْتٌ.
(قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (76)) تأمل هذا التصوير في إعذار العبد الصالح فلم يقل له موسى (فلا تصاحبني فإني عاذرك أو أُعذرك) بل سلك معه طريق المبالغة فقال (قَدْ بَلَغْتَ) أي قد وصلت إلى العذر في قطع الصحبة. وكأن العذر مكان يُقصد وهو النهاية. والعبد قد قطع المسافة وسار إليها حتى بلغ النهاية وهي الإعذار بهجر موسى.
(فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا (77)) الإيجاز من البلاغة (خير الكلام ما قلّ ودلّ). وفي ذكر الضمير ما يُغني عن إعادة اللفظ فكان حذف (أهلها) والاستغناء عن ذِكره بالضمير أحصر. فلِمَ قال (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) ولم يقل: أتيا أهل قرية استطعماهم؟ آثر القرآن إظهار لفظ (أهلها) دون الإتيان بضميرهم بأن يُقال “استطعماهم” لزيادة التصريح تشنيعاً بهم في لؤمهم إذ أبوا أن يضيفوهما. وذلك لؤم لأن الضيافة كانت شائعة في الأمم من عهد إبراهيم عليه السلام وهي من المواساة المتّبعة عند الناس.
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا (79)) انظر إلى دقة اللفظ القرآني. فالعبد يقول (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) ولم يقل “فعبتُها” ليدل على أن فعله وقع عن قصد وتأمل.
وفي قوله (أَنْ أَعِيبَهَا) لطيفة أدبية. فقد أسند العيب إلى نفسه فقال (أَنْ أَعِيبَهَا) وفي قصة الجدار قال (فَأَرَادَ رَبُّكَ) فيكون قد أسند ما ظاهره الشر لنفسه فقال (أَنْ أَعِيبَهَا) وأسند الخير إلى الله تعالى فقال (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا (82)) وفي هذا تعليم للعباد الأدب مع الله جل وعلا.
(قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)) العطف في التعذيب والإحسان يقتضي ظاهراً أن يقول “إما أن تُعذِّب وإما أن تُحسن” فلِمَ عدل في الإحسان عن الفعل إلى المصدر (حُسناً)؟ عدل عن (أن تُحسن إليهم) إلى (أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) للمبالغة في الإحسان. حتى جُعل كأنه اتُخذ فيهم نفسُ الحُسن. وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين والمخيّر بينهما.
(قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ (87)) انظر إلى هذا اللطف في الدعوة. فقد قال ذو القرنين (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) ولم يقل “فنعذِّبه” إشارة إلى أنه سيدعو القوم إلى الإيمان فمن أصرّ على الكفر ولم يلن قلبه للإيمان فإنه يُعذّبه.
(فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)) إن القرآن يحذف من الكلمة بغرض وليس اعتباطاً. وفي هذه الآية قال (اسْطَاعُوا) في الأولى و(اسْتَطَاعُوا) في الثانية فحذف التاء في (اسْطَاعُوا)، فلِمَ كان الحذف فيها دون الثانية؟ إن الاستطاعة في الفعلين متعلقة بالسدّ الذي صنعه ذو القرنين. ولكن الاستطاعة الأولى (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ) تعود إلى الصعود على هذا السد. والثانية (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) تدل على إحداث ثقب فيه, ولا شك أن الصعود على السد أيسر من إحداث الثقب فحذف من الحدث الخفيف فقال (فَمَا اسْطَاعُوا) خلاف الفعل الشاق الطويل فقد أعطاه أطول صيغة فقال (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا). ثم لما كان الصعود على السد يتطلب زمناً أقصر من إحداث الثقب فيه حذف من العفل وقصر منه ليجانس النطقُ الزمنَ الذي يتطلبه كل حدث.
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ (99)) أيستطيع البيان الإنساني أن يأتي بمثل هذا التصوير القرآني؟ فالله أراد أن يصف لك كثرتهم وأنهم بلغوا آلآفاً مؤلّفة لا تُعد ولا تُحصى فشبّههم لكثرتهم وتداخلهم فيما بينهم بموج البحر المتلاطم. فكما أن الأمواج تتلاطم لكثرتها وتتابعها فكذلك شأن يأجوج ومأجوج فهم يتلاطمون كالموج.
(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)) العرض يكون لما فيه رغبة وتفضيل. فأنت تعرض على الإنسان أمراً يستهويه فتقول عرضت عليه مالاً أو هدية. ولكنك لا تقول عرضت عليه طرداً أو عذاباً. ولكن البيان الإلهي جعل جهنم تُعرض على الكافرين وقد سيقوا إليها. وهذا العرض لجهنم فيه ما فيه من التهكم والاستخفاف بالكافرين. فما إن يطرق السمع كلمة (وَعَرَضْنَا) حتى تتشوق النفس لمعرفة المعروض. فيأتي قوله تعالى (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ) وفي هذا كبت وازدراء وتحقير لمن تعرض عليه جهنم بلظاها.
(الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي (101)) هل كانت الأعين في غطاء حقيقي ففقدت بريق بصرها؟ هذا وصف لما يلزم من تصرفاتهم فقد كانوا ينظرون فلا يعتبرون. وتعرض عليهم الآيات الكونية فلا يؤمنون. فأصبحوا أشبه بمن كانت عيناه في غطاء وحجاب.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)) لم قال ربنا (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) ولم يقل “فخسروا أعمالهم”؟ لو عدنا إلى المعنى الأعجمي لكلمة (فَحَبِطَتْ) لرأينا أن الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تأكل نوعاً سامّاً من الكلأ ثم تلقى حتفها. وهذا اللفظ (فَحَبِطَتْ) أنسب شيء لوصف الأعمال. فإنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة ثم تنتهي إلى البوار.