سورة النمل
(طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)) إن التقديم والتأخير في القرآن يقف وراءه سِرٌ عظيم لا يدركه إلا المتبصرون. ففي هذه الآية قدّم ربنا إسم القرآن على إسم الكتاب بينما الأمر نراه مختلفاً في سورة الحجر حيث قال ربنا (الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1)) فلِمَ قدّم البيان الإلهي كلمة القرآن هنا على كلمة (كِتَابٍ مُّبِينٍ) خلافاً للحجر؟ قدّم ربنا في هذه الآية القرآن وعطف عليه (وَكِتَابٍ مُّبِينٍ) على عكس ما في طالعة سورة الحجر لأن المقام في سورة النمل مقام التنويه بالقرآن ومتّبعيه. ولذلك وُصِف بأنه (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي بأنهم على هدىً في الحال ومبشَّرون بحسن الاستقبال فكان الأهم هنا للوحي المشتمل على الآيات هو استحضاره بإسم العلم المنقول من مصدر القرآءة. لأن القرآءة تناسب حال المؤمنين به والمتقبلين لآياته فهم يدرسونها. وأما ما في أول سورة الحجر فهو مقام التحسير للكافرين من جراء إعراضهم عن الإسلام. فناسب الابتداء بإسم الكتاب المشتق من الكتابة دون القرآن لأنهم بمعزلٍ عن قرآءته ولكنه مكتوب وهو حُجّة باقية عليهم على مرّ الزمان فهو كتاب متداول بين الأيدي.
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)) انظر إلى هذا القصر في الخسارة على المشركين في قوله (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ). أليس من المكن حذف الضمير (هم) من حيث الظاهر “وهم في الآخرة الأخسرون”؟ فلِمَ إذن أُتي بالضمير (هم) مكرراً (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)؟ في هذا التكرار للضمير (هم) إشارة إلى قصر الخسارة على من أشرك بالله دون غيرهم. ولتأكيد هذا الخسران عليهم وحدهم جاء التعبير عن خسرانهم بإسم التفضيل (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) دون “هم الخاسرون” للدلالة على أنهم مفردون في خسرتم لا يشبهه خسران غيرهم لأن الخسران في الآخرة متفاوت المقدار والمدة وأعظمه فيهما خسران المشركين.
(إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)) إن الحرف المشبه (إنّ) يدخل على الجملة الإسمية لتأكيد مضمونها وإزالة الشك الذي يخامر نفوس المخاطبين. فلِمَ أتى موسى عليه السلام بالحرف (إنّ) عندما أخبر زوجه برؤيته للنار (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) ولم يكتفِ بالقول “آنست ناراً”؟ أتى موسى عليه السلام بالحرف المشبه بالفعل (إنّ) لأن النار التي حدّث عنها أهله لم تظهر إلا له دون غيره من أهله لأنه لم تكن ناراً معتادة بل كانت أنواراً من عالم الملكوت جلاّها الله تعالى لموسى فلم يرها غيره. ولذلك أكّد هذا الخبر بالحرف (إنّ) للإشارة إلى أن زوجه ترددت في ظهور نار لأنها لم ترها.
(وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ (16)) لِمَ اقتصر سيدنا سليمان على ذكر منطق الطير دون غيره من الحيوانات؟ اقتصر سيدنا سليمان على عرض معرفته للغة الطير لأنه إذا علِم منطق الطير وهي أبعد الحيوانات عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفوراً منه فإنه سيعلم منطق ما هو أكثر اختلاطاً بالإنسان بالأحرى. فكان هذا الاقتصار مؤذناً بأنه علم منطق كل صنف من أصناف الحيوانات.
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ (22)) تأمل في هذا الأسلوب الذي خاطب به الهدهد الملك سليمان (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ). فقد ابتدأ بهذا القول لينبهه على أن في مخلوقاته الله ممالك وملوكاً تداني ملكه أو تفوقه في بعض أحوال الملك لئلا يغتر بانتهاء الأمر إلى ما بلغه هو. وحتى لا يظن أم مبلغه من العلم والمعرفة هو الغاية والمنتهى ففوق كل ذي علم عليم. ولهذا التعبير (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) أهمية عظمى. ففيه إستدعاء لاهتمام سليمان وإقباله على المتكلِّم لما يحويه هذا المطّلِع من أهمية. فهو لم يخبره بما رأى مباشرة بل أومأ إليه بأنه يعلم شيئاً فاته. لأنه يعلم أن معرفة أحوال الممالك والأمم من أهم ما يُعنى به ملوك الصلاح لينتفعوا من أحوالهم.
(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)) تبصّر في هذه الصورة الدقيقة التي تصور قدرة الله الخبير (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فلم يقل ربنا “الذي يُخرج المخبوء” بل قال (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) للمبالغة في تصوير إخراج الله تعالى للشيء المخفي فهو يُخرج الخفاء نفسه فكيف بالشيء المخفي؟
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)) تأمل كيف وصفت الملكة كتاب سليمان بالكَرِيمٌ، فلِمَ آثرت هذا الوصف دون العزيز؟ وصفت الكتاب بالكريم للإشارة إلى نفاسته في جنسه فهو نفيس في تخطيطه ويُبهِج بشكله مستوفياً كل أشكال التأنّق كالخَتْم. وتوّج ذلك كله بكرمٍ خالص نفيس (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي (32)) لِمَ نسبت الملكة الأمر إلى نفسها عندما سألت أهل الحلّ والمشورة من مجلسها بقولها (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) ولم تقل أفتوني في هذا الأمر مع أن هذا الأمر عامٌ لينال المملكة قاطبة؟ أضافت الملكة الأمر إلى نفسها قائلة (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) ولم تقل أفتوني في هذا الأمر لأنها هي المخاطَبة بكتاب سليمان ولأنها المضطلعة بما يجب إجراؤه من شؤون المملكة. وعليها تبِعة الخطأ في المنهج الذي تسلكه من السياسة ولذلك يقال للخليفة وللملك والأمير وليّ الأمر.
(فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)) بيانٌ بديع وحرفٌ دقيق يوحي بما يجول في نفس الملكة. فسيدنا سليمان عليه السلام خاطب رسل الملكة بقوله (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم) فاستعمل الفاء (فَمَا آتَانِيَ) ولم يستعمل الواو “وما آتاني” فكان استعمال الفاء إيماءٌ إلى أن سليمان يعلم أن الملكة لا تعلم أن لديه الأموال والخير العميم والفضل الواسع ما هو خير مما لديها. لأنه لو كان يظن أنها تعلم ذلك لما احتاج إلى التفريع على قوله (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) ولقال “أتمدونني بمال وما آاتني الله خير مما آتاكم” لأن الواو عندها تكون حالية وكأنه يقول أتمدونني بمال وأنتم على علم بأن ما لدي خير مما تعطونني.
(قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ (39)) لِمَ قال ربنا (قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ) ولم يقل “قال جانّ”؟ آثر ربنا سبحانه وتعالى وصف الجنّ الذي أراد إحضار العرش بالعفريت لأن هذا اللفظ (عفريت) إسم يُطلق على الشديد الذي لا يُصاب ولا يُنال والذي يُتّقى لشرّه. وأصل هذا اللفظ (عفريت) يستعمل لفتاة الجن. ولا شك أن العمل الجسيم الذي اضطلع بالقيام به وهو إحضار العرش يقتضي هذا الوصف.
(وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)) تدبر في سياق هذا التعبير فقد تكرر الفعل (كانت) مرتين. وفي ذكره فعل التكوين مرتين في (مَا كَانَت تَّعْبُدُ) (كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ) دلالة على تمكنها من عبادة الشمس وكان ذلك التمكن بسبب الإنحدار من سلاسة المشركين. فالشِرك منطبع في نفسها بالوراثة. والكفر قد أحاط بها بتغلغله في نفسها وبنشأتها عليه وبكونها بين قوم كافرين. فمن أين يخلُص لها الهدى والإيمان؟ ولذلك ناسب أن يتكرر الفعل (كانت) ليومئ بشدة تمكن الكفر من نفسها.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)) تدبر هذا الحرف (فإذا) إنه حرف يدل على المفاجأة كأن تقول “خرجت لأزور صديقي فإذا هو على باب بيتي”، فيفيد عنصر المفاجأة. فلِمَ أدخل ربنا تعالى (إذا) على ما بدر من تصرف قوم ثمود (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ)؟ آثر ربنا سبحانه وتعالى أن يأتي بحرف المفاجأة (إذا) في تبيان انقسام القوم إزاء دعوة صالح للإشارة إلى أن انقسامهم غير مرضي فكأنه غير مترَّقب. إذ ليس من شأن العاقل أن يُدبر عن دعوة الصلاح والخير.
(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)) إن الإفساد وعدم الإصلاح أمر واحد، فما فائدة عطف الأمر على نفسه في قوله تعالى (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)؟ أولم يكن قوله تعالى (يُفْسِدُونَ) مُغنياً عن قوله (وَلَا يُصْلِحُونَ)؟ آثر ربنا تعالى أن يعطف الفعل (وَلَا يُصْلِحُونَ) على (يُفْسِدُونَ) للدلالة على أنهم تمحّضوا للإفساد ولم يكونوا ممن خلطوا إفساداً بإصلاح بل هم الفساد نفسه. فلم يكن ليصدر عنهم بصيص نور من إصلاح وخير. فكان قوله (وَلَا يُصْلِحُونَ) تأكيداً على عدم امتلاكهم لأدنى مقومات الإصلاح والخير. ألا ترى أن الإنسان إن كان مفسداً إلا أنه لا يخلو من صلاح وخير. أما أولئك فقد خلوا حتى من هذا الخير الضئيل.
(قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)) إن الفعل (تَقَاسَمُوا) هو فعلُ أمرٍ أُريد به تغليظ إيمانهم على الكيد لصالح عليه السلام. فهل صدر هذا الأمر من الرهط جميعاً حتى قال ربنا (قَالُوا تَقَاسَمُوا) أم صدر هذا الأمر من واحد ثم تمالأ القوم معه؟ إن هذا الأمر بلا ريب قاله بعضهم فابتدأ به قائلاً لهم (تَقَاسَمُوا) وهو يريد شمول نفسه إذ لا يأمرهم بذلك إلا وهو يريد المشاركة معهم في المقسم عليه كما دلّ عليه قوله (لَنُبَيِّتَنَّهُ) فلما قال ذلك توافقوا عليه وأعادوه فصار جميعهم قائلاً لذلك. فلذلك أسند الفعل إلى التسعة وإن لم يكن القول صادراً منهم جميعاً إلا أنهم في حُكم القائل.
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى (59)) يُلقي ربنا تعالى على عباده المصطَفَيْن سلامه. وأتى السلام مرفوعاً مع أن التعبير في أصله سلّمت سلاماً ثم حذف الفعل وأصبح التعبير “سلاماً” أي أسلِّم سلاماً. وأنت تعمل أن الفعل يدل على التجدد والإسم يدل على الثبوت. ولذلك آثر التعبير القرآني رفع لفظ (سلامٌ) فقال (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) ليكون سلام الله سبحانه وتعالى على عباده دائماً وراسخاً وثابتاً.
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ (60)) تعالى بيان الله المعجِز. فالله تعالى في هذه الآية يعرض مِنّة من مِننه العظيمة التي لا تُعد ولا تُحصى وهي منّة إنزال المطر على عباده. وقد حدد هذا الإنزال بقوله (لكم) ليكون الخطاب موجهاً إلى المشركين وفي هذا تعريض شديد بأولئك الذين يأخذون النعم ويرونها عياناً ثم يُعرِضون عن شكر المُنعِم الحقيقي. ومن غيره سبحانه يستحق الحمد والشكر والعبادة؟!.
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ (60)) انظر إلى هذا الالتفات من الغيبة إلى المتكلم بين فعلي (أنزل وأنبتنا). فقد أسند الله تعالى الإنزال إلى الغائب فقال (وَأَنزَلَ لَكُم) ولكن عندما عطف الإنبات أسنده إلى ضمير الجمع فقال (فَأَنبَتْنَا) ولم يأت بالعطف بصيغة الغائب “فأنبت به حدائق”. وفي هذا التنويع والإلتفات نكتة لطيفة وهي التنصيص وتخصيص إسناد الإنبات إليه سبحانه وتعالى لئلا يوهم ضمير الغائب “فأنبت به” بأن الإنبات راجع ‘لى الماء “أنزل لكم من السماء ماء فأنبت به” بل الإنبات عائد إلى خالق الماء ومسبب الأسباب سبحانه وتعالى ولذلك قال (فَأَنبَتْنَا بِهِ).
(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ (66)) إن التعبير القرآني واللفظ الإلهي لا يدانيه تعبير. فانظر في هذه الآية كيف يصور حالة الشك والإعراض التي ساورت نفوس المعرضين المعاندين. فهم لم يقفوا عند حالة الشك فحسب بل بالغوا في شكهم ياليوم الآخر إلى أن أحاط بهم الشك وغاصوا في بواطنه وأعماقه حتى بلغوا ذروته وغايته. ولذلك عبّر الله تعالى عن شكهم بالجملة الإسمية فقال (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا) ولم يقل “بل شكوا بها” لأن الجملة الإسمية تدل على الاستمرار. وحرف الجر (في شك) يدل على العمق في الشك.
(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70)) كانت الرحمة عالية على النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أنذر المكذبون بوعيد الله الذي لا يُخلف تحركت الشفقة في نفسه صلى الله عليه وسلم فقال له الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) وقد أكّد عليه ربنا عدم المبالاة بإعراض المشركين وما يلاقيه من عنت لقاء عنادهم بقوله (وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ). انظر إلى دقة تصوير الغمّ الذي يُخامر قلب المصطفى الشفوق عليه الصلاة وأفضل السلام. فالضيق في حقيقته عدم كفاية المكان أو الوعاء لما يريد أن يوضع فيه. وهذا هو حال قلبه صلى الله عليه وسلم فهو في حالة حرجة حلّت بقلبه كراهية أن يمسّ قومه شيء من العذاب. فأحاط به هذا الخوف والغمّ فضغط على أعصابه وعلى مجاري نفسه فكان في ضيق يشتد عليه. وهذا الحال لا يصوره إلا هذا التعبير (وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) أي لا تكن محوطاً بشيء من الضيق بسبب مكرهم.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)) تأمل في موقع هذا الاستدراك بقوله عز من قائل (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ). ألا ترى كم يحمل في طياته من التعريض بحال أكثر الناس. فقد وقع الاستدراك بـ (لكن) بعد أن عرض ربنا بقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) عموم فضله على الناس وتكرره. الفضل الذي يستحق بأن يقابلوه بالشكر والثناء والحمد. ولكن بعض الناس لم يقع منهم إلا الجحود. ولذلك استدرك بقوله (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ). فهل طوّعنا لساننا ليكون بريد شكرٍ وحمدٍ على فضل الله نعمه علينا؟
(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)) تأمل في هذا التصوير لأولئك الذين لا يقبلون الحق ويكابرون على حججه وبراهينه. فهم أموات لا يسمعون ومن ثمّ لا يفهمون معاني القرآن ولا تبلغ بلاغة ألفاظه أبعد من شحمة آذانهم. ولكن لِمَ قيّد صممهم بقوله (مُدْبِرِينَ)؟ قيّد ربنا سبحانه وتعالى صمم المشركين بزمان توليهم مدبرين لأن تلك الحالة أوغل في انتفاء أسماعهم. فالأصمّ إذا كان مواجهاً للمتكلم قد يسمع بعض الكلام بالصراخ وقد يفهم بعضهم الكلمات من حركة الشفتين. أما إذا ولّى مدبراً فقد ابتعد عن الصوت ولم ير حركة الشفتين وهذا أبعد له عن السمع.
(وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ (81)) ما زالت هذه الآيات تقرع مسامع المشركين وتهز ضمائرهم التي أخلدت إلى فُرُشها ولم تنهض لتبصر النور الجديد، نور الإيمان. فهي قلوب مغلقة ومن ثمّ فقد سلب القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم التأثير بالمعاندين والمصرّين فقال (وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِْ). ولعل سائلاً يقول لِمَ نفى هداية الأعمى خاصة ولم ينفِ هداية الأصمّ أو هداية المعانِد؟ إذا عدنا إلى كلمة الهدى وجدنا أنها وُضعت لمن يدل السائر على الطريق بأن يصفه له فيقول مثلاً: إذا بلغت الوادي فخُذ الطريق الأيمن. وقد سُمي من يسلك بالقوافل مسالك الطريق هادياً. والتوصل إلى الطريق الصحيح يسمى اهتداء. فالهادي يحتاج إلى مبصر ليرشده إلى طريقه حتى يعي ما يصفه له. وأما الأعمى قلا قِبَل له بمعرفة مساره سواء أوُصِفَ له أم لم يوصَف. ولذلك قيّد القرآن نفي الهداية عن الأعمى أي أعمى القلب لأنه غير قابل للهداية ولا يستطيع التمييز بين طريق الحق وطريق الضلال. كما أن الأعمى لا يقدر معرفة الطريق بالوصف.
(إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81)) أُنظر إلى التلوين في تبيان إيمان من هداه الله. فالإسماع من النبي صلى الله عليه وسلم يصل إلى المؤمن وحسب. فعبّر عن ذلك بالفعل المضارع (إِلَّا مَن يُؤْمِنُ) ليدل على تجدد إيمانهم عند كل آية من الآيات. ثم ختم بالإسم دون الفعل فقال (فَهُم مُّسْلِمُونَ) ولم يقل “فهم يُسلمون” لأن الإسم (مسلمون) يفيد الدوام والثبات. فالمؤمن إذا خالط الإيمان بشاشة قلبه أصبح الإسلام راسخاً فيه ومتمكناً منه. وهذا يناسبه الإسم عقب الفعل فقال (إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ).
(وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90)) تأمل مشهد الإذلال والإهانة الذي ضرب على الذين اجترحوا السيئات حتى أثقلت كواهلهم فأدخلتهم ناراً إشتد لظاها. ولكن تعبير أدخلوا النار فيه لطف ولذلك نرى أن القرآن عبّر عن دخولهم بلفظ فيه الإهانة والإذلال فقال تعالى (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) هكذا كبّت بالعنف والتشديد. وجرس كلمة (فَكُبَّتْ) يصوّر حركة الزجّ ويوحي بالفزع (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
(وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ (90)) الكبّ جهل ظاهر الشيء في الأرض. وقد خصّ الله تعالى الكبّ في وجوه المسيئين، فهل سيكون كبّهم على وجوههم خاصة؟ وكيف يكبون على وجوههم دون أجسادهم؟ جعل الله الكبّ متعلقاً بوجوه المسيئين دون بقية الجيد وإن كان الكبّ لجميع الجسد لأن الوجه أشرف جزء في جسم الإنسان. فكبّ المرء على وجهه فيه مزيد إهامة وإذلال وقهر. وإذا نظرت في اختيار لفظ الكبّ رأيت دقة متناهية. فالكبّ يوحي برمي شيء مهين ولذلك نقول مكبّ القمامة.
(إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)) لِمَ عدل السياق عن قوله “وأمرت أن أكون مسلماً” إلى قوله (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)؟ جعل السياق النبي صلى الله عليه وسلم فرداً من أفراد الأمة وامرءاً من آحاد المسلمين. وفي هذا الجعل تنويه بهذه الأمة التي كان الرسول فرداً من أفرادها.