سورة الحديد:
تكلمنا في الحلقة الماضية على مفتتح سورة الحديد (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وذكرنا بعض الأمور التي تتعلق بالتقديم والتأخير وذكر (ما) وعدم ذكرها وتوقفنا في نهاية الحلقة عند (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقلنا أن معنى العزيز هو الغالب الممتنع والحكيم فيها إحتمالان فعيل من الحِكمة أو من الحُكم. الحكمة هي وضع الشيء في محله قولاً وعملاً ويقولون (توفيق العلم بالعمل). بالنسبة للناس إذا يتكلم واحد في غير مكانه وفي غير مقام فهو ليس بحكيم وإنما ينبغي أن يختار الوقت المناسب مع الأشحاص المناسبين ويتكلم بما هو في مستواهم ولا ينبغي أن يقول شيئاً ويفعل ضده فهذا ليس بحكيم. إذن الحكمة وضع الشيء في محله قولاً وعملاً. والله تعالى ذو الحكمة البالغة. الحكيم فيها اعتباران: قد تكون من باب الحكمة (الحكيم) وقد تكون من باب الحُكم (حكيم) والآية تجمعهما معاً وهذا يسمى باب التوسع في المعنى. أحياناً يؤتى بكلمة واحدة أو تعبير واحد يجمع عدة معاني كلها مرادة داخل سياق واحد. إذا أردت أن تعيّن لا بد أن تأتي أما بتعبير ذي دلالة واحدة قطعية أو تأتي بأمور أخرى حتى تصل إلى هدفك. مثال قوله تعالى: (وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا (160) النساء) ما المقصود؟ كثيراً من الناس؟ كثيراً من الصدّ؟ كثيراً من الوقت؟ يحتمل ولا يوجد قرينة سياقية تحدد أحدها وإنما أرادها الله سبحانه وتعالى جميعاً يصدون كثيراً من الناس وكثير من الصدّ، هذا يسمى التوسع في المعنى. (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) الفتح) هل قليلاً من الفهم؟ قليلاً منهم؟ يحتمل وهي مرادة. (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) التوبة) هل هو القليل من الضحك؟ أو من الوقت؟ المعنى: فليضحكوا ضحكاً قليلاً وقتاً قليلاً وليبكوا بكاءً كثيراً زمناً كثيراً ولو أراد تعالى أن يحدد يأتي بما يحدد كما قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) الأحزاب) المراد هنا الذكر. هناك تعبيرات يسموها احتمالية ويراد بها أن تجمع لها المعاني من باب التوسع في المعنى. مثلاً في الأحكام الشرعية: (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ (282) البقرة) و (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) البقرة) هذا حكم شرعي. (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) (لا) ناهية وليست نافية بدليل الراء في (يضارَّ) مفتوحة. هل هي لا يضارَر؟ أي لا يضره أحد أو لا يضارِر، هو لا يضر أحداً؟ محتمل أن الكاتب والشهيد يضغط عليه ويضر عليه ويهدد فيغير من شهادته يحتمل هذا المعنى أو أن الشهيد لا يريد أن يشهد لأسباب في نفسه، يغير في الشهادة. لا يضارَر أو لا يضارِر؟ لو أراد أن يقيّد كان يقول ولا يضارَر فيكون قطعاً هو المقصود (نائب فاعل) لو أراد أن الكاتب هو الذي يُضرِ يقول لا يضارِر. مع أن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن (ومن يرتدد) في مكان وقال (ومن يرتد) في مكان آخر (من يشاقق) و (من يشاق) بدل أن يقول ولا يضارِر أو ولا يضارَر جاء بتعبير يجمعهما معاً يريد كلاهما. إذن لو فك يجعل هناك عطف لكنه أوجز تعبيراً ويجمع المعاني ويسمى التوسع في المعنى.
(لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) البقرة) لا يوقع عليها ضرر يحبث الأب يضرها إذا كانت مطلقة؟ أو هي لا تضر زوجها بحيث تمنع إبنها؟ ما المقصود؟ المعنيان مرادان وكلاهما منهي. عندنا باب إسمه التوسع في المعنى في علم المعنى، عندنا دلالة قطعية وعندنا دلالة احتمالية وهذه الاحتمالية تحتمل معاني قد تراد كلها أو بعضها فإذا أريد بعضها أو كلها يسموه التوسع في المعنى.
الحكيم من الحِكمة ومن الحُكم، هذا الجمع (العزيز الحكيم) أجمل جمع: العزيز قد يكون حكيماً وقد لا يكون حكيماً، وقد يكون حاكماً وقد لا يكون حاكماً، الحاكم هو منتهى العزة منتهى العزة أن يكون حاكماً فإذن الآن صار كمال العزة بالحكم أعزّ شيء. نأتي إلى الحكمة إذا كان العزيز متهوراً تكون عزّته صفة ذم فإذن ينبغي أن يتمم بالحكمة. فإذن ربُّنا تعالى هو العزيز الحكيم والحاكم الحكيم، كمّل في العزة بالحُكم فكان أعلى شيء لأن منتهى العزة أن يكون حاكماً وأكمل الكمال عندما كان عزيزاً فهو حكيم وعندما كان حكيماً فهو حكيم إذن اجتمعت العزة والحكم والحكمة. لو كان عزيزاً غير حكيم تكون صفة ذم ولو كان حاكماً غير حكيم تكون صفة ذم. إذن الإثنين مرادان وقدّم العزيز على الحكيم لأنه عزّ فحكم، ليس عندنا في القرآن الكريم حكيم عزيز.
ما الحكمة من تقديم العزة؟ العزة قد لا يكون صاحبها حكميماً، هو تدرج، فبدأ بما هو أقل ثم انتقل للأعلى، يكون عزيزاً ثم يكون حاكماً، كيف يكون حاكماً؟ كيف وصل إلى الحكم؟ إذا لم يكن هناك جماعة تعزه فتوصله إلى الجكم؟ لا بد أن هناك جماعة أوصلوه فلا بد أن يكون عزيزاً عند هؤلاء حتى أوصلوه، إذن عزّ فحكم.
الأمر الآخر، قال (العزيز الحكيم) بالتعريف ولم يقل هو عزيز حكيم بالتنكير لأنه أراد أن يقصر العزة في الحقيقية وحده لا عزّة لغيره على سبيل الحقيقة والحكيم هو الحاكم في الحقيقة ولا حاكم سواه على وجه الحقيقة. أإن الله تعالى هو الذي يعز ويذل ويؤتي الحكم وينزعه (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) آل عمران) إذن هو صاحب العزة، الحكمة (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء (269) البقرة)، الحكم (وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ (41) الرعد) هذا التعريف القصر على أنه في الحقيقة كل عزة سوى عزته هي منه سبحانه سواء أعز أو أذلّ. وقد استخدم كلمة (عزيز) نكرة في القرآن وهذا بحسب السياق الذي تأتي فيه وهذا يحدد التنكير والتعريف.
الآية التالية: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) الحديد) ذكر أولاً أنه سبح له ما في السموات والأرض ثم ذكر أن له ملك السموات والأرض وهذا يقتضي أنه ملِك ما فيهما لأن الملك هو الحُكم (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ (51) الزخرف) إذن لما قال (له الملك) إذن هو الملِك لأن المُلكِ لا يكون إلا على رعيّة، إذن هو الملِك، هو ملِك ما فيهما. أفاد تقديم الجار والمجرور (له) على أنه لا مُلك لأحد سواه على الحقيقة.
في خارج القرآن يمكن أن يقال: (ملك السموات والأرض له) لو قدمنا الخبر وكان المبتدأ معرفاً لأن أحياناً التقديم يصير واجباً إذا كان نكرة، تقول: في الدار رجل، (لا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تُفِد). لكن إذا كان المبتدأ معرفة فتقديم الخبر يقولون للإهتمام وأبرزها القصر. محمد قائم، قائم محمد ، محمد في الدار، في الدار محمد، “محمد في الدار” هذه مبتدأ وخبر، “في الدار محمد” مبتدأ وخبر لكن قدمنا الخبر كأن الشخص يقول له لا ليس في الدار فتقول له لا في الدار، (محمد في الدار) إذا كان المخاطب خالي الذهن وسألته أين محمد؟ يقول: محمد في الدار ولا يقول في الدار محمد، الأصل عدم التقديم، الأصل حفظ المراتب وعدم التقديم: الفعل، الفاعل، المفعول به ثم القيود، هذا هو الأصل هذا لا يُسأل القائل لم قال هكذا؟ إذا قال أحدهم: أكرم محمدٌ خالداً لا نسأله لم قلت هذا؟. ولكن إذا قال محمد أكرم خالداً نقول لماذا قدّمت محمد؟ لأنه خالف الترتيب. “في الدار محمد” يجب أن يكون هناك أمر أن المخاطب يعتقد أن محمداً ليس في الدار، تقول له أنت هو في الدار، هو يرى أنه في الدكان، في المحل. من أهم أغراضه القصر وله أغراض أخرى كالاهتمام. في قوله تعالى (له ملك السموات والأرض) هذا حصراً، لو قلنا (ملك السموات والأرض له) هذا إخبار لكن لا ينفي أن يكون كما تقول فلان يملك وفلان لا يملك، لا يمنع أن يكون لأحد آخر ملك، هناك مالكين آخرين في هذا الملك، ليس هو الملك الوحيد وقد يكون هناك مالكون آخرون تحت هذا الملك، لكن له الملك حصراً لا ملك إلا هو حصراً ليس لغيره ولو قيل (ملك السموات والأرض له) يكون إخباراً وليس من باب الحصر.
سؤال من المقدم: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ما دلالة ورود هذه الآية بعد الآية الأولى؟ وهل هناك علاقة رابطة بينهما؟
ينزه الله تعالى، الشخص قد يُحمد في ذاته لم يكن مالكاً أو ملكاً فإن حكم فقد يتغير. شخص تعرفه في ذاته جيد ليس ملكاً فإذا صار ملكاً فقد يتغير أو ليس مالكاً فإن ملك على آخرين قد يتغير. إذن ربنا تعالى ذكر أنه منزّه في جميع أحواله: منزه في ذاته (سبح لله) قبل أن يكون هناك ملك وقبل أن يكون هناك أحد، ومنزّه في صفاته، منزه في عزته، منزه في حكمته، منزه في حكمه، منزّه في ملكه، منزّه في إحيائه وإماتته، لا يحيي ويميت عن عبث وإنما لحكمة، فهو منزه في كل ذلك، لا يفعل ذلك إلا عن حكمة. هذا يدل على خضوع أهل السموات والأرض له خضوع قهر وخضوع عبادة. قهر يعني غالب، قوة. (الذي له ملك السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) هذا متمكن ورب العالمين وصف تعالى نفسه بالقهار (الواحد القهار) والقهر هو التمكن، هذا خضوع قهر. كثير من الرؤوساء في الدول يُخضِعون رعيتهم خضوع قهر. ربنا له خضوع، خضوع قهر باعتبار أنه هو المتمكن العزيز الحبار والمحيي والمميت هذا خضوع قهر لأنه متمكن. وخضوع عبادة (سبح لله) إذن هو يستحق التنزيه في كل هذه لأنه عندما تعز واحداً تخضع له خضوع عبادة؟ الرؤوساء هل تخضع لهم رعيتهم خضوع قهر أو خضوع عبادة؟ خضوع قهر. رب العالمين سبحانه وتعالى عباده يخضعون له في ملكه خضوعان: قهر وعبادة. البعادة (سبح لله) وقهر (العزيز الحكيم)، (يحيي ويميت) هذا قهر، سبحان من قهر عباده بالموت. إذن هذه الآية جمعت تنزيه خضوع العبادة (سبح لله) وخضوع القهر بما ذكر من الصفات فهو منزّه في ذاته وصفاته سبحانه.
سؤال من المقدم: ورد في بعض آي القرآن الكريم (السموات والأرض وما بينهما) أما في هذه السورة فلم يرد (ما بينهما) فهل لهذا دلالة؟
كل موطن في القرآن الكريم يذكر (وما بينهما) يأتي تعقيب على من يذكر صفات الله تعالى بغير ما يستحق، تعقيب على قول النصارى (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وعلى قول اليهود (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) المائدة). بعد أن قال تعالى (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا (17) المائدة) يقول بعدها (وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) المائدة) لِمَ يتخذ الولد وهو الغني؟ له ملك السموات والأرض وما بينهما لا يحتاج الولد. اليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه تأتي بعدها (وما بينهما) لماذا رقّيتم أنفسكم؟ هو تعالى لا يحتاج هذا حتى يتخذكم أبناء، لِمَ يتخذكم أبناء وهو الغني؟
لاحظنا أنه في كل موطن يقول (وما بينهما) تأتي تعقيب في الله على ما لا يليق. (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا (17) المائدة) (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) المائدة).
موطن آخر بياني (له ملك السموات والأرض وما بينهما) فيها ذكر ثلاثة أشياء: السموات، الأرض، ما بينهما، أبداً في كل موطن في القرآن الكريم يذكر فيها (وما بينهما) يذكر ثلاث ملل: اليهود والنصارى والمسلمين. في كل موطن يذكر (وما بينهما) يذكر في السياق ثلاث ملل اليهود والنصارى والمسلمين: في المائدة ذكر الكلام على بني إسرائيل (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ (12)) ، نصارى (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ (14) المائدة)، أهل الكتاب (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) المائدة)، ثلاث ملل. في الزخرف ذكر موسى وفرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)) وذكر عيسى (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)) ثم قال (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)) في كل القرآن إذا قال (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)) يذكر ثلاث ملل. وإذا لم يذكرها لا يذكر.
في آية سورة الحديد لم يقل (وما بينهما) لأن ما بينهما تعقيب على ذكر ما لا يليق بجلال الله والآية فيها تنزيه لله تعالى. والأمر الآخر ذكر ثلاث ملل وليس في الآية ذكر لها.
(يحيي ويميت) هو المنزّه في كل ما يفعل، في إحيائه وفي إماتته، في كل شيء وهذا يدل على التوحيد (وهو العزيز الحكيم) لا حكيم سواه ولا عزيز سواه هو الحاكم في كل شيء.
سؤال من المقدم: (سبح) بالفعل الماضي، (العزيز الحكيم)، (يحيي ويميت) بالفعل المضارع؟ وفي القرآن قال أحيا وأمات، وقدم الموت على الحياة؟
هذه لأن الموت والحياة مستمر. في مواطن أخرى قال (أمات وأحيا) قدم الموت. الأصل للأحياء والأموات أنه كان حيّاً فأماته الموت يسبق الحياة. وقد تذكر في صفات الله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) النجم) وقد يتكلم عن أموات سابقة أماتهم ثم أحياهم فيذكر الموت أولاً (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) النجم).
الفعل المضارع له أكثر من دلالة: هو يدل على الحال والاستقبال ويدل على الإستمرار أحياناً ويدل على الحقيقة غير مقترنة بزمن، تقول مثلاً: يذوب السكر في الماء، هذه تسمى الحقيقة من حيث هي لا تقول متى؟ لو أردنا أن نتكلم عن الفعل المضارع نفرد له حلقة كاملة.
في قوله تعالى (وهو على كل شيء قدير) فيها تقديم وتأخير: هو قدير على كل شيء أراد أن كل شيء حصراً، العموم. وهنا قال (قدير) ولم يقل قادر مع أنه استخدم قادر في مواطن أخرى في القرآن لأن قدير من صيغ المبالغة على وزن فعيل، إذا عمم القدرة (وهو على كل شيء قدير) أو أطلقها (وهو العليم القدير) قادر على كل شيء هذه يستعمل صيغ المبالغة (على كل شيء) فيها كثرة. إذا عمّم أو أطلق يستعمل المبالغة، إذا عممها أي إذا قال (على كل شيء) يستخدم (قدير) وإذا قيّدها بشيء يقول (قادر) (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37) الأنعام) قُيّدت بإنزال آية، (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) الأنعام) قيدت بالعذاب، إذا قيّدها يقول قادر لأن قادر إسم فاعل وليس مبالغة، (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) يس) قادر إسم فاعل من فعل قدر، قدير صيغة مبالغة. قدر هي مشترك لفظي (فقدر عليه رزقه) مشترك لفظي أي لها أكثر من معنى, يقولون مشترَك لفظي وأنا أرجح مشترِك لأنه إسم فاعل لأن الفعل غير متعدي فلما تقول مشترَك يحتاج مشترك لكذا تقديراً والمشترِك هو الأصل. فحيث أطلق القدرة أو عممها أطلق الصفة (وهو على شيء قدير) ومتى قيّدها قال (قادر) ليس فيها مبالغة وليس فيها كثرة، قدير فيها كثرة. فإذن حيث أطلقها يأتي بصيغ المبالغة وحيث عمّمها بكل شيء يأتي بصيغة مبالغة وحيث قيّدها يأتي بإسم الفاعل، هذا الفارق الدلالي بين إسم الفاعل وبين صيغ المبالغة التي تدل على التكثير.
سؤال 7: إجابة عن سؤال من الحلقة الأولى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) النحل)؟
المفرد له قد يكون يدل على الجنس أو على الواحد. مثلاً تقول: الحصان أسرع من الحمار، هل تعني به واحداً؟ أو الجنس عموماً؟ تعني كل الجنس، أنت لا تقصد حصاناً واحداً أو حماراً واحداً وإنما تعني كل الجنس. الأسد أقوى من الكلب، لا تعني به أسداً واحداً وإنما الجنس. إذن قد يؤتى بالواحد للدلالة على الجنس. فالنعمة قد يراد بها جنس النعمة والعرب أحياناً تأتي بالمفرد للتكثير والكسائي نقل لنا: أتينا فلان فكنا عنده في لحمة ونبيذا، يعني أكل كثيراً. إذن هي للجنس والجنس أكثر من الجمع أحياناً. نعمة أكثر من نِعَم وأنعم. مثال: نقول: لا رجل في الدار، لا رجلين في الدار، (لا رجل) نفيت كل الجنس أي لا واحد ولا اثنين ولا أكثر، لكن لما تقول لا رجلين في الدار فأنت تنفي العدد فقط يمكن أن يكون هناك واحد أو ثلاثة، لا رجال في الدار قد يكون هناك واحد أو اثنين. (لا رجل) تعني لا واحد ولا اثنين ولا أكثر. الجنس يجمع وهو أعم وأشمل. هذا احتمال. رب العالمين في القرآن يذكر الجنة ويذكر فيها الفاكهة يقول (فاكهة) ويذكر الدنيا ويقول (فواكه) فاكهة مفرد وفواكه جمع. فإذن إذا أريد الجنس يستعمل المفرد لأنه أعم وأشمل. النُحاة يضربون مثلاً نحن نعدّله نقول الرجل أقوى من المرأة الرجل لا يقصد به رجل بعينه وإنما الجنس.
r لما بكى الرجل العابد فقال تعالى أدخلوه الجنة برحمتي قال بل بعملي قال تعالى برحمتي قال بل بعملي فقال تعالى زنوا له نعمة البصر فوضعوها في كفة وسائر أعمال الرجل في كفة فرجحت كفة نعمة البصر فقال الرجل لا بل برحمتك. كم في نعمة البصر من تهيئة النور واستقبالها والأعصاب وغيرها! إذن لا تحصى مفردات النعمة الواحدة فكيف بالنِعَم؟ (وإن تعدوا نعمة الله) تعدوا أي أن تحاولوا إحصاءها. موجودة في القرآن نعمة ونعِم وأنعم. أنعم جمع قلة من أفضل (من 3 إلى 10) في اللغة فإذا صارت عشرة تدخل في الكثرة. قال تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (36) التوبة) الشهور إثنا عشر وأربعة أشهر. لما تصير 11 تدخل في الكثرة. في القرآن الكريم وردت نِعَم ونعمة وأنعم، نعمة وردت في الإفراد وقد يكون هذا الجنس والله أعلم إبراهيم u قال (شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) النحل) لأنه لا يمكن أن يشكر الإنسان نعم الله تعالى فأتى بجمع القلة. وقال تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً (20) لقمان) بالكثرة لأن النعم كثيرة الظاهرة والباطنة لكن لا يمكن أن نقول (شاكراً لنعمه)، نحن نشكر الله تعالى ونحمد الله بما نستطيع كما ينبغي لجلال وجهه والله تعالى أثنى على إبراهيم (شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) النحل).
أسئلة المشاهدين خلال حلقة 19/2/2007م:
-
ما مدلول (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أقسم تعالى بالفلق مقابل أربعة أشياء فهل للفلق عظمة كبيرة حتى أقسم الله تعالى به؟
-
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) الأنعام) فهل كلمة جرحتم هي من الجرح أو من الألم أو ما هو مدلولها في اللغة العربية؟
-
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) النحل) هل المقصود حياة طيبة في الدنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معاً؟
-
في الحديث الشريف: ” كلٌ يُغفَر له الله إلا المجاهرون” تخريج المجاهرون بالرفع وليس بالنصب؟
-
في سورة يس (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)) بحثت في بعض التفسيرات وأشعر أنهم تفاجأوا بيوم المحشر فهل يمكن أن تعني أن هؤلاء ما حصل لهم عذاب البرزج لذا تفاجأوا بيوم الحشر قالوا (يا ويلنا) ولو كان حصل لهم عذاب البرزخ ما تفاجأوا؟
-
ما هو إعراب الشح في قوله تعالى (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ (128) النساء)؟ هي مفعول به والأنفسُ نائب فاعل. أحضر تأخذ مفعولين. (أحضرت الأنفس الشح) أي البخل، لما خلقها ربنا سبحانه وتعالى جاء بالشح وأحضرها ربنا بالخِلقة. عندما خلق الأنفس جعل معها الشح (وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا (100) الإسراء) قتوراً خبر كان وتعني بخيلاً . الإنسان بخيل خِلقة فلما خلق تعالى الأنفس جاء بالشح. حضر يتعدى إلى مفعول واحد وأحضر يتعدى إلى مفعولين. أحضرتُه كذا أي جعلته حاضراً، أحضرتُهُ المجلس. في الأصل أحضرنا الأنفس الشح، ماذا أحضرنا الأنفس؟ أحضرناها الشحَّ. ما قال أحضرنا وإنما قال أُحضِرت لأن الله تعالى ينسب الخير لنفسه.
بُثّت الحلقة بتاريخ 19/2/2007م
2009-01-20 13:31:37الدكتور فاضل السامرائي>برنامج لمسات بيانيةpost