مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سورة الرعد – إبراهيم – الحجر
إطلالة على ثلاث سور من سور القرآن الكريم بعد سورة يوسف وهي سورة الرعد وسورة إبراهيم وسورة الحجر. هذه السور الثلاث كلها تتكلم حول تأسيس الاعتقاد لكن لكل واحدة منها خصيصة تتميز بها عما سواها لكن هذه السور الثلاث تؤسس للعقيدة وتناقش المشركين وتهددهم في إشراكهم وتنذرهم بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
أما سورة الرعد فإن في سورة يوسف جاء في آخرها قول الله عز وجلّ (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴿١٠٥﴾ يوسف) فذكر الله أن هؤلاء المشركين تمر بهم آيات كثيرة من آيات الله الدالّة على وحدانيته وعلى أنه هو الإله المستحق للعبودية ومع ذلك يعرضون عنها ولا يُعملوا عقولهم فيها. وتفضيل هذه الآيات جاء في سورة الرعد، يقول الله عز وجلّ في سورة الرعد بعد قوله (المر) وهذه الافتتاحية (المر) لا توجد إلا في سورة الرعد أما (الر) فهي موجودة في سورة يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر. (المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿١﴾) ثم بدأت بالآيات التي اشار الله إليها مجملة في آخر سورة يوسف فقال (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ) لماذا؟ (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) لا ينظرون إلى السموات والأرض مجرد نظرة عابرة بل ينظرون إليها بتفكر وتدبر يهديهم إلى خالقها وإلى توحيده وعبادته دون أحد سواه.
بعدما انتهت من هذا ذكرت السورة كثيرًا من إشكالات المشركين والردّ عليها فذكرت أنهم يتعجبون من قضية الإيمان باليوم الآخر (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أنبعث بعد موتنا؟ ويردّ عليهم القرآن.
وأيضًا يقول الذين كفروا (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لماذا لا يأتينا بآية نراها يصعد في السماء، يحوّل الأرض ذهبًا، الآية التي نختارها نحن؟ يقول الله عز وجلّ لنبيه لا تنشغل باقتراحاتهم وإنما أنت منذر ولكل قوم هاد (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ).
ثم تفيض الآيات في ذكر صفات الرب وأفعاله وقدرته وعلمه وإحاطته بعباده (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى) كل أنثى في العالم سواء من بني آدم أو الشياطين أو الجن أو من الحيوانات البرية أو البحرية أو الهوائية. ثم يثني على نفسه (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴿٩﴾) إلى أن يقول مبينًا أنه هو الذي يُدعى بحق (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴿١٤﴾) أرأيتم لو أن إنسانًا وقف عند بئر وفعل بيديه هكذا هل يأتي الماء من البئر ويقع في يديه؟ لا، ولو يجلس مائة عام! فكذلك الذي يفعل بيديه هكذا عند الصدقة، نفس العملية لن يأتيه إجابة ولن يغير من واقعه شيء.
ثم تتحدث الآيات عن مناقشة المشركين (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ۩﴿١٥﴾ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) بعدما قرر هذا كله بيّن أن الناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يستجيبون لهذه الدعوة دعوة الحق وقسم لا يستجيبون لها (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿١٨﴾).
ثم يذكر الله الفرق بين المؤمنين والكافرين وأن الفرق يظهر في تصرفاتهم وأفعالهم وهذا حق لأن الإنسان إذا آمن بالله وخاف من لقائه وخاف سوء الحساب فإن تصرفاته لا يمكن أن تكون كحال أولئك الذين لا يؤمنون بالله ولا يخافون لقاءه ولا يرجون لقاءه (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿١٩﴾) من هم أولو الألباب يا ربنا؟ وصفهم الله بثماني صفات:
الذين يوفون بعهد الله، الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، يخشون ربهم، يخافون سوء الحساب، صبروا ابتغاء وجه ربهم، أقاموا الصلاة، أنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية، يدرأون بالسيئة الحسنة. (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴿٢٠﴾ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴿٢١﴾ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴿٢٢﴾)
ثم يذكر من يقابلهم وهم (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴿٢٥﴾)
ثم تعود الآيات مرة أخرى إلى النقاش في قضية الاعتقاد لكن فيما مضى كانت في قضية التوحيد والإيمان باليوم الآخر واقتراح المشركين للآيات والآن في ذكر القرآن وهو من أسس الاعتقاد قال الله عز وجلّ مبينا عظمة هذا القرآن (وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) لكان هذا القرآن لعظمته وبالغ تأثيره.
ثم بين الله لرسوله أنك قد بينت لهم الحق فاستهزئ بك كما استهزئ بمن قبلك فلا تقلق ولا تخف
ثم تعود مرة أخرى لذكر الرب وتعظيمه وصفاته (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) يعني وهو الله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) أعطونا أسماءهم إذا كان لله شركاء، من هم الذين شاركوا الله في خلق الكون؟! (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ثم يذكر عقوبتهم في الآخرة (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴿٣٤﴾)
ثم تسترسل الآيات في نفس هذه القضايا، قضايا عقدية ومناقشات حادة مه هؤلاء الكفار وتفنيد لكل أباطيلهم وشبههم، من أباطيلهم أن الرسول يتزوج وعنده ئرية والمفروض أن لا يكون عنده (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) كل الرسل كانوا كذلك، وهذه الآية التي يستدل بها على استحباب الزواج وطلب الذرية لأن الأنبياء كانوا كذلك.
ختمت السورة بقول الله عز وجلّ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا) هذه دعواهم فالله عز وجلّ يقول لنبيه لا تأبه بهم (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) ارجعوا إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى لتروا أنهم قد بشّروا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه الذي هو عليه حتى في مكانه لأنه موجود في العهد القديم أنه يُبعث نبي للأميين في جبال فاران أي جبال مكة ووصف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل وصفًا لا يمكن أن ينطبق على أحد سواه. فقال الله عز وجلّ ارجعوا إلى أهل الكتاب وانظروا هل في كتبهم التبشير بمحمد وذكر صفاته أم لا؟
آخر كلمة جاءت في سورة الرعد (الكتاب) تستفتح سورة إبراهيم الأمر بالكتاب فيقول الله عز وجلّ (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ) لماذا أنزلته يا رب؟ (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ظلمات الشرك والكفر والشك إلى نور التوحيد والإيمان واليقين
وهذه السورة فيها قضية الإخراج من الظلمات إلى النور بارزة جدا ولذلك استفتح بها، قال الله تعالى لموسى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿٥﴾) السورة تفصح عن النور الذي جاءت به الأنبياء وهو نور التوحيد والإيمان وعن ضده ظلمة الشرك والزيغ – نسأل الله سبحانه وتعالى العافية والسلامة منها – وتستخدم في ذلك عددًا من الأساليب منها:
- ذكر دعوة الأنبياء السابقين
- شبهات هؤلاء الكفار والرد عليها
- جزاء الكافرين في الدنيا ماذا فعل الله بهم وجزاؤهم في الآخرة وماذا سيفعل الله بهم
- بيان أن كلمة التوحيد كلمة راسخة وأنها هي التي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة
- تذكير بنعم الله فالله أنعم عليكم وكل ما أنتم فيه من خير فمن الله فكيف تقابلون الله بأن تجعلوا لله شريكا؟! ولذلك يقول الله لموسى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي بنعمه عليهم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). ويأتي فيها أيضًا (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴿٧﴾) (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿٨﴾)
- ثم يذكرهم الله بالتاريخ الماضي (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴿٩﴾۞ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أتشكّون في الله الذي خلق السموات والأرض؟! سبحان الله!
ثم تستمر الآيات إلى أن تأتي إلى مشهد القيامة قال الله عز وجلّ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) يأتي الضعفاء والأتباع فيقولون للمتبوعين (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) قال المتبوعون (قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) خاتمتنا إلى هذه النار. وما انتهى الأمر عند هؤلاء المتبوعين يذهب هؤلاء الأتباع إلى إبليس فيزحمونه: يا ابليس أنت كنت في الدنيا تقول لنا وتزين فما هو المخرج الآن ونحن أمام نار شديدة؟ فيقوم إبليس خطيبا في أهل النار، هذه خطبة إبليس، يقوم بأفصح لسان (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) بعد فصل القضاء (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) لم أضع في رقبة كل واحد منكم حبلًا وجررته إلى النار، كل ما في الأمر قلتم لكم تعالوا فأتيتم! (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي بمنقذكم (وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) أي بمنقذيّ، ويعلن (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ثم يبين الله مصير المؤمنين وسبب ذلك المصير أنهم اعتمدوا على التوحيد (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً) وهي كلمة التوحيد (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهي النخلة (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴿٢٤﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿٢٥﴾) هذا هو مثل التوحيد صاحبه راسخ مستيقن والخير يأتي منه باستمرار، تجده يتصدق، يصل، يأمر بالمعروف، ينه عن المنكر، لا يقول إلا خيرا، من هذا الأصل الراسخ في الأرض كالنخلة تماما. (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) شجرة الحنظل (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) ليس لها رسوخ في الأرض تأتي الريح تجتثها لأنها ليست راسخة، ليست مبنية على اعتقاد ولذلك بسهولة تكون إلى النار نسأل الله السلامة والعافية..
ثم يذكّر الله بنعمه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴿٢٨﴾ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴿٢٩﴾ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴿٣٠﴾ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴿٣١﴾) ويذكّر بنعمه سبحانه وتعالى على عباده فيقول جلّ من قائل (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) هذا هو الحقيق بأن يُعبد وليست هذه الأصنام التي لم تصنع ولم تفعل شيئا لذلك يقول الله عز وجلّ مذكّرا عباده (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴿٣٤﴾) وموسى يقول (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
ثم يذكر الله قصة إبراهيم، أنتم أيها المشركون نقيم عليكم الحجة من خلال قصة أنتم تعرفونها تمامًا وهي إبراهيم (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴿٣٥﴾) هذه كانت دعوة إبراهيم فكيف جعلتم الأصنام تحيط بالكعبة؟! (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٣٦﴾) فإذا كان إمام الحنفاءء يخاف من الشرك فهل نحن نأمن على أنفسنا من الشرك؟! قد وقع في قلوبنا أننا لا يمكن أن نعبد الأصنام ولا يمكن أن نشرك بالله غيره لكن الحقيقة أنه من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا وأنه لا يأمن أحد على نفسه من الزيغ في باب الشرك والتوحيد ولذلك إبراهيم يقول (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴿٣٥﴾ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٣٦﴾) ثم يدعو ربه بدعوات جميلات عجيبات استجابها الله عز وجلّ له وجعلها في ذريته ثم يهدد الله الكفار بقوله (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴿٤٢﴾) لا تستعجل عليهم يا محمد فالعذاب قادم وهو شيء لا يطاق ولا يقادر قدره إلا الله جلّ وعلا.
ثم تختم السورة بخاتمة تدل على مجمل ما فيها من الدعوة إلى التوحيد (هَذَا) أي ما تقدم في السورة (بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ولما ختمت هذه السورة بالنذارة جاءت سورة الحجر كلها نذارة وتهديد ووعيد للكفار واختير اسمها من اسم أمة أُعدمت بالكامل إلا نبيها ومن آمن معه وهم قليل. قال الله عز وجلّ (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ﴿١﴾ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴿٢﴾) سيأتي عليهم يوم يتمنون فيه أن لو كانوا مسلمين ولكن قد فات عليهم هذا الأمر! قال الله (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿٣﴾ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴿٤﴾ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴿٥﴾) هذا كله تهديد. ثم يذكّر الله العباد بنعمه عليهم فيقول (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴿١٦﴾ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴿١٧﴾ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴿١٨﴾ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ﴿١٩﴾ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴿٢٠﴾ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) ثم يذكّرهم بأصل الخلق كيف خلقهم الله عز وجلّ وأمرهم بأن يعبدوه ولكن إبليس لما أُمر بالسجود أبى أن يسجد (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴿٢٨﴾ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿٢٩﴾ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿٣٠﴾ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴿٣١﴾ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴿٣٢﴾ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴿٣٣﴾ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴿٣٤﴾ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴿٣٥﴾ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٣٦﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿٣٧﴾ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٣٨﴾ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٣٩﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿٤٠﴾) قال الربّ (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴿٤١﴾ إِنَّ عِبَادِي) الذين يعبدونني ويخلصون لي (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿٤٢﴾ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٤٣﴾) الملاحظ أن الوعيد في السورة يأتي قبل الوعد، لما ذكر جزاء هؤلاء الكفار قال الله عز وجلّ بعدها (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٤٥﴾ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ﴿٤٦﴾) إلى أن جاء إلى قصة لوط وكيف عذّبهم الله عز وجلّ ثم انتقل إلى قصة أصحاب الأيكة ثم من بعدها إلى أصحاب الحجر هذه ثلاث أمم ذكرت متوالية وكيف استأصلها الله عز وجلّ وعذّبها، قال الله عز وجلّ (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ﴿٨٢﴾ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴿٨٣﴾ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿٨٤﴾)
ثم جاءت هناك أوامر وتوجيهات للنبي صلى الله عليه وسلم في مقابلة هؤلاء الذين يكذبون بآيات الله عز وجلّ فيقول الله (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٨٨﴾ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴿٨٩﴾) إذا طلبوا منك آيات أو تأتي بمعجزات لا تجبهم إلى شيء فإن مهمتك تنتهي عند النذارة ولذلك قال الله له (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) أي بالذي نأمرك به (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴿٩٤﴾) فلا تطعهم في شيء مما يقترحونه عليك (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴿٩٥﴾ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿٩٦﴾ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴿٩٧﴾) فماذا تفعل إذا قالوا لك كلامًا يسوؤك ويحزنك؟ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴿٩٨﴾) فإن هذا بإذن الله يسليك ويرفع عنك أذى قومك (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴿٩٩﴾) أي الموت. نسأل الله أن ينفعنا بالقرآن وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.