مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سورة النساء
نتحدث عن سورة النساء هذه السورة العظيمة التي هي ثاني أطول سورة في القرآن الكريم. هذه السورة سورة مدنية وموضوعاتها التي عالجتها هي موضوعات القرآن الذي نزل بالمدينة أحكام الأسرة والأحكام الشرعية المختلفة والتعامل مع اليهود والمنافقين وما إلى ذلك مما هو سارٍ في القرآن المدني.
هذه السورة الكريمة ذكر ابن مسعود أن فيها خمس آيات، يقول: ” إِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، لَخَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ثم ذكرهنّ وهي قول الله عز وجلّ (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴿٣١﴾)، وَقوله (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴿٤٨﴾) (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿١١٦﴾) وَقول الله عز وجلّ (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)) وقول الله عز وجلّ (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)) وقول الله عز وجلّ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿١١٠﴾)
ونلاحظ أن ابن مسعود وجد أن هذه الآيات كلها آيات رجاء وفضل من الله سبحانه وتعالى على عباده فالمؤمن يفرح بمثل هذا الرجاء الذي يُنثر في السورة فكلما جاءت أحكام فيها شدة وقوة وتأكيد على حقوق العباد يذكر الله فضله على عباده وأنه يغفر لهم إذا اجتنبوا كبائر الذنوب وإن اجتنبوا الشرك ونحو ذلك.
هذه السورة عند التأمل نجد أنها عنيت أشد العناية بالحقوق، ما هي الحقوق؟ هي جميع ما يلزم وما يُستحق: حقوق الله عز وجلّ سواء في توحيده أو في التزام شرعه أو حقوق العباد. ولما كانت في ذكر الحقوق ذكر الله عز وجلّ فيها وابتدأ بحقوق الضعفاء لأنها هي الحقوق التي يتخطاها الناس ويعتدون عليها فبدأ بهم لتعظيم شأنهم وتقديم أمرهم بل سميت هذه السورة سورة النساء لأن النساء عند العرب لم يكن لهن حق حتى إن المرأة من شدة هوانها عليهم كانوا يرثونها كما يورث سائر المتاع فإذا مات الرجل جاء أكبر أبنائه ووضع كساء على امرأة أبيه ثم صار له الخيار فيها إن شاء نكحها وإن شاء عضلها وإن شاء زوجها من يشاء وأخذ مهرها من شدة هوان النساء على العرب. وكان الرجل إذا مات لم يورثوا امرأة ولا صغيرا فجاءت هذه السورة لتنتصر لهؤلاء الضعفاء ولتؤكد على حقوقهم. يقول الله عز وجلّ في أول هذه السورة (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) هنا تذكير بحق الله وبحق الرحم (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) البداية هذه تدل على وجوب رعاية هذه الحقوق وأن الله رقيب على عباده في أدائهم. الحق الأول (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢﴾) إثما عظيما (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) كثير من الناس يقول ما صلة الأيتام هؤلاء بالنساء والتعدد؟ كان الرجل تكون عنده اليتيمة بنت أخيه أو بنت أخته أو بنت عمه فيربيها فإذا ناهزت الإحتلام تزوجها وأنقص في مهرها بحجة أنه كان ينفق عليها فالله يقول له اتق الله، عامل هذه اليتيمة كما تعامل سائر النساء من بنات الناس، يقول له الله: إن خفت أن لا تقسط في حق هذه اليتيمة ولا تعدل ولا تؤدي إليها حقها الذي أوجبه الله لها فما ضيّق الله عليك، قد وسّع الله عليه فانكح غيرها (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) وحتى في قضية التعدد يؤكد على الحق وأنه لا بد أن يعدل الإنسان بين هؤلاء الزوجات اللواتي أباح الله له أن يجمع بينهن. ثم يذكر حق النساء في الصداق فيقول (وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) عن طيب نفس وليس عن منّة أو خبث (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) لا تعتدوا على هذه المهور التي آتيتموهن فإنه حق لهن لا يحل لكم منه شيئ إلا ما طابت به أنفسهن. ثم ذكر حق الضعفاء (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) من حق السفيه الضعيف الذي لا يحسن التصرف بالمال أن تحفظ له ماله وتمسكه عنه فلا يبدده ويبذره (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿٥﴾) ثم ذكر حق اليتامى في أموالهم (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) يعني لا تعطوا اليتيم ماله حتى تختبروه وتنظروا هل هو رشيد أم لا. ثم انتقل إلى حق النساء وحق الصغار في الإرث الذي كانت العرب تحرمهم منه فقال الله (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ) ما قال لكم نصيب يدخل فيه الرجال والنساء لكنه نصّ على الرجال ثم نصّ على النساء وقال (وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) حتى لو ما ورثتم من أبيكم إلا عشرة ريالات اقسموا لهؤلاء الضعفاء من النساء والتامى حقهم (نَصِيبًا مَفْرُوضًا) تأكيد على هذا الحق. ونحن نقسم هذا المال قد يكون جالس بيننا قريب أو مسكين أو يتيم، له حق، حق جلوسه معنا لا بد أن نعتبره (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) لأن النفوس تتعلق بهذه الأشياء فلا يجوز أن نهمل هذه التعلّقات ثم يؤكد على حق اليتامى بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴿١٠﴾) ثم يشرع في قسمة الإرث، لماذا يقسم ربنا الإرث؟ لماذا لم يقل فاقسموه بينكم بالعدل ثم يتولى النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ لعلمه سبحانه وتعالى أن النفوس أشح ما تكون في أمر الأموال ولذلك ما رضي أن يقسمها أحد سواه فإذا مات الميت يقسم المال بالطريقة التالية: قال الله عز وجلّ (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ) بدأ بحق النساء، ويستمر في قسمة هذه الأموال حتى لما جاء إلى ذكر الأزواج قسم للزوج وقسم للزوجة (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) وقال (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ) لما انتهى من هذا كله وقسم وبيّن الحقوق توعد على مخالفة هذا بأنه محادة لله وتعدي لحدود الله فقال الله عز وجلّ (تلك حدود الله العظيم ومن يعص الله مهين)
ثم تستمر الآيات في ذكر أحكام متفرقة إلى أن يعود مرة أخرى إلى حق هؤلاء الضعيفات فيقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) كما كانت العرب تفعل مع المرأة عندما يموت زوجها يرثونها كما يرثون سائر المتاع (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) أن تمنعوهن من النكاح (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ويؤكد على حقهن في العشرة (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ثم يبين أيضًا حقهن في المهر (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿٢٠﴾) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أحق الشروط ما استحللتم به الفروج” يعني يجب الوفاء بكل شرط اشترطته المرأة عليك إلا أن تعفو هي عن حقها. وما تزال الآيات تذكر هذه الحقوق وتؤكد عليها وتستمر الآيات في ذكر ذلك كله إلى أن يقول الله سبحانه وتعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) لما ذكر الحقوق كاد الرجال أن يقولوا إذن النساء لا سلطان لنا عليهن قال الله (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فالرجل في جنسه وخلقته وما آتاه الله عز وجلّ أفضل من المرأة ليس فضيلة فرد على فرد وإنما فضيلة جنس على جنس ولذلك جعل الله القوامة بيده لأنه أقدر على القيام بها، قال (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ). ثم ذكر تلك المرأة التي تخرج عن طاعة الزوج (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) ويختم الآية بقوله (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) إن كان لك علو على المرأة كنت أكبر منها وأقوى وتستطيع أن تسيطر عليها فاعلم أن لك ربًا هو أعلى منك وأكبر، تذكر عظمته وعلوه فاتقِ الله في هذه الضعيفة التي ولاك الله أمرها. ثم قال (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴿٣٥﴾) ثم تأتي آيات الحقوق العشرة (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) الحق الأول أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، الحق الثاني (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، الثالث (وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)، الرابع (وَالْيَتَامَى)، الخامس (وَالْمَسَاكِينِ)،السادس (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) السابع (الجار الجنب) الثامن (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)، الجار ذي القربى الجار الذي هو من رحمك والجار الجنب الجار الذي ليس قريبًا لك والصاحب بالجنب كل من صحبك في عمل من صحبك في زمالة سفر أو ابتعاث أو غيرها فله حق بهذه الصحبة التي كانت بينكما حتى قال بعض العلماء إن الزوجة من الصاحب بالجنب التاسع (وَابْنِ السَّبِيلِ)، العاشر (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ملك اليمين له حق فارعَ حقه واتق الله أن تعتدي عليه أو تنقص من حقه شيئا ويدخل في ملك اليمين العبيد والإماء ويدخل فيه حتى الحيوانات التي ملكك الله شأنها فلا يجوز لك أن تسيء إليها أو تنقص من عيشها ورزقها.
ثم تنتقل الآيات بعد ذلك إلى ذكر أداء الأمانة التي هي من أعظم الحقوق فيقول الله عز وجلّ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٥٨﴾). ثم تذكر حق الله في الطاعة وحق الرسول صلى الله عليه وسلم في الطاعة وحق أولي الأمر أما حق الله فقد قال الله فيه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وأعاد الفعل لبيان أن طاعة الرسول مستقلة، يطاع الرسول ليس لأن الله عز وجلّ أمر بشيء والرسول جاء ليؤكد عليه، لا، بل لأن الرسول ذاته قد أمر به بغض النظر هل هذا الأمر جاء في القرآن أو جاء في غير القرآن لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى. ولما جاء إلى طاعة ولاة الأمر لم يفردهم بفعل مستقل ما قال وأطيعوا أولي الأمر لأن طاعتهم لا بد أن تكون موافقة لما جاء عن الله وعن رسوله فإذا أمروا بما أمر الله به ورسوله أطعناهم وإذا أمروا بشيء لم يأمر به الله ورسوله لم نطعهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما الطاعة في المعروف. فذكر هؤلاء الذين يطاعون الثلاثة، من هم أولو الأمر؟ العلماء والأمراء، هذا هو الصحيح في أولي الأمر والدليل على أن العلماء يدخلون في أولي الأمر قوله في نفس السورة (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أولي الأمر في هذه الآية هم العلماء ولما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأكّد عليها تحدث عن أولئك الذين ينحرفون عن طاعة الله وعن عدم تحكيم كتاب الله بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿٦٠﴾) وقال مؤكدًا حق الرسول في الحكم (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿٦٥﴾) ولما ذكر هذه الطاعة رغّب فيها بقوله (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿٦٩﴾ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴿٧٠﴾) نسأل الله أن نكون مع هذه الكوكبة التي هي خيار عباد الله على الإطلاق من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: الرسل، الصديقون، الشهداء الصالحون وما بعد هؤلاء هلكى. ولما ذكر طاعة الله ورسوله أكد على موضوع الجهاد لأنه من طاعة الله ورسوله وأيضًا من طاعة أولي الأمر والعجيب أنه لما ذكر الجهاد ذكر أن من أسباب وبواعث الجهاد نصرة الضعفاء والقيام بحقهم فقال سبحانه وتعالى (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٧٤﴾ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴿٧٥﴾) معنى الآية: لماذا لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين،؟ فالمستضعفون في بورما وفي أرتيريا ووفي إفريقيا الوسطى وفي غيرها من بلاد المسلمين لهم حق علينا، ليس فقط في المال بل في القتال يجب أن ننصرهم. لما سمع المعتصم بأن امرأة اعتدي عليها في عمورية في بلاد الروم وقالت وامعتصماه التفت من قصره وقال لها قد أجبناك وسيّر جيشا أوله هناك وآخره عنده فحاصر عمروية وأحرقها استجابة لنداء امرأة وحصل ذلك في المدينة عندما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع فقد اعتدي على امرأة جاء رجل إلى امرأة من المسلمين فربط اسفل ثوبها بأعلاه فلما قامت انكشفت سوءتها فصاحت فغار لها رجل من المسلمين فقام إلى اليهودي فقتله ذلك المسلم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بما حصل فحاصرهم وأجلاهم من المدينة. ثم تستمر الآيات تذكر الحقوق وتؤكد عليها إلى أن جاءت إلى حق المسلم الذي يأتي إليك ليستشفع قال الله عز وجلّ (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) اشفعوا ولا تتركوا إخوانكم إذا جاؤوا إليكم يطلبون منكم الشفاعة وتدعونهم، وإذا لقيت مسلمًا من حقه أن تسلم عليه وإذا سلم عليك من حقه أن ترد السلام (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴿٨٦﴾). ثم يذكر حق النفس وأن نفس المؤمن عظيمة عند الله، قال (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً)إلا على وجه الخطأ فقط ثم يذكر دية هذه النفس وحقها عند الله وأنه يجب على من قتلها شيئين: الدية والكفارة التي هي عتق رقبة فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين حق لله في ذهاب هذه النفس المؤمنة أما قتلها عمدًا قال الله فيها هذه الآية الرهيبة (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴿٩٣﴾) هل هناك أكثر من هذا الوعيد في حق من يعتدي على هذه النفوس البريئة المؤمنة حتى ولو التبس عليك أن هذه النفس قد تكون ليست مؤمنة فإياك إياك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) فتبينوا حتى في ميدان المعركة تبينوا لئلا تقع سيوفكم على من يتوقع أن يكون مسلمًا (فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لو مر بكم إنسان قال السلام عليكم تشكون أنه كافر فلا يجوز لكم أن تعاملوه بهذا الشك الذي وقع في نفوسكم بل يجب عليكم أن تتبينوا منه. وهذه يقال إنها نزلت في حق أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه عندما كان في المعركة كان في المشركين رجل لا يدع للمسلمين شاذة ولا فاذة إلا أتبعها بسيفه وأثخن في المسلمين قال أسامة فلحقته فلما رفعت السيف وأهويت عليه قال أشهد أن لا إله إلا الله فقتلته وشك أسامة في الذي فعل فجاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وما توقع أن ردة الفعل عند النبي كانت قوية جدا قال يا اسامة أقتتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟! قال يا رسول الله إنما كان يتقي بها، قال: أشققت عن قلبه يا أسامة؟ أقتلته بعد أن قال قال لا إله إلا الله؟ يا أسامة كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة قال فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يرددها حتى تمنيت أني اسلمت يومئذ ولذلك لما وقعت الفتنة في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه حصلت إشكالات بين الصحابة وبين أناس آخرين كان أسامة ممن اعتزل الفتنة تماما ولم يدخل في شيء منها من ذلك الدرس النبوي البليغ يخشى أن يهوي سيفه على من قال لا إله إلا الله. سلوا الله أن لا نلقى الله بقطرة من دم مسلم تراها من أعظم الجرائم “ما يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما”.
وما تزال الآيات تتحدث عن هذه الحقوق إلى أن يأتي إلى قول الله عز وجلّ (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) ورجع إلى أول السورة (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ﴿١٢٧﴾) ثم يذكر أن بعض النساء قد ترى من زوجها انصرافا عنها فيبين أن هناك مجال للصلح وأنه لا ينبغي أن يحصل بسبب ذلك ظلم (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿١٢٨﴾). ثم يذكر أن العدل بين النساء واجب لكن فيما يستطيعه الناس لا في غير ما يستطيعونه (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) فالحب ليس بيد الإنسان أن يحب من يشاء ويكره من يشاء فهذا لا يؤاخذك الله إن أحببت واحدة ولم تحب الأخرى لكن يؤاخذك الله في القسط والعدل معها في النفقة والقسم والأمور التي تكون في وسعك وطاقتك.
ولما ذكر هذه الحقوق ذكر حق الشهادة التي هي من أعظم الحقوق يقول الله فيها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) ولو كانت هذه الشهادة على نفسك تصادمت أنت وواحد في الطريق وتعرف من نفسك أنك أنت المخطئ فنزلت لكن إذا اعترفت مع أن الظاهر لرجل المرور أنه ممكن تخفف المصيبة أو تقلبها على خصمك، لو اعترفت لزمك ثلاثين ألف ريال ماذا تفعل؟ قال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) لا تشهد لأحد لفقره أو حتى لغناه بل اشهد لله وقم بحق الشهادة صادقا بغض النظر عن القرابات وبغض النظر عن المصالح وبغض النظر عن أي اعتبارات أخرى إلا أن تقوم بالشهادة لله عز وجلّ.
وتستمر الآيات بهذا المنوال ويذكر الله ما فعل اليهود بالحقوق قال الله عز وجلّ (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ) (وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ) إلى أن تختم السورة بقول الله عز وجلّ (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) الكلالة هو الرجل الذي يموت لا والد له ولا ولد وإنما تكلله النسب ليس له إلا إخوة وبنو عمّ فهذا يسمى كلالة ففي هذه الحالة التي لا يكون للإنسان فيها لا والد ولا ولد لا أصل ولا فرع كيف يكون الإرث؟ (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) ويؤكد هنا على حق المرأة في هذا الإرث ولو كان كثيرا (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ) (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عندما تنظر هذه النظرة الإجمالية للسورة وتعيد قرآءتها تنظر كيف اعتنت هذه السورة بالحقوق حق الله وحق عباده اعتبارا بالضعفاء والنساء وغيرهم فإنك ستقرأ السورة بشكل آخر وتفهم منها معاني قد لا تكون فكرت بها قبل ذلك.