في رحاب سورة

في رحاب سورة الفرقان – 3 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الفرقان – 3

تفريغ الأخت نوال جزاها الله خيرًا لموقع إسلاميات حصريًا

المقدم: وقفنا عند قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ (منها) من نار جهنم،

﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ إلى أن يقول الله سبحانه وتعالى ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ قل يا محمد! أذلك ما المقصود باسم الإشارة هنا؟ اسم الإشارة يدل على البعيد إلى من يعود؟

د. المستغانمي: قوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ مرتبط بالآية السابقة، الآية السابقة تحدثت عن مصير الكافرين المشركين المشؤوم وهو جهنم حيث قال ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِين﴾ أي: مصفدين مسلسلين بالأصفاد والأغلال ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ دعوا بالهلاك على أنفسهم، فقال الله على وجه التهكم بهم ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ لا تدعو بهلاك واحد وادعوا ثبوراً كثيراً لن يستجاب لكم! الثبور هو الهلاك كما شرحنا. هنا التلقين كما تعرفون قل: يا محمد! أذلك خيرٌ أذلك المصير المشؤوم، أذلك المكان الضيق من جهنم خيرٌ أم جنت الخلد؟! هل هناك عاقل يشك في أن جهنم خير أم الجنة خير؟ هذا الأسلوب أسلوب تهكم، حسب المخاطب (قل أذلك خيرٌ) أذلك المصير الجهنمي المشؤوم خيرٌ أم جنة الخلد؟! ﴿الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾.

المقدم: (وعد) من الأفعال التي تستوجب مفعولين، فأين المفعول الثاني هنا؟

د. المستغانمي: وعد الله المتقين الجنة.

المقدم: الجنة ليست مذكورة هنا؟

د. المستغانمي: الجنة التي وعدها المتقون، وهي محذوفة، وهنا لأنه بني للمجهول فكأنه يقول: (أذلك خيرٌ أم جنة الخلد التي وعدها المتقون) والهاء حذفت والكلام واضح. الخطاب هنا المفسرون وقفوا عنده في الحقيقة لمن وجّه الخطاب؟! والقرآن يحمل، وما دام يحمل هذا هو التنوع، وهذا هو الثراء، لو كان الحديث موجهاً للمشركين هنا تهكم.

المقدم: إذاً لمن هو موجه؟

د. المستغانمي: هو يجوز الوجهان: إذا قلنا: الخطاب موجه للمشركين معنى ذلك تهكم بهم كأنه يقول: قل أذلك المصير المظلم المشؤوم الضيق في جهنم خير أم جنة الخلد؟! لا أحد يجهل أن جنة الخلد أفضل، إذاً هو تهكم بهم. لكن ممكن أن يكون الحديث موجهاً للمسلمين والمؤمنين قل لهم يا محمد! على وجه التمليح والتلطف بهم، هاهنا المعنى اختلف يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين، ويكون من باب التمليح (أذلك خيرٌ) مصير الجهنميين (أم جنة الخلد التي وعد بها المتقون)؟ فهو يخاطبهم وهو يرفع من معنوياتهم ويتلطف بهم كما يقول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ من هو المزمل؟ محمد صلى الله عليه وسلم، لم يقل له: يا محمد! يا أيها النبي! يا أيها المتزمل، يا أيها المتدثر، تلطُّف والتلطف هذا موجود، فهنا يتلطف الله يعني الأسلوب مع المؤمنين من باب التلميح. في آيات أخرى ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ في سورة الصافات فهنا من باب التمليح ﴿أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ كانت لهم جزاء وفاقًا لأعمالهم.

المقدم: عندما قال الله تعالى: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ في سورة النبأ هل يقصد الجنة أم النار؟

د. المستغانمي: يجوز الوجهان

المقدم: حينما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ هل الجزاء يكون دائماً للعقاب؟

د. المستغانمي: لا ليس شرط الجزاء للعقاب وللثواب، وهنا كما قال ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾، وأيضاً ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًاالمقدم: فإذاً معنى ذلك هنا يتحدث عن الجنة ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾؟

د. المستغانمي: نعم الجنة كانت لهم جزاء ومصير ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾. وإذا كان الخطاب للمؤمنين فأيضاً فيها نكتة بلاغية رائعة القياس أن يقول لهم: قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعدتم، قال: ﴿أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ وأنتم منهم، إظهار بدل الإضمار بيّن أنهم من المتقين، للتعميم، إفادة العموم فقط المخاطبون؟ لا، كل من اتقى الله يدخل في هذا الخطاب؛ ولبيان أن التقوى هي سبب ذلك الجزاء العظيم. بينما لو قال لهم: (أم جنة الخلد التي وعدتم) الخطاب لهم، وُعد المتقون بسبب تقواهم، فالجملة تحتمل والقرآن حمّال ذو وجوه.

المقدم: الآية في سورة النبأ ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ حينما يتحدث عن المشركين عن عذاب النار في سياق الآيات (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿٢١﴾ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ﴿٢٢﴾ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴿٢٣﴾ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ﴿٢٤﴾ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴿٢٥﴾ جَزَاءً وِفَاقًا ﴿٢٦﴾)

د. المستغانمي: الجزاء يأتي للثواب وللعقاب ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ فالجزاء يأتي للاثنين.

المقدم: يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ لماذا الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾؟

د. المستغانمي: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾ بداية الآية الجنة لهم فيها ما يشاؤون وكما ورد في آية أخرى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾ ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾ خالدين: جنة الخلد، ثم يقول: ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ هذه الآية تحتمل معنيين أيضاً الله سبحانه وتعالى يتفضل بالجنة على عباده يعني هو فقط لو جازنا على أعمالنا أعمالنا لا تصل فهو يتفضل ويضاعف الحسنات ويضاعف الأجور، ومع ذلك وعد عباده الصالحين بهذا الجزاء العظيم، وعدهم وعداً، والله لا يخلف الميعاد. ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ كأنه يقول: من حقكم أن تسألوا هذا الثواب، كأنكم تستحقونه استحقاقاً، يعني بما معناه: أخذتم الجنة عن جدارة. أعطيك مثالاً في الواقع: أحد الأشخاص أردت أن تعمل معه معروفاً، عملت معه معروف قوي تقول: تفضلت علينا يا أخي، ويقول لك: لا والله هذا واجبي، هو ليس واجباً عليه، لكن أنت تقول: هذا من الواجب، الله سبحانه المتفضل الكريم يعطينا الجنة ويقول لك هذا من حقك أن تسأل عنه ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ يريد أن يبيّن جدارة واستحقاق المؤمنين الصادقين لهذا الثواب، هذا أولًا وهو تفضل منه جلّ جلاله. ثانيًا بعض المفسرين أتوا بنكتة رائعة قالوا: ﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ وعد الله لا يتخلف والملائكة دائماً تطلب تقول ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ﴾ الملائكة يسألون الجنة للمؤمنين، أدخِلهم جنات عدن التي وعدتهم فهو وعدٌ مسؤول من قبل الملائكة للمسلمين حتى الآيات إذا وصلناها إن شاء الله في سورة غافر ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ إلى أن يقول ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الملائكة تستغفر للذين آمنوا، هذا كان وعداً مسؤولاً أي مطلوبًا.

المقدم: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ يحشر من؟ (وما يعبدون) (ما) لغير العاقل

د. المستغانمي: (ما) لغير العاقل وتأتي للعاقل أحيانًا، (ما)عامة تنطبق على العقلاء وعلى غير العقلاء. في الواقع العملي غالبًا تأتي لغير العاقل لكن أحيانًا تأتي للعاقل ولغير العاقل فهي أعمّ وأشمل.

المقدم: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) هل هناك شيء من التعارض الذي يفهمه القارئ العادي من (أأنتم أضللتم) وبين (وما يعبدون)؟

د. المستغانمي: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ الكلام عن المشركين الكافرين، أما المؤمنون يجمعهم ويسوقهم صحيح هو يوم الحشر، لكن هنا ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ لأنه ستأتي بعدها آيات أخرى ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ هنا تقول الآية ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، وآيات أخرى ستأتي ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ والذي يُحشر على وجهه –والعياذ بالله- هو الكافر منكباً على وجهه. (ويوم يحشرهم) واذكر يا محمد، المفسرون يقولون: دائماً يقدر الفعل: (اذكر) واذكر ذلك اليوم الفظيع العسير العظيم المفزع ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ المشركون والكافرون في العالم كله ماذا يعبدون؟ إما يعبدون الأصنام وهم المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يعبدون النار، أو بعض الناس يعبدون الحيوانات، أو الأجرام وهي أيضًا لا تعقل، أو يعبدون الملائكة من دون الله، أو يعبدون عيسى، أو يعبدون العزير وهو عاقل فقوله تعالى ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ هي أعمّ للعاقل وغير العاقل، لأننا كثيراً ما قلنا مثلاً ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ * ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ وما سواها: الله سواها جل جلاله ولما يقول القرآن: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ (ما) هي أشمل (من) فقط للعاقل لن يدخل في ضمنها غير العاقل. فنحن اعتدنا في النحو نقول: (ما) لغير العاقل (ومن) لكن إذا تعمقنا في النحو (ما) أشمل وهذا ما قاله سيبويه وقاله العلماء. إذاً: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ يوجه لهم الخطاب: ﴿فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ﴾ الخطاب للمعبودين للذين عُبدوا من دون الله: الملائكة، والمسيح، وعزير، والأصنام، والنار.

المقدم: فكيف يخاطب النار ويخاطب الأصنام، ويخاطب البهائم التي عُبدت، ويخاطب الأجرام التي عُبدت، يعني ربما يخاطب عزير ويخاطب المسيح، ويخاطب فرعون الذي عُبد، لكن كيف يخاطب النار؟

د. المستغانمي: هذا الكلام طرحه المفسرون، عندما خاطب المعبودين وقال: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي﴾ الخطاب للعقلاء هذا ظاهر الملائكة وعيسى وكذا. ولكن غير العقلاء لا يمتنع في حق الله أن يخلق فيهم إدراكاً ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ تقول قولاً لا يمتنع ذلك، وأن نأخذ الأمور على حقيقتها كما قال الإمام الألوسي البغدادي.

المقدم: لأن البعض يقول: بأنها تقول: فعلاً أي: أنها تستقبل المزيد تعبير مجازي؟

د. المستغانمي: هذا وارد وهذا وارد، ما دامت المسألة لا تتعلق بصفات الله وأسمائه الحقيقة واردة والمجاز وارد، ولا خلاف حتى عند أهل السنة، فيحملونها هذا المحمل، فالله تعالى لا يعجزه جل جلاله أن يخلق في الأصنام إدراكاً للرد ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ والدليل على ذلك أنهم قالوا (سبحانك) ردّوا، فلا يمتنع ذلك على الله سبحانه وتعالى.

لكن السؤال: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ﴾ فيه شيء جميل جداً ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ يعني هل أنتم طلبتم منهم عبادتكم؟ أم هم عبدوكم وضلّوا من تلقاء أنفسهم؟ مثلما قال لعيسى ابن مريم ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ

لم يقل لهم: (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أضللتم عبادي أم ضلوا السبيل؟ وضع المسند إليه (أأنتم)؛ لأن الإضلال وقع وانتهى حصل، السؤال ليس لوقوع الإضلال أم لم يقع، من الذي أضلهم؟ يريد هل أنت الذي أضللت أم هم ضلوا من أنفسهم، وليس السؤال عن الفعل، الفعل وقع وحصل، إذاً فالسؤال يراد منه الاستنطاق والإقرار، إما تقولون: أنتم أضللتموهم أم قل: هم ضلوا السبيل وحدهم، هذا الذي يراد من السؤال، يراد منه الاستنطاق، لذلك صيغ بصيغة تقديم المسند إليه، والخبر عنه فعل (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ).

المقدم: سؤال آخر: نحن نقول: ضل السبيل أو حاد عن السبيل ضل عن السبيل؟

د. المستغانمي: في اللغة العربية في الاستعمال العادي نقول: ضل عن الطريق، ضل عن السبيل. أما هنا: النحويون يجيبون بجوابين: الجواب الأول: ضُمن الفعل (ضل) بمعنى: (أخطأ) كأنه يقول: أم هم أخطأوا السبيل؟ ضلوا السبيل بمعنى أخطأوا الطريق، هذا المعنى الأول.

المعنى الثاني للنحويون: يقولون: منصوبة بنزع الخافض، الخافض موجود: (ضلوا عن السبيل) (وضلوا السبيل) نزع الخافض في اللغة هذه تقنية لغوية رائعة.

المقدم: إذاً الجواب: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾.

د. المستغانمي: هذا الجواب، جواب البيان القرآني ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ أولاً: سبحانك كلمة (تنزيه) وكلمة (تنزيه) تقال عند التعجيب، أنت لكل مُعجبة سبحان الله! وعندما يكون المقام مقام خضوع واعتراف، سبحانك! كما قال عيسى عليه السلام لما خاطبه الله: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ لم يجد كلمة إلا أن قال ﴿ سُبْحَانَكَ﴾ أنزهك يا ربي من أن أقول هذا الكلام! من المستحيل، وكذلك الأصنام، والملائكة، والشجر والنار التي تعبد تقول: سبحانك! تعظيم لله وتنزيه لذاته العلية، واستنكار من المستحيل أن يصدر منا ذلك.

المقدم: لكن بعض الآلهة قالت للناس اعبدوني مثل فرعون قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾.

د. المستغانمي: يوم القيامة يندم الندم الأكبر وفرعون عندما رأى الماء فقط قال ﴿قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ لما يرى نفسه في وسط الجحيم سيتبرأ ويقول هذا الكلام، هو لا يريد شيئاً. لذلك (سبحانك ما كان ينبغي لنا) نفي شديد، لو شاؤوا لقالوا: سبحانك ما ينبغي لنا أن نتخذ، (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) هذا أسلوب الجحود عندما نقول: (ما كان) وننفي الخبر عن طريق (ما كان) يعني من المستحيلات. ما قالوا: ما كان يصح، ما كان يستقيم، لا (ما كان ينبغي) (ينبغي) فعل مطاوعة لبغى، بغى وانبغى، كأنهم يقولون: سبحانك ما كانت أنفسنا تطاوعنا أن نطلب أن يعصوك، هذا أسلوب المطاوعة. أبداً ما ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء! انظر إلى (اتخاذ) نحن قلنا في الحلقة الأولى من الأيقونات اللفظية في هذه السورة الفعل (اتخذ) لم يقولوا له: ما كان ينبغي لنا أن نطلب، أن نلتمس، لا، بل قال أن نتخذ أتباعاً وأولياء، الاتخاذ فيه تكلف يعني: الذي يطلب من إنسان أن يعبده هذا يتكلف، الفطرة تقول: لا إله إلا الله، والفعل (الاتخاذ) ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ﴾ لما تحدث عن المشركين قال ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً﴾ اتخذوا بمعنى: تكلّفوا، وإلا ما في شجر طلب منك أن تعبده، لما يندم المشرك يقول: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ لم يقل: يا لتني اتبعت الرسول، لو اتبعته فالاتباع جميل، ليتني اتخذت وكلفت نفسي وقرأت السنة وقرأت القرآن واتخذت سبيل الرسول فيه مشقة، الاتخاذ هنا شيء عجيب وجمل رائعة تدل على ثوب السورة اللفظي.

المقدم: وهنا يقول: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾.

د. المستغانمي: (دون) هو ظرف، ما كان لنا أن نتخذ عباداً من جانب غير جانبك، ابتداء الغاية قبل الظرفية كأنه يقول: لا يحسن بنا ولا يصح ولا يستقيم أن نتخذ عباداً لا يعترفون لك بالإلهية من دونك، من الجانب الآخر، كما قال تعالى ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي يقف في شقٍ غير شق الله والرسول، هذا قريب منها.

(ومن) الأخرى للجنس من جنس الأولياء، والأولياء جمع: ولي، وولي كلمة تجمع المتناقضين، الولي هو الله ولي الذين آمنوا، يعني يتولاهم ويحبهم. الولي في اللغة تأتي على: المولى، وعلى العبد، على الناصر وعلى المنصور، من الكلمات المشتركة اللفظية التي تدل على المتناقضين. فلما يقول الله: (الله ولي الذين آمنوا) ناصرهم ومربيهم، ولما نقول: ما كان لنا أن نتخذ من دونك أتباعاً نقول: الله مولانا، ويقال: فلان مولى فلان، أي: عبده أو خادمه، إذاً هذه من التي تجمع المتناقضين والأضداد.

المقدم: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ﴾ السؤال: الله تعالى يعرف الأسباب وهم كأنهم يبررون فلماذا أدخلوا آباءهم ولم يأت الحديث عن آبائهم الحديث عن المشركين، لماذا تحدث هنا هؤلاء الذين عُبدوا لماذا ذكروا سيرة الآباء في هذا السياق؟

د. المستغانمي: كلام وجيه جداً قالوا: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ﴾ أولاً: أقف عند (متعتهم) التمتيع كل الدنيا مهما كانت بزخرفها وملذاتها متاع! كل ما في الدنيا من ملذات متاع، أما ما في الآخرة والجنة فهو نعيم، وكل ما في الدنيا من شهوات وملذات وزخرفها ومن ذهب متاع.

وجذر الكلمة (متع): أمتع الشيء يعني: تمتع بمعنى: وجد لذته في ذلك الأمر. متعتهم وأعطيتهم من المتاع الكثير، هذا المتاع الكثير أعطيتهم وأعطيت آباءهم، القرآن يصور تجذّرهم في النعم، كان الأولى أن تلك النعم التي أسبغها الله عليهم أن تدعوهم إلى الاعتراف بالمنعِم، ولكن متعتهم وآباءهم للأسف حتى قادتهم تلك النعم إلى الكفران، حتى نسوا الذكر. يريدون أن يبينوا الآلهة المزعومة الأصنام تبيّن أن أولئك المشركين انغمسوا في متاع الدنيا وكان ذلك متأثلّا متجذراً في الآباء.

المقدم: أنا الذي لا أفهمه هنا: كيف أن هؤلاء الذين عبدوا من دون الله حينما جاءوا يذكرون السبب -الذي أفهمه- كأنما نسبوا السبب إلى الله سبحانه وتعالى، يعني الذي فهمته كأنهم يقولون: سبب عبادتهم لنا هو: أنك يا الله متعتهم وآباءهم (حتى) لانتهاء الغاية حتى وصلوا إلى أنهم نسوا؟

د. المستغانمي: جميل، لكن الواحد إذا قلت لك: يا رب متعتهم، وهل من الضروري أن يدعوهم المتاع والتمتيع إلى الكفران؟! هذا كأنه من باب كفران النعمة، كان الأولى بهم أن يشكروا الله يعني باختصار هو لما سألهم (أأنتم أضللتم عبادي أم هم ضلوا)؟ هم يريدون أن يقولوا: هم ضلوا السبيل لكن ما قالوا: هم ضلوا السبيل، قالوا يا رب أنت متعتهم، ووسعت لهم في أموالهم وأرزاقهم والصحة والسيارات، والأموال والملايين، حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً، وكان الأولى بهم ألا ينسوا الذكر، وألا ينسوا هذه العقيدة السليمة، والفطرة تدعوهم إلى الإيمان. وذكروا (الآباء) جواباً على سؤالك لزيادة التعريض بالمشركين وآبائهم حتى الآباء ليسوا معذورين في الإشراك، حتى أهل الفترة المختلف فيهم جاءتهم الرسل السابقون. (حتى نسوا الذكر) هم يعلمون أن القرآن هو الذكر، وأن الدعوة هي الذكر ﴿وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ كانوا قوماً هلكى هالكين.

المقدم: حتى لتقريب المثل – ولله المثل الأعلى- كأني أشبه الأب يخاطب أبناءه فيلومه لائم يقول: لماذا أبناؤك مثلاً لا يتبعونك لم يعملوا مثل ما أنت تعمل؟ لم يمشوا على صراطك لم يمشوا على طريقك؟! فيرد فيقول: أنا دلعتهم وأنا وفرت لهم المتاع بدل من أن يشكروا ويتبعوا ويدرسوا، فانحرفوا.

د. المستغانمي: في الحقيقة الجواب ضمني من خلال الكلام التي ذكرته المعبودات التي لا تسمع ولا تنفع أنطقها الله، يا رب أنت متعتهم وعوضاً أن يشكروا تلك النعم هم وآباؤهم كفروا ونسوا الذكر، هم في الحقيقة نسوا الذكر أم أعرضوا عن الذكر؟ هم في الحقيقة أعرضوا. شبّه البيان القرآني إعراضهم عن القرآن بالنسيان لأن الفطرة تقول لك: يا أخي! أنت عبد لله، الفطرة موجودة في كل إنسان فطرة الله التي خلق الناس عليها وفطر الناس عليها، نحتاج إلى التذكر فقط فهم قالوا: حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً هلكى وهالكين.

وانظر إلى التعبير لم يقولوا: حتى نسوا الذكر وباروا يعني: هلكوا، لا، حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً متمكنين في البوار، البوار: هو الهلاك، وورد: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ دار البوار: هي جهنم يصلونها دار الهلاك دار التدمير والعذاب. أنا يعجبني هذا التعليق القرآني: كان البور متمكناً منهم، أما لو قال: حتى نسوا الذكر وباروا أقل في التعبير.

المقدم: ما المقصود بـ (الذكر)؟

د. المستغانمي: الذكر هو القرآن يذكر بالحقيقة ويذكر بالحق ويذكر بالعقيدة الصحيحة، كل ما يذكر لكن هنا المقصود هو القرآن.

المقدم: والقرآن بالقرآن يفسر كما في سورة طه ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ * ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾. نريد أن نكمل بعد قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ الآن سوف يأتي كذلك خطاب الله سبحانه وتعالى للجهة الأخرى المقابلة.

المقدم: حياكم الله من جديد لا زلنا في رحاب سورة الفرقان من سور القرآن الكريم وكأني أرى صورة ولا أستطيع أن أقول: إلا صورة جميلة تمثيلية واضحة جداً الله سبحانه وتعالى يبدأها فيه: (ويوم يحشرهم) واذكر يا محمد! يوم يحشرهم فالحشر حاضر يحشرهم وما يعبدون، عندنا فريقين: يحشر المشركين والذين عبد المشركون، يعني: الذين عُبدوا، فالسؤال الأول سأله الله سبحانه وتعالى للذين عُبدوا من دون الله قال لهم الله سبحانه وتعالى ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي﴾؟ فأجابوا ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي﴾ أجابوا جوابهم الذي كنا وقفنا عنده، لما انتهى كلامهم كلام الذين عُبدوا كأن الله سبحانه وتعالى اتجه إلى الذين عبَدوا، إلى المشركين قال لهم ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ الذين عبدتموهم كذبوكم بما تقولون ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ أي: لا تستطيعون، صورة عجيبة غريبة.

د. المستغانمي: وأنت وقفت على معالمها. هو في الحقيقة الآن الخطاب توجه للمشركين للعابدين الذين أشركوا مع الله، لكن ما الذي دلنا وما الذي دلك؟ هذا المشهد القرآني العظيم، لم يقل: وتوجه الخطاب إلى المشركين، هذا يسمى في التقنيات اللغوية وفي فن الرواية: الاقتطاع من الحدث، كأننا الآن بعدما قال ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ يحشر المشركين ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ هنا فريقين قدّم لهم وقال لهم ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ بعدما أجاب المعبودون من دون الله الأصنام الآن توجه الخطاب كأننا الآن في مشهدٍ من مشاهد القيامة ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ فما أنتم قائلون؟! المشهد هذا المشهد نقول: انتقل البيان القرآني إلى تصوير المشهد، لأنه لو أتى بالفعل (قال) ويقول للعابدين، ما زلنا في شيء خيالي، لكن لما قال مباشرة: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ وهذا فن الاقتطاع من المشهد نعيشه نحن الآن. وسأقول شيئين: (الفاء) هنا في قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ واقعة في جواب شرط محذوف يقدّره الفاهم: إن كنتم تقولون هؤلاء آلهة فقد كذبوكم، لما يقرأ المسلم ويتدبر (فقد كذبوكم) أصل الكلام محذوف إن كنتم تقولون هؤلاء آلهة فقد كذبوكم، الفاء واقعة في جواب شرط محذوف. فن الاقتطاع هذا في القرآن ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ يقال لهم: تقول لهم الزبانية، فالفعل يحذف لتقريب المشهد، هذا في القرآن، أين الكاميرا المعاصرة، أين الإخراج السينمائي المعاصر من الإخراج البياني القرآني؟! يوسف عليه السلام لما عبر الرؤيا لللذين كانا معه في السجن، فقال لهم ذلك الشاب الذي قال: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ هذا عند الملك، الشاب الذي خرج من السجن ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ * ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ مباشرة يعني وافق الملك وذهب الشاب ودخل السجن، كل هذا مختصره: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ هذا فن الاقتطاع من الخبر، يعني القرآن يجعلنا نعيش يوم القيامة في هذا المشهد العظيم.

المقدم: إذاً الله سبحانه وتعالى حين يقول ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ ما المقصود ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾؟

د. المستغانمي: فما تستطيعون صرف العذاب عنكم ولا نصر أنفسكم. هذه الآية فيها قراءات: تقرأ: ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ وتقرأ في رواية صحيحة: ﴿فَمَا يسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا﴾ فعلى القراءة الأولى: فما تستطيعون أنتم صرف النار عن وجوهكم كما ورد في الأعراف ﴿رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ وكما وردت في سورة الفرقان في النهاية ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ إذاً (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا) عن أنفسكم نار جهنم (ولا نصراً) لأنفسكم ولا لغيره.

ولو كان الخطاب على قراءة:(فما يستطيعون) بقراءة صحيحة أخرى قرأها القراء العشرة: فما تستطيع الآلهة لكم صرف النار عنكم ولا نصركم، فكِلا الفريقين لا يستطيعان، ضعف الطالب والمطلوب.

المقدم: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ ماذا يظلم؟

د. المستغانمي: ومن يظلم منكم في الدنيا نفسه بالشرك ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ من يظلم غيره، هذه تذييل عام كل من يظلم ويقع في الظلم وأعظم الظلم هو الشرك نذقه عذاباً كبيرًا، والآية واضحة.

المقدم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ أول سؤال: ما علاقة هذه الآية بما قبلها؟

د. المستغانمي: لعلك تذكر عندما قلنا سورة الفرقان سورة فرّقت بين الحق والباطل، فرّقت بين حقائق التوحيد والإسلام والشُبَه، وتعللات المشركين كانوا يلقون في وجه الإسلام الشبهات، في وجه الرسول، قالوا لماذا لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة؟ لماذا أرسل رسولاً بشراً؟ نحن قلنا الآية قالت: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ * ﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ﴾.

المقدم: لماذا جاء الآن هذا الجواب هنا؟

د. المستغانمي: قبل أجابهم هم لديهم شبهات كثيرة، الشبهات سنعيد قراءتها ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ أي: ما لهذا الرسول بشر، ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾ يريدون ملكاً معه منزل، ﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ الجواب الذي أتاهم. أتاهم عن الاثنتين الأخيرتين: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ أجابهم عن المطلبين الأخيرين. والآن أجابهم عن البشرية، هذه سنة الله في الكون في الحياة: وما أرسلنا يا محمد قبلك أحداً من الرسل إلا كان بشراً يمشي في الأسواق ويأكل ويشرب وينام ويتزوج.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ أين المفعول به؟ وما أرسلنا قبلك رسولاً من المرسلين، أحداً من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام. ما وراء (إلا) من الناحية الإعرابية هو (حال) ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا حال كونهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق لا بد أن يكونوا رسلا. وأنا أتدبر في هذه الآية الكريمة، نحن قلنا هذا في الحلقة الأولى والثانية قلنا: تنزّلوا يعني: وتنازلوا، في البداية قال: قالوا لم يكن ملك لو أنزل إلينا ملك، أو قالوا: معه ملك يعني: نحن نقبل أن يكون بشرٌ ونطلب أن يكون معه ملك رديفاً له ثم قالوا: نقبل أن يكون بشراً، لكن يلقى إليه كنز، ونزلوا أو جنة في مكة في شدة الحرارة، هذه في الحقيقة استوقفتني مع آية سورة الإسراء عندما قالوا أيضاً في تعنتهم والشبهات قالوا ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ أي نبع ماء، ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا﴾ هنا الترقي غير التنازل، العكس، هذا الذي لفت انتباهي وأحببت أنقل لك هذه المعلومة. أيهما أكثر الينبوع أو الأنهار؟ الأنهار أكثر، ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾ المطالب زادت ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ يعني بيت من ذهب، تعجيز ما فوقه تعجيز، ﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ نلمسه بأيدينا ونقرؤه، الله أجاب ولقن رسوله قل لهم: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ ما أنا إلا بشر رسول. الذي لفت انتباهي أن في سورة الفرقان تنازلوا كما قلنا: ملك، رجل مع ملك، رجل غنيٌ له كنز، ورجل له جنة. لماذا في سورة الفرقان هذا التنازل؟ لأن السورة جوّها جو إنزال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ هذا هو المفتاح، لما كان القرآن يتنزل من السماء وكان المفتاح (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ) جاء التنازل.

في سورة الإسراء سورة ارتقاء من الأرض إلى السماء، نكتة عجيبة! – ولله في خلقه شؤون وفي القرآن أسرار- في سورة الإسراء الذي أسرى بعبده من مكة إلى المسجد الحرام، ومن المسجد الحرام عرج به إلى سدرة المنتهى عند الجنتين يغشاها ما يغشى، هذا الارتقاء ناسب فيه أن يذكر العكس، وطلبوا الينبوع والجنات إلى أن ترقى في السماء، الله أجابهم قال: ليس الرقي الذي تطلبونه، إنما الارتقاء بالتكريم وكرّم نبيه وعرج به، ولم يعرج بنبيٌ كما عُرج بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

انظر إلى التوافق بين المطالب والشبهات، وبين روح السورة وجوها، ونحن في رحاب سورة.

المقدم: الله سبحانه وتعالى يقول ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ من؟

د. المستغانمي: (بعضكم لبعض) تركها مبهمة: الغني فتنة للفقير والفقير فتنة للغني، الصحيح فتنة للمريض، والمريض فتنة للصحيح، هذا مريض يقول: يا أخي لماذا لم يعطني؟ فتنة، عليك أن تصبر ويرزقك وراء الصبر الكثير، جعلك غنياً فاشكر وتصدق واصبر، جعلك فقيراً اصبر فإن الله سيرزقك. المفسرون قالوا: الناس للناس فتنة، محمدٌ صلى الله عليه وسلم حالة محمد الفقير المسكين النبي فتنة لهم ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ يعني تريدنا أن نؤمن أنزل هذا القرآن على رجل من أغنى أغنياء مكة أو الطائف ذو شأن عظيم، فجعل الله النبي فتنة لهم؛ لأنهم استكبروا بالمال وبالذهب. حالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، الفقراء: بلال وصهيب وعمار فتنة، أبو جهل وأمية بن خلف قالوا: كيف نؤمن وقد سبقنا هؤلاء الأعبُد؟! ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾، وفي عهد نوح قالوا له: لن نؤمن لك حتى تطرد هؤلاء فقال لهم نوح ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾. بل محمد صلى الله عليه وسلم قال الله له نهياً موجهاً لمحمد ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ أنت تحاسبهم؟ ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ * ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾، هذا التفسير، يعني: هذا الأقرب إلى الشرك وإلى التوحيد، لكن أيضاً الفقير فتنة للغني، فنحن بحاجة أن نأخذ دروساً الله يقول: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾؟ لنرى أتصبروا؟ هذه واحدة، (أتصبرون) أصلها: (اصبروا) لما قال القرآن ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ انتهوا. أحياناً الاستفهام يخرج للحثّ، هنا (أتصبرون)؟ معناها: اصبروا بارك الله فيكم، وسيأتيكم خير كبير.

وبعض العلماء قال: لنرى أتصبرون أم لا تصبرون؟ هنا للإقرار. لكن الأولى الحثّ، وأنا أميل إلى هذا الرأي، لماذا؟ فهل أنتم منتهون؟ انتهوا إن كنتم عقلاء.

المقدم: لكن ختام الآية أو تذييلها ربما يدل على المعنى الأول ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ بمن يصبر أو لا يصبر.

د. المستغانمي: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ هو يقول: أتصبرون؟ صبركم خير لكم والله بصير وسوف يجازيكم. هذا التذييل يجذب محمداً صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين معه ليتوبوا توبة نصوحاً وليصبروا، لأنه ليس من السهل أن تصبر على مكر الأعداء، وبلاء الأعداء.

المقدم: هنا لما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ البصر والإبصار والرؤية مترادفات وردت في السورة كثيراً، أو بشكل مضطرد يعني هنا يقول الله سبحانه وتعالى عن نار جهنم ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ الآية التي بعد هذه السورة أو بعد هذه الآية مباشرة ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ ثم يقول مباشرة بعدها ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ هذا فقط الآن اطلعت إليه ما أدري إذا وردت كذلك مصطلحات أخرى.

د. المستغانمي: كلامك صحيح الفعل (رأى) له حضور مكثف، وبصيرا وخبيرا من أسماء الله الحسنى أيضاً وردت أيضاً مكررة، فالله سبحانه وتعالى بصير: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ ونصيراً، وانظر أيضاً ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ الذي يربك ويربيك ويرزقك ويحنو عليك ويعتني بك، (ربك) فيها الكثير من التسلية من الطمأنة للرسول، لم يقل له: (وكان الله بصيراً) موجود في آيات أخرى. ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ ربك فيها تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم، تخيل الله يقول لمحمد: وكان ربك الذي معك الذي يؤيدك هذه الكاف إضافة الكاف للرب موجودة في كثير من السورة، من التعابير المكثفة ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ (وكان ربك) كثير من الأيقونات المكررة لتسلية قلب محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الكلمة تقع بلسماً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. أما الآية الثانية هذه لها كلام طويل.

المقدم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾.

أول سؤال: لماذا لم يقل: وقالوا لولا أنزل إلينا الملائكة؟ كما قال هنا: وقالوا كذا وقالوا كذا، لماذا وصفهم بالذين لا يرجون لقاءنا؟

د. المستغانمي: سجّل صفة من صفاتهم أكثر، دائماً هذه قاعدة مضطردة في القرآن وهو أسلوب بلاغي: أظهر بدل الإضمار لو قال: (وقالوا) المشركون، الحديث عنهم لكن قال: (وقال الذين لا يرجون) وسمهم بسمة جديدة هذا المقصود: أنهم لا يريدون لقاء الله، ولا يرجون لقاء الله، ولا يؤمنون بلقاء الله. في البداية وصفهم بالكافرين بأنهم (قال الذين كفروا) ووصفهم مرة بأنهم ظالمون، ووصفهم بأنهم المكذّبون، هنا وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله، فهم يؤمنون بالله، ويشركون معه غيره ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ لكن يشركون معه الأصنام، لكن لا يرجون لقاء الله بمعنى: لا يؤمنون بيوم القيامة، لا يرجون لقاءه ولا يخافون عقابه.

المقدم: هم لا يرجون لقاءه، أو هم لا يؤمنون بذلك اللقاء؟ لأن الذي لا يرجو هذا الأمر معناه أنه يعلم أن هنالك يوم للقيامة، لكنه لا يرجو أن يبلغه، أن يصل إليه.

د. المستغانمي: لأنه كفر ولم يعد له شيئاً وفي آية أخرى بعدها ستأتي ﴿لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ لا يرجون النشور، لأن النشور سيعرّضهم للمساءلة، أي: لا يبغونه ولا يؤمنون به، فكل الآيات تتضافر ومن اللبنات اللفظية لهذه السورة: فعل الترجي: ﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ وبعدها قال: ﴿لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ هو مكرر بطريقة حكيمة. سجّل عليهم بالإظهار بدل الإضمار صفة جديدة، وسمهم بالكفر وبالظلم وبالإشراك وهنا قال ﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾.

المقدم: وهذا مقصود كما أنه أظهر المتقين في تلك الآية؟

د. المستغانمي: هذه تقنية رائعة (لولا أنزل علينا)، في البداية كانوا يريدون (لولا أنزل معه) مع محمد صلى الله عليه وسلم، هنا تبجحوا أكثر ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ نحن بأعيننا ليخبرنا أن محمداً رسول الله.

المقدم: هنا لولا أنزل علينا الملائكة بالتكليف أو بالتبليغ؟

د. المستغانمي: (لولا) لما يأتي بعدها الفعل تكون تحضيضية (هلّا أنزل) كأنهم يقولون: قال الذين لا يرجون لقاءنا هلا أنزلت علينا الملائكة لتدلنا على أن محمدًا رسول لا لتكلّفنا الملائكة بأن نكون نحن أنبياء، هذا معنى آخر. حسب السياق لولا أنزلت علينا الملائكة لتخبرنا بصدقك، ترقّوا أكثر: لولا نرى الله حتى يخبرنا بصدقك أنك نبي.

المقدم: هل لما وصفهم الله بالاستكبار هل لأنهم طلبوا هذين المطلبين؟

د. المستغانمي: نعم طلبوا هذين الاثنين أولاً: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾ هذه واحدة، فأجابهم: ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا﴾ هم لم يؤمنوا بمحمدٍ ببشريته، يريدون ملائكة تبلغهم عن الله أو يريدون ملائكة تشهد له، فاستكبروا في أنفسهم، ما معنى في أنفسهم؟ جعل الله نفوسهم ظرفاً للتكبر، هو يريد أن يقول البيان القرآني: لقد استكبروا استكباراً متمكناً في نفوسهم في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً والعتو: هو التجاوز في الظلم، ظلموا ظلماً عظيماً في هذا القول.

المقدم: ربما يقول قائل حينما يقولون: (لولا أنزل علينا الملائكة) بالفعل هم استكبروا، لكن حينما يقولون (نرى ربنا) موسى عليه السلام طلب رؤية الله قال ﴿أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ لكن لا شك أن هنا الأمر مختلف، نجيب عن هذا الأمر في الحلقة القادمة لأن وقت البرنامج انتهى.