في رحاب سورة

في رحاب سورة مريم – 1 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة

د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1436 هـ

الحلقة 5 – في رحاب سورة مريم

تقديم الإعلامي محمد خلف

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

يعرض مساء الأحد الساعة 9 ليلا بتوقيت مكة المكرمة ويعاد الإثنين الساعة 11.30 ظهرًا.

سورة مريم سورة مكية نزلت في حدود السنة الرابعة  للبعثة حدد المفسرون هذا التاريخ لأنها نزلت قبل الهجرة إلى الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب قرأها على النجاشي قبلها سورة فاطر وبعدها سورة طه هي بعدها في النزول وفي ترتيب المصحف

يكثر في القرآن المكي القصص لأن القصص فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الله تعالى ساق القصص لأخذ العبرة والموعظة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿١١١﴾ يوسف) رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقى من قريش ومن الكفار ما لاقى فهذه تسلية له وتعليم له وطمأنة له بأنك لست وحدك يا محمد على طريق الدعوة الرسالة ثمة أنبياء قبلك ازدجروا ولاقوا ما لاقوه لكنهم صبروا وكان من دروسهم كيت وكيت فكان الله تعالى يسوق له القصص وهي تعليم لنا نحن.

المصدر قَصص أما القِصص جمع قصة وكلاهما صحيح أما القَصص الذي سميت به سورة القصص والذي ورد في سورة يوسف (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴿٣﴾ يوسف) وورد أيضًا في قول الله تعالى (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176]. المصدر غير الجمع ويجوز التعبير بالاثنين.

سورة مريم لها محور أراد الله عز وجلّ أن يبين لنا رحمته العظيمة فالمحور هو الرحمة في أجلا معانيها كل مشهد من مشاهد السورة إلا وينبض برحمة الله سبحانه وتعالى، من البداية (ذِكْرُ رَحْمَت رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾). ونقف هنا عند كلمة رحمت رسمت بالتاء المفتوحة بالكتابة التوقيفية في الخط العثماني التي لها أسرار عديدة ولحكمة يريدها الله، أما الكتابة الإملائية تكتب (رحمة) بالتاء المربوطة. وقد رسمت في مواطن أخرى بالتاء المربوطة في غير موضع في القرآن، في سورة مريم (رحمت ربك) المفتوحة في سورة مريم، اسم الله جل ثناؤه (الرحمن) تكرر في السورة 14 مرة والرحمة تكررت أريع مرات ولم تتكرر في غيرها من السورة بهذا العدد حتى في سورة البقرة ولا في سورة الرحمن.

مثلًا لفظ (ميعاد) يكتب في اللغة العربية (ميعاد) وردت في القرآن 6 مرات، خمس منها كتبت بألف ثابتة (إن الله لا يخلف الميعاد) إلا مرة واحدة كتبت بإشارة إلى ألف صغيرة وهي في سورة الأنفال (وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَـٰدِ) كلمة ميعاد التي كتبت بألف ثابتة كلها وردت في حق الله تعالى (إن الله لا يخلف الميعاد) ولما وردت في حق البشر كتبت بألف قصيرة ليميز بين المعنيين، بين ميعاد الله وميعاد البشر.

الخط الأول في سورة مريم هو الرحمة: ذكرت الرحمة كثيرًا في سورة مريم بلفظها وبالمعاني وكل ما ورد في السورة من قصص وما ورد فيها من أحداث فيها رحمة.

الخط الثاني في السورة العبودية (عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) خط العبودية، عيسى عليه السلام نبي الله نبي عظيم لكن للأسف تكالبت عليه الجهات: اليهود أقلوا من شأنه كثيرا إلى أن وضعوه مع الجناة والمجرمين والنصارى بالغوا فيه إلى أن ألّهوه والإسلام أعطاه الحق وسورة مريم هي أكثر سورة في القرآن أنصفت عيسى عليه السلام وأنصفت أمه ولهذا حسن اختيار جعفر بن عبد المطلب ليقرأها على النجاشي.

وخط الرحمة وخط العبودية وبين ثناياها نلحظ المشيئة، في سورة الكهف (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9)) قصة عيسى فيها طلاقة المشيئة وقصة ولادة يحيى فيها طلاقة المشيئة. طلاقة القدرة لله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء سبحانه ويسير الكون وفق حكمته وطلاقة مشيئته. هذا خط السورة العام.

أما من حيث الألفاظ فللسورة قالب لغوي جذاب ورائع يكفيها هذا الايقاع الصوتي الجميل الذي إذا قرأه إنسان حزين ارتاح، قرأه إنسان مهموم يجد إيقاعا صوتيا شجيا نديّا (كهيعص   زكريا،  خفيا، شيبا، شقيا،  ) تضرّع، في كلماتها وفي ألفاظها وجرْسها تعطي هذه الفاصلة (يا) نوع من الراحة النفسية وعندما انقلب الحديث عن المشركين انقلب الإيقاع الصوتي (لأوتين مالا وولدا، عهدا، مدا،.) انقلب الإيقاع الصوتي لأنه ما عاد قصصًا.

علاقة سورة مريم بسورة الكهف

ليست قصة أهل الكهف وذي القرنين عجبا بل أعجب منها قصة عيسى عليه السلام وحديثه في المهد وولادة يحيى من أم عاقر وأب شيخ كبير، تحدّث عيسى عليه السلام في المهد.

وفي آخر سورة الكهف علّم الله جلّ جلاله رسوله أن يقول: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) تأكيد على بشرية الرسول وعيسى أول ما تكلم أكد على بشريته (قال إني عبد الله) تأكيد على أنه بشر رسول. محمد بشر رسول وعيسى بشر رسول.

بداية سورة الكهف (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) وصف الله جل ثناؤه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبودية بأنه عبده وهذا أرقى وصف للإنسان أن يكون عبدا وافتتحت مريم (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) تناسق!

في نهاية سورة الكهف (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴿١٠٧﴾) ذكر الجزاء وفي آخر سورة مريم ذكر الجزاء النفسي سيحببهم الله إلى الخلق (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴿٩٦﴾) علاقات تلاحمية عجيبة!

في سورة الكهف من بدايته تنفي اتخاذ الله ولدا (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴿٤﴾) وسورة مريم كلها عن نفي الولد (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴿٩٠﴾ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴿٩١﴾ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ﴿٩٢﴾) هناك تلاحم بين السورتين وليس فقط علاقات.

في سورة الإسراء في ختامها (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) جاءت سورة الكهف فصلت قصة الفتية الذين فروا بدينهم وتوحيدهم وجاءت سورة مريم تؤكد أن عيسى رسول الله نحن نقدّره ولكنه ليس ابنًا لله.

تناسب بين مريم وطه

قبيل آخر آية في سورة مريم (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) مريم) الذي يسرناه هو القرآن وافتتحت سورة طه (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)) هذا وجه ترابط علاوة على المضمون: في سورة مريم جاءت بخبر عن قصة مريم وفصلت فيها تفصيلا وقصة موسى دون تفصيل وجاءت سورة طه مفصلة لقصة موسى كليم الله وبعض المفسرين يسمونها سورة الكليم. وموسى دائما يذكّر به النبي صلى الله عليه وسلم لأن حياة محمد صلى الله عليه وسلم تشبه حياته وما لاقى من صعوبات فلذلك عندما يريد الله تعالى أن يسلّي نبيه صلى الله عليه وسلم يقول (وإذ قال موسى) وينقله إلى رحاب قصته.

مطلع السورة وخاتمتها

بدايتها (كهيعص ﴿١﴾ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾) اختلفت أقوال العلماء في الحروف المقطعة منهم من قال هي أسماء الله، ومنهم من قال أسماء الملائكة ومنهم من قال أسماء الجنة، ثمة أقوال مجحفة في الغرابة (ق والقرآن المجيد) قالوا ق جبل في السماء السابعة! وهذا من الاسرائيليات التي تروى في التفاسير والقول الراجح أنها حروف هجائية عربية تحدى الله بها العرب الفصحاء هذا القرآن نسجته من هذه الأحرف فإن كنتم تستطيعون أن تأتوا على منوال القرآن في بنائه فافعلوا، القرآن مبني بناء عجيبا (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)هود). من المؤكد أن ثمة أسرار لهذه الحروف وحتى نطق حروفها تلقيناه كما تلقاه النبي من جبريل ولها أسرار فالكاف ينطق الحرف كاملا وحرف الهاء ينطق (ها). الراجح في هذه البدايات بالحروف المقطعة أنها حروف للتحدي وحروف للفت الانتباه فينتبه العرب بحكم فصاحته وحبه للغة فتشد انتباهه لما سيأتي من كلام بعدها. مقدمة عظيمة لما سيأتي من الكلام.

بدايتها (كهيعص) ونهايتها (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴿٩٧﴾) هو القرآن، ردّ العجز على الصدر، لا محالة القرآن كتاب محكم.

بعض الآيات ورد ما يشابهها في سورة آل عمران فهل لهذا علاقة ما بين هذه الآيات التي وردت في السورتين بألفاظ متقاربة؟

سورة آل عمران هي تكملة لسورة مريم في قصة عيسى وفي قصة زكريا وفي قصة مريم، وما جاء في سورة مريم جاء في سورة آل عمران، في سورة مريم جاء بعض منه تكملة وبعض منه بثوب يتناسب مع السورة، كل سورة لها ثوب وقالب لفظي فسورة مريم لها قالبها اللفظي وسورة آل عمران المدنية لها قالبها اللفظي تبدأ بـ (الم) وهي صنو البقرة (الزهراوان) القصص الذي ورد في سورة مريم ورد في سورة آل عمران فيما يتعلق بزكريا وولادة يحيى وعيسى ولكن هناك تأثر بثوب سورة آل عمران وهنا تاثر بثوب سورة مريم، نضرب بعض الأمثلة:

عندما جاءت الملائكة وبشّرت زكريا بيحيى (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴿٧﴾ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴿٨﴾ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴿٩﴾ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ﴿١٠﴾) (ثلاث ليال) المشهد ذاته روي في سورة آل عمران (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٣٩﴾ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) في سورة مريم العقر متجذر فيها (وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) قال (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) وفي سورة مريم قال (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ثم قال (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا). قوله تعالى (هو عليّ هين) وهذا يتناسب مع طلاقة القدرة في السورة (كن فيكون) فالأمر هيّن عليه سبحانه، كل شيء هيّن على الله لكنه يختار من الصيغ ما يتناسب مع السورة.

في آية سورة آل عمران قال (إِلَّا رَمْزًا) لأن الرمز يظهر في النهار، عندما ترمز لشيء يظهر في النهار فجاءت مع الأيام.

هل هي ثلاثة أيام أم ثلاثة ليالي؟ والعلماء قالوا أيام بلياليهن أو العكس. السؤال: لماذا اختار الليالي في سورة مريم واختار الأيام في سورة آل عمران؟  ذكر الليالي في مريم لأن المشهد مختلف بالكامل من أول القصة (كهيعص ﴿١﴾ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴿٣﴾) الخفاء يناسبه الليل لا النهار، وقال (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤﴾) لم يقل وهن جسمي وإنما قال وهن العظم فإذا وهن العظم كان ما دونه أوهن، وصف العظم بالوهن فغيره أجدر وأولى. وصف شيخوخته وعمره المتقدم (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤﴾ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴿٥﴾ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴿٦﴾ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴿٧﴾ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴿٨﴾) العتيّ هو بلغ مرحلة اليبس والقحوط. لو قارنا بين الزمن الليل والنهار مثلًا ومراحل حياة الإنسان، الولادة، الفتوة، الشباب، الكهولة، الشيخوخة، الموت. الليل أولى أن نصف به الشيخوخة فلما عبّر زكريا في سورة مريم عن شيخوخته وعن هرمه وعن وصوله لدرجة اليباس كان ذكر الليل أولى.

البشارة في سورة آل عمران أوضح، البشارة في مريم (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴿٧﴾) لم نجعل من يتسمى باسمه من قبل أبدا. أما البشارة في سورة آل عمران (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٣٩﴾) كان رجلًا عفيفًا كان ذا حنان جاءت البشرى في أتم معانيها في آل عمران، البشرى الواضحة الجليّة يناسبها الأيام.

في سورة آل عمران وصف حال زكريا في أجمل حال (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) بينما في سورة مريم (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) بطريقة غير مباشرة لم تبين السورة أنه كان قائمًا في المحراب وهذه تكمل تلك، وهنا تأتي التكملة (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) ماذا كان يفعل؟ (كان قائما يصلي) هذا التكامل بين القصص القرآني. فهنا البشرى جاءت في أتم معانيها وكان قائما يصلي في المحراب لذلك اختار الله الأيام في آل عمران واختار الليالي في مريم.

لما خرج على قومه وأخبرهم وأشار إليهم أن يسبحوا أنه لا يتكلم (وأوحى) الإشارة، الإيماء فقال (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) البكرة أول الصباح يأتي بعد الليل، بكرة وعشيا وفي آل عمران (سبح بالعشي والإبكار) قدّم العشي على الإبكار لأنه يتناسب مع المحراب. القصة لا تكمن في كلمة، هذه لوحة فنية.

لماذا خصّ الليالي بسورة مريم وخصّ الأيام بسورة آل عمران؟ ثمّة مشهدان أو لوحتان فنيتان قصصيتان فلا بد أن ندرس هذه وتلك حتى نعلم التجاذب.

لما تحدث عن يحيى قال (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴿١٢﴾ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ﴿١٣﴾ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴿١٤﴾ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴿١٥﴾) حينما تحدث عن عيسى قال (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)، مرة نكرة (سلام) ومرة معرّفة (السلام) تفيد الجنس ولا يخفى أن عيسى هو رسول الله من أولي العزم أما يحيى نبي من الأنبياء. الله سبحانه وتعالى لما انتهى من قصة يحيى عليه السلام قال (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أما في عيسى عليه السلام لما ذكرت الآيات ولادته وما أحاط بولادته من عجب وغرابة وكان معجزة عظيمة هنا قال الله على لسان عيسى (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴿٣٣﴾). هنا أنطق الله عيسى بالسلام (أل) تفيد الجنس، بما يدل على أفضلية عيسى، جنس السلام على عيسى، جنس السلام أنطق الله به عيسى وحياه به مما يدل على فضله (جنس السلام على عيسى) حياه الله به وأنطقه به وهذا يدل على فضله هو نبي من أنبياء الله من أولي العزم أتى بشريعة عظيمة ودين عظيم ولكن التحريف هو الذي قضى على كثير مما جاء به.

في قصة يحيى قال (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴿١٤﴾) بينما عيسى عليه السلام قال (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴿٣٢﴾) نجد حديثًا عن البر والرحمة بالوالدين وهل البر إلا الرحمة بالوالدين؟ ووقع في سورة مريم وسياق سورة مريم الرحمة، هذا التعابير (برا بوالدتي) و(برا بوالديه) لم ترد إلا في سورة مريم، في سورة آل عمران ذكر قصة عيسى ولكن لم يذكر برّه بوالدته، إنما ذكر برّه بوالدته في سورة مريم وهي أولى أن يبرّ بها وذكر في سورة الرحمة. ثم تأتي قصة إبراهيم عليه السلام ذكرت مشاهد من قصته في سور عديدة في القرآن منها سورة البقرة، في سورة ابراهيم، في سورة الأنبياء، في سورة العنكبوت لكن الله تعالى يذكر في كل سورة آيات تتوافق مع محور السورة وقالبها وإيقاعها وشخصيتها. في سورة الرحمة والبرّ إبراهيم عليه السلام أول من برّ بأبيه (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴿٤٢﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴿٤٣﴾ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴿٤٤﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴿٤٥﴾) بينما المشهد الذي روي عن إبراهيم في سورة البقرة، في سياق الحج، (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)البقرة) ذكر ابراهيم واسماعيل وهما يبنيان، ثمة تناسق في بناء القرآن. وفي سورة العنكبوت سورة الابتلاء والأنبياء في الابتلاء أحسن منا طبعًا (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴿٦٩﴾) في سورة البلاء ورد ذكر قصة ابراهيم ورميه في النار (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ).

إذن البيان القرآني يأتي بالمشهد الذي يتناسب مع السورة.

قصة ولادة عيسى عليه السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) تكرر في سورة مريم مع بداية كل قصة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وفي قصة زكريا قال (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ)

في بداية السورة (ذكر رحمت ربك) مصدر ذَكَرَ ذِكرا، براعة استهلال عجيبة! لو قال “كهيعص واذكر” لا تستقيم، بدأها (ذكر رحمت ربك) كأنه يقول هذا أوان ذكر رحمت ربك فبدأ بالمصدر ثم في ثنايا السورة كرر هذه اللازمة (واذكر) اذكر يا محمد كذا وكذا هذه خصوصية في سورة مريم (واذكر في الكتاب مريم إذ) إذ ظرف زمان، كأنه يقول تعالى اذكر مريم هذا أجدر أوقات ذكرها وجاء الأسلوب المباشر في قصتها لأن سورة مريم من أوائل السورة التي تحدثت عن القصص بعد اقرأ والقلم والمدثر والمزمل جاءت بعدها سور قصص. وفي سورة أخرى يقول (وإذ قال ربك للملائكة) (وَإِذْ قَالَ مُوسَى (54) البقرة) كما في سورة البقرة (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ (60)) يعني واذكر زمان استسقاء موسى لقومه، لكنها ذكرت في القرآن المكي، البناء الهرمي للقرآن: كل ما جاء واتضح للناس لا داعي لتكراره.

عندما تقرأ في سور أخرى  أو في سورة المائدة (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) قدّر قبل (إذ) فعل اذكر. لم تذكر في السور المدنية لأنه ذُكرت. في سورة الأعراف قال (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة (142) الأعراف) هذه سورة مكية تم شرحه في سورة الأعراف ولما جاءت في سورة مدينة قال (أربعين يوما) لا يحتاج شرحها لأنه تم شرحها في السورة المكية وهذا تدرج ملحوظ في القرآن. قرآءة القرآن حسب تدرج نزوله يعين على الفهم.

في تحريم الخمر ورد التدرج (رزقا حسنا) (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) (فاجتنبوه) والتدرج موجود في توضيح القصص والتاريخ أما العقيدة فتأتي مباشرة دون تدرج.

قصة ولادة عيسى

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ﴿٢٢﴾ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴿٢٣﴾ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴿٢٤﴾ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴿٢٥﴾) النخلة لا يمكن أن تهز فلم قيل لها أن تهز الشجرة وهو سبحانه يستطيع أن ينزل عليها الرطب دون هزّ؟ يريد أن يبين لنا أن الحركة ضرورية في الحياة ولا بد من الأخذ بالأسباب وعلّمها وهي صغيرة أنه يرزقها فلا بد من الحركة، حتى يعلمها الحركة والأخذ بالأسباب وفي إسقاط الرطب وجدوا أن أكل الرطب وشرب الماء بعده من المسهّلات أثناء المخاض للمرأة الحامل وترفع درجة السكريات لدى المرأة في المخاض وتسهل عملية الإنجاب تسهيلا عجيبا وهذا من الاعجاز العلمي

في قصة مريم جاء خلالها ألفاظ، لها ثوب لفظي معين (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ﴿١٦﴾) ي انتبذت أي ابعتدت. ابن عباس قال أنا أعلم بهذا المكان الشرقي وقال: قبلة النصارى إلى المشرق، بيت لحم. انتبذت اعتزلت وانفردت وهذا الفعل لم يرد في القرآن إلا في هذه السورة وورد (نبذ) في آية أخرى. انتبذت صيغة افتعل تدل على الاكتساب أنها بحثت عن المكان. (انتبذت) ذهبت بنفسها افتعلت تفيد الاكتساب والاجتهاد. (بشرا سويا) لفظ السويّ هنا ذكر في السورة (آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) حال كونك سويا لست كريضا ولا تستطيع الحديث، سويا هنا صفة، فتمثل لها بشرا صفته سويًا، صفة الملك سويا أي مستقيم كامل

محور السورة نجد كل المشاهد تتعلق بالرحمن (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴿١٨﴾) نحن في العادة نستعيذ بالله، في سورة البقرة قال موسى إني أعوذ بالله لأن سورة البقرة مبنية على لفظ الجلالة (الله)، مريم استعاذت بالرحمن لأن الرحمات واسعة وأنت إن كان فيك شيء من الرحمة كأنها تستعطفه ابتعد عني فقالت له إن كنت تقيا. إن كنت تقيا فابتعد عني، تستعيذ من شخص تقي كأنه ثمة كلام محذوف لا بدّ أن يقدّر، إن كنت تتقي الله فاتركني. البلاء الذي وضعت فيه مريم عليه السلام امرأة طاهرة عفيفة محررة للبيت تخدمه تأتي قومها بغلام! فقالت أعوذ بالرحمن (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ) وفي قرآءة (ليهب لك) (غُلَامًا زَكِيًّا) إيقاع صوتي عظيم!. (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴿٢٠﴾) تستغرب وتتعجب، (أنّى) من أن يكون لي غلام والحال أني امرأة عفيفة لم يبني بي رجل ولم أتزوج ولم أك بغيا، البناء الصوتي للسورة لا بد أن يقول بغيا دون غيرها من الألفاظ.

(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) في القصص القرآن وقال ليحيى (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) في القصص القرآني في السورة ذاتها يستعمل نفس الألفاظ لنعيش في نفس الجو، كان من الممكن أن يقال ذلك علي يسير أو يفعل الله ما يشاء كما وردت في سورة آل عمران لأن فعل يشاء يتكرر في آل عمران.

الرحمة نجدها ممثلة بارزة واضحة في كل مشهد في سورة مريم. (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) وورد هذا اللفظ هنا فقط ووردت في غير آيات (أمرا مفعولا) وكان أمر الله مفعولا. (مقضيا) لم يرد إلا في سورة مريم.

نستفيد منها طلاقة المشيئة الله يفعل ما يشاء ولما رزقها الولد قال لها لما تعودي لقومك قولي (إني نذرت للرحمن صوما) خصص الله السكوت بالصوم والصيام هو للعبادة، الجذر اللغوي هو نفسه (صَوَم) أصوم صوما وأصوم صياما لكن القرآن خصص الله الصوم بعبادة السكوت والصيام بالعبادة. في غير القرآن نقول صوم رمضان.

الصوم الانقطاع عن الكلام كان عبادة في شرع من قبلنا.

https://www.youtube.com/watch?v=aZmqHdWNUF8&index=5&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5