في رحاب سورة

في رحاب سورة المؤمنون – 1 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1436 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة المؤمنون – 1

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

إجابة على أسئلة المشاهدين:

سؤال من الأخ أبو محمد من البحرين: في سورة النور أربعة شهادات يقول الله تعالى فيها (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٦﴾ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿٧﴾ النور) لماذا الخامسة (لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أما في حال الزوجة أربع شهادات ثم (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿٨﴾ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٩﴾)؟

د. المستغانمي: سؤاله وجيه جدًا وإن كان كثير من المفسرين لم يتعرضوا لهذا إلا القليل النادر. هذا التفريق يسمى عند الفقهاء التفريق بالملاعنة، المعروف أن حد الزنا لا يجب إلا إذا أتى الذي رأى بأربعة شهود لكن في حال رمى إنسان أو تحدث عن زوجته وجد معها زانيًا والعياذ بالله – كما وقع في عهد الصحابة – لا يستطيع أن يُحضِر الشهود فخصص الله سبحانه وتعالى هذه الحالة (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) تعادل أربع شهادات شريطة هذا أن يأتي إلى القاضي ويفرّق بينهما بالملاعنة يحلف ويُقسم: أشهد بالله إني لصادق فيما ادّعيت عليها أربع مرات والخامسة يقول: أن لعنةُ الله عليّ إن كنت من الكاذبين. السائل يقول لماذا خصص الرجل باللعنة وخصص المرأة بالغضب؟ المرأة تُقسم بالعكس: تبطل المرأة ادّعاءه وتقول أُشهد الله إنه لمن الكاذبين أربع مرات، تُبطل كلامه، والخامسة تقول: أن غضب الله عليّ إن كان من الصادقين. لماذا اللعنة ولماذا الغضب؟ ثمّة توجيهان:

التوجيه الأول أن هذا الرجل عندما اتهم زوجه بالزنى إن كان صادقًا فليس عليه شيء لكن إن كان رماها بالزنا ايفرّق بينه وبينها بالملاعنة تفريق أبدي، هذا أبعدها من كل رحمة وأبعدها من المجتمع ودمّر بيتها وخرّب عائلتها والناس يلعنونها وينبذونها، فإن كان كاذبًا تحل اللعنة عليه لأن الجزاء من جنس العمل إن كان كاذبا فعليه اللعنة وإن كان صادقا لا شيء عليه. واللعنة هي الطرد من رحمة الله والطرد من المجتمع والطرد من كل شيء. فهو كما نبذها من المجتمع فالجزاء من جنس العمل. في شأنها هي تقسم بالله أربع شهادات إنه لمن الكاذبين والخامسة تقول: أن غضب الله عليّ إن كان من الصادقين. لماذا تقول هي (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا) إن كان هو صادقًا فيما رماها في الحقيقة هي سعت لإغضابه حتى لم يتمالك نفسه وجاء إلى القاضي ولاعنها وخرج من الحياء وكشفها، هنا أغضبته غضبا شديدا فكان جزاؤها الغضب والجزاء من جنس العمل.

التأويل الثاني: إن كان صادقًا فيما رماها به فهذا حق، إن كان كاذبا هو بدأ والبادئ أظلم، اللعنة هي أشد من الغضب. نذهب إلى سورة النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴿٩٣﴾) الترقّي، اللعنة أشد من الغضب: اللغضب فالعنة فالعذاب العظيم فلو كان مفتريا عليها وادّعى عليها لينبذها المجتمع وفارقها بالطلاق والملاعنة ففي الحقيقة جزاؤه أغلظ من جزائها. هذا رأي وجدته عند بعض المفسرين.

سؤال من الأخت سمر الأرناؤوط: في كل الآيات التي ورد فيها ذكر إبراهيم أنه حنيفا جاء بعدها كما ذكر الدكتور (ولم يكن من المشركين) من باب الاحتراس والاحتراز إلا في آية واحدة في سورة النساء جاء بعدها (واتخذ الله إبراهيم خليلا) لم يأتي بالاحتراس.

(وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) البقرة – الآية 135

(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران – الآية 67

(قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران – الآية 95

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) النساء – الآية 125

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام – الآية 79

(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام – الآية 161

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يونس – الآية 105

(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) النحل – الآية 120

(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) النحل – الآية 123

د. المستغانمي: (وما كان من المشركين) احتراس لأن المشركين كانوا يقولون نحن نتبع ملة إبراهيم.

المقدم: عقّب الله (لم يكن من المشركين) لأن المشركين كانوا يقولون نحن على دين إبراهيم حنفاء فالله تعالى يريد أن يقول لهم: إبراهيم لم يكن من المشركين

د. المستغانمي: ورددها في سورة البقرة (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)) وفي سورة آل عمران (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)) حتى لا يتوهم المتوهم بأن إبراهيم كان مشركًا مثلهم يأتي من باب الاحتراس نفي الشرك عنه. في كل المواضع التي ورد فيها الاحتراس كانت تتحدث عن الشرك وعن نفي الشرك عن ملّة إبراهيم الحنيفية السمحاء في سورة آل عمران (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)) تناسق، في سورة آل عمران في نهايتها (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)) في سورة الأنعام إبراهيم الخليل كان يتساءل (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ﴿٧٦﴾ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿٧٧﴾ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٧٨﴾ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٧٩﴾) السياق في نبذ الشرك ودحض الشرك وإثبات الإيمان والتوحيد.

المقدم: ليس فقط في الحديث عن إبراهيم ففي سورة يونس (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105))

د. المستغانمي: هذا حديث موجه للنبي صلى الله عليه وسلم أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين. في كل الآيات الأخرى وردت في السياق النهي عن الشرك وإثبات الحنيفية السمحاء بينما آية سورة النساء (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴿١٢٥﴾) هذه الآية جاءت في الحديث عن أعلى مراتب الإيمان (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (أسلم وجهه لله) يعني أخلص دينه لله كناية عن شدة العبودية لله والرضى والطاعة وهو محسن ودرجة الإحسان أعلى من درجة الإيمان فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أعلى المراتب. فهو مسلم وجهه لله ومحسن وحنيفًا مائلًا عن الشرك إلى التوحيد ثم وصفه بالخُلّة (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) الخُلّة هي الدرجة وصلها إبراهيم  الخليل فقط. الخلّة هي الملازمة، إبراهيم خليل الرحمن وعندما نقول فلان خليل فلان فهي درجة الرضى الشديد أنت لا تكون خليلا لفلان إلا إذا كنت راضيًا عن كل شيء فهو وصفه بإسلام الوجه لله والإحسان والخُلّة فلا يليق في هذا المقام أن يقل (ولم يكن من المشركين) وصفه بأعلى الدرجات وأثنى على إبراهيم وعلى أحسن ممن اتبعه. من باب أولى لما وصفه هذا الوصف (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ثم أثنى على إبراهيم بالخُلّة من باب أولى أنه أسقط عنه الشرك فليس المقام مقام احتراس.

المقدم: الاحتراز يقال حين يُخاف التوهّم وسوء الفهم

د. المستغانمي: لكن هنا لا يحدث توهم لأن الله تعالى أثنى على إبراهيم بأحسن الصفات.

سؤال من الأخت سمر الأرناؤوط: ذكر الدكتور جزاه الله خيرا في الحلقة الماضية عن مناسبة ذكر (وكُذِّب موسى) مختلفة عن غيرها في السياق مبنية لما لم يسمى فاعله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴿٤٢﴾ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴿٤٣﴾ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ) ألا تحتمل أن تكون الصياغة التي ورد فيها ذكر تكذيب موسى بصغة ما لم يسمى فاعله والتضعيف تأنيسًا للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أن تكذيب موسى جاء من فرعون الذي هو رأس الطغيان والبطش والجبروت في زمانه وهو ووزراءه وجنوده هم أطغى المذكورين من الأقوام ومع هذا نصر الله موسى عليه وصناديد قريش مهما بلغوا من القوة والبطش والتكذيب لن يصلوا لدرجة فرعون الذي ادّعى الألوهية! هذا والله أعلم

د. المستغانمي: فرعون هو أطغى من أطغى البشر حتى أنه ادّعى الألوهية وقال (ما علمت لكم من إله غيري) ومن المعاني التي استنبتطها السائلة أنه إذا كان أعتى المشركين وأعتى الكافرين كذّب موسى فهؤلاء الذين كذبوك يا محمد ليسوا مثل فرعون في غلظته وجلفته وشدته ولذلك كانت الآية تسلي النبي صلى الله عليه وسلم.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون يجوز الوجهان: نقول سورة المؤمنين على الإضافة وسورة المؤمنون على الحكاية حتى لا يقع المشاهد في الوهم. سورة مكية باتفاق جميع علماء التنزيل كل من كتب في علوم القرآن وكل من كتب في التفسير ذكروا بأنها مكية، وقعت في المصحف الشريف بعد الحج وقبل سورة النور ولها مناسبة عظيمة في موقعها وهي السادسة والسبعون في ترتيب التنزيل بعد اقرأ والمدثر المزمل سبقتها سورة الطور وبعدها سورة الملك. سورة الحج في نهايتها جاء خطاب موجه للمؤمنين وذكرنا في الحلقات السابقة أن معظم سورة الحج موجهة للمشركين (يا أيها الناس اتقوا ربكم) (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) الحديث كان موجهًا للناس وبالدرجة الأولى إلى المشركين وعالجت قضية العقيدة، وفي نهايتها وجه الله الحديث للمؤمنين

المقدم: وهذا يستقيم مع سياق السورة لأنه ورد فيها تصريف الناس وهذا صنف من الناس

د. المستغانمي: بعدما أفاض الحديث عن الناس قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٧٧﴾) نهاية عظيمة توجه الخطاب للمؤمنين والآية فيها سجدة (لعلكم تفلحون) فلما كانت هذه الآية التي هي نهاية سورة الحج تقول لهم عليكم أن تركعوا وأن تسجدوا وأن تعبدوا الله وأن تفعلوا الخير رجاء أن (لعلكم تفلحون) (لعل للترجي في حق الناس لا في حق الله تعالى) إن كنتم تريدون الفلاح حقيقة فاتبعوا هذه الطريق وطبّقوا هذه الأوامر (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) فجاءت سورة المؤمنون تثبّت فلاحهم وتؤكد نجاحهم بـ(قد) التي تفيد التحقيق (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾) كان نجاحهم وفلاحهم رجاء فأصبح محققًا فعلًا صادقًا واقعًا (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (قد) عندما تسبق الفعل الماضي تفيد التحقيق والتأكيد (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وذكر من صفات المؤمنين ما ذكر.

ثانيا أشير إلى الترتيب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) هذا الترتيب من الخاص إلى العام، القرآن في الترتيب والتقديم يتبع طرقًا مختلفة لما يقول (كذبت عاد وثمود) الأسبقية الزمنية، (لا تأخذه سنة ولا نوم) السِنة تسبق النوم، لما يعكس التريب يعكسه لنكتة ولمسة بيانية كما يقولون. هنا (اركعوا واسجدوا) الركوع أقل من السجود وهو قبله وهو أقل منه في العدد، عندما تصلي ركعة تركع ركوعا واحدا وتسجد سجدتين مهما ركعت في الدنيا سجودك أكثر من ركوعك مهما صلّيت ركوعك أقل، سجودك سجدتين في كل ركعة حتى هناك سجود السهو وسجود التلاوة. (واعبدوا ربكم) الصلاة عبادة ولكن العبادات أوسع وأكثر، الصلاة أهم عبادة لكن العبادات أكثر. (وافعلوا الخير) صلة الرحم، مكارم الأخلاق، الخير لا ينتهي فهي مرتبة من الخاص إلى العام ومن القليل إلى الكثير. ثم بدأت سورة المؤمنون بالتحقيق (قد أفلح المؤمنون) ما صفاتهم؟ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴿٤﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٥﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٦﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩﴾)

المناسبة بين بداية سورة المؤمنون ونهايتها قال في بدايتها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وذكر من صفاتهم سبع صفات وفي نهايتها يقول (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿١١٧﴾) قد أفلح المؤمنون عكسها إنه لا يفلح الكافرون، فالسورة ملمح من ملامحها “الفلاح” (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) في البداية (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) في النهاية، وفي وسطها (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿١٠٢﴾) فهي ممسوكة من ثلاثة أطراف. وعندما ذكر فريق المؤمنين وذكر بعض أوصافهم (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴿١٠٩﴾ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴿١١٠﴾ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿١١١﴾) وهل الفوز إلا النجاح والفلاح؟!

سورة المؤمنون سنعيش في رحاب المؤمنين، محورها العام هو: ذكر صفات المؤمنين من البداية إلى النهاية.

ذُكرت فيها صفات الكافرين لكن ليس بالكثرة والوفرة التي ذُكرت بها صفات المؤمنين.

محورها العام ذكر صفات المؤمنين: وردت صفات المؤمنين السبع (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴿٤﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٥﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٦﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩﴾) ذكرت صفات المؤمنين التي يقومون بها من شعائر (صلاة، والابتعاد عن مجالس اللغو، والزكاة أداء) يقصد الفعل الخارجي، الشعائر حفظ الفروج.

المقدم ما دلالة استخدام هذه الصيغة اسم الفاعل (خاشعون، فاعلون، معرضون، حافظون) لماذا لم يقل مثلا في غير القرآن: الذين يحفظون فروجهم، الذين يخشعون في صلاتهم، الذين يؤتون الزكاة؟؟

د. المستغانمي: استخدام اسم الفاعل في حالة الجمع في سورة المؤمنون هو أيقونة من أيقوناتها اللفظية. كل كاتب عندما نقارن أساليب البلغاء ومن أعلى البلغاء الجاحظ أسلوبه لا يتغير، اقرأ الجاحظ في البيان والتبيين، في الحيوان (سبع مجلدات)، في البخلاء، في رسائل الجاحظ أسلوبه يقوم على الازدواجية ولكل كاتب أسلوب ولكل شاعر أسلوب، وأنا أقرأ في التفاسير عندما يقول: “وذكر أحدهم: أعرف من هو بالمقارنات، بأسلوبه لكن القرآن فريد بأسلوبه، هذا تنزيل رب العالمين. سورة المؤمنون لها أسلوب خاص، سورة الحج قبلها لها خصائص، وخصائص سورة المؤمنون تختلف. في سورة المؤمنون نجد خصائص: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴿١٠٩﴾) (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴿١١٨﴾) (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴿٢٩﴾) (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿٧٢﴾) هذه لم ترد في سورة الحج ولم ترد في سورة الأنبياء، للقرآن خصائص وفي سورة المؤمنون (فاعلون) من خصائصها.

صفات المؤمنين تتجلى في السورة كلها في بدايتها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴿٤﴾وفي القصص القرآني الذي ورد فيها بمقدار بسيط ولكن بما يخدم محورها ثم في وسطها يقول (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴿٥٧﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴿٥٩﴾ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴿٦٠﴾ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴿٦١﴾) صفات داخلية، صفات القلوب وفي بدايتها كانت صفات الجوارح: صلاة، زكاة، حفظ فروج، ابتعاد عن اللغو وفي وسطها انتقل لدرجة أعلى الخشية (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴿٥٧﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴿٥٩﴾ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴿٦٠﴾) هنا الخصائص الإيمانية للمؤمنين. وقبلها قال للنبي صلى الله عليه وسلم (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) المشركون، والغمرة يقال مكان مغمور بالماء، في غفلتهم، في غرقهم، غرقهم في الماء؟ غرقهم في الكفر والشرك؟ غرقهم في الجهل؟ أجملها الله قال (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴿٥٤﴾ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ﴿٥٥﴾ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أبداً، (بَل لَا يَشْعُرُونَ) وصفهم بعدم الشعور ومن باب أولى لا يدركون، (بَل لَا يَشْعُرُونَ) نفى عنهم الشعور الإحساس البسيط  ومن باب أولى هم لا يدركون لا يميّزون، ثم ما أعطى أوصاف المشركين هنا وإنما تكلم عن المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴿٥٧﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴿٥٩﴾ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴿٦٠﴾) هذا الوصف للمؤمنين يدل على أن الغمرة التي وقع فيها المشركون هي ضدها، المشركون اتصفوا بضد هذه الصفات. لذلك لم يذكر صفات المشركين الكافرين وإنما ذكر صفات المؤمنين لأننا نحن في سورة المؤمنون لا يستقيم ذكر صفات المشركين وإنما السياق يدل عليها. أعطيك دليلًا عليها: عندما تكلم عن غمرتهم الشركية قال (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴿٥٤﴾ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ﴿٥٥﴾ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ ﴿٥٦﴾) لما تكلم عن المؤمنين قال (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴿٦١﴾) إذن ما دام هؤلاء يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون وأقرهم الله على ذلك معنى ذلك أن الذين لا يسارع لهم بالخيرات هم بأضدادهم وبضدّها تتميز الأشياء.

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴿٦٣﴾) بل تفيد الاضراب الانتقالي هو قال في البداية (فذرهم في غمرتهم) في غرقهم في الشرك، ثم لما وصف المؤمنين وقال عنهم (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أما المشركين فكرر غمرة مرتين في سورة المؤمنون (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) لكن لم يفصل في صفات الكافرين المشركين لأنه فصّل في صفات المؤمنين وبضدّها تُعرف الأشياء.

في نهاية السورة لما هزّ الكافرين المشركين وقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿١٠٥﴾) اعتذروا وقالوا (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ﴿١٠٦﴾) قال (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴿١٠٨﴾) إلى أن قال (إ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴿١٠٩﴾) تحدث عن المؤمنين في البداية بصفاتهم وتحدث في وسط السورة عن قلوبهم وتحدث في نهاية السورة عن دعائهم (يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) للأسف اتخذهم المشركون سخريا (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴿١١٠﴾) فما جزاؤهم يا رب؟ (جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿١١١﴾) فالسورة يمسكها قالب الإيمان وصفات المؤمنين وهذا لا يعني أن صفات الكافرين لم ترد، ورد بالتبع هنا وهناك بين ثنايا الآيات.

وصف المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴿٥٧﴾) ووصف الكافرين (قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ﴿٦٦﴾) قال عن المؤنين (وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٨﴾) قال عن المشركين (قد كانت آياتي تتلى  تكذبون) لما وصف المؤمنين قال (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) وقال عن المشركين (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ)، قال (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) ويقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿٧٥﴾) يقول في آية (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴿٧٤﴾) ما جمعه في وصف المؤمنين شتته في وصف الكافرين. القرآن يُقرأ بالتناظر، تناسق عجيب هذا كلام مُحكم! والله لا نقرأ التفسير إلا نقول كلام عجب! فإذا كانت سورة الحج عجيبة والله عجيبة وهذه السورة عجب والقرآن كله يفيض بالمعاني.

من خصائص السورة أيضًا من البداية قسمها الله تعالى إلى مقاطع (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾) بعد ذلك قال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾) تكلم عن صفات المؤمنين وتكلم عن خلق الإنسان، علاقة هذا الأمر بمحور السورة أن هذا الإنسان الذي خلقه الله من سلالة من طين ثم جعله نطفة في قرار مكين ثم خلق النطفة علقة ثم مضغة كل هذا عبث؟! آخر آية تقول (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴿١١٥﴾) رد العجز على الصدر. ذكر الله كيف خلقكم من البداية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿١٣﴾ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾) وفصّل في خلقه هذا الخلق العجيب، هذه المراحل الذي تتتحدث عن رحلة الجنين في رحم أمه في النهاية قال (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴿١١٥﴾) هذا رد العجز على الصدر.

قال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾) ثم قال بعدها (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴿١٧﴾) انتقال، شوط عن خلق الإنسان ثم جولة وحلقة عن خلق السموات، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴿١٧﴾) تكلم عن الخلق وعن إنزال الماء من السماء ثم تأتي جولة رائعة مع القصص (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٢٣﴾) الألفاظ تقسّم السورة إلى مقاطع (ولقد خلقنا الإنسان – ولقد خلقنا فوقكم – ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) القرآن فيه تقسيم عجيب! الكُتّاب لا يفعلون هكذا وإنما يقول: وبحثي ينقسم إلى أربعة فصول أما الفصل الأول كذا.. القرآن فيه تقسيم عجيب ولا توجد فكرة إلا لها سبب ولا لفظ، حتى في هذه الآية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿١٣﴾) في جميع القرآن تكلم الله عن خلق الإنسان في الرحم ما ذكر القرار المكين، هذه الكلمة تجذب أختها عندما تحدث عن مريم وابنها قال (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴿٥٠﴾) ألفاظ تتجاذب، مقاطع تتجاذب، سورة المؤمنون عجب في الوصف!

المقدم: ذكرت السورة بعضًا من قصص القرآن لكنها لم تتحدث عن كل القصص كسابقاتها من السور، ذكرت نوح وموسى ولم تذكر عادا وثمود وغيرهم من الأنبياء فهل لأن هذا الأمر لا يتناسب مع محور السورة؟ مع العلم أنك ذكرت أن محور السورة هو ذكر صفات المؤمنين.

د. المستغانمي: هذا رقم واحد، وأيضًا فيها توحيد الله ونبذ الشرك وإثبات رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم. كل القرآن المكي يثبت العقيدة والعقيدة هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، توحيد ونبذ الشرك وشهادة أن محمدا رسول الله. يُذكر من القصص في كل سورة ما يخدم محورها وشخصيتها والمواضيع التي تلتف حول محور السورة وهنا من هذه المواضيع التي تلتف حول هذه السورة: إنكار بشرية الرسول فأتى البيان القرآن من القصص ما يخدم هذا (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴿٢٤﴾) ركّز البيان القرآني على إنكار قوم نوح لبشريته كأن البشرية تناقض الرسالة فأتى بهذا المقطع الذين كفروا من الملأ قالوا (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) ثم قال (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ﴿٣١﴾) لما أنكروا على الرسول قالوا (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴿٣٣﴾ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴿٣٤﴾) أنكروا البشرية فأتى القرآن من قصص الأنبياء بما يخدم هذه الفكرة إلى أن جاء عند محمد صلى الله عليه وسلم. لما جاء عند موسى عليه السلام (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴿٤٥﴾ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ﴿٤٦﴾ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴿٤٧﴾) استنكر فرعون وجنوده وملؤه أن يكون موسى وهارون بشرين. مع أن هذه الفكرة تكررت في سور أخرى في القرآن لكن القرآن أتى بمقاطع التي تخدم السورة ولما تكلم عن عيسى وأمه (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴿٥٠﴾) وبعدها قال عن الرسل جميعا (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿٥١﴾) كلوا، هم أنكروا أن الرسول يأكل ويشرب ويكون بشرا لما أنكر المشركون على رسول الله (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴿٣٤﴾ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴿٣٥﴾) لإثبات أن وهمهم باطل وليدحض متمسكهم كأن البشرية تناقض الرسالة فأتى من القصص ما يخدم هذه الفكرة. أحد المفسرين أعجبني قال: والله عجيب أمر المشركين والكفار تعجبوا من كون بشر رسول ولم يتعجبوا من كون حجر إله!!! لذلك السورة تنبذ الشرك وتؤكد التوحيد وتصف المؤمنين فجاء فيها من القصص ما يخدم محمد صلى الله عليه وسلم ودعوة الإسلام.

المقدم: محور السورة يتحدث حول صفات المؤمنين وحول تأكيد توحيد الله عز وجلّ ونبذ الشرك وبرز فيها موضوع البعث كثيرًا من البداية وفي وسطها وفي النهاية، قال (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿٨٢﴾ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿٨٣﴾) وفي نهايتها (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴿١١٥﴾)

د. المستغانمي: وفي بدايتها (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴿١٦﴾) دائمًا السورة القرآنية محكمة في البداية يعطي تمهيدا ثم يفصل التمهيد ويبلوره ويعطي الحجج ثم في النهاية يختمها بضرورة العودة إلى الله سبحانه وتعالى.

من خصائص السورة أن فيها أيقونات لفظية معينة مثال: لما تحدث عن خلق الإنسان قال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾) السلالة هي جزء من شيء، لما نقول فلان من سلالة بني هاشم يعني من خيارهم، هو ينحدر منهم ومن خيارهم، هذا من سلالة بني هاشم أو من سلالة بني أمية، سليل بني فلان، سليل دوحة الكرم، والسلالة هي الصفوة أيضًا، المنتقى والمعتَصَر وخلاصة الخلاصة، علميًا الإنسان خلق من 16 مادة: المغنيزيوم والكالسيوم والحديد ومكونات الجسد البشري 16 عنصرا من أصل 92 عنصرا المواد العضوية الموجودة في الأرض فالله يقول لنا إشارة واضحة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾) مكونات الطين 92 عنصرًا، سلالتها من الحديد والكالسيوم وغيرها هي 16 إلى أن يقول (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿١٣﴾ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾) كيف أنشأ الإنسان؟ لما تحدث قال (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴿١٨﴾ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿١٩﴾) هذه الوحيدة في القرآن (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) في كل القرآن يقول (أنزلنا من السماء ماء فأخرجنا، أنزلنا من السماء ماء فأحيينا به الأرض) (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴿١١﴾ الزخرف) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٢٢﴾ البقرة) في سورة البقرة، هذا يساعدنا في المتشابه اللفظي، لماذا هنا أخرجنا وهنا أنشانا؟ (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٩٩﴾) الأنعام، (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)[الرعد:17] هذا يستقيم مع الماء، مع الواد، مع الزَبَد، في سورة النحل عنما تكلم عن النعم ونعمة شراب الماء (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴿١٠﴾ النحل) (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)، لما تحدّث (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿٦٣﴾ الحج) في سورة الحج تكلم عن لون الأرض وكان السياق في الدعوة إلى النظر. في سورة المؤمنون هنا (بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) وقال بعدها (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) ويقول في آية أخرى (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) [النمل:60]. لكل سورة سياقها ومن هنا تتعدد الأفعال، لا تظنن أن أنتبنا وأخرجنا وأحيينا وأنشأنا نفس الشيء، هنا مراعاة إنشاء الإنسان قال (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) أنشأ بالماء جنات. تكلم في جميع الأنبياء والرسل (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٤٤﴾) ولما تكلم عن قصص باقي الأنبياء قال (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ﴿٣١﴾) لم يقل أرسلنا كما هو ديدن القرآن: بعثنا رسلا أو أرسلنا وهنا قال (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ﴿٣١﴾)، والآية القاطعة (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴿٧٨﴾) في القرآن (هو الذي جعل لكم السمع والأبصار) أيقونة لفظية عجيبة يستعملها القرآن، الأمر هنا مراد. اقرأ سورة النحل (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٧٨﴾ النحل) لماذا (جعل) في سورة النحل؟ لأن السورة مبنية على جعل في كل شيء، وردت عشر مرات (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴿٧٢﴾) (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴿٥٦﴾ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ﴿٥٧﴾) (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴿٨٠﴾ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴿٨١﴾) (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٩٣﴾) (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿١٢٤﴾) وفي سورة المؤمنون الإنشاء هذا من خصائصها وأيقوناتها اللفظية. ذكر (جعل) مرة واحدة في سورة المؤمنون (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿١٣﴾) أما في سورة النحل وسورة الزخرف كلها (جعل)..

المقدم: ورد كثيرًا فعل الخلق (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴿١٧﴾) وفي النهاية (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴿١١٥﴾)

د. المستغانمي: وورد الخلق أيضًا في سور أخرى لكن أتكلم عما يلفت النظر إلى سورة المؤمنون بوجه دقيق من خصائصها اللفظية. ومن خصائصها أيضًا (حتى إذا) لا يوجد هذا في سورة الحج، (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴿٦٤﴾) بالدعاء. أسلوبها يختلف عن غيرها في هذا اللفظ (حتى إذا) (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ) بعد قليل قال (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴿٧٧﴾) في النهاية يقول (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴿٩٩﴾) القصد والإرادة والحكمة في بناء السورة بأسلوب خاص، هذا الذي ذكرته لكل كاتب أسلوب، للجاحظ أسلوب لكن في القرآن ثمة خصائص لكل سورة تفردها عن غيرها.

إذا جئنا إلى الانسجام والتناسق لما تكلم عن إنزال الماء قال (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴿١٨﴾) هناك أودية في باطن الأرض إن يشأ الله يكرم هؤلاء القوم وإن يشا يذهب في المياه الجوفية فقال (وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) جلّ جلاله ولما تكلم عن عذاب المشركين قال (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴿٩٥﴾) قدرة الله في الخلق وقدرة الله في التعذيب سيّان جلّ جلاله، هذا من أيقونات السورة وخصائصها.

لما تكلم عن الفواكه وعن النعم في سورة المؤمنون قال (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿١٩﴾) وردت في آيات أخرى (لكم فيها فواكه) بدون وصف (كثيرة)، التجاذب اللفظي: (لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ولما تكلم عن الأنعام (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿٢١﴾ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿٢٢﴾) لما ذكر المنافع الكثيرة في الأنعام ذكر الفواكه الكثيرة، ولما تكلم عن الفواكه الكثيرة (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ذكر الأنعام (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿٢١﴾ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿٢٢﴾) لماذا ذكر الأكل بالدرجة الأولى من الأنعام وفي مواقف أخرى ومواضع أخرى لم يذكرها؟ لأنه يريد إثبات خصائص الرسل، الرسل يأكلون ويشربون، وهذه الفواكه لهم، لذلك قال لهم (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) ذكر الفواكه قال (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) وذكر الأنعام وقال (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) وقال (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ﴿٢٠﴾) هذا مقصود، ثم وجّه الكلام مباشرة (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) إذن لا تتعجبوا إذا كان محمد يأكل من الطعام ويمشي في الأسواق فإذن ثمة إشارات، هذا القصص يخدم روح السورة ويخدم محورها، ثمة سور تحدثت عن بشرية الرسل ولكن هذه السورة كثّفت الحديث عن بشرية الأنبياء: الرسل بشر يأكلون ويشربون وأعطى بعض الآيات التي تدل على ذلك.

أمر آخر: ردود الأقوام (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴿٣٤﴾ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴿٣٥﴾) المشركون في عهد محمد صلى الله عليه وسلم قالوا (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿٨٢﴾) نفس التعليق: ما علّق به المشركون على الرسل، على نوح وعلى صالح (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ﴿٣١﴾ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴿٣٨﴾) يقول العلماء هو صالح بدليل (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ) نفس تعليق المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم وحتى نفس التعبير (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا) وفي آيات أخرى (أئذا كنا تراباً) لماذا (متنا) تناسب (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴿١٥﴾) والموت هو من خصائص البشرية.

 

728 ربيع آخر 1436هـ الموافق /2/2016م