الحلقة 26:
التصوير الفني في القرآن:
أنتقل في سحر القرآن من موضوع إلى موضوع. تحدثنا سابقاً عن موضوع في منتهى الإبداع وهو ما هو موضوع القرآن. وقلنا أن موضوع القرآن هو الله والتوحيد وينبغي أن نعرف ماذا يريد الله تعالى منا فنتعرف على الأحكام والأخلاق ثم يصف لنا أصناف البشر: مؤمن وكافر ومنافق وكلما ذكر المؤمن ذكر بهده المنافق أو الكافر والعكس وإذا ذكر المؤمنين أحياناً بفصل صفاتهم ومصيرهم في الجنة وإذا تكلم عن الكفار يتكلم عن صفاتهم ومصيرهم في النار. ويدلل على ذلك بالحديث عن الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب وبيبن لنا قصص الأنبياء حتى يبين ماذا حدث لمن آمن بهم واتبعهم ولمن كفر بهم. ومن المواضيع المهمة في كتاب الله تعالى موضوع التصوير الفني في القرآن الكريم والنغم في القرآن. موضوعان سنركز عليهما في هذه الحلقة وباقي الحلقات القادمة.
ندخل في موضوع جديد لم نتكلم عنه بعد وهو إعجاز التصوير الفني في القرآن. هذا الموضوع أشار إليه العلماء الأقدمون إشارات بسيطة لكن الذي أتقن الحديث فيه وفصّل فيه وكتب فيه هو سيد قطب الذي كشف عن أسلوب عظيم في القرآن هو باب التصوير الفني في القرآن. العرب تقسم الكلام إلى نوعين: شعر ونثر والشعر أنواع والنثر أنواع ولكن في النهاية هما نوعان. ولما جاء القرآن هذا الوحي الكريم من الخالق إضطر علماء اللغة إلى تقسيم الكلام إلى ثلاثة أنواع: شعر ونثر وقرآن لأنه ما استقام تحت الشعر ولا تحت النثر. الشعر له قوافيه وبحوره والنثر له قواعده وأوزانه وأحياناً له قافية ما يسمى بالسجع. وجاء القرآن بصورة جديدة ففيه وزن لكنه ليس بالشعر وفيه بحوره الخاصة ولكنها ليست من بحور الشعر فما استقام تحت الشعر ولا استقام تحت النثر. القرآن فيه أوزان ونظم مما تكلم فيه سيد قطب والعلماء وسنتكلم عن إعجاز هذا الوزن بحيث لا يمكن إستبدال كلمة مكان كلمة أو حذف كلمة وتستمر لأنه يختل الوزن ولو أخذت كلمة من مكانها سينكسر الوزن كانكسار الشعر. الشعر للذي يعرف بحوره إذا إختل الوزن يقولون عنه بيت مكسور كذلك القرآن له وزن لكنه ليس كأوزان وبحور الشعر. جاء القرآن بما يتميز به شيء موجود في الشعر وفي النثر ولكن القرآن أوجده بصورة جديدة وجو التصوير يرسم الصور. خلاصة أمر التصوير أنك أحياناً لما تستمع إلى خطيب مفوّه يحدثك بقصة تشعر كأنك ترى فيلماً وإذا كان المتحدث صاحب بلاغة وأدب راقٍ وحسن أداء يصبح الذي أمامه كأنه يشاهد الأحداث أمامه ويعيشها ويرى القصة تحدث أمام عيني، هذا هو المقصود بالتصوير الفني تنقل المعاني وكأنها صورة أمامك. قبل أن قرأت كتاب سيد قطب “التصوير الفني في القرآن” كنت أمر على هذه الآيات بشكل عادي لكن الموضوع اختلف بعدما قرأت الكتاب لذا أطلب منكم أن تقرأوا القرآن ولا تستعجلوا وإذا كان في الآية صورة حاولوا أن تتأملوها واقرأوا كتاب سيد قطب وتأملوا لقراءتكم للقرآن ستجدون أن القرآن مليء بالصور صورة وراء صورة يندر أن يكون بينها فواصل خاصة في القرآن الكريم. يقول سيد قطب: التصوير هو الأداة المفضلي في القرآن فهو يعبر بالصورة الخيالية بشكل حسّي يصور المعنى الذهني كأنه أمامك حتى الحالات النفسية يعبر عنها بصورة ويعبر عن الحادث المحسوس بالمشهد المنظور عن النموذج الإنساني، عن الطبيعة البشرية، يرتقي بالصورة فيمنحها حياة كأنك تراها حية أمامك شاخصة وإذا المعنى الذهني تحول إلى حركة والحالة النفسية تحولت أمامك كأنها لوحة مرسومة أو مشهد يمثل أمامك على مسرح. والنوذج الإنساني إذا هو حيٌّ أمامك والطبيعة مجسمة مرئية والمناظر يعيدها حيّة أمامك فيها حركة فإذا أضفت لهذا المشهد الحوار والحديث وأبطال المشهد فكأنك تتحيل مشهداً من مسرحية يمر أمامك هذا هو الأسلوب الفني في القرآن. حياة وليست حركة حياة. إذا فهمتم التصوير الفني في القرآن ستقرأون القرآن بصورة مختلفة تماماً.
نماذج من التصوير الفني في القرآن:
نتكلم عن التصوير الفني في القرآن كيف يحوّل الله تعالى المعاني والعِبَر إلى صور حيّة فيها حركة وحياة وحوار. يرسم لنا القرآن صورة تعبر عن هذا المعنى الإنساني بصورة حيّة فقال عن هؤلاء الكفار أن أعمالهم الصالحة ليس لها قيمة يوم القيامة لأنها خلت من الإيمان. سألت عائشة رضي الله عنها النبي r عن عبد الله بن جدعان وكان من الأغنياء الكبار في الجاهلية وكان قد وجد كنزاً فكان ينفق منه وكان مشهوراً بالجود والكرم فقال r: هو في النار. لأنه فعل هذه الأعمال ليس لله تعالى وإنما طلباً لمدح الناس وقد أخذ نصيبه من المدح في الدنيا. يقول تعالى عن أعمال هؤلاء الكفار ليس لها قيمة ولا يستطيعون أن يجمعوها يوم القيامة لأنها تفتتت. قارنوا هذا بما ذكره القرآن الكريم والصورة التي وصف بها أعمال الكفار يقول تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23) الفرقان) إذا وقفتم في بيت وأشعة الشمس داخلة فيه تجدون أشياء صغيرة تتحرك هذه تسمى هباءة يعبر عنها القرآن أنها شيء صغير جداً، كل أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا جعلها الله تعالى هباء منثوراً، تخيل إنساناً يريد أن يجمه هذا الهباء ويريد أن يصنع منه شيئاً مهما حاولوا أن يجمعوها ليس لها أهمية ولا قيمة ولا وزن.
صورة أخرى بنفس المعنى أن أعمال الكفار لا قيمة لها يقول تعالى (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18) إبراهيم.) الكفار أعمالهم لا قيمة لها يوم القيامة. يصور لنا القرآن إنساناً عنده رماد عصفت به الريح في وقت عاصفة وهو يريد أن يجمع الرماد الذي طار، تخيل هذا المشهد هل يستطيع أن يجمع شيئاً؟ كلا، كذلك الكفار لا يستطيعون يوم القيامة أن يقدموا شيئاً لأنه رماد. إنظروا كيف حوّلته الصورة من معنى ذهني إلى صورة إنسان عنده أعمال كثيرة لكن لأنه كافر تبددت هذه الأعمال يصورها بإنسان في الدنيا عنده رماد عصفت به الريح ولا يمكن أن يجمعه، انظروا إلى جمال التصوير وكيف نقل الصورة الذهنية إلى صورة حسية أمام أعيننا. أي إعجاز هذا؟! تأملوا القرآن وعيشوا مع الصور.
مثال آخر: صورة صدقة من إنسان كافر ومن إنسان يدّعي الإيمان يتصدق وهو مرائي وصورة ثالثة لإنسان مؤمن يتصدق خالصاً لله رب العالمين. صورة المسلم الذي يتصدق ويمنّ على من يتصدق عليه وهذا ليس من خُلُق المؤمن، قارنه بمن ينفق إبتغاء مرضاة الله. الصورة الأولى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) البقرة) يبشّع لنا الأمر بأن المؤمن ينبغي أن يتصدق وأن لا يتبع صدقته بالمنّ فالقرآن يبشّع المنّ (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) هذا المنافق وإنفاقه رياء لأجل المدح فضرب تعالى صورة هذا المنافق الذي ينفق ابتغاء المدح كمثل صفوان أي الحجر اليابس الذي عليه طبقة رقيقة من التراب أنت ترى التراب ولا ترى الحجر فتظن أن هذه الأرض أرض خصبة فإذا نزل مطر شديد أو وابل تركه صلداً فظهر أنه حجر وزالت طبقة التراب الرقيقة ويتبين أنه لا يُنبت خيراً. فالمنافق يحاول أن يغطي أعماله بطبقة رقية لا يعطي خيراً. فيقول القرآن أيها المؤمن لا تعمل مثل هذا المنافق.
قارنوا هذا بالمثل الذي يضربه بالمؤمنين الذين ينفقون مخلصين (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) البقرة) يضرب القرآن مثلاً حسياً للمؤمن الذي يريد وجه الله (كمثل جنة بربوة) الجنة هي بستان كثيف الأشجار تغطي ما فيها هذه الجنة بربوة أي مكان مرتفع كله أرض خصبة ليس فيه أحجار صلبة وليس فيه صفوان من أعلاه إلى أسفله. هذه الجنة أصابها وابل مطر فأتت أكلها ضعفين فأنبتت ثماراً ضعف العادة لأنه مطر شديد ولو نزل مطر قليل خفيف يكفيها هذا المطر الخفيف من أجل أن تثمر عند الله تعالى وحتى لو كان الثمر قليلاً لكنه عند الله عظيم والله تعالى يكثره. المقابل هناك حجر وهنا ربوة وهناك تغطية بطبقة رقيقة من التراب وهنا جنة وهناك المطر كشف الحجر وهنا أنبت وآتى الأُكل ضعفين، يكفيها المطر الخفيف لتنبت من كثرة خصوبتها وخيرها. ولهذا يجب أن تكون نفقتك بدون منّ ولا أذى وإلا تحولت إلى صفوان وتذكر أن تكون نفقتك إبتغاء مرضاة الله تعالى حتى تؤتي أكلها ضعفين.
الآن ننظر في صورة إنفاق الكافر الذي ينفق ويرجو الخير من وراء إنفاقه أن يذكره الناس والله تعالى يصف مشهدهم فيقول (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) آل عمران) ريح فيها برد شديد ومن شدة البرد تصطك أسنان الإنسان فكأن هذه الكلمة (صِرّ) تصف لنا هذه المسألة كأنها قذائف تقذف أصابت حرث قوم (وذكر كلمة حرث ليدل على أن الإنسان سعى وبذل جهداً كبيراً وينتظر الحصاد) قبل أن يأتيه الحصاد جاءت ريح وبرد شديد فأهلكت الثمار فيقول تعالى (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) هذا إذن الذي ينفق وهو كافر قبل أن يستفيد من حرثه جاءته ريح فأهلكت الحرث وهكذا أعمال الكافر يوم القيامة الله تعالى يهلكها وليس لها قيمة.
مثال آخر (حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) الحج) صورة المشرك الذي يحاول أن يُظهر نفسه بالمظهر الحسن في الدنيا ويكسب الأنصار والأصحاب وهذا مثل عجيب. هذا المشرك ليس له نصيب، منظر وتصوير عجيب! تخيلوا إنساناً ساقطاً من السماء لا ندري من أين جاء وقبل أن يصل إلى الأرض جاء طير مسرع فاختطفه أو جاءت ريح شديدة فأنزلته في مكان سحيث ليس له نهاية. هذا الإنسان كأنه ليس له بداية ولا نهاية. وصف عجيب! والمشكر ليس له أصل وليس له نهاية محمودة وإنما له نهاية مزعجة. لاحظوا كيف صور القرآن المعاني الذهنية بصورة مجسدة. هذا نموذج من التصوير الفني في القرآن وفي الحلقة القادمة سنتحدث عن التصوير الفني للحالات النفسية التي بين الإنسان ونفسه ولا يتحدث بها لأحد يكشفها القرآن ويصورها تصويراً دقيقاً كأنها مجسمة أمامنا.