سحر القرآن

سحر القرآن 27

اسلاميات

الحلقة 27:

 

التصوير الفني للحالات النفسية:

 

في هذه الحلقات نتناول موضوعاً خاصاً من سحر القرآن ومن بيان القرآن ألا وهو موضوع التصوير الفني في القرآن. وأحسن من تكلم فيه وأجاد والوحيد الذي له مؤلّف في هذا الموضوع هو سيد قطب رحمه الله بعنوان ” التصوير الفني في القرآن”. في هذا الكتاب يكشف لنا سيد قطب أسلوباً خاصاً في القرآن – هو موجود في لغة العرب – لكنه خاص في القرآن حيث أنه موجود في كل صفحة من القرآن. ويقول سيد قطب : لما كنت أبحث في هذا المسألة بدأت بكتابة مقال ثم توسعت وكنت أظن أنني سأجد لمحات بسيطة لكن الذي لاحظته أنه في قضية التصوير أن هذ الأسلوب هو المفضل في القرآن وهو التصوير الفني. وعندما قرأت كتاب سيد قطب ما عدت أقرأ القرآن بنفس الصورة فالقرآن مليء بالصور ونجده في كل سورة من سور القرآن. بيّنا كيف يحول المعاني مثل الصدقة بإخلاص والصدقة برياء يحولها إلى صور حسية واليوم نتحدث عن تحويل الحالات النفسية والمشاعر داخل الإنسان التي لا يكشفها يحولها القرآن إلى صورة محسوسة كأنها تتمثل أمامنا.

 

تجسيد المعاني بصور حسية في التصوير الفني في القرآن:

 

إذن كما يصور لنا الله تعالى المعاني بصور حسية كذلك يصور الحالات النفسية بصورة مجسمة أمام أعيننا. ننظر الآن كيف يصور حالات النفس وداخل النفس فيريد تعالى أن يبرز لنا الحيرة التي تنتاب المرتد الذي أشرك بعد التوحيد، هو محتار هل يرجع للتوحيد أو يبقى على الشرك؟ هذه الحيرة حالة نفسية للمرتد يقول تعالى أنتم لا تعرفوا حاله ولكن أنا سأصورها لكم (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) الأنعام) لما تجدوا كلمة (مثل) أو حرف الكاف (ك) في القرآن معناه أن الله تعالى سيصور لنا صورة ستتجسد أمامك الآن. صورة المرتد (ونرد على أعقابنا) ليس هناك من شرح لنا الحالة النفسية للمرتد لأنه يتظاهر أنه مقتنع بردّته ولا يكشف ما في نفسه إلا الله عز وجل فقال تعالى (كالذي استهوته) هذا الوصف القرآني (إئتنا) أي إرجع لنا، إرجع للإيمان. تخيلوا صورة إنسان واقف وعلى يمينه أصحابه المؤمنون يدعونه ويقولن له إئتنا والشيطان على يساره يستهويه ويجره للهوى ويجره للشهوات والمرتد واقف في الوسط حيران متردد يعرف أن هذا الدين حق لكنه يتظاهر بأنه مقتنع ويجادل ولكن في داخل نفسه هو حيران لأنه ذاق حلاوة الإيمان وعنده أصحابه المؤمنون الصالحون يرغّبونه بالإيمان ويحاولون أن يعيدوه لكن في نفس الوقت هواه والشيطان يجرّانه في الإتجاه الآخر فهو متردد بين الأمرين. أي وصف عجيب يصف القرآن لنا هذا الأمر!.

 

مثال آخر: ويضرب لنا الكتاب الكريم ويكشف لنا عن حال هؤلاء الذين هيّأ الله تعالى لهم العلم والمعرفة فلم يعمل هذا الإنسان بهذه المعرفة ولم يستفد من العلم. شاب صالح ينشأ في بيت علم، العلم هُيّأ له ثم يفر من طريق العلم. العلم مهيّأ له ولكنه لا يأخذه. التعبير البشري الذي يدل على وضع هذا الإنسان أنه غير مستريح بالمعرفة ليأخذها وانظروا كيف صور القرآن لنا هذه المسألة: الإنسان الذي أُعطي العلم ولم يستفد منه ولم يبني عليه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) الأعراف) هيأنا له العلم ففر من طريق العلم وذهب في طريق آخر فمشى الشيطان وراءه فكان من الغاوين (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) ولو أراد الله لهذا الإنسان إذا رأى الإخلاص منه أن يستجيب للهدى لانتفع بهذا العلم. العلم مهيّأ أمامه وانسلخ عنه، هذا هو المعنى كأنه كان لاصقاً فيه (يقال انسلخ للجلد فكأنما العلم لم يكن عميقاً ولو كان عميقاً في نفسه ما تركه). يقول تعالى عن هذا الذي ترك العلم وسار في طريق الغواية (ولكنه أخلد إلى الأرض) وضرب مثلاً سيئاً جداً لهذا الإنسان (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)) صورة بشعة جداً كلب يلهث وهو مرتاح ويلهث وهو يجري وهو متعب. يصور لنا القرآن حالة الإنسان الذي ترك العلم وبدأ يلهث وراء الشهوات ويجري وراء الدنيا كالكلب. هذه حال الذي يترك العلم وينشغل بالدنيا. صورة عجيبة يصورها القرآن.

 

مثال آخر: صورة أعجب يصفها الله تعالى في القرآن وهي صورة الإنسان الذي آمن ولكن لم يستقر الإيمان في قلبه فهو مؤمن لكنه متزعزع العقيدة، مؤمن ويريد أن يكسب مكاسباً دنيوية من إيمانه، يريد أن يستفيد من عقيدته، هو مؤمن ولكنه راغب في الدنيا أكثر من الآخرة وهذا حال معظم أمتنا اليوم: مؤمنين لكنهم متعلقين بالدنيا أكثر من تعلقهم بالآخرة يقصّر في الفرائض من أجل شهوات أو مال أو مباراة أو حفلة غنائية، يقول تعالى عنه (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) الحج) الحرف هو حافة الهاوية، تخيل إنساناً يصلي واقف على حافة الهاوية خطوة واحدة ويسقط (فإن أصابنه فتنة) أي إبتلاء، أي شك، أي حديث في قضايا الدين يجعله يتشكك (إنقلب على وجهه) على وشك أن يسقط في الفتنة. الذي يفعل مثل هذا المتعلق بالدنيا وإيمانه محدود وأداؤه للفرائض محدود يبقى له دفعة واحدة ويسقط في الدنيا. فهو المؤمن الذي على وشك أن يسقط كالواقف على طرف هاوية. سبحان الله وصف هذا الوصف العجيب! (خسر الدنيا والآخرة) فأي تصوير عجيب لهذا المشهد!

 

مثال آخر: وتصوير عجيب للذين انشغلوا بالدنيا والشهوات ولا يذكرون الله إلا إذا أصابتهم مصيبة ولا يصلّون إلا وقت الشدة أما وقت الرخاء فلا يقومون بشيء قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) يونس) ثم يأخذ صورة أناس ركبوا سفينة في البحر (حتى إذا كنتم في الفلك) أي في السفينة (وجرين بهم بريح طيبة) تجري في البحر بريح هادية تحركها دخلوا في البحر ومنشغلين بجمال البحر هذا وصف الإنسان المشغول بشهواته يقول تعالى (جاءتها ريح عاصف) هبت ريح عاصفة. انظروا الوصف كأنك تعيشه! (وظنوا أنهم أحيط بهم) جاءهم الموت من كل الجوانب. هذه اللحظات لحظات الشدة (دعوا الله) يدعون ربهم أن تذهب منهم المصيبة ويعودون إلى الله. مثّل الله للذي لا يذكر الله إلا وقت الشدة بهؤلاء (فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23)) قد يذكرون الله بشيء بسيط وقد لا يذكرون وللأسف من المؤمنين من لا يذكر الله إلا وقت الشدة أما وقت الرخاء فيكون من المفسدين. انظر جمال القرآن ينقلنا من وصف معنوي إلى صورة حسية مجسدة أمامنا.

 مثال آخر: يجمع القرآن كل شيء، يحدثنا عن قصة ويصف المعاني والحالات النفسية في صور. ننظر في الآية 9 من سورة الأحزاب. مثال غزوة الخندق التي فيها جاءت قريش وحلفاؤها وحاصروا المدينة واحتمى جنود المسلمين في الخندق فلما اشتد الحصار وبدأ اليهود يهود بنو قريظة الذين كان يحمون جنوب شرق المدينة خانوا العهد كعادتهم والأحزاب جاءوا من شمال المدينة واليهود نقضوا العهد جنوب المدينة وبدأ المنافقون يختلقون الأعذار ويقولون للنبي إن بيوتهم مكشوفة وغيره من الحجج والرسول r يأذن لهم وضاق الأمر بالنبي r ولم يبق معه إلا 300 صحابي والأحزاب كانوا عشرة آلآف واليهود كانوا 700 وضافت عليهم الدنيا واشتد الأمر على المسلمين. يصف تعالى المشهد بكلمات معجزة بوصف القرآن وهو يختلف عن كل وصف جاء في كتب السيرة على لسان البشر. يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) تذكروا كيف نجوتم من الخندق (إذ جاءتكم جنود) جنوداً لم تروها اي الملائكة تخيفهم والريح تعصف بهم (وكان الله بما تعملون بصيرا) اذكروا كيف أن الله تعالى أنقذكم من هذه المعركة وحه بالملائكة والريح. (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (إذ جاؤكم من فوقكم) الأحزاب (ومن أسفل منكم) اليهود وزاغت الأبصار من شدة الخوف وبلغت القلوب الحناجر فكأن كل واحد صعد قلبه وصار إلى حنجرته من شدة الخوف وتظنون بالله الظنونا. (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)) (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)) وإذ قالت طائفة منهم أي من المنافقين يا أهل يثرب إحموا بيوتكم ويستأذن فريق منهم. لم يترك شيئاً ولا حركة ولا وصفاً ولا حواراً وحتى الحالات النفسية التي لا تُرى (بلغت القلوب الحناجر) لا يصف الظاهر فقط وإنما يصف النيّات والأحوال النفسية وحالة المؤمنين الذين يبدون شجعاناً ولكنهم خائفون في أعماقهم لكنهم صبروا وصمدوا. هذا وصف الحصار. وقد وصف الله تعالى الهزيمة بشكل غير عادي نتحدث عنه في حلقة قادمة.