في رحاب سورة
د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1436 هـ
في رحاب سورة الحج – 6
تقديم الإعلامي محمد خلف
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سؤال: هل من الممكن تفسير الآيات التي وردت في سورة يس من الآية 41 إلى 44 (وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴿٤١﴾ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴿٤٢﴾ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ﴿٤٣﴾ يس) حينما تتحدث عن حمل الذرية في الفلك المشحون والغرق وعدم الصريخ، هل هذا الفلك المشحون هو رحم الأم مع العلم أن الجنين يسبح في سائل الرحم ويصرخ عند الولادة؟ وهل تعني كلمة المشحون فإن شاء الله أغرق الطفل وإن شاء أماته داخل رحم أمه فلا صريخ له؟
د. المستغانمي: هذا تأويل نوعًا ما بعيد، القرآن الكريم حافل ومترع بالصور وبالآيات الإعجازية العلمية لكن ليس في مثل هذه الآية، هو تأويل علمي حديث ذهب إليه الأخ الفاضل جزاه الله خيرًا ولكن الآية واضحة (وآية لهم) للقرشيين، للمخاطَبين (أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ) وفي قرآءة (ذرياتهم) مع نوح عليه السلام في الفلك المشحون أي حملنا أجدادهم وآباءهم، تقول كيف قال (ذرية)؟ لأننا نحن من ذرية قوم آخرين (ذريةَ من حملنا مع نوح). الفلك المشحون هي السفينة التي شُحن فيها من كلٍ زوجين اثنين (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) هذه الآية تفنّد الرأي الذي ذهب إليه وتدحضه يعني جعلنا لهم من الفلك التي يركبون عليها وهي آية، (وترى الفلك مواخر فيه) هو تأويل ذهب إليه جزاه الله خيرا لكن الآية لا تحمل ذلك.
سؤال: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) من هم المقصودين بالرسل؟
د. المستغانمي: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) هذه الآية في سورة الفرقان، قوم نوح جاءهم نوح فقط لكن من كذب رسولا فقد كذب الأنبياء جميعًا وسورة الشعراء هي الدليل (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٠٥﴾ الشعراء) (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٢٣﴾) (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٤١﴾) (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٧٦﴾) من كذب رسولا واحدا فكأنما كذب جميع الرسل، نحن المسلمون مطالبون أن نؤمن برسولنا وأن نؤمن بجميع الرسل (لا نفرق بين أحد من رسله) فمن كذّب برسول فكأنما كذب جميع الرسل هذا هو المقصود وليس المقصود أنه جاءهم رسل كثيرون والله أعلم وهذا ما يقوله العلماء في التفسير.
سؤال: عند تحليلكم لآية ما تقولون: بعض العلماء يقول كذا وكذا ولا ترجحون الفكرة مما يترك القارئ أو المستمع في حيرة من أمره حول توصله للمعلومة الدقيقة وكلما أقف على معلومة أجدها غير مرجّحة عند العلماء والمشايخ.
د. المستغانمي: سؤاله جيد لكن هو يريد أن نرجّح وأن نُلزم بقول معين، في الحقيقة القرآن صاغته العناية الربانية ليتحمل كثيرًا من المعاني وهذه المعاني والدلالات التي تحملها ألفاظ القرآن وآياته تزيد من عظمة هذا النص وهذا ما يسمى بالتوسع الدلالي فكيف لي أنا أو لأي واحد أن يرجح معنى على معنى آخر فالقرآن حمّال ذو وجوه، فلذلك عندما نطرح ما قاله المفسرون والعقل البشري يفكر وينقد ويأخذ ويعطي وبالتالي هذا ثراء للقرآن الكريم شريطة أن لا نأتي بأقوال متضادة. وأنا لست مفسرًا وإنما أنقل علمًا للمشاهد ما قاله العلماء إذا كان الأمر يقتضي الترجيح نرجّح لكن إذا ذكرنا بعض الدلالات المتنوعة للآية الكريمة فهذا شيء جميل.
وخاصة أننا لا نتحدث في برنامج فقهي لنرجح رأيًا على آخر.
سؤال: يقول الله تعالى في قصة موسى بين سورتي القصص والنمل (اسلك يدك) و(أدخل يدك)
د. المستغانمي: ذهبت إلى كثير من المفسرين هم يذكرونها من باب الترادف والتقارب، اسلك يدك في جيبك أو تحت إبطك أو تحت جناحك هي أدخل يدك في جيبك فاللفظان والفعلان متقاربان والقرآن غلّاب ولم نجد من المفسرين من رجّح هذا على ذاك، فقط إشارة هي سألت هل من الثوب اللفظي لسورة النمل دخل وأدخل؟ نعم، سورة النمل ورد فيها أدخل يدك في جيبك نقرأ السورة فنجد أنه ورد فيها مادة الدخول خمس مرات
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12))
(حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18))
(فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19))
(قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34))
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44))
فجاء متسقًا في السورة بينما في سورة طه قال (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) لم يقل (واسلك) مثلا لأن في سورة طه تكلم عن (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) سلك لكم فيها سبلا أي مهّد لكم سبلا، جعل ومهّد، حتى لا يلتبس المعنى على القارئ الكريم يقول سلك بمعنى مهّد وسلك بمعنى أدخَل فتجنب البيان القرآني ذكر (اسلك) هذا تأويلي أنا الشخصي. نأتي إلى سورة القصص نجد (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) جاء بالاثنين لأن قصة موسى في سورة القصص بنيت على التفصيل والإطناب والتدقيق وذكر التفاصيل حتى حينما ناده (أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٣٠﴾ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ﴿٣١﴾)
سورة الحج:
كنا قد توقفنا عند قول الله تعالى (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿١٩﴾ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿٢٠﴾ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴿٢١﴾ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿٢٢﴾) ثم جئنا إلى قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿٢٣﴾) هنا صورتان هل من الممكن الوقوف عند الصورتين بشيء مفصّل والفرق بين هاتي الصورتين والتناسق ما بينهما؟
(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) تنطبق على فريق المؤمنين وفريق الكافرين وتنطبق على الذين تبارزوا في غزوة بدر من المؤمنين الصحابة رضوان الله عليهم ومن الكافرين، ثم بدأ التفصيل (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) الماء الذي يغلي (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿٢٠﴾ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴿٢١﴾) أسواط يقمعهم بها الملائكة خزنة النار (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) ثم قلنا (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) كان القياس اللغوي أو المقتضى اللغوي أن يقول: والذين آمنوا، لأنه دائمًا الإجمال ثم يأتي التفصيل: فالذين كفروا والذين آمنوا يكمل السياق، لكن البيان القرآن عدل إنما بدأ جملة استئنافية بيانية مؤكّدة بـ(إنّ) متوّجة بلفظ الجلالة وهذا يتسق مع العديد من بدايات آيات سورة الحج (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وردت مرتين، (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿١٤﴾) (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿١٧﴾) (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۩﴿١٨﴾) (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴿٣٨﴾) (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٥٤﴾) (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿٥٨﴾) فمراعاة لهذا التناسق وتتويجًا لهؤلاء الذين فازوا، آمنوا وعملوا الصالحات جيء بـ(إنّ) المؤكّدة وبلفظ الجلالة بينما في وسط السورة نجد (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿٤٩﴾ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿٥٠﴾ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿٥١﴾) هذا هو الأصل لكن في البداية جيء بها للفخامة والتعظيم.
سؤال من المقدم: لعل سائلًا يسأل (هذان خصمان اختصموا) فريقان الفريق الأول (فالذين كفروا) والثاني (الذين آمنوا) ثم يعود مرة أخرى ويكرر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
هذا سؤال آخر، لما وصف الذين كفروا ثم وصف الذين آمنوا ثم عاد وقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لحسن التخلّص من ذكر الطائفتين والدخول في مناسك الحج جيء بالآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ومن بين الصد عن سبيل الله الصد عن المسجد الحرام وبدأ التفصيل في المسجد الحرام وإلا كان يستطيع جلّ جلاله وهو يستطيع أن يقول: إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قطعت لهم ثياب لكن أخّرها ليربطها وهذا يسمى في البلاغة حسن التخلص.
نعود إلى الصورتين: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أولًا (إن الله يُدخل) قال يُدخل هنا لأن في مشهد النار (كلما أرادوا أن يخرجوا منها) للطباق والمقابلة، يُدخل الذين آمنوا حتى تقابل (كلما أرادوا أن يخرجوا)، (تجري من تحتها الأنهار) تقابل (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا) تقابل (ولهم مقامع من حديد) ولما قال (ولباسهم فيها حرير) تقابل (قطعت لهم ثياب من نار) مقابلة عجيبة! صورة كأننا نرى المشهدين! (وهدوا إلى الطيب من القول) تقابل (ذوقوا عذاب الحريق) هذا تقريع وإهانة وهذا تكريم بالقول. لا بد من الوقوف عند الصورتين وأنا أدعو أن نقرأ القرآن قرآءة تكاملية لا نقرأ آية وبنترها ونحذفها من مكانها، الجوهرة الجميلة لو رأيناها على طاولة تكون جميلة لكن لو رأيت الجوهرة في عقدها وفي عنق الحسناء يستحسن العقد، المشهد يجلّي الجمال.
المقدم: في الآيات صورة بلاغية أيضًا ففي الآية في سورة الحج (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿٢٢﴾) وجاء في سورة السجدة (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) السجدة) فما دلالة الزيادة (من غمّ) في آية سورة الحج؟
د. المستغانمي:الإضافة (مِنْ غَمٍّ) لسببين اثنين والله أعلم ثمة أسباب أخرى. (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) بينما في سورة السجدة (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) لم يذكر (من غم) وقيل لهم (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ) السبب الأول: المشهد في سورة الحج طويل ومفصل في تصوير أهل النار (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿١٩﴾ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿٢٠﴾ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴿٢١﴾) بينما المشهد في سورة السجدة ليس مفصلًا (أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٩﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿٢٠﴾) انتهى الكلام. فالمشهد الموجز الوجيز حُذفت فيها (من غم) والمشهد المطوّل المفصّل (من غم) وهذا ديدن القرآن. أتى (من غم) مراعاة للتفصيل.
ثانيًا: متى يصاب الإنسان بالغم؟ الغمّ عدم القدرة على التنفس يقال غُمّ عليه وعدم القدرة على التنفس أصيب بغمّ شديد، الغمّ هو الشدة التي لا تسمح بالتنفس تكون مع الحريق وفي سورة الحج وردت (ذوقوا عذاب الحريق) مرتين، قال (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) يقتضي (من غمّ) بينما في سورة السجدة قال (النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ) عذاب النار عام أما عذاب الحريق يقتضي (من غمّ) هذا يسمى التجاذب اللغوي البلاغيون والنقّاد يسمونه المصاحبات اللغوية.
أقف أيضًا لما قال (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وأنا أقرأ في التفسير وجدت أن المفسرون قالوا: هداهم الله أن يقولوا كلاما طيبا، هذا الرأي الأول الذي يقوله المفسرين، هداهم الله أن يقولوا كلامًا طيبًا من بينه: (تحيتهم فيها سلام) (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) من بينه (الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة) هذا من الكلام الطيب. وثمّة رأي آخر (وهدوا إلى الطيب من القول) إلى مكان إلى مواضع يسمعون فيها الطيب من القول تدخل عليهم الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، هذا الكلام الطيب من الملائكة، يسمعون كلاما طيبا. لكن القرآءة التكاملية للنص القرآني تجعلنا نرجح أنهم هم الذين يقولون والدليل هنا قال (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿٢٣﴾ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) هدوا فعل مبني لما لم يسمى فاعله وتحدث القرآن عنه كما تحدث عن المشركين (وذوقوا) الله تعالى تحدث هنا (وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) نأتي إلى سورة فاطر تحدثت عن مشهد مشابه تمامًا(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿٣٣﴾ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴿٣٤﴾ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴿٣٥﴾) هذا هو القول الطيب. لك أن تأتي بآراء أخرى لكن لما كان نفس السياق ونفس الآية (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴿٣٤﴾ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) هذا كلام لا يقوله البشر إلا إذا هداهم الله إليه (لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ) والقرآن يفسر بعضه بعضا وهذا الذي نريد أن نقف عنده في الدراسة التناسقية للسور. بينما الرأي الثاني أيضًا مقبول وذكره العلماء.
المقدم: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) لماذا قال (من أساور من ذهب) ولماذا نَصَب (لؤلؤا) مع أن جمهور القرآء يقرؤنها لؤلؤٍ؟
د. المستغانمي: القرآءتان واردتان وردت قرآءة بالنصب (ولولؤا) ووردت بالكسر (ولؤلؤٍ). أولًا (من أساور من ذهب) الطريقة العادية أن يقال يُحلّون أساور (فعل متعدي يحلّيهم الله أساور يحتاج إلى مفعولين) بدليل قوله تبارك وتعالى في سورة الإنسان (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ) لم يقل (من أساور). الذهب بالنسبة للذكر في الدنيا حرام أن يحلّى به بينما الذهب للمرأة حلال أن تتزين به، فلأن الذهب وأساور الذهب من غير المعهود أن يتحلّى بها الرجل قد يظن إنسان أنه يراد به معنى مجازي، معنى بعيد ليس حقيقيًا، لأن الأساور الذهبي غير معهودة في حق الرجل ويوم القيامة يلبسها على الحقيقة أتي بـ(من) للتأكيد، من جنس الأساور الذهبية، حتى لا يتوهم القارئ بأنها مجازية، هي من أساور من ذهب بدليل أنه في سورة الإنسان عندما تحدث عن الفضة لم يقل (من أساور من فضة) لأن الفضة ها الرجل (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ) لم يقل من أساور من فضة.
(يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا) وفي قرآءة صحيحة أخرى (ولؤلؤٍ). يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤٍ أي وأساور من لؤلؤٍ، المعنى صحيح معطوفة على ذهب أما (لؤلؤًا) فهي معطوفة على محل كلمة أساور، كأنه قال يحلون أساور ويحلون لؤلؤا إذا عططفنا على محل كلمة أساور نقول: أساور مجرورة لفظا منصوبة محلا فلو قلنا يحلّون أساور ويحلّون لؤلؤا فكلمة لؤلؤا معطوفة على محل أساور أو نقول يحلون أساور من ذهب وأساور من لؤلؤٍ والقرآءتان متكاملتان وهذه عظمة القرآن الكريم في قرآءاته وتكامله.
المقدم: يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿٢٥﴾) هنا قلنا هذا أسلوب حسن التخلص، لماذا قال الله سبحانه وتعالى (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) ما قال كفروا وصدّوا عن سبيل الله، كفروا فعل ماضٍ ويصدون فعل مضارع فلماذا عدل عن الماضي بالمضارع؟
د. المستغانمي: وردت في مواضع أخرى (كفروا وصدوا) في سورة محمد مثلًا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ) هنا في سورة الحج المقام الوحيد الذي وقع فيه الالتفات من الماضي إلى المضارع وذلك لنكتة بلاغية يذكرها المفسرون: إن الذين كفروا واتصفوا بالكفر وتحقق فيهم صفة الكفر (فالماضي يفيد التحقق أكثر) (ويصدّون عن سبيل الله) يستمرون في الصد عن سبيل الله وهل توقف المشركون عن الصدّ عن سبيل الله؟! فهم يصدّون باستمرار، فلإفادة صفتهم بالكفر الذين تحققوا به ولإفادة تجددهم واستمرارهم في الصد عن سبيل الله جيء بالمعنيين كأني بالقرآن يقول: إن الكافرين (الذين كفروا صفة ثابتة لهم) الذين يصدون كأنه يفسر الكافرين بأنهم هم الذين يصدون عن سبيل الله. فهذا إلتفات لغوي وفي القرآن نجد كثيرا من الإلتفات اللغوي من الماضي أو المضارع (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ )[فاطر:9]
المقدم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) والحديث في قابل الآيات تتحدث عن بيت الله كيف أن الله سبحانه وتعالى أذن لإبراهيم بالأذان بالحج لماذا قال (ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ما ذكر مباشرة يصدون عن المسجد الحرام، ما دلالة (ويصدون عن في سبيل الله)؟
د. المستغانمي: الذين يصدون عن سبيل الله، الصد عن سبيل الله عام والصد عن المسجد الحرام نوع من الصد عن سبيل الله، الصد عن المسجد الحرام هو جزء من كلّ فأتى بالكل أولًا بشكل عام (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ويصدون عن المسجد الحرام) حتى يفصّل وتأتي قصة إبراهيم والحج، فهم للأسف الشديد يرتكبون محظورات عظيمة ويصدون الناس عن الإسلام ويصدون عن البيت، هذا البيت المقتضى والمفترض أنهو لا يصدوا عنه الناس.
استطراد من المقدم: سؤال كان: هل هناك ارتباط ما بين قول الله (في سبيل الله) و(سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)؟
د. المستغانمي: لا، (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) المسجد الحرام، هذه سلسلة: الصد عن سبيل الله عام، والصد عن المسجد الحرام يدخل ضمنًا في الصد عن سبيل الله،
المقدم: المسجد الحرام فيه عبادة وفيه تقرّب إلى الله سون لكنه قال (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) العاكف الملازم المقيم هم أهل مكة كما يقال والباد هم أصحاب البادية من جاء من خارج مكة
د. المستغانمي: وكل من أتى من خارج مكة،
المقدم: هل قوله سبحانه وتعالى (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي أن الإقامة في هذا المكان هو نوع من سبيل الله الذي يجب أن يكون متوفرًا لصاحب المكان وللذي جاء من الخارج؟
د. المستغانمي: هذا من معاني الآية عند الشافعية والمالكية وقالوا هل دور مكة ملك لأصحابها؟ هذه قضية فقهية كبيرة لأنه قال (سواء العاكف فيه والباد) المفترض أن يستفيدوا من الإقامة في مكة وحولها لكن الرأي الراجح أن دور مكة ملكٌ لأصحابها ولكن لا بد أن يواسوا وأن يتآزروا مع بقية المسلمين الذين يفدون إليهم من كل حدبٍ وصوب من العالم. التخلّص ذكر (في سبيل الله) بشكل عام ثم (المسجد الحرام) ثم أتى (سواء العاكف فيه والباد) القرآن وبّخهم وقال هؤلاء الكافرون يصدون لأن الله جعل الكعبة ومكة لكي يستوي فيها الجميع: سكان مكة في العبادة والعكوف والبادون الذين يأتون من كل فج عميق، ليس أهل مكة بأولى بالكعبة من غيرهم فالكل سواء في العبادة في هذا المسجد والمفترض أن المشركين في ذلك الزمان لا يصدون الناس عن المسجد الحرام.
المقدم: بعض القرآءات قرأت ((سواءٌ) العاكف فيه والباد) ونحن نقرؤها سواءً بقرآءة حفص.
د. المستغانمي: (سواءً) مفعول ثاني لجعلناه: جعلناه: المفعول الأول: الهاء، وسواءً مفعول ثاني. (والعاكف) فاعل للمصدر سواء كأنه يقول يستوي فيه العاكف والباد. والقرآءة الثانية (سواءٌ) قرآءة صحيحة، سواءٌ العاكف فه والباد: سواءٌ خبر مقدّم، العاكف مبتدأ مؤخّر والجملة الإسمية مفعول به ثاني: العاكف فيه والباد سواء، هذه جملة إسمية في محل نصب مفعول به للفعل (جعلنا) والقرآءتان صحيحتان وهذا من تكامل القرآءات.
المقدم: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) ما دلالة تكرار الباء؟ ما قال: من يرد فيه إلحادًا
د. المستغانمي: (بإلحاد) أشد توكيدًا والباء زائدة للتوكيد، (وما الله بظلام للعبيد) آكد مما لو قلنا: وما الله ظلامًا للعبيد. الباء تفيد التوكيد والباء الثانية تفيد الملابسة (بظلم) يعني تفيد التلبس بالفعل: من يرد فيه إلحادًا متلبسًا بظلمٍ، وهو ظالم، فعل الظلم تلبّس فيه والأولى تفيد التوكيد والتناسق بينهما جميل رائع.
المقدم: (نذقه من عذاب أليم) العادة أن الله سبحانه وتعالى يؤاخذ الناس على أفعالهم وليس على إرادتهم أو نياتهم وهنا قال (ومن يرد فيه) ما قال ومن يلحد فيه؟ فقط الإرادة يذقه من عذاب أليم.
د. المستغانمي: هذه لخصوصية المسجد هذ البيت العظيم قال علماء التفسير لو أن أحدهم فكر وهو في عدن أو في جهة أخرى وفكّر أن يلحد فهو مذموم ويذقه الله من عذاب أليم وهذه الآية الوحيدة التي يحاسب الله فيها على الإرادة الداخلية والقانون الإسلامي الجزائي عندما تفعل تحاسب أما إذا هممت بسيئة فلا تحاسب عليها. ومن هذه الآية استنبط العلماء أنه من همّ بسيئة في البيت الحرام مؤاخذ عليه الإنسان.
(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) لم يقل عذابًا أليمًا وإنما (من عذاب أليم) لأنه لما يقال: نذقه من جنس عذاب أليم أكثر توكيدًا من (عذابًا أليمًا) السورة كلها مبنية على (من) ولما نحوصلها أذكر لك بعض خصائصها اللفظية أيضًا
المقدم: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) بوّأنا يعني هيأنا له، أي مكّنا له ومهدنا له مكان البيت من أجل أن يعمره. (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) نقف عند مسألة تاريخية الله سبحانه وتعالى بوّأ لإبراهيم عليه السلام مكان البيت المعمور سابقًا، صحيح؟
د. المستغانمي: أرشده إليه (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة)
المقدم: أن المفسرين يقولون جاءت ريح فكشفت عن قواعد البيت وهذا مذكور في كتب المفسرين فأقام إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء البيت.
د. المستغانمي: ويقول المفسرون أن الكعبة تقابل البيت المعمور تمامًا عند الله سبحانه وتعالى لكن هذه أقوال تاريخية تحتاج إلى تأكيد في السند.
المقدم: لماذا قال (مكان البيت) ولم يقل بوأنا له البيت
د. المستغانمي: وضحّه له، إبراهيم الخليل لما رفع القواعد (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٢٧﴾ البقرة) لم يختره هو هكذا وإنما كل شيء بتوقيف من الله سبحانه وتعالى وإرشاد ووحي منه سبحانه.
(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) هذا الغرض من بناء البيت، الغرض الأساسي من بناء الكعبة، البيت العتيق هو إقرار التوحيد في الأرض، قد تقول التوحيد عملية عقلية ذهنية نحن نوحّد الله لكن النفس البشرية والعقل البشري يحب أن يكون هناك ثمّة محسوس يشير إلى ذلك الأمر العقلي العقائدي فجعل الله البيت الحرام مثابة للناس عندما نذهب ونحج بيت الله الحرام فإننا نستذكر التوحيد ونبتعد عن الشرك ونوحّد الله سبحانه وتعالى فالكعبة رمز للتوحيد لله في الأرض حتى يجمع قلوب المسلمين وعندما يطوفون حول هذا البيت العظيم (إن أول بيت وضع للناس) وهم دوائر وترى الدوائر في المسجد الحرام ولو ذهبت إلى مكة الدوائر أكبر ولو ذهبت إلى القمر الصناعي ورأيت الكرة الأرضية تجدها دوائر وهذا يدل على وحدة الأمة الإسلامية حول التوحيد. فالغرض الأول (أن لا تشرك بي شيئا) من أجل ذلك يا إبرهيم طهّر بيتي للقائمين والركع السجود ولذلك عندما فتح الله سبحانه وتعالى مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم أول ما فعل طهّر البيت الحرام من اللات والعزّى وكل الأصنام وكان يقرأ (قل جاء الحق وذهب الباطل إن الباطل كان زهوقا) أما تلك الأصنام التي جعلها المشركون ودنّسوا ورجّسوا البيت الحرام.
المقدم: يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿٢٦﴾) القائمين يصلّون أو العاكفين في المسجد، في العبادة، القائمين في المسجد، القائمين على خدمة الناس، لماذا لم يكمل السياق: للقائمين والراكعين والساجدين؟ لماذا عَدَل وقال (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)؟
د. المستغانمي: هذا كلام طويل ولا بد أن نشير إشارة، أنا بحثت في الموضوع، المفسرون رحمهم الله تحدثوا مطولًا (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) الطائفون هم الذين يطوفون بالبيت (والقائمين) الواو تفيد المغايرة، (والقائمين) إما الذين يقفون ويقومون عند مقام إبراهيم للدعاء بدليل (مقام إبراهيم) كان يقوم عند الدعاء، أو القائمين في صلاتهم عندما نصلي من أهم أركان الصلاة: القيام والركوع والسجود، فمن قال الطائفون صنف والثاني قال المصلّون وعبّر عن الصلاة بالقيام والركوع والسجود، فهما صنفان الذين يطوفون والذين يصلّون. الرأي الثاني: الطائفين الذين يطوفون بالبيت والقائمين للدعاء والعكوف في المسجد الحرام (ستقول لماذا العاكفين؟) والركع السجود دليل على الصلاة، الذين يصلّون فيه.
المقدم: والركع السجود وردت كثيرا بصيغ مختلفة وعُبّر عن الصلاة بالركوع والسجود.
د. المستغانمي: فالطائفون صنف والقائمون للدعاء وللعكوف صنف والركع السجود (المصلّون) صنف، لماذا هذا التنوع في الصيغ؟ كلها جموع، لم يقل طهر بيتي للطائفين والقائمين والراكعين والساجدين.
أولًا اسم الفاعل عندما يجمع جمع مذكر سالم في الحقيقة يكون أقرب إلى الحدث وإلى الفعلية في اللغة العربية وهذه قاعدة مطردة، عندما نقول أيّ اسم من الأسماء اسم فاعل نجمعه على جمع مذكر سالم (مصلي مصلون) فأنت تقصد الفعلية أداؤءك للصلاة أما عندما تجمعه جمع تكسير فأنت تذهب إلى الإسمية، مثلًا: الحافظون في القرآن: حافظون وحفظة، الحافظون حدود الله: الذين يحفظون حدود الله، نستطيع أن نعوضها بفعل من الأفعال الخمسة: الحافظون لحدود الله، يحفظون حدود الله، (الحافظون فروجهم والحافظات) يحفظون فروجهم. بينما لم يقل الحفظة لفروجهم (حفظة) جمع لكن الجمع على وزن “فَعَلَة” يكون إلى الإسمية أقرب منه إلى الفعلية هذه قاعدة مطردة بدليل أن (فعلة) ورد في القرآن بررة، حفظة، كفرة، كلها يراد بها الاسمية، خزنة (وما أنتم له بخازنين) كأنه يقول وما أنتم بالذين يخزنون، من الذي يخزّن الماء في الكرة الأرضية؟ الله، لما أراد المعنى الفعلي قال (وما أنتم له بخازنين) ولما أراد الاسمية قال (وقال لهم خزنتها) لم يقل قال الخازنون فيها. القرآن الكريم يستعمل جمع المذكر السالم عندما يريد الحدث والفعلية.
المقدم: هذا ينطبق فقط على صيغة (فعلة)؟
د. المستغانمي: بررة، خزنة، هذه كلها وردت اسمية ولا تدل على الفعلية (وقال لهم خزنتها)، (أولئك هم الكفرة الفجرة)، (ويرسل عليكم حفظة)، أقرب إلى الإسمية. كافر جمعه كافرون، كفار، كفرة لما تقرأ كافرون الفعلية مقصودة (وهم بلقاء ربهم كافرون) كأنه يقول وهم يكفرون بلقاء ربهم. دائمًا اسم الفاعل عندما يجمع على جمع المذكر السالم فاعلين فاعلون يراد به الفعلية والوصفية ولما يجمع جمع تكسير يراد به الاسمية، هذه قاعدة. لذلك هنا قال (القائمين والطائفين) يريد الفعلية، (الركع السجود) صفة ثابتة.
الطائفين الذين يطوفون والقائمين الذين يقومون للدعاء ويعكفون في المسجد، الركع السجود أراد أن يصفهم بالاسمية كأن صفتهم الركوع والسجود للتكثير وفعلًا مهما طفتُ أنا وأنت وأيّ واحد كم نطوف بالنسبة للركوع والسجود؟ الركوع والسجود أكثر. نسأل: لماذا لم يقل: والطائفين والقائمين والركع السجّد؟! مع أنها وردت في القرآن سُجدا (رُكعا سُجّدا) السجود هنا جمع وليس مصدرًا، سجد سجودًا، وساجدٌ سجود، هم سجود لله، جمع، هم ركّع. في اللغة العربية ركّع على وزن فعّل فيها تضعيف تدل على التجديد وعلى الاتصاف بالحدث الظاهر (فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس) التي تظهر وتخنس كثيرا، الشكل الظاهري. القرآن الكريم وأنا أبحث وجدت أن (ركّعا سجدا) وردت في القرآن 11 مرة كلها تدل على الهيئة الظاهرة للسُجّد (خروا له سجدا) إخوة يوسف لما جاؤوا هل المقصود به سجود التحية أو سجود الخوف من الله؟ سجود التحية إذن المقصود بها حركة السجود وليس سجود العبادة الحقيقي. (تراهم ركعا سجدا) هنا ركزت العدسة البيانية على الحركة الظاهرية قالت (تراهم) رؤية ظاهرية، (ركعا سجدا) كانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين هذه مسألة أخرى. لما قال (وادخلوا الباب سُجّدا وقولوا حطة) لا يهمه الخضوع، المهم أن يدخلوا ساجدين، (ركّع وسُجّد) للحركة الظاهرة. لما نأتي بالجمع على وزن (فعول) على وزن سجود نريد الحركة الظاهرة والمعنى الباطني للسجود بدليل أن كلمة سجود يراد بها معنى السجود والخضوع والخوف والخشوع وردت فقط في سياق البيت الحرام في سورة البقرة (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وجاءت في سورة الحج (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)
القاعدة العامة: عندما يستوي الجمع مع المصدر في الصيغة يراد المعنى الحقيقي، سَجَد سجودا وساجد سجود إذن المعنى الحقيقي للسجود مقصود. لكن لما يقول (ركعا سجدا) يقصد المعنى الظاهري وقد يراد المعنى الباطني. مثلًا: قعد قعودًا، قاعد، فهم قاعدون وهم قعود، (إذ هم عليها قعود) القعود الحقيقي، لما نقول القاعدين هم المتخلفون عن الجهاد قال القرآن (فثبطهم وقال اقعدوا مع القاعدين) يراد به المتخلفين لا يراد به القاعدين. دائمًا إذا جاء الجمع على وزن المصدر يراد به المعنى الحقيقي، في آية سورة آل عمران (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿١٩٠﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) قياما المقصود به القيام الحقيقي لو لم يقصد به القيام الحقيقي لقال قائمين، وقعودا القعود الحقيقي، وعلى جنوبهم حقيقة. لما أتى باسم القاعل على وزن فاعلين أتى به لفعل آخر وهذا من أجمل ما وقفت عليه من النكت البلاغية وما أحرانا وما أجدرنا أن نفصّل في مثل هذا في القرآن الكريم!.
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) الخطاب لإبراهيم عليه السلام.(يأتوك رجالا) رجالا جمع راجل، حال، يأتوك راجلين (وعلى كل ضامر) أي على كل راحلة. (يأتوك) جواب الأمر (وأذِّن) فعل مضارع مجزوم بجواب الطلب. قال (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) لم يقل رجالا وراكبين، (رجالا) حال منصوبة، (وعلى كل ضامر) كأنه قال رجالا وركبانًا لكن (على كل ضامر يريد أن يبين كيف كان العربي قديمًا يتحمل مشاق الحج الآن نحن عنا الطائرات والسيارات الفخمة، قديمًأ كانت على الرحال سواء كانت من الخيل أو من النوق البعير والجمال وضامر هو قليل اللحم نقول خيل ضامر أو جمل ضامر أي ضمُر لحمه لكن الضمور في الرواحل صفة إيجابية لأن الخيل إذا كان فيها كثير من اللحم هذا يمنعها من الحركة والسرعة، وحتى الإبل. هنا لا يقول (وعلى كل ضامر) يعني على جميع أنواع الرواحل، كانت إبلا أو خيلا، لو قال ركبانا لكانت صحيحة لكنها عامة.
إشارة أخيرة: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) الواو هنا تفيد (أو) لا تفيد الجمع، كأنه قال رجالًا أو ركبانًا لأنه لا يمكن الجمع بين أن تكون راجلًا أو تكون راكبًا على قوله تعالى (مثنى وثلاث ورباع) الواو تفيد أو للتوزيع نفصلها المرة القادمة إن شاء الله.