برنامج النبأ العظيم

النبأ العظيم – د. أحمد نوفل – سورة التين –

اسلاميات

النبأ العظيم – تفسير سور جزء عمّ

د. أحمد نوفل

سورة التين

سورة التين هي السورة الثامنة عشرة بترتيب جزء عم والخامسة والتسعين يترتيب المصحف. هذه السورة فيها كلام طويل ما التين؟ وما الزيتون؟ وما معنى خلقنا الإنسان في أحسن تقويم؟ وما معنى رددناه أسفل سافلين؟

سورة التين سورة نسق، المُقسَم به والمُقسَم عليه في تعانق شديد والتحام. وهناك قاعدة أن القرآن الكريم مبني على التناغم والتناسق وليس على التناشز والتناقض معاذ الله.

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿١﴾ وَطُورِ سِينِينَ ﴿٢﴾) طور سنين هو طور سيناء (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿٣﴾) مكة كما هو معروف، المشكل في (وَطُورِ سِينِينَ) أقرأ في تفسير يقول التين “أوور” مدينة ابراهيم والزيتون فلسطين مدينة عيسى عليه السلام، لكن نسأل ما أوور؟! وهل في القرآن أوور أو غيرها؟ هذه كلها من الاسرائيليات. ليس لدينا دليل على ذلك في القرآن. (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) أعتقد أنها فلسطين وساعتئذ يكون (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) وحقّ المكان الذي بُعث فيه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام في فلسطين، (وطور سينين) وحق طور سيناء الذي بعث عنده موسى عليه السلام (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿٣﴾) أي وحقّ هذا البلد الأمين الذي بعث فيه خاتم الأنبياء والمرسلين وأعظمهم صلى الله عليه وسلم. الترتيب هنا تريب زمني. ابن كثير يقول الترتيب تصاعدي من الأقل فالأكرم، (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) رمز إلى عيسى، (وَطُورِ سِينِينَ) عيسى و(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿٣﴾) محمد أعظمهم، وأنا أعتقد أن الترتيب زماناً يسير من الأول إلى الآخر. إذن والتين والزيتون يقسم الله تعالى بالأرض المقدسة المباركة فلسطين التي هي منبت التين والزيتون – ومن قال أن أوور في العراق هي منبت التين؟! – ليس عندنا دليل لكن عندنا دليل أن فلسطين أرض هاتين الفاكهتين فاكهة وغذاء وطعام. التين والزيتون وليس موضوعنا أن نذكر ما للتين والزيتون من فوائد واستطبابات. يقسم الله تعالى بالمكان الذي ينبت التين والزيتون بدلالة السياق والنسق لا نتكلم عن ثمرة فقط وإنما بالثمرة يكنّي عن المكان الذي ينبت الثمرة. في التفاسير حوالي 16 قولاً في معنى التين والزيتون لكن نقول باختصار أن (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿١﴾ وَطُورِ سِينِينَ ﴿٢﴾ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿٣﴾) ثلاث أماكن يقسم الله عز وجل بها. لم هذه الأماكن؟ لأنها مهبط الدين فكأن مولانا سبحانه وتعالى رمز للدين كله بأعظم ثلاث رسالات فيه، ليس هناك ضرورة لتعداد كل مكان نزلت فيه رسالة ولكن الله سبحانه وتعالى رمز لأعظم ثلاثة أماكن تنزل فيها الكتب والرسالات والنبوات والدين أقسم بها رمزاً إلى الدين كأن الله سبحانه وتعالى يقول: وحقّ الدين الذي هذه الأماكن أماكن تنزّل الدين ففيهن أماكن المُقسَم به يدور حول (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿١﴾ وَطُورِ سِينِينَ ﴿٢﴾ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿٣﴾) نأتي للمقسم عليه

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾) في أحسن تقويم العلماء سرحوا لما شرحوا هذه الآية منهم من قال يمشي على رجليه، ومنهم من قال يتناول طعامه بيده بينما الحيوانات تأكل طعامها بفمها، ومنهم من قال منتصب القامة ومنهم من قال العقل ومنهم من قال الزينة والجمال ومنهم من قال الظاهر والباطن، أقوال كثيرة جداً لكن قطعوا النظر عن السياق والنسق وهذا غير صحيح، ونحن نفسر سورة التين في ضوء النسق والسياق لا أعزل المُقسم به عن المقسَم عليه. الله سبحانه وتعالى يقسم بأماكن تنزل الدين على ماذا؟ نحاول أن نأخذ التفاسير واحداً واحداً وننقضها لنصل إلى الفهم الصحيح للآية:

قالوا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾)) يعني قوام ممشوق يمشي ويأكل طعامه بيده، ومنهم من قال العقل فنسألهم ما معنى (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿٥﴾)؟ قالوا: (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا (70) النحل)، فما معنى (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قالوا يحفظهم الله تعالى في كبرهم فلا يصابون بالخرف وأمراض الشيخوخة والزهايمر وهذا الكلام علمياً غير صحيح! كلام خطأ لا يصح! سفيان بن عيينه أحد كتاب الحديث المشهورين قال اختلط بأخره فقالوا حديث سفيان قبل كيت وكيت حديث ثقة يؤخذ به، بعدما اختلط لا يؤخذ حديث سفيان. فكيف يقولون المؤمن لا يصيبه الخرف ويحافظ على عقله وملكاته، كيف؟! هذا كلام علمياً ودينياً غير صحيح. إذن ما معنى (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾))؟ المقصود خلقت الإنسان على فطرة الدين، هذا هو أحسن تقويم وليس هذا البنيان وهذا القوام الذي يستوي فيه المؤمن والكافر إنما أحسن تقويم هي فطرة الدين وبهذا الكلام يتضح النسق بين الآيات: وحقّ الدين مرموزاً له بأهم ثلاثة أماكن تنزل الدين لقد خلقنا الإنسان على فطرة الدين ثم رددناه أسفل سافلين بالانتكاس عن فطرة الدين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم حافظوا على فطرة الدين ولذلك فلهم أجر غير ممنون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين في هذه الدنيا ويوم الدين؟ هذا نسق السورة من بدايتها لآخرها (الدين) وفي وسطها وضع القرآن الكلمة التي هي مفتاح (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴿٧﴾ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴿٨﴾) بلى والله إنه لكذلك. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾)) الفطرة فيما أعتقد وأرى وموقن بهذا الكلام بفضل الله بعد البحث والتحري وبعد الاستعانة بالسياق والنسق الذي ما جعله الله عبثاً وإنما جعله مرشداً لك في الفهم.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿٥﴾) رددناه ليس نفس الإنسان المهتدي وإنما الكلام عن الإنسان بالعموم، رددناه أسفل سافلين بالانتكاس عن فطرة الدين واتخاذه منهجاً بدل منهج الإيمان. (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿٥﴾ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الإيمان ينتج صالحات، شجرة لا بد أن تطرح ثمرة (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿٦﴾) غير مقطوع ولا يسمعون منّاً والمعنيين صحيحين. (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴿٧﴾) (ما) ما الذي يجعلك أيها الإنسان تكذب بالدين؟ أو (ما) تشمل (من) تحتمل المعنيين. (يكذبك) الخطاب يحتمل أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون لنفس الشخص المكذِّب، فما يكذبك يا أيها المكذب بعد هذا البيان بالدين؟! والدين هو المنهج ويوم الدين الاعتقاد به جزء من المنهج. ما الذي صرفك عن حقائق الدين وعن منهج الدين أن تتخذه منهجاً لحياتك؟ هل الدين يمنعك من أن تعمر الدنيا وأن تنتج وأن تتمتع بالحلال؟! إطلاقاً، هل الدين يمنعك من الزراعة والتجارة والصناعة والهندسة؟! إطلاقاً. الدين بالعكس هو محفّز في كل ذلك على اتخاذ البيوت والأزواج والأولاد بحبّ لأنه يريد عمارة الأرض، يحفز على الصناعة والزراعة والابداع والانتاج لتكون الأمة قوية؟! الدين يحضّ على ذلك. ما الذي يكذبك أيها الإنسان أو من يكذّبك أيها الإنسان؟ من الذي يكذبك بعد هذا البيان يا رسول الله بالدين؟ المعنيان محتملان. هل من موجب أو من داع للإنسان أن يكذب بالدين الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾ الروم) هذا الإسلام العظيم متطابق مع الفطرة والوعي واللاوعي سواء والفطرة سواء فإذا أنت اعتنقت الدين منهجاً ونظاماً لحياتك انسجمت مع كينونيتك، مع فطرتك، مع كون ربك، انسجمت مع شرع ربك سبحانه وتعالى سعدت وأسعدت والتزمت حدك وما تعدّيت على غيرك، هذه الراحة والسلام الاجتماعي والسلام مع الكون. أيها الإنسان تفكر ما الذي يجعلك تكذب بالدين؟ لنسأل أنفسنا ما الذي يجعلنا منصرفين عن الدين؟ هل من مبرر منطقي أو عقلي أو مصلحي؟ هل من داع لترك الدين أو الانصراف عنه؟ الجواب بدون تحيّز، لا والله، قطعاً لا. إذا استحضرنا الآخرة حسمت القضية، الجنة والنار فيصل في هذا القرار، أريد الذين منهجاً أو لا أريده منهجاً؟ إذا الآخرة غائبة فالناس يمكن أن تسرح على هواها وبحساباتنا لو نحن وضعنا الآخرة وما فيها من جنة أو نار في الحسبان حسمت القضية. باختصار هل من موجب أو من داع أو مبرر عقلاني أو مصلحي عاجل يجعلك تكذب بالدين؟ لا والله. ليس هناك أدنى مبرر، بترك الدين تتمزق ويصبح عندك فصام بين ما تتمنى وبين ما تعيش، فصام نكد ورب العالمين توعد أن من أعرض عن منهجه يعيش حياة الدين والضنك والشقوة ويسلط عليه الشياطين يتناوشونه فلمَ أجعل نفسي نُهبة للشياطين؟ ولأجل ماذا؟!

(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴿٧﴾ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴿٨﴾) سؤال تقريري. إذن السورة مفتتحة بالقسم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) والله سبحانه وتعالى يقسم بما يشاء وليس لنا نحن العباد إلا بما شاء هو وهو شاء أن لا نُقسم إلا بذاته العلية (والله، وأيم الله، وجلال الله، وعظمة الله) إياك أن تقسم بأبيك أو بتراب أبيك! نحن لا نقسم إلا بالعظيم وهو سبحانه يقسم بما شاء من زمان عظيم، من مكان عظيم ونحن ليس لنا أن نقسم إلا بما شاء.

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) الحكمة، الدين حكمة، الفطرة التي أقامها فيك سبحانه وتعالى حكمة وجعل الفطرة متطابقة مع الدين حكمة وما يحكم في الآخرة يحكم بالعدل المطلق حكمة، فالسؤال مطلق عام للدنيا وللآخرة يشمل الوجود كله، يشمل الكتاب ويشمل الكون ويشمل كل شيء (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) بلى بالقطع واليقين.

ملخص السورة:

أقسم الله سبحانه وتعالى بثلاثة أماكن (والتين والزيتون) هما اثنان ولكنهما يرمزان إلى واحد، هذه الأماكن هي أماكن تنزّل أعظم الرسالات على أعظم الأنبياء. يقسم الله سبحانه وتعالى بأماكن تنزّل الدين أنه خلق الإنسان على فطرة الدين، هذا نسق سورة التين.