الحلقة التاسعة عشر
بينات 1428 هـ
الجزء التاسع عشر
د. عبد الرحمن: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله. حياكم الله في هذه الحلقة التاسعة عشرة نتأمل في أوائل الجزء التاسع عشر في سورة الفرقان، في قوله سبحانه وتعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا {23}} من أشدّ الأعمال أو من أشد الحسرات على النفس أن تأتي وقد عملت أعمالاً كبارًا تظن أنها لصالحها، وأنها سوف تُجازى عليها الجزاء الحسن، فإذا جاءت – كما ذُكر في الحديث أنهم يأتون بأعمالٍ كالجبال لكنها فاقدةٌ للإخلاص لله سبحانه وتعالى، فيجعلها الله سبحانه هباءً منثوراً. وفي هذه الآية تصريح واضح بهذه الحقيقة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ}، فالله سبحانه وتعالى يُثبت لهم أنهم قد عملوا أعمالاً خيِّرة، وأنهم قد رجوا من وراء هذه الأعمال الأجر والثواب، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يكافئهم عليها، فيرونها كأمثال الجبال، فيأمر الله سبحانه وتعالى فتُدكّ هذه الجبال وتُجعل كأنها هباء منثورًا، ليس لها أية قيمة وليست لها أية فائدة. وتأمَّلوا في قوله سبحانه وتعالى {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} انظروا إلى كلمة «هباءً»، والمفسرون يقولون إنَّ الهباء هو دقائق وذرّات الغبار التي تُرى في ضوء الشمس إذا دخل مع النافذة، مع إشراق الشمس
د. محمد: فهو لا وزن له ولا قدر، ولكنه عند الله محسوب، وله وزن.
د. عبد الرحمن: فالشاهد أنَّ مثل هذا الموقف يدعو الإنسان إلى الإخلاص، وإلى التحرِّي الشديد للإخلاص، هذه الصفة مهمة جدًا في أيِّ عملٍ يعمله الإنسان، لأنه إذا عمل العمل وقد فقد صفة الإخلاص مهما كان مُتقنًا ومهما كان مُتبِعًا فيه؛ فإنه ستكون عاقبته هذه العاقبة ويجده هباءً منثورًا..
د. محمد: نسأل الله العفو والعافية.
د. عبد الرحمن: لأنه سيأتي يوم القيامة ويجده كالهباء المنثور، وهذا حقيقة، نحن نحتاج كثيرا إلى الإخلاص في كلِّ أعمالنا اليومية، سواءً في العبادة أو حتى في كثيرٍ من الأعمال غير العبادية، استحضار النية والإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى، والاحتساب فيها، ومراجعة ذلك بين الحين والآخر. الواحد منا ربما يكون فعلاً على إطلاع على النصوص التي تدعو إلى الإخلاص، لكنه مع مجريات الحياة اليومية ينسى وتستهلكه حياته اليومية، فينسى هذه الحقيقة المهمة جدًا وهي التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، وإخلاص القصد له سبحانه في العمل، ومراقبته في كلِّ دقيقةٍ وكبيرة، حتى لا يفاجأ بهذه النتيجة التي تذهب بالألباب وبالعقول، أن يأتي الإنسان وهو يرجو ثم يُفاجأ بأنه قد ذهب كلِّ هذا العمل هباءً منثورًا!
د. محمد: وهذا يذكر بما جاء في الحديث، أنَّ أول من تُسعَّر بهم النار ثلاثة: ذكر منهم من قرأ القرآن ليُقال «قارئ»، والذي تصدق ليُقال «كريم»، والذي قاتل فقُتِل، قتل، حتى نفسه ذهبت، ولكن ليقال «شجاع»، وكل هؤلاء يعترفون أمام الله بأنهم فعلوا ذلك يريدون ما عنده، ولكن الله سبحانه وتعالى يُكذّبهم فيقول: بل قرأت القرآن ليُقال «قارئ» فقد قيل، ليُقال «شجاع» فقد قيل، ثم يأمر بهم فتُسعَّر بهم النار، حتى قال الناظم:
وعالمٌ بعِلمه لم يعملَنْ معذّبٌ من قَبْل عُبّاد الوثن
هذه تذكرة بسيطة في هذا الموضوع الخطير الذي ينبغي لنا أن نُذكِّر أنفسنا به دائمًا وأبدًا، ولذلك قال عبد الرحمن المهدي: “وددت أنَّ من كتب كتابًا جعل في مقدمات الأبواب حديث عمر بن الخطاب «إنما الأعمال بالنيات»، للتذكير بالنية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا وأن نخلص نوايانا، اللهم آمين يا رب العالمين.
د.مساعد: في قوله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا {27}} هذا إذا تأمَّل المسلم هذه الآيات، من الآية السابعة والعشرين من سورة الفرقان إلى الآية الثلاثين، هذه الآيات تتعلَّق بالظالم يوم القيامة، ثم بشكوى الرسول صلى الله عليه وسلم لهجران القرآن، ثم بعدها قال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا {31}} لما يتأمَّل المسلم هذه الآيات تأملاً من خلال واقعه الذي يعيشه يشعر بنوع من الطمأنينة لماذا؟ لأنه يعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يكون هناك إسلامٌ محض لا يُجابَه بالباطل، فلا بدَّ من وجود الباطل الذي يجابه الإسلام، وقد يكون أهل الباطل من بني جلدتنا، وقد يكون أهل الباطل من الكفار من النصارى أو اليهود، أياً كانوا، وقوتهم في الباطل أيضًا قد تكون قوية وشرسة، ويمكرون الليل والنهار. لاحظ أنَّ الله سبحانه وتعالى قال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} هذا عموم، يعني ما من نبيٍّ إلا وله عدو، قال {عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ}، وليس عدوًّا فقط، بل قال أيضًا {مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} يعني الذي بلغ الغاية في الإجرام، لكنه بعدها قال {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.
د. محمد: يهديك في الملمَّات وينصرك في الشدائد.
د. مساعد: ولهذا نقول دائما إنَّ المسلم يجب أن يتحلَّى بالصبر وأن يطلب الهداية والنصر في هذه المواقف، وإلاَّ فالإنسان المسلم في مثل هذه المواقف إما أن يضلَّ والعياذ بالله وإما أن يقنط، هو بين هذا أو ذاك، ولكن الصواب هو أن يصبر، وأن يدافع هذا الباطل كما دافعه أنبياء الله سبحانه وتعالى بدءًا من نوح عليه السلام الذي كان مثالاً للصبر، تسعمائة وخمسين عاماً وهو يدعو وقومه لا يستجيبون له، لم يؤمن له إلا قليل، لا يستجيبون له، فكيف كان موقفه منهم؟ لما انتهى مرة في آخر عمره دعا عليهم، وإلا انتظر تسعمائة وخمسين عامًا وهو يدعوهم، فتصوَّر هذا العمر المديد وهو يدعو قوماً قد كتب الله عليهم الشقاء قبل أن يخلقهم، ومع ذلك نوح عليه السلام دعا ودعا ودعا ودعا حتى إذ لم يجد منفذًا للحقِّ فدعا عليهم بعد ذلك.
د. محمد: في قول الله عزَّ وجل {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا {30}} وهذه الشكوى من الرسول صلى الله عليه وسلم من هجران قوم النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، وإن كانت هذه الشكوى قد واردة في قوم معيَّنين إلاَّ أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكلّ هجران للقرآن أيًّا كان وممن كان فإنه يدخل في هذا، ونخشى أن يكون من أهل هذه الشكوى، ممَّن يُشتكى. قال العلماء إنَّ هجران القرآن ينتظم أمورًا منها: هجران الإيمان به، ومنها هجران العمل به، ومنها هجران تحكيمه أيضًا، ومنها هجران فهمه وتدبره، ومنها هجران تلاوته. طبعًا هي تتفاوت في الحكم، ليست واحدة، من لم يؤمن ليس كمن لم يتلُو، من لم يتلُو ليس كمن لم يتدبَّر، ولكن ينبغي على كلِّ واحدٍ منا أن يحاسب نفسه وينظر: هل هو ممَّن هجر القرآن؟ فإنَّ بعض المسلمين قد يكون حتى أحيانًا من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ومن الغيورين على دين الله، ولكنه يقرأ القرآن كما يقرؤه سائر الناس، لا يتدبَّره ولا يلتفت إلى معانيه ولا يُجري أحكامه على نفسه وقلبه، وينظر ما موقعه من كتاب الله عزَّ وجل! لا ينظر ما آمِرُه ولا ما ناهيه ولا ما زَاجِرُه، ولا ما هي أخباره فيصدِّق، ولا ما هي علومه فينتفع بها، ولا هداياته فيُجريها على حياته. فنقول يجب على كلِّ واحدٍ منا أن ينتبه إلى هذه القضية ويحرص على ألا يكون ممن يهجرون القرآن، سواءً في التدبُّر، في العلم، في العمل، في الهداية، في التحكيم، في الإيمان، في كلِّ هذه القضايا.
د. عبد الرحمن: هناك معنى ظهر لي في هذه الصفحة في قوله سبحانه وتعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا {30}}، فنلاحظ حتى التعبير أنه لم يقل: «وقال الرسول يا رب إنَّ قومي هجروا القرآن»، وإنما قال {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} فعبَّر بهذه الصيغة {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} كأنه يصوِّر القرآن الكريم أنه له جِرم وله هيئة ثم هجر الناس أو هجر المؤمنون به هذا الذِّكر وهذا الفضل وتركوه في جانب وسلكوا جانبًا آخر، هجروه تمامًا. ثم قال في الآية التي بعدها {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، هذا الذكر صفة من صفات القرآن وهي أنه نزل مُنجمًا.
د. محمد: نعم.
د. عبد الرحمن: فكذلك الآن «التدبر»، ينبغي علينا أيضًا أن نتدبَّر الآيات مُنجَّمة مستقلَّة، فهناك آيات تتكلَّم في بعض الموضوعات تحتاج إلى تأمُّل منفرد عن بقية القرآن، وهذا يدعو إلى مسألة أنَّ العناية بتدبُّر الآيات مع الإقلال منها خيرٌ من الإكثار مع عدم التدبر. وهذا كان مقصدًا من مقاصد تنزيل القرآن مُنجّمًا، قال تعالى {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، ولذلك نزَّلناه مُنجَّمًا قليلاً قليلاً حتى يرسخ وحتى تتفقَّه فيه وحتى تعمل به. وهذا هو الذي كان يسير عليه الصحابة في منهجيه الدراسة القرآنية، فهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا، ونفكر أحيانًا هل يقصِد أبو عبد الرحمن السلمي عشر آيات بالضبط، أم أنها أحيانًا تزيد وتنقص حسب الموضوع أو شيء من هذا؟ على أية حال فالمقصود جزء قصير يتدبَّر فيه ويتفقَّه فيه، ثم ينتقل إلى ما بعده، وأنَّ هذا أدعى للفهم وللعمل ولاستيعاب القرآن الكريم. أما أن يحرص الإنسان دائمًا أنه يقرأ كثيرًا مع الإخلال الشديد بالتدبُّر، فهذا لا شكَّ أنه مُخالف لهذه الآيات التي في قوله {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، مع الإشارة إلى أنه نزل مُنجَّمًا مُفرَّقًا على النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا كان بالإمكان أن ينزل دفعةً واحدةً على النبي صلى الله عليه وسلم.
د. محمد: ويصدق ذلك قوله سبحانه {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}[الإسراء: 106]. انظر إلى كلمة {مُكْثٍ} يعني مهل شديد. وأيضًا تصديقًا لكلام أبو عبد الرحمن السلمي حديث أبي سعيد الخدري “كنَّا نقطعه خمسًا خمسًا”، يعني خَمسًا بالليل وخمسًا بالنهار، ليكون أدعى حتى العشر هذه ما تؤخذ دفعة واحدة، تُقسَم قِسمَين: خمسٌ في أول النهار، وخمسٌ في آخره، ليكون أدعى للفهم، وأدعَى للنظر، وأدعَى للتدبُّر والتملِّي.
د. مساعد: في قوله سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا {35} فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا {36}}. لاحظ هذا الإجمال والاختصار في قصة موسى عليه السلام، ذَكر الرسالة والكتاب والوزير الذي هو هارون عليه السلام والإرسال إلى هؤلاء القوم وتدميرهم في آيتين فقط، ثم يأتي تفصيلها في آيات أخرى كثيرةً جدًا جدًا،
د. محمد: ومنها تلك الآيات التي ستأتي بعد قليل في سورة الشعراء التي يأتي فيها التفصيل،
د.مساعد: وكيف أن موسى عليه السلام طلب العون بأخيه أن يكون عضدًا يشدد به أزره، وكونه طلب أخاه هارون وزيرًا، ليس المراد هذا فقط، بل إنه يُنبِّه، ولهذا كان من فضائل موسى عليه السلام على أخيه هو أن طلبه مُعينًا وعضدًا له، فكان من قدر الله أن يكون هارون – وهو أكبر من موسى عليه السلام – أيضًا من الأنبياء. فهذه من لطائف قدر الله في وجود نبيَّين في آنٍ واحد لبني إسرائيل، مع إدراك أنه ما من شك في أنَّ موسى عليه السلام هو الأصل في الرسالة، ولهذا قلَّ أن يأتي ذِكر هارون إلا في التبع، مثل ما جاء في الدعاء قال: «قَدْ أُجِيبَت دَعْوَتُكُمَا»، مع أنَّ المتحدث كان هو موسى عليه السلام.
د. محمد: العجيب يا أبو عبد الملك تأكيداً لما ذكرت، أنا أتأمل في طريقة القرآن في سياق بعض القضايا؛ تأتي التقدمة بآية أو بآيتين، ثم بعد مسافة من الآيات أو من السور يأتي ما هو أكثر من ذلك وأوعظ، ثم يأتي الميدان العظيم للحديث عن هذه القضية، التفصيل. في سورة «المؤمنون» ذكرت خمس آيات في قصة موسى وهارون مع أعدائهم وخصومهم، ثم أُعِيد هنا في آيتين، ثم لَمَّا جاءت سورة الشعراء صارت ميدانا فسيحًا، ثم أيضًا في سورة النمل في مقدمتها أيضًا، ثم في سورة القصص، في كل واحدة منها يأتي الخبر واسعًا، وأكثرها هي سورة القصص التي جاءت بأمر الميلاد والرسالة والهجرة الأولى، ثم بعد ذلك النبوءة وما يتصل بها.
د. عبد الرحمن: تظهر فائدة مثل هذا التتبع لو كنا نتتبع القرآن الكريم حسب نزولها، في تصوري كان وقع على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا ينتظرون وهي تترتب في النزول يعني متى كان الإجمال ومتى كان التفصيل ومتى كانت الإشارة؟ حسب النزول. أما الآن ونحن ندرسها حسب ترتيبها في المصحف هذا أمر آخر، فتختلف النظرة يكون الاستنباط هنا صحيحاً والاستنباط هنا صحيحاً. أذكر أنا والدكتور محمد في برنامجه “أفانين القرآن” عن موضوع المناسبات بين السور والمقاطع وأن هذا علم درسه العلماء وتكلموا فيه كلام طويل لكن أتصور في مثل التفاسير التي بدأت الآن خاصة المعاصرة وأضرب بمثال بتفسير الشيخ عبد الرحمن حبنكة «معارج التفكر ومعالم التدبر» هذا الكتاب يعتبر من أفضل الكتب التي فسَّرت القرآن حسب ترتيب النزول، والتي انتهى فيها من العهد المكي، ومعظم القصص الذي ورد فيه موسى عليه السلام كان في العهد المكي. فقد رتَّب هذه المسألة رتَّبها ترتيبًا حسب نزولها، ومتى وردت مفصَّلة ومتى وردت موجزة، وهكذا، فكان فيه كلام جيد جدًا.
د. محمد: هذه فكرة دكتور عبد الرحمن بدأت عندي من سورة البقرة حقيقة لا أقول إني وجدتها بالاستقراء في كل موطن في سورة البقرة، فإن نظرنا إلى قضية الإنفاق والصدقة نرى أنه أُشِير إليها إشارة عابرة في أول السورة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ثم بعد ذلك بمسافة قال {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، نراها قد فصِّلت نوعًا، ثم جاء بعد ذلك في آخر السورة ميدان واسع جدًّا للتفصيل في أمر النفقة والصدقة وما يتَّصل بها، وذِكر النفقة وما يقابلها وهو «الرِّبا»، مما يدلُّ على أنَّ هناك منهجًا تربويًّا للقرآن في تهيئة النفوس لقبول أمرٍ ما أو للحديث عنه، لأنه لا يأتي دفعة واحدة أو جملةً واحدة في كلِّ قضاياه.
د. مساعد: وهناك قضية مرتبطة بهذا الموضوع في الكتب التي قصدت أن ترتب سور القرآن حسب نزوله، طبعاً هناك إشكالية في أنه ليس هناك ترتيب مُتفق عليه لكنها ليست مشكلة بقدر أنه عندنا قضية مهمَّة جدًّا هي أنه يجب أن نستفيد من هذه الطريقة وألاَّ نغفل أنَّ سياقات القرآن مقصودة، لماذا؟ لأن وضع السورة أو وضع هذه الآيات في هذا المكان بهذه الطريقة من النَّظم هو أولى من قضية الترتيب، لكن هذا لا يعني أننا لا نستفيد من الترتيب، فيكون عندنا نوعاً من التوازن، فلا نرفض قضية الترتيب رفضًا تامًا، ولكن لا نجعلها أصلاً، فإذا لا نستطيع أن نجزم جزمًا تامًا متى نزلت هذه الآيات إلاَّ في بعض السور وبعض الآيات التي يكون عندنا فيها دليل واضح ونص صريح، أمَّا أغلبها فهو ظني. ولكن هذا الترتيب بهذا الأسلوب قطعي، فترتيب الآيات بالإجماع هو من الرسول صلى الله عليه وسلم أخذه عن جبريل عن ربِّ العالمين، فهذه إذن قضية لا نغفلها.
د. عبد الرحمن: يأتي كلامك دكتور مساعد لو وقع تعارض بين ما نستنبطه من ترتيب القرآن على وجهه هذا والاستنباط من ترتيب القرآن على ترتيب النزول، قد يقع تعارض بين هذا الاستنباط وهذا الاستنباط فنقول صدقت نقدم الترتيب الموجود لأنه قطعي، ولكني لا أرى أن هناك أيُّ تعارض خاصة في ميدان التربية، ميدان السيرة النبوية والتتبع، لذلك فهناك من كَتَب في تفسير القرآن بالقرآن وقال: «نحن نريد أن نفسر القرآن بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته التي كان عليها»، وننظر في السيرة نظرة قرآنية أيضًا، كيف تنزل القرآن في مواطن النزول على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة، لا شكَّ أنَّ لكلِّ هذا اعتبارات، ولذلك علماء القرآن عندما تكلموا عن سبب النزول وأهميته في فهم القرآن يقصدون هذه المعاني. أيضًا المكي والمدني هو من علوم القرآن المهمة جدًا والتي ينبني عليها كثيرٌ من الأحكام التي تتعلَّق بالتفسير وما يتعلَّق به.
د. محمد: حتى الناسخ والمنسوخ ليتصل بذلك. ننتقل بعد هذا إلى قول الله عزَّ وجل } فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا {52}} الحقيقة أنَّ هذه السورة هي سورة «القرآن»، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا {1}} وهنا آية في الحقيقة أعتبرها مهمة في بيان منزلة القرآن وعِظَم العناية به في الدعوة إلى الله عزَّ وجل حيث قال {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا {52}}، (به) أي بالقرآن، فسمَّى الجهاد الكبير هو الجهاد بالقرآن، لماذا؟ لأنَّ الجهاد بالقرآن لا ينقضي ولا ينقطع، والناس بحاجة إليه في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ وفي كلِّ الأعمار، وبكلِّ اللغات. ولا أدلَّ على ذلك من أننا نلاحظ الآن أنَّ أكثر من يسلم من الغربيين بالتتبع والاستقراء هو بسبب القرآن مما يدلُّ على أنه وسيلة الجهاد العظمى، وأننا لا نلجأ إلى القتال والضرب بالسيف إلاَّ عندما لا يُجدي القرآن، ولذلك نحن نُرسل الرسل ونكتب الكتب ونبعث نُسخ المصاحف والترجمات إلى هؤلاء القوم ندعوهم بها إلى الهدى والبيان، فإن أفاد فيهم كفونا مؤنة القتال وما يتصل به، وإن لم يفد فيهم جرى في حقِّهم ما أجراه النبي صلى الله عليه وسلم في حقِّ الكفار من دعوتهم للإسلام ثم الجزية ثم القتال.
د. عبد الرحمن: أيضًا في تسميت القرآن «جهادًا» إشارة إلى ثِقَله وأنه ليس هيِّنًا، فالبعض يرى أنَّ الجهاد بالقرآن هو مجرّد تلاوته فقط، بالعكس؛ الجهاد بالقرآن قد يكون أشدَّ من الجهاد بالسلاح في عبئه وفي ثقله ورسالته. وللشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كلمة جميلة يكررها في هذا المعنى إذ قال: «الحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله»، لأنَّ الجهاد بالنفس عندما تزهق النفس تنتهي القضية، لكن أن تبقَى طول حياتك وأنت تجاهد بالقرآن والتعليم والصبر على ذلك والاحتساب، فذلك أشقُّ بكثير.
نعود إلى الآية في قوله سبحانه {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ {43}} وانظر إلى هذا التعبير. يقول الله سبحانه وتعالى إنَّ الذي يتبع هواه ويُقدم طاعة هواه على طاعة مولاه، فإنه قد اتخذه إلهًا من دون الله. ربما لو قلت لأحدٍ ممَّن يفعل ذلك وهو ظاهر في حياته أنه يتتبع هواه وشهوته وأنه يجعل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم دُبُر أذنيه ولا يبالي بمخالفتهما إذا كان هذا يُوافق هواه، فإذا وافق هواه طاعة الله ورسوله فعل ذلك الفعل لا طاعةً لله ورسوله وإنما لأنه وافق هوى في نفسه إما ظُهُورٍ أو ما شابه ذلك،
د. محمد: فهذا لا يُعَدُّ مطيعًا لله.
د. عبد الرحمن: لكن انظر إلى قوله {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} لو سألنا من يطيع هواه ويفعل هذا وقلنا له: إنك يا هذا قد اتخذت هواك إلهًا من دون الله، لأنكر هذا أشدَّ الإنكار. وحتى في كلام المفسرين وأهل التاريخ أنَّ الذين ينغمسون في الهوى ويبتعدون عن الله سبحانه وتعالى لا يشعرون بما هم فيه من الانحراف. ولذلك نعود لما تحدَّثنا فيه قبل قليل في قضية هجران القرآن، وأن هجران القرآن تولِّد عند الإنسان نوعًا من التبلد، حتى لا يدري ما هو الحلال من الحرام، ولا ما هو الانحراف من الاستقامة! ولذلك كما يقول صاحب «نفح الطيب» في قصيدة جميلة عندما يقول:
سبحان من قسم الحظو |
ظ فلا عتاب ولا ملامة |
|
أعمى وعاش ثم ذو |
نظر وزرقاء اليمامة |
|
لولا استقامة من ترا |
ه ما تبينت العلامة |
لولا معرفة الطريق الصحيح والطريق السوي الذي يُبيِّنه لك القرآن لَما عرفت طريق الانحراف وتبيَّن لك الحقُّ من الباطل.
ولذلك كلما عاد الإنسان إلى القرآن وتدبّره وتأمَّله وجعله سميره وأنيسه قراءةً وتدبُّرًا، كلَّما اتضحت له طُرق الضلال وتبيَّنت له، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} يعني استبانة سبيل المجرمين لا تكون تلقائيًّا، وإنما بمعرفة الحق فتعرف الطُرق المنحرفة من المستقيمة.
د. محمد: والقرآن جاء بالحق، وجاء أيضًا ببيان الباطل والدلالة عليه، ولذلك فإننا نجد مثلاً ذِكر المنافقين وأوصافهم وما عندهم من الحيل والمكر والكيد، مذكور بالتفصيل في سورة الأحزاب في قصة الأحزاب. ذُكرت قضية المؤمنين واليهود والكفار في آيات مقتضبة، وأكثر القصة عن المنافقين الذين كانوا صفًّا خامسًا.
وتأكيداً لكلامك دكتور عبد الرحمن في اتخاذ الهوى إلهاً وإن كنا أطلنا في هذا الموضوع أذكر أنّي رأيت الشيخ ابن العثيمين رحمه الله كان يؤكد على أنَّ هذا من أبواب الشرك التي أغفلها كثيرٌ من أهل العلم، يعني ليس الشرك في أن يعبد الإنسان معبودًا غير الله، فقد يعبد هواه ويكون بذلك مُشرِكًا نسأل الله العافية والسلامة! وقد جاء تأكيد هذا المعنى في أكثر من سورة منها في سورة الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}. وانظر كيف أكَّد هذا المعنى تأكيدًا بالغًا. أنا أقول من الصور التي أسأل الله أن يعفو ويسامح ما تجده في رمضان مثلاً من يصوم ولا يصلِّي وهو يعلم مقدار الصلاة في دين الإسلام وعِظَم حظها، ومع ذلك يذعن لقبول الصيام لأنه يوافق الهوى، ففيه تخفيف وفيه أنه في نهاية النهار يأكل من الطيبات ويوافق الناس ويُشاركهم، لكن تأتي الصلاة فتكون عليه أثقل من جبل أحُد، وقد لا يؤدِّيها إلا في اليوم الأول واليوم الأخير فقط!
د. مساعد: في قوله سبحانه وتعالى {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا {55}}، هذه الآية رقم «55»، ولو تأمَّلنا من الآية «45» إلى الآية «55» سنلاحظ أنه كلام عن قدرة الرب سبحانه وتعالى، شيء من أفعاله {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا {45}} إلى أن قال أيضًا في الآيتين «47، 48» {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا {47} وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، ثم قال في آية «53» {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ثم قال في آية أربعة وخمسين } وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا} لاحظ هذه الآيات، ثم نجده سبحانه بعد ذِكر هذه الآيات الدالة على قدرته وربوبيته سبحانه يقول } وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} سبحان الله! هذا الأمر البيِّن عند الناس في أنه لا خالق إلا الله، لا محرِّك لهذا الظل إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الشمس، وهو الذي قدَّر هذه المقادير، وهو سبحانه وتعالى الذي مرج البحرين، وهو الذي خلق الناس، ومع ذلك يعبدون من دون لله ما لا ينفعهم ولا يضرُّهم!
وحتى الآيات السابقة كلها جاءت في منافع الإنسان، يعني كل هذه من منافع الإنسان، ولذلك قدّم النفع هنا لما سبق من ذِكر هذه الأمور. فهذا المعبود الآخر لا يضرُّ ولا ينفع، وهو أيضًا مرتبط بقول من اتخذ إلهه هواه أيضًا، لأنَّ الهوى إنما هو يضرُّ ولا ينفع. فيُتخذ الهوى الذي يضرُّ ولا ينفع معبودًا من دون الله وهذه أوصاف الله سبحانه وتعالى وهذه قدرته؟ ومع ذلك تجدهم ليس فقط يعبدون من دون الله بل كما قال سبحانه وتعالى } وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا {55}}، يعني مظاهرا على معصيته. ولنتأمَّل الآن حال عتاة العصاة، أو نتأمَّل حال الكفار، أو من ألحدوا والعياذ بالله، تجد عجبًا؛ يتقلب في نعمة الله سبحانه وتعالى ومع ذلك لا يفكر في أمر عبودية الله أبدًا، تجده من أشد الناس عداوة لله سبحانه وتعالى! وهذا والعياذ بالله من أكبر الخذلان.
د. محمد: في قول الله عزَّ وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا {63}} فهذه الآية تُعتبَر أصلاً في الذوق، وذلك لكون المؤمنين لهم سمت وعندهم ذوق، إذا مشوا وإذا خاطبوا وإذا تكلَّموا، وليسوا كما يقال في التعبير العامي مثلاً «مرجوجين» ترى الواحد منهم تمجُّه، وتستهجن تصرفاته، ولا ترى فيه من الوقار ولا من السمت، ولا ما يعبِّر عما يحمله من الإيمان وما يحمله من الحبِّ لله والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}، وليس المقصود بـ«هونا» أنهم يدبون دبيبًا، بل المقصود أنهم إذا مشوا مشوا بوقارٍ وسكينة، يُعرف من مشيتهم أنهم أهل ثقة. أقول هذا والله أعلم عندما يكمل عقل الإنسان يصير صاحبه ثقيلاً متَّئدًا في مشيته وفي حركاته وتصرفاته يزن نفسه وزناً أمَّا إذا خفَّ عقله فإنه يصبح والعياذ بالله يطيش، وكأنَّه لا ثقل له على هذه الأرض، وهذا طبعًا من الصفات التي كان يُمتدح بها نبينا صلى الله عليه وسلم حتى قبل الإسلام،
د. عبد الرحمن: الرزانة والوقار والسمت الحسن وعدم العجلة، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم قال هذا للأشجِّ بن القيس حيث قال: «إنَّ فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله» قال: وما هما يا رسول الله؟ قال: «الحِلم والأناة»! تأمَّلوا، ما أجعل التعبير! يقول: «هذان الخصلتان هذه يحبها الله ورسوله»!
د.مساعد: هو إجمال، وهو أيضًا إغراء في هاتان الخصلتان!
د. عبد الرحمن: فقال الأشج: هل هذان الخُلقان تَخلَّقتُ بهما أم أنَّ الله جبلني عليهما؟ قال: «بل الله جبلك عليهما». الحلم والأناة. ولذلك يذكرون أنهم عندما جاء وفدهم هرعوا كلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستعجلوا شُعثا غبرًا إلاَّ هو، انتظر وتأنَّى وربط ناقته، ولبس واغتسل وجاء بأحسن ثيابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالحقيقة مثل هذه الفوائد المهمة جدا التي تظهر من خلال مثل هذه الآيات {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} لذا وجب أن نتوقَّف ونتأمل في مثل هذه الصفة، والله فيها فوائد أخرى كبيرة.
د. محمد: العجيب أنَّ كثيرًا من الناس يرى التدين هو أن تصلى، أنك تصوم، تقوم الفرائض الخمس. التدين ليس هو هذا، هذا جزء من التدين ولا شك، بل ربما الركن الركين فيه، ولكن أيضًا المتدين حقًّا هو الذي يأخذ هذه الصفات كلها ويجعل منها منظومة متكاملة تُعبِّر عن حقيقته، إذا رأيته يمشي عرفت أنه مختلف عن الناس، إذا رأيته يتكلَّم عرفت أنه مختلف عن الناس، إذا رأيته يقرأ يختلف عن الناس، إذا رأيته يصلي كذلك يختلف عن الناس. ولذلك انظر كيف جمع الله بين الاثنين فقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وماذا؟ {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} غالب الناس إذا خاطبهم الجاهلون صاروا مثلهم جاهلين، أما المؤمن فلا، لا يصدر إلاَّ عن قِيَمه وأخلاقه، إذا سبَّه هذا الطائش، هذا السفيه، يقول: «جزاك الله خيرًا»، «بارك الله فيك»، «وفَّقك الله وإيانا»، لا يردّ عليه إلا بما هو خير.
د. عبد الرحمن: البعض قد يفهم من الآية هو ظاهر {قَالُوا سَلَامًا} أنهم يقولون هذه اللفظة بعينها إذا أخطأ في حقِّهم أحد قالوا «سلام»!
د. مساعد: لا،
د. عبد الرحمن: إنما هي: قالوا قولاً فيه مُسالمة، وفيه مُلاينة وهكذا.
د. مساعد: ومِن القضايا المهمة أيضًا في مثل هذا وقد نبَّه عليه السلف، أنهم لا يمشون مِشية المتماوت المتمايل؛ فهذه صفه ليست حميدة. وإنما كما ذكرت تكون وكأنها صفة قد لابسته؛ لأنه يحس بما آتاه الله سبحانه وتعالى من نوع الكمال الإيماني الذي يجعله يتَّئد في مشيته ويمشي مشية طبيعية، فلا هي زائدة عن الحد، ولا هي ناقصة. لأنَّ الزيادة عن الحد أيضًا كأنَّ الإنسان قد وُضِع في جَنبيه كيلو من الرصاص أو الزئبق فهو لا يستطيع أن يتحرك، وليس هذا مقصودًا، لأنه تجد البعض الناس يفهم مثل هذا الشيء، أن يمشي مشية يُشعر أنَّ فيها بنوع من التكلُّف
د. محمد: بل إن عمر بن الخطاب t لَمَّا رأى رجلاً يمشي مشية الميت علاه بالدرة وقال: «لا تُمِت علينا ديننا»، يعني امشِ مِشيةً فيها قوَّة. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى يتكفَّأ تكفُّؤا كأنما ينحدر من صبب، وهذا من جمال المشية وقوّتها، لكن فيها من الوقار والجمال والهيبة.
د. مساعد: يعني السرعة في المشي لا تنافي الوقار.
د. عبد الرحمن: وتظهر أيضًا ليس كما يقولون الآن إذا مشى الرجل مشية التكبر والخيلاء قالوا مادحين: هذا يمشي مشية الطاووس، فهذه المشية معروفة هي مشية الخيلاء، ولذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى أبا دجانة يمشي مشية الخيلاء بين الصفين في المعركة فقال: «هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع فهي مشية معروفة واضحة». ولهذا أيضًا فقد ذكر البحتري عندما مدح المتوكل في خروجه لصلاة عيد الفطر، فقال له مادحًا في قصيدته الرائية الرائعة التي يقول فيها:
بالبِرِّ صمتَ وأنت أفضلُ صائمٍ |
وبسُنةِ الله الرَّضيَّةِ تُفطِرُ |
إلى أن قال فيها:
ومشيتَ مِشيةَ خاشعٍ مُتوَاضعٍ |
للهِ لا يُزهى ولا يتكبَّرُ |
|
حتى برزت إلى المصلَّى فانجلى |
ذاك الغبار وزال ذاك العثير |
فالشاهد أن هذه المشية معروفة، مشية الخيلاء لا تخفى على الناظر، وقليل في مجتمعات المسلمين من نراه يمشى هذه المشية أو تظهر عليه نسأل الله أن يكفينا وإياكم شر الكبر.
د. محمد: آمين. في قول الله عز وجل {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} حبذا لو حدثتنا يا أبا عبد الملك عن هذا المفهوم (لم يسرفوا ولم يقتروا) مع أنهم ينفقون
د.مساعد: هذه الآية تذكرني بأحد أعلام القرآن، وهو الحسين بن الفضل من علماء القرن الثالث وكان بارعًا بديعًا في معاني القرآن،وقد جُمعت أقواله في رسالة في جامعة الإمام جمعتها باحثة وله كتاب في هذا فيه أمثال قرآنية، يتحدَّث فيه عن الأمثال الكامنة فهي ليست بظاهرة لكن هذا المذكور يشبه هذا المثل وقد كان يُسأل أنه كان يُخرج أمثال العرب من القرآن، فكان من الأسئلة التي سُئل عنها: أين تجد «خير الأمور أوسطها»؟ فذكر هذه الآية مثالاً لها {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} هذا طرف، {وَلَمْ يَقْتُرُوا} الطرف الثاني، } وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا {67}} هذا هو الوسط، «خير الأمور أوسطها».
د. عبد الرحمن: ويمكن أن يستدل عليها بقوله {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} وغيرها.
د.مساعد:: يمكن أن يستدل عليها بمجموعة من الآيات ومنها هذه الآية. هذا ولا شكَّ أنه قياسٌ أو ميزانٌ مهمٌ جدًا في حياة المسلم، لو تأمل المسلم حياته {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} لو تأملنا حياتنا غالباً ما تكون انفاقاتنا الحياتية في الحاجيات أو الكماليات، الضروريات نعم موجودة، لكن قد تزاحم عندنا الحاجيات والكماليات مثلاً فتقدّم الحاجيات وهي أقل على الكماليات وأحياناً قد نزاحم الكماليات على الضروريات فتقدم الكماليات على الضروريات، بمعنى أنَّ الإنسان لا يُرتِّب نفسه فيقع عنده الإشكال في هذا. فالإسراف لا شكَّ أنه مذموم، وكذلك التقتير بحيث يرى أنَّ الجمع مقصودٌ لذاته فلا يُنفق أبدًا لا شكَّ أنَّ ذلك مذموم، ولكنَّ الإنسان يكون وسطًا بين هذا وذاك. ومن أعطاه الله سبحانه وتعالى الفقه في مثل هذا فلا شك أنه نوع من الحكمة يجب أن يحمد الله سبحانه وتعالى عليها.
د. محمد: وليس المقصود بالإنفاق هنا الإنفاق على النفس وعلى الأهل والولد فقط، حتى الإنفاق في سبيل الله ينبغي ألاَّ يكون فيه إسراف ولا تقتير. كعب بن مالك لَمَّا تاب الله عليه قال: يا رسول الله، إنَّ من توبتي أن أنخلع عن مالي صدقةً لله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يا كعب، يكفيك سهمك الذي بخيبر». مع أنَّ كعب نذر، فقال: إني نذرت يا رسول الله، ومع ذلك أبطل النبي صلى الله عليه وسلم نذره وأرشده إلى ما هو خير، لماذا؟ لأنه قد لا يكون له طاقة ولا صبر، وقد يصيبه من العوز والحاجة وذريته كذلك، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه الخير. فهذه قضية يجب أن نفهمها حتى في دين الله، الذي يريد أن يقيم الليل كله نقول له لا تقوم الليل كله، يقوم وينام. الذي يريد أن يصوم النهار كله، نقول له لا تصومه كله، يصوم ويفطر، وفي الحديث: «من صام الدهر فلا صام ولا ترك». فنقول لا، تصوم يومًا وتفطر يومًا إن أردت، وهذا أفضل ما يكون.
د.مساعد: الكلام الذي ذكرتموه هو الأصل، هذا التوجيه النبوي العام لم يكن لكعب فقط، بل إنه قد وجَّه به سعد بن أبي وقاص لما أوقف ثُلث ماله. وقد يستدلُّ بعض الناس بحال أبي بكر رضي الله عنه لَمَّا حدث أن دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النفقة، فقال عمر رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر، فاقتطع نصف ماله وجاء به، فلما ألقاه عند النبي سأله: «ما أبقيت لأهلك؟» قال عمر: أبقيت لهم نصف مالي. وجاء أبو بكر بماله كلِّه فلمَّا سأله النبي صلى الله عليه وسلم «ما أبقيت لأهلك؟» قال أبي بكر: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر: اليوم لا أسابق أبا بكر أبدًا. حال أبي بكر رضي الله عنه حال خاصة لا يُقاس عليها، لأنه من الذي سيكون مثل أبي بكر وأهل أبي بكر؟! في صِدقة وتحمله،
د. محمد: وفي أنه كان تاجرًا، نعم، كان تاجرًا يُحسن التكسَّب.
د. مساعد: فهذه مسألة يجب الانتباه لها، لأنَّ بعض الناس قد يستدل بحال أبي بكر ويغفل الحال العامة. وهنا يجب أن ننتبه دائمًا إلى أنه من التوازن حتى في طرح مثل هذه الأمور – أن ننتبه إلى الأحوال كلها، لا نأخذ حالاً واحدة ونعممها.
مثلما يحدث أحيانًا من بعض الناس حين يتكلَّمون على سبيل المثال عن «هجر المبتدِع»، تجده يأخذ حالة واحدة يتصيَّدها من كلام السلف ثم يجعلها هي الأصل
د. محمد: ويُعمِّمها في كلِّ زمانٍ وفي كل مكان،
د. مساعد: مع أنَّ أحوال هذا المبتدع متنوِّعة ومتعدِّدة.
د. محمد: ومما يصدّق كلامك يا أبا عبد الملك أن أبا بكر لم يبع بيته، وإنما جاء بالمال السائل، يعني بالنقود من الذهب وغيره، وهذا يمكن تعويضه من مثل أبي بكر، فهو ما باع بيوته ولا أراضيه ولا مزرعته، ومع ذلك قال: «أبقيت لهم الله ورسوله»، يعني مما ادَّخرته من المال لكن لو فعل خلاف ذلك لربما كان في ذلك شيءٌ من الإضرار بالنفس.
د. عبد الرحمن: وهنا نتذكر الآية التي في سورة الملك في قوله سبحانه وتعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {14}. البعض من الذين يحرصون على التمسك بالإسلام يبالغون أحيانًا في التمسك ببعض الشعائر على حساب شعائر أخرى، أو حتى يضروا بأنفسهم وبصحتهم، مثلاً الصيام والانقطاع له، أو القيام والانقطاع له، أو المبالغة في الإنفاق والإضرار بالأهل ومن يعول وهكذا، فالمنهج الصحيح الشرعي هو هذا التوسُّط.
د. محمد: سبحان الله.
د. عبد الرحمن: حتى في العبادة، حتى في الإنفاق في سبيل الله، التوسُّط هو المنهج الصحيح. أطلنا في سورة الفرقان وبقيت سورة الشعراء وهي سورة مليئة بالفوائد ولكن أحياناً عندما ننطلق في بعض الفوائد تستهلكنا لما فيها من الفائدة
د. مساعد: لعل الله أن يُيسِّر لنا لقاءات أخرى يكون فيها وقوف عند سورة الشعراء؛
د. عبد الرحمن: يمكن في اللقاء القادم أن نبدأ بسورة الشعراء مثلاً ققد بسط الله فيها قصة موسى عليه السلام بسطًا يُعتبر من أوسع ما في القرآن الكريم.
المشايخ: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألاَّ إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.