برنامج بينات

برنامج بينات 1428 – الجزء الثالث والعشرين

اسلاميات

الحلقة الثالثة والعشرون

بينات 23-9 -1428هــــ

د:عبد الرحمن: سألني أحد الإخوان سؤالاً بالهاتف عن قوله تعالى: {يس {1} وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ {2}} فقال: هل يس اسم من أسماء النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ أم هو نبي من أنبياء بني إسرائيل الّذي قال الله فيهم: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ {130}} هل المقصود بهم ياسين الّذي في سورة يس؟ أم ماذا؟

فقلت: يس في أوّلِ سورة يس فيها أقوال عند المفسّرين، يعني لو تفتح كتاب عند المفسّرين؛ مثل كتاب القرطبي مثلاً، أو كتاب ابن الجَوْزِي: “زاد المسير” تجد فيه أقوال في هذه الآية في يس في أوّل سورة يس:

  • بعضهم يقول: {يس} قَسَم {يس {1} وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ {2}} كأنّ معنى الآية: أُقْسِمُ بـ(يس) وأُقْسِمُ بالقرآنِ الحكيم؛ كأنّها تدلّ على القَسَم.
  • وبعضهم يقول: {يس} اسم من أسماء الله.
  • وبعضهم يقول: {يس} اسم بمعناه، معناه: يا رجل.
  • وبعضهم يقول: هو بمعنى: يا إنسان؛ كأنّه نداء، كما قالوا: أنّ {طه {1} مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى {2}} بعضهم قال معناها: يا رجل بلغة كذا وكذا بلغةِ طيْء.

ولكن يعني الّذي تطمئنُّ إليه النّفس قلت للأخ هذا: الّذي تطمئنُّ إليه النّفس في معنى {يس} أنَّها كبقيَّةِ الحروف المقطَّعة في القرآن الكريم {الم} {الر} {كهيعص}، كذلك (يس) فإنّها تُعامَل معاملةَ الحروف المقطّعة؛ لذلك لو تلاحظون في المصحف المُيَسَّر الّذي طُبِعَ في مجمَّع الملك فهد رأيتهم اختاروا هذا القول وقالوا: ممكن لو تتأكّد منه يا دكتور مساعد.

د: مساعد: نعم هذا هو قالوا: سبق الكلام عن الحروف المقطّعة أي: أنّهم جعلوه من الحروف المقطّعة.

د:عبد الرحمن: لذلك لو سُئِل الواحد منّا يعني يُشير إلى هذه الأقوال. المقصود: عندما يُقال أنّ في هذه الآية فيها أقوال، قد يسأل سائل ويقول: ما هو الرّاجح؟ فنقول: الذي تطمئنُّ إليه النّفس أنَّهُ حرف من الحروف المقطّعة. ثمّ يأتي الخلاف: ما معنى الحروف المقطّعة؟ لكن هناك أقوال قيلت في الآية، والّذي قال بها الصّحابة رضي الله عنهم؛ مثل عبد الله بن عباس، مثل قتادة بن دعامة السَّدوسي، مثل سعيد بن جُرَيْج.

د: محمد: فلا يجوز اطراح هذه الأقوال بالكليّة وإيضاح الرّاجح منها،

د:عبد الرحمن: هناك مَن قال: بأنَّ معناها يا رجل، معناها: يا إنسان، معناها: قَسَم، أنّها اسم من أسماء الله، اسم من أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بعضهم ذكر هذا، فهي أقوال قيلَت في الآية، لكن الّذي يظهر والله أعلم، وتطمئنُّ إليه النّفس أنّه حرف من الحروف المقطّعة، تُعامَل مثلها مثل أي مطلع، مثل: {الم} {الر}، والله أعلم بمراده منها.

د: محمد: ورد في عُرف العامّة وخصوصاً في بعض البلاد العربيّة أنّ يس وطَه من أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، طبعاً لا إشكال أنّ هذا غير صحيح كون أنّ من أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا من أسمائه لم يثبت أنّه سُمِّيَ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأسماء لا بــــ [طه] ولا بــــ [يس].

د:عبد الرحمن: مع أنَّ النّاس يتسمّوْن بهذا اليوم، النّاس يتسمّون بـ يس ويتسمّون بــ طه.

د: مساعد: صار عُرْفَاً لكن لا يُحْمَل على أنّه اسم من أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

د: محمد: في قول الله عز وجل {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} هذه الآية يتلوها كثير ممن يُبْتَلى بأن يُلاحَق من عدوّ أو يكون هناك في مرصد أو غير ذلك فيتبرّكون بهذه الآية، ويكون لهم في ذلك أعاجيب، قد ذكر ذلك القرطبي رحمه الله عن نفسه في تفسيره قال: كان في مكان وكان العدوّ، أو مرّ بمكان وكان العدوّ يتطلّبونه قال: فقرأت هذه الآية فمررت من بيد أيديهم ولم يشعر بي أحد.

د: مساعد: لها أصل في السّنّة الذي هو لمّا خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من بيته لمّا تآمروا عليه يقتلونه ورمى على رؤوسهم التراب، وذكر هذه الآية.

د: محمد: وهذه من بركات القرآن العظيم أنَّ آياتِهِ عندما تُتْلَى بمواقيتها ومناسبات معينة يكون لها من الأثر مثلُ هذا.

د:عبد الرحمن: بعضهم حدّثني يقول: أنا أقرأ هذه الآية إذا مررت بتفتيش المرور مثلاً أو وكان عندي مخالفة، فأنا أقرأ هذه الآية قبل نقطة التّفتيش قال: الله يسلّمني وأتجاوز النّقطة بدون ما يسألوني.

المشايخ: سبحان الله!

د: مساعد: في عندنا في الصّفحة الّتي بعدها في قصّة أصحاب القرية، وهذه فيها عِبَر كثيرة جدّاً {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ {13}} من باب الفائدة، هناك موضوعات كثيرة في هذه لكن من باب الفائدة: إذا أُطْلِقَ المُرسَلُون في القرآن، فإنَّهُ يُراد بهم الرّسل المرسلون من الله سبحانه وتعالى، الإرسال الشرعي، ولهذا يُنْتَبَه إلى مثل الإمام الطّاهر بن عاشور مع جلالته وعلمه ذهب إلى أنّ المُرسَلون هنا المراد بهم: مَن أرسلهم عيسى يبشّرون بدينه، مع أنّ هذا كونه أرسل يبشرون بدينه ليس هناك عليه دلالة من التاريخ صحيحة إلاّ أنّه أيْضاً مخالف لدلالة اصطلاح القرآن في المرسَلون، وهنا قاعدة أيْضاً مهمّة جدّاً لطالب علم التفسير: أنّهُ حينما يُتَحَدَّث عن الأقوام السّابقين فإنّ الدِّلالات الّتي تأتي في قصص هؤلاء تُعْرَف من خلال العربيّة وليس من خلال مصطلحات هؤلاءِ السّابقين؛ لأنّ القرآن نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين، لا يُحاد عن لسانه العربي إلاّ لدلالة يقينية بناءً عليه نقول: بأنَّ مصطلح القرآن هنا على أنَّ المراد بالمرسلين هم: الّذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى بالوحي الصّريح، وليس المراد مَن يُرسلهم الأنبياء ليكونوا دُّعاة لقومهم.

د:عبد الرحمن: لكن هذا القول يا دكتور مساعد ذكره غير ابن عاشور.

د: مساعد: نعم نعم، أنا أذكره لأنّه من المعاصرين وتفسيره الحقيقة له وزن.

د: محمد: يقول: أنَّ المقصود بالمرسلين الّذين أرسلهم عيسى اثنان، ثمّ أرسل ثالثاً أيْضاً.

د:عبد الرحمن: طيب سؤال: يعني قد يرد يا دكتور محمد، وهو: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ}، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى ما هي هذه القرية؟ فقد يسأل سائل من الناس يقول: يقول: أنا أُريد أن أعرف هذه القرية، ويتطلّب هذا ويبحث ويُكثِر السؤال عن أشياء مبهمة القرآن الكريم أبهمها، ما رأيك في مثل هؤلاء؟

د: محمد: طبعاً الانشغال بهذا لا شكّ أنّه يكون مُجافي لِما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في التعامل مع القرآن؛ لأنّ القرآن إنّما أُنزِل للهداية والرّحمة والحكمة والعِظة والعبرة، وهذه ليست موطن عبرة بالنّسبةِ لِمَن يقرأ القرآن أو يتدبّره، فالمفروض أنَّ الإنسان إن تيسّر له العلم بذلك فلا بأس يأخذ به، وإن لم يتيسّر فلا يجعل هذا قصده من كتاب الله عزّ وجلّ، وقد ذكر أهلُ التّفسير في هذه الآية أو في هذه القرية وتحديدها طبعاً كثيرٌ منهم يذكرون أنّها [أنطاكيا]، بل حكاه بعضهم إجماعاً قد تأتي معنا في إجماعات المفسّرين، ولكن ابن كثير رحمه الله تعالى قدح في هذا، وقال أن أنطاكيا هذه لم يُعْرَف في تاريخها من زمنٍ طويل أنَّها أُصيبَت بعذاب، أو نزل بها بلاء؛ لأنّ الآيات دالّة على أنّه نزل بها العذاب، قال: إلاّ أن يكون [أنطاكيا] اسمٌ لمدينةٍ أخرى غير هذه الّتي نعرِفُها. وعلى كُلٍّ سواءٌ ثبت أنّها هي أو غيرُها لا يفيدنا شيء.

د:عبد الرحمن: يعني موطن العبرة واضح

د: محمد: موطن العبرة واضح نعم. لكن الجميل الحقيقة في هذه الصفحة يأتي سؤال كثيراً ما يسأله بعض المُحِبّين للطائف القرآن في قول الله عزّ وجلّ {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} لعلّ أبو عبد المَلِك يُفيدنا في هذا الموضوع إذا كان عنده مع قول الله عزّ وجلّ في القصص {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} .

د: مساعد: طبعاً من اللّطائف في هذه الآية لمّا قال {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} الأصل أنّ العرب إذا قدّمت ما حقّه التّأخير أنّه دِلالة على العناية به والاهتمام به لحكمة، والأصل “وجاءٌ رجُلٌ من أقصى المَدينة” هذه لا يُسْأَلُ عنها فالّذي جاء في القصص جاء على المعتاد على سياق نظم الكلام المعروف فإنّ هناك العناية {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} هناك العناية بالرّجل نفسه الّذي جاء يسعى وتحديد مكانه من أقصى المدينة يعني: كان فرعون وقومه كانوا في أقصى المَدِينَةِ يَتَآمَرون فجاء ذلك الرّجل من أقصى المدينة ليخبر موسى عليه السّلام الّذي كان في وسط المدينة عمّا تآمر به هؤلاء القوم؛ لكي يستطيع أن يهرُب.

أمّا هنا لا، {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} فيهِ إشارة إلى بُعْد المكان، دلالة على أنّ هؤلاء المرسلين قد بلَّغوا حتى وصلت الدّعوة إلى أقاصي القرى وهذه المدينة، فهذه إشارة طيبة ينتبه إليها أن فيه بالفعل دّلالة على أنَّ هؤلاء المرسلين كانوا قد بلّغوا ووصلت إلى أقاصي المدينة، حتى جاء هذا الرّجل من أقصى المدينة وقد آمن بما قال هؤلاء المرسَلُون.

د:عبد الرحمن: هذه لطيفة جميلة فعلاً. وأيْضاً في قوله {يَسْعَى} إشارة إلى أنّه جاء واجتهد جاء بعناية وجاء باهتمام، وأن الموضوع موضوع يعني مهم يستحقّ أن يسعى من أجله. تلاحظون حتى أنّ في القرآن الكريم، كلمة يسعى ترد في مواضع على بابها بمعنى يهرول، أو يشتدّ بالمشي. وتأتي مثلاً في سورة [عبس] {وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى {8} وَهُوَ يَخْشَى {9}}

د: محمد: أيْضاً بمعنى يجتهد لكن ليس بمعنى يركض؛ لأنّه أعمى المقصود سعي القلب، كذلك في سورة الجمعة قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} السّعي هنا: ليس بمعنى الهرولة، ولا الاشتداد بالمشي، وإنَّما الإقبال، وشدّة التّبكير؛ لأنّ الرّسول رغّب في التّبكير يوم الجمعة.

د:عبد الرحمن: أضف إلى ذلك: وصف الرّجل هنا {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} كأنّه والله أعلم هنا وصفه بالرّجولة أنّه وصف مدح له؛ لموقفه النّبيل هذا.

د: محمد: وهذه الكلمة تأتي في القرآن على هذا الوصف: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ }. وقال في قصّة مؤمن آل فرعون هذا إن ثبت أنّه مؤمن آل فرعون { وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} فذكر بوصف الرّجوليّة، وإن لم يكن هذا لازماً،

د:عبد الرحمن: لكن قد يُسْتَفاد منه،

د: محمد: لكن العبارة دلالتها في اللّغة، تدلّ على صفات ومعاني كما في الرّجل.

د:عبد الرحمن: أيْضاً في سورة [يس] في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} يحضرني قصّة تقسيم الغنائم الّتي كانت بعد غزوةِ حُنَيْن، عندما جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى هذه الغنائم الكثيرة جدّاً، وأراد عليه الصّلاةُ والسّلام أن يتألّف شيوخ القبائل الّذين أسلموا حديثاً، فأعطى عيينة بن حِصن مئة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مئة أيْضاً، وأعطى العباس بن مرداس السُّلَمي خمسين، فوقع في نفس العبّاس، وقال: لماذا يا رسول الله فضّلْتهما عليّ، وما كان أبو هذا ولا أبو هذا يفضُلان أبي في مجمع؟! فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه: “اقطع عنّا لسانه” كان العبّاس شاعراً فقال العبّاس بن مرداس أبيات من الشعر يطلب من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يُساويه بهذيْن فقال:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي – يعني: نصيبي –

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْدِ – الذي هو فرس العبّاس بن مرداس –

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْدِ               بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأقْرَعِ

ومَا كان حِصْنٌ ولا حابِسٌ             يَفوقانِ مِرْداس في مَجْمَعِ

يقول: أبو عيينة وأبو العباس ما كان يفوقان أبي في مجمع، لماذا فضّلتهما عليّ في العطاء؟

فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يريد أن يُكَرّر بيت العبّاس فقال: أتَجْعَلُ نَهْبي ونهبَ العُبَيْد، يقول أنت القائل: أتجعلُ نهبي ونهب العُبَيْدِ بين الأقرعِ وعيينة. فكسر البيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقال أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه صدق الله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} فكان يذكر العلماء أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كان لا يكاد يُقيم بيتاً من الشّعر إلاّ ويقع فيه الكسر، وهذا كمال في حقِّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو من معاني قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} فالرّسول صلّى الله عليه وسلّم لا يقول الشّعر ابتداءً، ولا يحفظُ الشّعر الكثير، وإن كان قد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه يستشهد بالشّعر “أنا النّبيّ لا كذب، انا ابن عبد المطّلب” لكن لم يكن من محفوظات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يغلِبُ عليه الشّعر.

د: محمد: وكلّ هذا لكرامة القرآن وصيانة له {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} لماذا حرمه الله أن يتعلّمَ الكتابة والقراءة؟ صيانة لهذا الكتاب؛ لأن لا يُقال: أنّه جاء به من

د: مساعد: ولهذا قال في نهايتها: {إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ {48}}.

د:عبد الرحمن: البعض قد يغفل يفهم من هذا يا شيخ مساعد أنّ هذا ذمّ للشعر يقول أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224}} ، ويقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} فهذا يدلّ على أنّ الشّعر مذموم ولا ينبغي العنايةَ به.

د: محمد: أذكر بيت للشافعي:

لو كان الشّعرُ للعلماءِ زِيٌّ *** أشعر من لّبيب

د:عبد الرحمن: فما توجيهك يا شيخ مساعد لهذا؟

د: مساعد: الله سبحانه وتعالى ذكر في قوله: { وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224}} قال: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} استثنى، فهذا استثناء وأيْضاً العلماء ذكروا ضابط في أنّ الشّعرَ إذا كان هو همّ الشّخص شغله عن طاعةِ الله فهو الّذي قال عنه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: ” لئن يمتلِئَ فيُّ أحدِكم قَيْحاً حتّى يَرِيَهُ خَيْرَاً لَهُ مِنْ أن يمتلئ شعراً ” ولاحظوا يمتلئ دلالة على ماذا؟ الإكثار منه أن يكون همّه وشغله الشّاغل.

د: محمد: الدّليل على أنّه مُرَغَّبٌ فيه إذا كان يُؤدّي به الإنسان غرضاً صحيحاً؛ قوله صلّى الله عليه وسلّم لِحَسّان: “اُهْجُهُمْ وروحُ القُدُسِ معك ” جبريل ينافح معك ويُؤيِّدُك وينصُرُك ويعلي أيْضاً منزلتك.

د: مساعد: ابن عبّاس أيْضاً يقول: عليكم بالشعر “ديوان العرب الشعر” وقد استخدموه في بيان معاني الغريب، والأساليب وغيرها. فهو ليس مذموماً على إطلاقه، إنَّما المذموم منه شيْءٌ معيّن وهو الإكثار حتى أنّه يُشغل عن طاعة الله سبحانه وتعالى.

د:عبد الرحمن: ثمّ أيْضاً الآية {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} في حقّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي من كماله؛ لذلك تجد هذا يُذْكَر في كتب “دلائل النُّبُوّة” يذكرون أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما كان يقول الشّعر، وهذا من دلائلِ نبوّته عليه الصّلاة والسّلام، مع أنّه كان يستنشد الشّعر، كان يستنشد الصّحابة الّذين يحفظون الشّعر، وكان يسمعه، ويتذوّقُهُ عليه الصّلاةُ والسّلام أيْضاً، كان يتذوّقُ الشّعر أيْضاً ربّما بدرت منه بعض النّقدات الأدبيّة الرائعة.

د: محمد: لو وقفة مع أصحاب الجنّة في هذه السّورة الحقيقة جاء لهم بصفات ومُرَغِّبَات تدعو الإنسان إلى أن يُشَمِّر ويُنافس: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ {55}} فاشتغالهم هو بالتّفكُّه ليس لهم شُغلٌ آخر، لا بعبادة ولا بشيء من أعمال الحياة ومتطلّباتها، إنَّما يشتغلون بالتّفكّه فيُعطى الرّجل في الجنّة قوَّةَ مئة، في الأكلِ والشُّرْبِ والجِماع من أجلِ أن يتفكَّهَ بِكُلِّ ما يستطيع من حواس وقوى. وهناك الحقيقة مشهد جميل جدّاً في {سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ {58}} يعني السّلام يتلقّاهم به الملائكة، والرّبُّ سبحانه وتعالى أيْضاً يتلقّاهم بالسّلام {قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}.

د: مساعد : وأيْضاً اختيار {رَّحِيمٍ} في هذا الموطن فيه إشارة إلى أنّ هذا من آثارِ رحمته، إيصال هذا النّعيم لهم أثر من آثار رحمته سبحانه وتعالى. أيْضاً ذكر قصّة أو قضيّة الشّيطان الّتي تتكرر في أكثر من موطن لمّا قال {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60}} قد يقول قائل يا شيخ عبد الرّحمن الّذين لم تصِلُهم الدّعوة كيف يمكن أن يُثبَت عليهم هذا العهد {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ؟

د:عبد الرحمن: قد يقال يا شيخ مساعد أنّ هذا ما أُخَذ على البشر وهم في ظهور آبائهم كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} حتى لا تحتجّوا أن تقولوا يومَ القيامة {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {173}}.

وقد يكون لها معنى آخر يا دكتور مساعد وهو: أنّهُ قد أُخِذَ على آدم عليه الصّلاةُ والسّلام لمّا وسوس له إبليس وأخرجه من الجنّة، فتبيَّنَ لآدم عليه الصّلاةُ والسّلام أنَّ إبليس عدوّ مبين، وكان سبباً في إخراجِهما من الجنّة، فقال الله { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ} فيمكن أن يكون هذا معنى قوله {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60}}

د: مساعد: لكن ألا ترى أيضاً أنّه قد يكون أنّه ما من كافرٍ إلاّ ويشعر في لحظاتٍ معيّنة أنّه على ضلال.

د: محمد: يعني نداء من الدّاخل، الفطرة.

د: مساعد: لكنّه لا يستجيب لهذا النّداء، لا يُتابعُ هذا النّداء.

د:عبد الرحمن: ويكون هذا المقصود به العهد هنا.

د: مساعد: فيقع على أنّ هذا العهد الّذي ذكرتَهُ قبل قليل موجودٌ في الفطرة لكنه ينطمس عنده.

د: محمد: إبراهيم عليه الصّلاةُ والسّلام يُذَكِّر أباه فيقول: { يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} ولا يمكن أن يُذَكِّر أباه بهذا المعنى إلاّ وأبوه عندَه هذا المعنى أصلاً { لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا {44}}.

في آخر سورة [ يس ] جاءت دلائل البعث، وأنا تعجّبت مرّة أنّي أسمع للشيخ العلاّمة محمّد بن صالح العثيْمين رحمه الله وهو متفنِّن في استنباط المعاني من آيات القرآن الكريم ذكر قُرابة ثمانِ أدلّة على البعث أو دلائل على البعث من هذه الآيات اليسيرة، ولعلّنا نشير إلى بعضِها إن شئتم:

  • {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ {79}} العلم التّام لله عزّ وجلّ يدلّ على أنّه قادر على {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا}. معناها يا شيخ عبد الرّحمن؟

د:عبد الرحمن: يعني هذا استدلال بشيء يُشاهده النّاس أنّ الله سبحانه وتعالى يجعل هذه الشّجرة الخضراء، ثمّ أنّك تقتطعها وتَيْبَس وتصبح وقوداً مع أنّها شجرة خضراء سبحان الله! فالله قادر سبحانه وتعالى على أن يعيدك خلقها حيّة، ثمّ قبست منها أو خرجت منها النّار كذلك هذه.

د: محمد: وأيْضاً هناك من الأشياء الخضراء ما يخرُجُ منه النّار، وهذا موجود الآن في أسرار اشتعال الغابات واحتراقها هو احتكاك مجموعة من الأشجار فتنتج هذه النّار، وهي خضراء والمرخ والعِفار معروفان عند العرب كانوا يقدحون بعضهما ببعض

د: مساعد: في كُلِّ الشّجرِ نار والسّمْجَدَ المرخُ والعِفار. أي : صار أعلاها بقوّة

د:عبد الرحمن: قال: { فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ {80}} .

د: محمد: فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} هذا دلالة على البعث. يعني: أنَّتم تؤمنون أن الّذي خلق السّمواتِ والأرض هو الله.

د: مساعد: القدرة على البعث أقلّ من إيجاد السّماوات والأرض.

د:عبد الرحمن: سبحان الله! تجد مثل هذه الأدلّة العقليّة على البعث وعلى اليوم الآخر وعلى النّشور تكثُر في مثل هذه السّور المكيّة. سورة [يس] سورة مكيّة بالإجماع بعض العلماء ذكروا فيها آية أو آيتين أنّها مدنيّة لكن الصّحيح ذكر العلماء أنّها مكيّة، فتلاحظ فيها هذه الأدلّة بكثرة، الأدلّة على البعث واليوم الآخر والاستدلال والإكثار من الاستدلال بخلق السّماوات وخلق الأرض وخلق النّبات، هذا من الخصائص والسِّمات الموجودة في السّور المكيّة.

د: مساعد: من القضايا الّتي ذكرتها من الاستدلال أو كثرة الاستدلال في القرآن وخاصة المكّي فيه فائدة حقيقة مهمّة جدّاً وهي: كيف غاب عن بعض أسلافنا ممَّن دخل في علم الكلام، وتأثَّروا بعلم الكلام تأثُّراً شديداً كيف غابت عنهم وهم يقرؤون القرآن غابت عنهم هذه الحجج العقليّة؟ وتتعجّب كيف هؤلاءِ مع ما لهم من العقل التام كيف اتّبعوا أساليب اليونان في قضيّة الحجج العقليّة وتركوا أساليب القرآن؟! وهي من كلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا اعترض عليهم ابن الوزير في ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان، فتقول: إذا نظرت إلى مثل هذه العقول سبحان الله! يهدي مَن يشاء وليس لك إلاّ أن تترحّم على هؤلاء العلماء الّذين كان قصدهم الحقيقة التّنزيه، لكن لم يصِلوا إلى الطّريق الصّحيح فيه.

د: محمد: وضغط البيئة والمجتمع الّذي يتعلّم الإنسان فيه أحياناً يُطْغيه ويَصُدُّه ويجعله يعمى عمّا هو أفضل وأتمّ وأكثر، فلو رجع النّاس إلى القرآن وعرضوا كُلَّ شَيْءٍ عليه وصدروا منه لتَوَقَّواْ بذلك مثل هذه الانحرافات وغيرِها.

د: مساعد: أنا أقول يحسُن بطالب العلم أن ينتبه إلى مثل هذه الأُمور، وأن يعتذر لهؤلاءِ العلماء، وإن كان لا يقبل قولهم، يعني يعرف التّاريخ الّذي عاشوه؛ مع أنّ بعضهم يُنادى عليه بالإمامة، وبعضهم يُنادى عليه بأنّه حجة، وبعضهم يُنادى عليه بأنّه شيخ الإسلام أو غيره، لكن مع ذلك تجد عندهم مثل هذه الأشياء، وهذا فضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشاء.

د: محمد: إذا سمحتم لي المشايخ أنقلكم إلى الوجهٍ الآخر من هذه السّورة الكريمة في قول الله عزّ وجلّ: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {43} عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {44}} الحقيقة من الأشياء الّتي كنت أستفيدُها من شيخنا العلاّمة محمد بن عثيمين رحمه الله دِقّة الاستنباط كما أشرت قبل قليل. فلمّا جاء إلى هذه الآية قال: ومن فوائدِها أنَّهُ لا ينبغي للمسلم أن يجلِس مستدبراً أخاه المسلم؛ لأنّ الله مدح أهل الجنّة بأنّهم على سُرُرٍ مُتَقَبِلين، فينبغي لهم إذا جلسوا أن يجلسوا ويُقابل أحدُهما أخاه المسلم ولا يستدبره بهذا، وقد ورد في الحديث النّهي عن التّدابُر.

د: مساعد: في قوله سبحانه وتعالى لمّا تكلّم عن عذاب أهل النّار قال {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ {62} إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ {63} إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ {64} طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ {65}} ووصفها بأوصاف، طبعاً قلَّ مَنْ يُعْنى بِالبَلاغة بل قلّ مُفَسِّرٌ أن يمُرَّ على قوله { طَلْعُهَا كَأنَّهُ رُؤوسُ الشَّيَاطِين} إلا ويقف عند هذا الوصف، كيف وصِفَ الشَّيْءُ الغائب بشيْ أيْضاً غائب؟! لأنّه ليس كلُّ أحدٍ رأى رأس الشّيطان، فدلّ هذا على أنّه قد وُضِعَ في الإنسان تقبيحُ الشَّيْطان، كما وُضِعَ فيه تحسينُ الملائكة بدلالة قول النِّسوة {إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ} ولهذا من لطائف ما ورد يقول الجاحظ حكاها عن نفسه؛ يقول: “إنَّ امرأةً جاءت إليه قالت: أريدك بحاجة ففرح – ما دام فيها حاجة – فذهب معها فذهبت إلى الصّائغ فقال: يمكن تريد أن تخطب أو شيء فقالت مثلَ هذا ومضت تعجّب الجاحظ ” فقال للصّائغ: ما بالُها؟ قال: جاءت إليّ وقالت أريد أن تصوغ لي خاتماً عليه صورة شيطان فقلتُ لها: أنا ما رأيت شيطاناً قطّ فجاءت بك” .

د:عبد الرحمن: فيه حول هذه الآية يا دكتور مساعد قصّة مشهورة يتداولُها مَن يُتَرجِمُ لأبي عُبَيْدة معمر بن المُثنّى يذكرون أنّه سُئل في أحد مجلِسِ الأُمراء عن هذه القصّة فقال له السّائل: إنّ الله سبحانه وتعالى، أو التّشبيه عند العرب أنّهم يُقَرِّبون الشّيء البعيد المجهول؛ فيُشَبِّهونهُ بشيء معلوم والله في القرآن شبّه شيْئاً مجهولاً بشيء مجهول – كما تفضّلت – قال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ {65}} فقال – ما تفضّلت – قالوا أنّ هذا كان سبب في تصنيف كتاب “مجاز القرآن” أنا رأيت في كتابك التفسير اللُّغوي تطعن في هذه القصّة وتهوّن من شأنها، وتقول: أنّ حتى في تفسير هذه الآية لم يُفَسِّرها. وذكرتَ هذه القصّة.

د: مساعد: ذكرتُها في المقدّمة.

د:عبد الرحمن: لكن يا دكتور هل يكفي هذا في الرّدّ في شأنِها؟ أنت تعتبرها قرينة

د: مساعد: هذا أحد طبعاً لكن لا يعني هذا أن لا نحكيها في الأدب.

د:عبد الرحمن: مجال الأدب يُتَوَسّع فيه، فكرتها جميلة طريفة. مبدأ تأليف الكتاب بناءً على هذه القصّة فكرة طريفة.

يقول الله سبحانه وتعالى {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ {83} إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {84}} سبحان الله العظيم فقدّم من أهم صفات إبراهيم عليه الصّلاةُ والسّلام سلامة القلب، سبحان الله العظيم، أسأل الله أن يرزقنا جميعاً نسأل الله ذلك، كثيراً منّا يغفل عن هذا فمع كثرة المواقف الصّعبة في الحياة، وربّما بعض المواقف السّلبيّة من بعض النّاس وكذا فتحمل عليه الحقد وتحمل عليه الضّغينة وتغلّب سوء الظّنّ إلى غير ذلك على حدّ قول الشاعر قال:* والحزم سوء الظّنِّ بالنّاسِ * يقول: إذا أنت حزمت على عدم سوء الظّنّ بالآخرين تعيش في أمن وفي حيْطة، لكن أنا أتأمّل دائماً في هذه القصّة على إبراهيم مع أنّ إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام مشهور بالعناية بالتّوحيد، ومحاربة الشرك، وتكسير التّماثيل والهجرة في سبيل الله، وملاقاة الأذى والعذاب من قومه، لكن في هذا الموضع في سورة الصّافّات مع أنّه ذكر كثيراً من قصّته لكنّه قدّمها بهذه الصّفة قال {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فجعل من أهمّ صفات أبراهيم أبو الأنبياء عليه الصّلاةُ والسّلام سلامة القلب.

د: محمد: قال ابن القيّم رحمه الله: “سلامة القلب نوعان: سلامة القلب مع الرّبّ، وسلامة القلب مع الخلق، فسلامة القلب مع الرّب بالإخلاص والتّوحيد، وسلامة القلب مع العباد بترك الحقد والحسد والضّغينة في غير موضعها وغير ذلك” .

د:عبد الرحمن: المقنّع الكندي الشاعر كان مشهوراً بالكرم، فله قصيدة مشهورة يقول فيها:

وأنّ الّذي بيني وبين بني أبي            وَبَيْنَ بَنِي عَمّي لَمُخْتَلِفٌ جدّاً

فإن أكلوا لحمي وفّرْتُ لحومَهم           وإن هدموا مَجدي بنيْتُ لهم مجداً

وقال في البيت الّذي يهمّنا في هذا الاستشهاد قال:

ولا أحمِلُ الحقدَ القديمَ عليهمُ  وَلَيْسَ رئيسُ القَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحقْدا

هذا مثل أنّ الّذي يحمل في نفسه الحقد والضّغينة لا يصلُح أن يكون رئيساً للنّاس؛ لأنّه سوف يضمر للجميع العداوة ويتعَب ويُتعب، وقلّ أن تُصاحب أحداً مهما كان كانت طيبته إلاّ ويقع منه ما يجعلك تغضب منه وربما يورث أحياناً

د: محمد: وأبلغ منه يا أبا عبد الله {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {89}}.

د: مساعد: من اللّطائف في قصّة إبراهيم عليه السّلام أنّه قال في هذه الآية {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ {97} فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ {98}} وفي سورة الأنبياء {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ {70}} لو تأمّلنا في قصّة في سورة الأنبياء لم يرد إلاّ المناظرة فقط، وهنا وردت المناظرة والإشارة إلى البنيان، فلمّا كانت المناظرة فيها غالب ومغلوب، خاسر وغير خاسر، فناسب مع المناظرة فقط أن يكون { فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} خسِروا، ولمّا ذكر البنيان هنا أشار إلى أمرٍ آخر، هم أرادوا به السُّفول فجعلهم الله سبحانه في السّفول؛ لذلك قال {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ {97} فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ {98}} فناسب ذكر الأسفلين هنا مع ذكر البنيان مع أنّه هنا مناظرة، لكن لمّا كانت هناك مناظرة فقط ورد ذكر البنيان أُشيرَ إلى خسارتهم في المناظرة.

د:عبد الرحمن: هذه لفتة لطيفة جميلة.

د: محمد: أنا أقول من أعجبِ الأشياء في قصّةِ إبراهيم مع ابنه هذا التّسليم العظيم الّذي حصل من إبراهيم للرُّؤيا حيث حصل لإبراهيم يعني: لم يتأوّل هذه الرُّؤيا على غير ما جاءته “ورُؤيا الأنبياء حقّ” استدلّ العلماء بهذه الآية على أنّ الأنبياء لا يرون إلاّ حقّاً، فهو عمل بها ومع مَن؟! مع فلذةِ كبده الّذي ليس له سواه لم يكن لإبراهيم سواه، لأنه قال بعدها {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا} ممّا يدلّ على أنّه لم يكن عنده آنذاك غير إسماعيل، وإن كنت تعجب من إبراهيم فعَجَبُك أشدّ من إسماعيل الّذي قال {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} كيف رُبِّي هذا الابن؟! الّذي يقول لأبيه افعل ما تُؤمر من ذبحي، ما قال: يا أبتي راجع ربّك، انظر في الأمر، تأوّل هذه الرّؤيا، ابحث لها عن مخرج {فَلَمَّا أَسْلَمَا} الأب والابن {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ما هو مجرّد ترقُّب، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} لئلاّ يراه ويرى تقاسيم وجهه وهو يُقيم عليه هذا الذّبح، عند ذلك جاء الفرج من الرّبّ سبحانه وتعالى.

د: مساعد: من اللّطائف العلميّة ونذكُرَها للتّنبيه الطّبري رحمه الله تعالى يرى أنّ الذّبيحَ [إسحاق] وهذا رأيٌ عليه جمهور من السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، والرأي الآخر عليه أيضاً جمهور آخر فهو من ناحية العدد متقاربان، لكن الّذي نريد أن ننبّه إليه أن الطّبري ر حمه الله تعالى لمّا ذهب إلى أنّ الذّبيح إسحاق لم يعتمد على الإسرائيلِيّات، وإنّما اعتمد على نصوص الكتاب، ظاهر الكتاب عنده يدلّ على هذا المعنى، وإن كان رحمه الله تعالى لم يُوَفَّق في هذا المقام بهذا الاختيار، لكن المقصد ينبّه أنّ اختياره ليس اعتماداً على الإسرائيليّات، وإنّما اعتمادٌ على ما في نصوص الكتاب، ويمكن يُراجَع إلى

د:عبد الرحمن: الأصمعي سأل شيخه [أبا عمرو بن العلاء] عن هذا فقال: هل الذّبيح إسحاق يا أبا عمرو؟ فقال: يا أصمعي ويحك! أين عقلك؟! مَن هو الّذي كان في مكّة وعاش في مكّة؟ إسماعيل، وخبره كلّه في مكة.

د: محمد: في آخر سورة [الصّافّات] أُحِبّ أن أُبَيِّن في قوله عزّ وجلّ {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} أنّ كثيراً من النّاس قد يذهب وهلهم وهذا قيل به إلى أنّ المقصود بالجِنَّة الجِنّ، والذي يظهر من أنّ هذا مأخوذ من المعنى اللّغوي الاجتنان: المقصود بهم: الملائكة؛ لأنّ الحديث عنهم في بيان اتُّخِذوا ولداً من، في قوله الله عزّ وجلّ {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ {149} أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ {150} أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ {151} وَلَدَ اللَّهُ} الكلام كلّه عن اتّخاذ أو زعم المشركين في أنّ الملائكة بناتُ الله عزّ وجلّ، فهنا قال {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} ولم يُعْرَف أنّ أحداً من مشركي العرب يجعل بين الله عزّ وجلّ وبين الربّ نسباً، فالمقصود بالجِنَّة هنا هم الملائكة، وعندما بيّنت هذا المعنى لبعض الفُضلاء قال: والله ما وقع في بالي، ولا خطر في ذهني أنَّ معنى هذه الآية الجِنّة الملائكة.

د:عبد الرحمن: أيْضاً في قوله في قصّة لوط هنا في سورة [الصّافّات] نرجع إليها يا دكتور في قوله {وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ {133} إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ {134} إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ {135}} ثمّ قال {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ {137} وَبِاللَّيْلِ} في هذا إشارة إلى أنّ قُرى قوم لوط، قرى معروفة عند قريش وعند العرب، وأنّهم كانوا يمرّون عليها مروراً كثيراً لدلالة قوله {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ {137} وَبِاللَّيْلِ} المعروف الآن أنّ قرى قوم لوط هي قريبة من البحر الميّت في فلسطين قرى معروفة كيف كان يمرُّ عليها العرب؟ وكيف كانوا

د: محمد: في الغوْر في [غوْر الأردن] المشهور.

د:عبد الرحمن: فما معنى قوله {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ {137} وَبِاللَّيْلِ} هل معناها المقصود بها الرّحلة الّتي كانت تقوم بها قريش إلى الشّام، وأنّهم كانوا يمرّوه على هذه المناطق ويعرفونها معرفة جيّدة؟

الشيخ محمد الخضيري: هذا الّذي يبدو من الآية .

د: مساعد: أيْضاً من الأشياء الّتي يُسْأَل عنها كثيراً قول الله سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {173}} قال بعدها {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {174} وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ {175} أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {176}} دائماً يسألون لماذا يتأخّر النّصر مع وعد الله سبحانه وتعالى لهؤلاء العباد بأنّهم منصورون؟ فهنا نقول أنّ هناك قضيّة مرتبطة بقَدَرِ الله سبحانه وتعالى، وأيْضاً قضيّة أخرى يجب أن تكون دائماً في ذهن المسلم وهي ارتباط الآخرة بالدّنيا؛ لأنّ كثيراً ما نقصِر الأمر في هذا على الدّنيا، النّصر نصر دنيوي، وهذا ليس بصحيح؛ لأنّ انتصار المبادئ هذا نوع من النّصر الكبير، ولهذا بعض الدّعَوات تجد أنّ صاحبَها مات، ولم يُنْتَصَر له في حياته ولا بُعَيْدَ حياته، وإنّما جاء فيما بعد مَن ينصُرُ دعوته وينشرُها، وتكون هي الدّعوة الغالبة.

د: محمد: خذ مثلاً قصة إبراهيم أو إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام قال {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} ولكن إبراهيم إلى اليوم كُلٌّ ينتسب له.

د: مساعد: نعم هذا مثال صادق.

د:عبد الرحمن: ننتقل إلى سورة [ص] يا أبا عبد الله.

د: محمد: أنا سأنقلكم طبعاً نقلة بعيدة في هذه السورة، في قصّة داود عليه الصّلاة والسّلام قال {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ {21}} الحقيقة يُشكِل على كثير من النّاس يعني لمّا قال الله عزّ وجلّ: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ {24}} ما هو الذّنب الّذي وقع فيه داود عليه الصّلاة والسّلام؟ لأنّ الله قال {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ {25}} فالّذي يظهر والله أعلم، وهذا ما رأيته من بعض المفسِّرين ومن شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين يُرَجِّحُهُ ممّا يظهر من سياق القصّة أنَّ داودَ عليه الصلاة والسّلام استعجل في الحكمِ بين الخصمَيْن حيثُ حكم بعد أن سمع من الخصم الأوّل، ولم ينتظر حتى يسمع من الثاني، وهذا الحقيقة فيه أعظم درس وعبرة للقاضي ومَن يحكم بين اثنين من مدرِّسٍ ومديرٍ ومشرفٍ وغير ذلك، أن يتأكّد من الكلام الّذي سمعه والأب والزّوج كثير، الأب يوميّاً يسمع أحد الأبناء ويقيم الحدّ على الثاني، حدّ التعزير طبعاً حدّ رفع الصوت أو الاتّهام أو غير ذلك. فالفائدة العظيمة في هذه القصّة هو أن لا يستعجل الإنسان في الحكمِ على أحد الخصْمَيْن؛ لأنّ كثيراً من النّاس يقول ما هو الذّنب الّذي وقع فيه داود عليه السّلام؟

د:عبد الرحمن: سبحان الله ! يعني سمّاه ذنباً؟.

د: محمد: أي نعم سبحان الله!

د: مساعد: وأيْضاً لاحظ ظاهر الآيات تدلّ عليه، لاحظ بداية القصّة لمّا قال {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ {20}} وهو القضاء، لمّا جاء أيْضاً الخصمان قالوا له {فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} فإذاً هي قضيّة حكم، إذاً لمّا حكم هو صلّى الله عليه وسلّم، بعدها قال الله سبحانه وتعالى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} فإذاً بداية القصّة تشير إلى القضاء، والقصّة كلّها مرتبطة بالقضاء، وتعقيبُ الله سبحانه وتعالى عليها مرتَبِطٌ بالقضاء، ممّا يدلّ على أنّ القصّة كلها مرتبطة بقضيّة القضاء.

د: محمد: في قوله {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} لم يرد في القرآن النّهي عن الهوى؛ لأنّه لا يمكن أن يُنهى عنه، لأنّ الهوى شيء غالب يعني يرد على قلب المسلم كلّ إنسان لا يتمكن من التخلص من هواه، لكن يُنهى الإنسان عن اتّباع الهوى، طبعاً المقصود باتّباع الهوى هنا ما يُضادّ الهدى.

د: مساعد:عندنا في قصّة سليمان عليه السّلام أمران: القصة الأولى مرتبطة بالفتنة، والقصّة الثانية مرتبطة بالنّعمة.

يعني عندنا فتنة لسليمان وهي فتنة الجسد، وفتنة الخيل. ثمّ بعد ذلك النّعمة الّتي قُوبِلَت بها هذه الفتنة وتلك في قوله {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ {36}} من باب الفائدة بعض العلماء يستشكل – طبعاً لا أريد أن أدخل في الفتنة الأولى فتنة الجسد؛ لأنّها مجمل القصّة واضح، نعم سليمان عليه السلام فُتِن بجسد، وعلِم بهذه الفتنة فاستغفر ربّه، وغفر الله له- لكن الّذي يحسُن أن ننتبه له في قضيّة فتنة سليمان بالخيل كان يحبّ الخيل، وكان يربِطُها للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، فمرّةً شغلته عن صلاة العصر، هنا أيْضاً نقول يحسن أن ننتبه إلى قدر الله سبحانه وتعالى في كونه قدّر على عبده هذا المحبوب إليه سليمان عليه الصّلاة والسّلام في أن ينشغل عن الصّلاة في طاعة من أكبر الطّاعات، بهذه النّعمة الّتي أُعطِيَها وهي الخيل، فعاقبها سليمان بماذا؟ بقتلها. بعض النّاس يقول: كيف يتلفها؟ فنقول أنّ الشّرائع تختلف فليس هناك إشكال أن يكون في شرعهم جوازُ ذلك، والدّليل على ذلك، نشير إلى ذلك: أنّه لمّا أتلفها؛ طاعةً لله في كونِها ردّته عن هذه الطّاعة، عوّضه الله سبحانه وتعالى بما هو أسرع منها بالرِّيح، ولهذا قال {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ {36} وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ {37}} مقابل فتنة الجسد الأولى الّتي ذكرها الله سبحانه وتعالى في بداية القصّة، فالله سبحانه وتعالى عوّضه لمّا استغفر من هذه الذّنوب عوّضه بتلك النّعم مقابلة لها.

د: محمد: في قوله: { حَيْثُ أَصَاب } يعني: قد يُشْكِل على بعض النّاس {أصاب] بمعنى من الصواب إنّما هي أراد؛ لذلك بعضهم يُبهِم في قوله (أصبت الصواب فأخطأت الجواب) يقول كيف أصبت فأخطأت؟ يعني أردت الصواب فأخطأت الجواب. في قول الله عزّ وجلّ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ {44}} هذه شهادة عظيمة جدّاً لأيّوب عليه الصّلاة والسّلام على صبره على البلاء الّذي امتدّ حتى طال جسده وأبناءه وأمواله، مُحِصّ في البلاء، ومع ذلك ما كان يذكر ولا يشتكي لأحدٍ من المخلوقين إنّما كان متوجِّه لربّه سبحانه وتعالى، ولذلك جاءت له هذه الشهادة أنّه أراد أن يكسب مثل هذه الشهادة فعليه أن يقتدي بالنبي أيوب عليه الصلاة والسلام.

د: مساعد: الحقيقة قصّة أيّوب وقضيّة الدّعاء من الأشياء الّتي تجعل الإنسان يتوقّف كيف قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ {41}} وفي آية أخرى قال {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83}} قال {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} مع أنّ الّذي قدّر ذلك مَن هو؟ الله، فهذا من تمامِ الأدبِ مع الرَّبِّ سبحانه وتعالى في أن لا يُنْسَبَ هذا الأمر إليه وأيْضاً أنّ هذا الإخبار هو في الحقيقة دعاء {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ما المراد إذاً؟ إذاً هو بطّن هذا الإخبار بالدّعاء في رفعِ هذا البلاء ولذا قال: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} في الآية تلك، وهنا بيّن الله سبحانه وتعالى كيف كان نجاؤه من هذا الابتلاء.

أيْضاً فائدة قبل أن ننتقل من قصّة أيّوب أنّه قد يقول قائل: كيف يكون هذا لنبيّ؟! سينفر منه النّاس سيحصل منه كذا وكذا، يقول: إنّنا نحن أحياناً، لمّا نأتي إلى ما يتعلّق بالأنبياء نضع عقولنا أمامَ النّصّ أمام هذه النّصوص، وهذا خلل ويوقع بلا شكّ يورِثُ خطأً جسيماً في أنّنا نفترض أن يكون النّبيّ كذا، فإذا جاءتنا النّصوص تخالف هذا الافتراض الذي افترضناه، تأولنا النصوص ليسلم لنا الافتراض، ونحن نقول لا، هذا موسى عليه السلام بنصّ الكتاب أن في لسانِهِ عقدة وقال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي {27} إذاً ليس من موانعِ النُّبُوّة أن يكون في اللّسانِ عقدة، بل المراد بها إيصال دعوة الله سبحانه وتعالى لتصل. كذلك أيّوب عليه السّلام كونه يُصاب بماله، بجسده، بأهله ليس في ذلك أيُّ غضاضة ولا أيُّ عيبٍ ولا أيُّ إشكالٍ في ذلك، فإذاً يلزم أن نُثبت ما أثبته الله عزّ وجلّ لهم، فسواء كان نفياً أو كان مُثبَتاً ما دام أخبر الله به فإنّنا نؤمن به.

د: محمد: تفضل يا أبا عبد الله.

د:عبد الرحمن: الأدب الّذي ذكره الدكتور مساعد من تأدُّب أيوب عليه الصّلاة والسّلام مع الله سبحانه وتعالى في الدّعاء قوله {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ذكّرني بقول إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام قال {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ {80}} فنسب المرض إلى نفسه، وأيْضاً في دعاء نوح عليه الصّلاة والسّلام تلاحظون عندما قال {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45}} ففيه تأدُّب، لا شكّ، وليس فيه تصريح إنّما هو

د: محمد: الجنّ أيْضاً {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا {10}}.

د: مساعد: فأظهروا الرّب.

د:عبد الرحمن: فهذا موطن بحث جميل الذي هو أدبُ الأنبياء مع الله في القرآن الكريم، كيف كانوا يتأدّبون في الدّعاء، ويتأدّبون في السّؤال، ولا شكّ أنّ هذا موطن اعتبار وقدوة عظيمة.

د: مساعد: أنا أذكر أحد الباحثين بحث ما أدري الآن هل هو انتهى أم أو قُبِلَت رسالته بحث هذه الفكرة جيّدة.

د: محمد: أسأل الله لنا ولكم التوفيق وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد.