برنامج بينات
الحلقة21
بينات – 1428هـ
د. الخضيري: الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله. اليوم معنا الجزء الحادي والعشرون. ونحمدُ اللهَ سبحانه وتعالى على أن انتهينا الآن من ثُلُثَيْ القرآن، نسأل الله أن يعيننا على إتمام ما تبقّى.
يبدأ هذا الجزء بقول الله عزّ وجلّ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت:46] الحقيقة هذه الآية نقول فيها وقفات:
إذا كان الله عزّ وجلّ أمرنا أن لا نجادل أهلَ الكتاب إلاّ بالّتي هي أحسن أي: بأحسَنِ ما يكون عندنا من أساليب الجَدَل، وألفاظ القول والكلمات؛ دلالة على أنّه ينبغي لنا عندما نعرض دعوتنا نعرضها بأفضل ما نملك، وهذا المعنى – يا أبا عبد الله – تكرّر كثيراً في القرآن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء:53] وخصوصاً في مقام المجادلة والمناظرة، فإنّه مقام تنازع وخصومة؛ فكلّما حسّنتَ الألفاظ، وطيّبتها، ورقّقتَها، وليَّنتها {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا}[طه:44] كان ذلك أدعى لِقَبول الخصم ورغبته في السّماع؛ لأنّ الآن بينه وبين استماع الحقّ حواجز وحجب كثيرة، فإيّاك أن تزيدَها بقوّةِ الألفاظ وصرامتها، وتنفيرها للمستمع من أن يكمل بقيّة المشوار في استماع المناظرة؛ فكونك تقول مثلاً: ألا تفهم؟ ألا تسمع؟ أين عقلك؟ هذه العبارات مع أنّها عبارات إذا نظرت إليها قد تكون سائغة، لكن ليست بالّتي هي أحسن.
لعلّي أذكر بعض المناظرات والمناظرات باب واسع، الحقيقة في مناظرات الخصوم من أهل الكتاب أو المبتدعة أو غيرهم، لكنّي أذكر مناظرة طريفة وقعت بين شخصين: مسلم، ونصراني.
قال رجل من النّصارى: من القسس في رجل من علماء المسلمين، أيُّهم أخيَر في نظرك: الإسلام، أم النّصرانيّة؟
فقال المسلم بكلّ اعتزاز – وهذا واجب المسلم دائماً يعتزّ بدينه – قال: بل الإسلام.
قال له النّصراني: كيف تقول الإسلام؟ وهذه حال المسلمين من الضّعف والذِّلَّة والتخَلُّف، والتّفرُّق والتّمَزُّق ضعف ذات اليد، وغير ذلك من الأحوال! انظر دول النّصارى دول فيها التّمكُّن والرُّقي والتطّوُر، فكيف تنسب الخيريّة إلى دين هؤلاء هم أهله؟
فقال: اسمع يا هذا! دينٌ لمّا تركه أهله تخلَّفوا أهو خير، أم دينٌ لمّا تركه أهله تقدموا؟! فنحن لمّا تركنا ديننا تخلّفنا، وأنتم لمّا تركتم دينكم ترقَّيْتم.
فَبُهِتَ النّصراني، ولم يحر جواباً، وكانت بأيسر ما يمكن وقاطعة للحُجّة والخصومة.
د.مساعد: من باب الفائدة في قضيّة المناظرات: أنا أُلاحظ أن المناظرات والمجادلات حاجتها إلى العقل أكثر من حاجتها إلى العلم، ولهذا أعرف واحد من الإخوة عندنا في الكُلِيّة – ما شاء الله – تخصّصه علوم، لكنّه دخل في مناظرات مع النّصارى ومع غيرهم، وقد شاركتُ مرَّةً في بعض المناظرات فكنت ما شاء الله أعجب لعقله! يعني قدرته في اقتناص الأدلّة والرّدّ على الخصم من مقالاته. استعان بي مرّة من أجل الكلام على النّسخ، فالجانب العلمي عندي والجانب العقلي عنده، فأنا كنت أُعطيه بعض القضايا في الجانب العلمي، وهو ما شاء الله يضيف عليها الجانب العقلي شيْئاً ما شاء الله، ما شاء الله يعني كان بالفعل اقتنعت، وأنا كنت أوّلاً أقول هذا، لكن خلال سماعي لهذه المناظرة الّتي كان يقوم بها، وكذلك أيْضاً لمّا أسمعه في بعض القضايا صار عندي قناعة بالفعل أنّك تحتاج بالمجادلات إلى العقل أكثر من حاجتك للعلم.
د. الخضيري: ومثل كذلك القضاء، القضاء أيْضاً يحتاج فيه إلى العقل والذّكاء؛ كحاجةِ الإنسان فيه إلى العلم، العلم جانب، لكن الجانب الأكثر في القضاء هو الفَهم، ومعرفة مَن هو المُخطِئ من المُصيب، ومَن هو صاحب الحقّ من غيره، بأدلّة قد يصل الإنسان إليها بعقله ونظره، وحسن فَهمه للقضيّة.
د.مساعد: قوله {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ {48}}، هذه الآية دار حولها جَدَلٌ كبير جدّاً، والصّحيح – والله أعلم – في هذا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان لا يكتب لا قبل نبوَّتِهِ ولا بعد نبوّته، ولإذا كان لا يكتب فهو أيْضاً لا يقرأ، وقد وردت إلينا آثار كثيرة، وهناك تحذيرات العلماء في هذا، لكن الّذي يحسُن التَّنَبُّه له أنَّ عدمَ قِراءتِهِ وكتابه صلّى الله عليه وسلّم كمالٌ له صلّى الله عليه وسلّم.
د. الخضيري: يعني ليست في مقام التّقليل من قدره
د.مساعد: أيْ نعم.
د. الخضيري: إنَّما هي بيان أنه بالفعل.
د.مساعد: إذا قلنا: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان أُمِيّاً فهذا في مقام مدح، الآن لمّا يقول لك واحد: كيف تقولوا محو الأُمِيّة، محو الأُمِيّة؟ يعني: نقول هذا مصطلح إن بُدِّل فجَيِّد، لكن معلوم ماذا يُراد به؟ ولا يلحق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منه ذمّاً؛ لأنّك تتكلّم عمَّن جاء بعده أما هو صلّى الله عليه وسلّم أنّه وصف الأُمِيَّةِ بالنِّسبة له كمال.
د. الخضيري: الأُمِيّة لا تعني الجهل، ولذلك نحن نقول إذا فُصِلَ عن هذا المعنى، الإشكال فيها يسير. لكن نقول لو قُصِد بها الجهل لكان مُخالِفاً لمعنى الأُمِّيَة.
د. عبد الرحمن: وكلمة الأُمِّيَّة في اللّغة مأخوذة من الأُمّ كأنّه لم يتعلّم شيْئاً منذ ولدته أمّه فهذا المقصود بالأُمِّيّة. لكن كوْنها كمال في حقّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلمّ وهي في الحقيقة في أصلِها صفة نقص عندما يوصَف الإنسان بوصف الأُمِّيَّة أنّه لا يتعلّم شيْئاً منذ ولدته أمّه كالقراءة والكتابة والعلم في هذا الجانب؛ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد جاء بهذا القرآن، فلو كان يقرأ وكتب ويُحْسِن القراءة والكتابة والاطّلاع على الكتب السّابقة لكان هذا مَدْخَلاً لإيراد الشّبهة ويقولون هذه أخذتها من الّذين من قبل، لكن كونه عليه الصّلاة والسّلام لم يقرأ ولم يكتب، ولا يخطّ؛ كما قال الله {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ {48}} الّذين يريدون أن يبطلوا هذا الدين وهذا الحقّ الّذي جئت به، فلا شكّ أنّ كون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يأتي بهذا القرآنِ العظيم، ويأتي بالعلم الغزير في السُّنّة، وهو لم يقرأ ولم يكتب، ولم يسافر حتى عليه الصّلاةُ والسّلام تلك الأسفار الواسعة الّتي يكتسب منها تلك المعارف، لا شكّ أنّها دليل قاطع على أنّه وحي يُوحى.
د.مساعد: أيْضاً قوله – لو تكرّمتم – تتمّة للآية قال {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} لمّا قال {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ} {بَلْ هُوَ} أي هذا الكتاب {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهذا إشارة إلى موعد حفظ الأول الّذي الحفظ في القرآن، والحفظ في الصّدور، وهناك قاعدة مهمّة جدّاً يحسُن أيْضاً بمَن يُجادل خاصّة مَن يجادل المستشرقين أو غيرهم أن ينتبه لها وهي أنّ: الأصل في هذا القرآن الذي بين يدينا هو المحفوظ، وأن المسلمين في بداية أمرهم كانوا ينطلقون بالمحفوظ ولا ينطلقون بالمرسوم. فأي شُبَه تأتي من جهة رسم المصحف أنّ هذه الكلمة يمكن أن تُقْرَأ بكذا وجه، وأنّ فلان قرأ كذا وأخطأ هذا كلّه ليس بصواب، لأنّنا لا ننطلق أوّلاً من المرسوم، إنّما ننطلق من المحفوظ الّذي قال عنه الله سبحانه وتعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} .
د. الخضيري: هذه الآية يستدلّ بها بعض أهلِ العلم واستدلالهم في مكانه على تفضيل مَن يحفظون القرآن حيث جعله من أهل العلم، ولكنّي أقول استدراكاً: ينبغي أن يُعْلَم أنّ حفظ الألفاظ مجرَّداً ليس هو المُؤهّل أن يكون الإنسان من أهل العلم حتى يكونَ هذا المحفوظ بيِّناً لأنه قال {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} وهذه فيها فضيلة فَهم القرآن وتدبُّرِه، أن يفهم القارئ أو الحافظ كلام الله حتى يكون من أهل العلم، وبالفعل الشّخص إذا فَهِمَ كلام الله صار من أهل العلم، أمّا إذا حفظ الكلام، ولم يفهم منه شيْئاً صار مثله مثل الشريط الّذي أيْضاً يحفظُ الكلام حِفظاً أقوى من حفظ الإنسان له، فإنه لا يكون بذلك من أهل العلم.
وأقول أيْضاً: ورد في صحيح البخاري فسّر بعض السّلف: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قال: ” البيِّنات يعني: السنّة ” فكأنّه الّذي جمع بين القرآن والسّنّة يكون من أهل العلم؛ لأنّ السّنّة بيانٌ للقرآن، وإيضاحٌ له، فكلّ ما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إنَّما هو بيانٌ لِما أُنزِلَ من القرآن،
د. عبد الرحمن: وقوله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} يحتمل معنيين:
تحتمل: أنّها آيات واضحة وبيِّنة في نفسِها لِمَن أراد أن يهتدي، ولذلك قال في السّورة {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} فكون الكتاب في حدّ ذاته بيّنة ومعجزة واضحة.
د. الخضيري: نعم.
د. عبد الرحمن: وأيْضاً تحتمل المعنى الّذي ذكرته {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أي واضحات وظاهرات المعاني، وأنّه لا يتحقّقُ الإعجازُ بها إلاّ إذا اتضح معناها.
د. الخضيري: في قول الله عزّ وجلّ {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} الحقيقة هذه طبعاً دلالة على مشروعِيّة الهجرة عندما يُضيَّق على الإنسان في دينه، وأنّه لا يجوز للمسلم أن يبقى في أرضٍ لا يستطيع أن يُظْهِرَ فيها دينه، وهكذا كلّ أرض في أيِّ زمان إذا لم يستطع المسلم أن يُظهِر فيها دينه وجب عليه أن يُهاجر كما هاجر أبو الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وهو أوّل مَن سَنَّ الهجرة، وأيْضاً في هذه السّورة قال {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}[العنكبوت:26]، وهنا جاء وقال {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ{56}} المقصود أن تعبدوني وحدي في أيِّ مكان، ولذلك بعض النّاس الآن يقول يستحِبّ أن يهاجر إلى دول الكفّار، فنقول: إنّ الهجرة إلى دول الكفّار لا تحلّ لِمَن لا يستطيع أن يُظهِرَ دينه، أو لا يكون له مقصود صحيح من هذه الهجرة وهو في الوقت ذاته يستطيع إظهار الدّين.
د.مساعد: قوله سبحانه وتعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} ثمّ قال {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {58}} قد يقع السّؤال: مَن هم العاملون؟ فجاء الجواب في الآيّة الّتي بعدها {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{59}} وهذا نوعٌ من أنواع البيان القرآني للقرآنِ نفسِه الّذي يُسَمى عند العلماء: تفسير القرآن بالقرآن. وهذا من أصرح وأوضح الأمثلة الّتي تأتي في بيان القرآن للقرآن ولا يحتاجُ إلى اجتهاد لوضوحه؛ لهذا فالمقام ليس مقام اجتهاد.
د. عبد الرحمن: تفسير قطعي هذا.
د.مساعد: تفسير قطعي، واضح أنّه قال: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {58} الَّذِينَ} فهذا وصف. وذكر من وصف العاملين: الصّبر والتوكّل، ويبدو والله أعلم لو تأمّلنا نجد أنّ الصّبر والتوكّل، هما المقامان أو الرّكنان الأساسِيّان للبقاء على العمل يعني لاستمرارية العمل، يصبر الإنسان ويتوكّل على الله سبحانه وتعالى.
د. الخضيري: يعتمد عليه ويفوّض الأمور إليه. في قوله {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} يتّصل بعض النّاس يسأل يقول: كيف الدار الآخرة هي الحيوان؟ النّاس لا يفهمون معنى كلمة الحيوان إلاّ هذه الماشية الّتي تدب على الأرض، الدّوابّ الّتي تدبّ على الأرض كالأُسود والفهود والنّمور وغيرها. أنا أقول: لا، الحيوان المقصود بها الحيّ، أو الحياة الكاملة التّامّة، ولذلك قال {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} يعني على كلّ ما فيها من المتاع، وكلّ ما فيها من الزّينة، كلّ ما فيها من اللّذّة والشّهوة هي لا تُعَدّ أن تكونَ لهْواً ولعِباً إلاّ مَا أُريدَ به وجه الله.
د.مساعد: ولهذا المغايرة هذه لها مقصد لمّا قال {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ} ماذا؟ {الْحَيَوَانُ}
د. الخضيري: الحياة التّامّة الكاملة لا نقصَ فيها بوجهٍ من الوجوه، وفيها اللّذّة الكاملة يُعْطى المؤمن فيها قوّةً مئة في الطّعام والشّراب والجِماع، فيستمتع استمتاعاً كاملاً، وليس فيها كَدَر بوجهٍ من الوجوه {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا {25}[الواقعة:25] حتى من حيث السّماع الّذي هو أخفّ الأشياء على
د.مساعد: أنا أذكر الشّيخ بن عثيمين رحمه الله في مثل قوله {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {17}[الأعلى:17] لا أذكر لكنّه قال: أربع قضايا في هذا الأمر قال: المكان، والزّمان، والكميّة، والكيفيّة. فالآخرة خيرٌ وأبقى في المكان، وخيرٌ وأبقى في الزّمان، وخيرٌ وأبقى في الكميّة، وخيرٌ وأبقى في الكيفيّة، وهذا هو الكمال والتّمام، ولهذا كما يقول الله سبحانه وتعالى: خلُودٌ فَلا موْت. وهذه يتحقّق فيها النّعيم الدائم الّذي لا ينقطع، ولا يتصوّر انقطاعه إطلاقاً، فهو دائمٌ ومستمرّ، وهذه لا شكّ أنّها من نعم الله سبحانه وتعالى الكبرى على مَن يُوَفِّقه الله سبحانه وتعالى للإيمانِ به، وللفوزِ بجنّته، ثمّ بعد ذلك الفوز الأعظم لرؤيته سبحانه وتعالى.
د. الخضيري: قوله (لهو ولعب) يسأل بعض النّاس الفرق بينهما.
فنقول: اللّهو: ما يُشغِلُ القلب أي: ما يتلهّى به الإنسان بقلبه. واللّعب: ما يشغِلُ البدن.
وبالأمس كنتُ أُطالع بــــ [التّحرير والتّنوير لابن عاشور] وهو يتحدث عن اللهو ذكر فيه معنى جميلاً، قال: (ما يتلهّى به الفارغ؛ ليُقَطِّع به وقت البطالة، أو ليُقَلِّلَ به وقت البطالة) سبحان الله! لاحظ الذي عنده بطالة حتى لا تشغلُهُ هذه البطالة وتثقُل عليه يتلهّى بشيء، يبحث عن شيءٍ يقلِّل به وقت البطالة، قلت هذا التّعبير في الحقيقة في غاية النَّفاسة.
د.مساعد: ولهذا يقولون نقتل الأوقات.
د. عبد الرحمن: الله أعلم اللّهو واللّعب إذا اجتمعا يتحقّق فيهم الفرق هذا، فإذا انفصل عنه أحدهما دلّ على الآخر.
د.مساعد: لو تكرّمتم فقط آخر آية فيها قضيّة، لفتة جميلة قال {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69}} هذه الحقيقة الآية قد تكون نبراساً للمسلم في كلّ عمل، وينظر هل هو لمّا أراد بالفعل أن يعمل هذا العمل جاهد لكي يُهْدى؟ قال {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69}} نحن أحياناً نكون أصحاب ادّعاء نريد أن نصل إلى الهداية دون أن يكون عملنا العمل التّام، ولا يمكن تحقّق الهداية إلاّ بتمام العمل.
د. الخضيري: أيْضاً هنا مَلْحَظ مع أنّنا ما استطعنا أنّنا نصل إلى أوّل سورة العنكبوت ذكر ابن القيّم كلمة جميلة قال: (سورةُ العنكبوت أوَّلُها: فتنةٌ وابتلاء وأسطُها: رحمة وآخرها: هداية ) والهداية في هذه الآية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ} ولا يُهْدى الإنسان إلاّ بعد أن يُمَحَّص ويُفْتَن وهو صارمٌ في ديانته صحيحُ الإيمان أو ليس كذلك. تفضّل يا أبا عبد الله.
د. عبد الرحمن: لاحظوا في آخر سورة العنكبوت عندما قال الله سبحانه وتعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69}} وطبعاً هذه السّورة سورة مكيّة نزلت في آخر العهد المكّي. يعني العلماء الّذين كتبوا في علوم القرآن، وتكلّموا عن أسباب أو عن ترتيب سور القرآن الكريم من حيث النّزول يذكرون أنّ آخر السّور الّتي نزلت في مكّة العنكبوت، وبعضهم يضيف بعدها المطفّفين، ثمّ هاجر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك. وهذه المرحلة، وسورة العنكبوت ورد فيها شيء من ذكر الجهاد، وشيء من ذكر المنافقين أيْضاً تقدِمة لما سوف يحدث في المدينة بعد ذلك. سورة الرّوم قد نزلت قبلها، لكن تُلاحظون في أوّل سورة الرّوم يذكر الله سبحانه وتعالى أمور على القتال والغَلَبة والجهاد والمُحاربة؛ كأنّها إرهاص لِما سوف يحدث الآن في المرحلة القادمة من الجهاد فقال الله سبحانه وتعالى {الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3}} فهذه السورة نزلت في مكّة قبل الهجرة، ولم يتحقّق ما فيها من الوعد إلاّ بعد الهجرة فما وقعت الغلبة للرّوم على فارس إلاّ بعد هجرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكان استبشار المسلمين بذلك؛ لأنّ الرّوم أهل كتاب، فهم أقرب من المشركين والفُرس، وهذا هو سبب الاستبشار.
د. الخضيري: الأديان النازلة من السماء على أديان الأرض الشركيّة. الغريب في الأمر حينما وجدت البقاعي ذكر سرّاً بديعاً ويحتاج إلى تأمُّل الحقيقة في وجه الصِّلة الحقيقة في القرآن كلّه؛ فكأنّه يقول: (إنّ سورة الرّوم هي آخر سورة في الثّلُث الثّاني من القرآن) لاحظ المعنى، يقول: (الثُّلُث الأوَّل ينتهي بسورة التوبة، والثُّلُث الثّاني ينتهي بسورة الرّوم، وسورة التوبة كانت في غزو الرّوم، وسورة الرّوم في بيان في غلبة الرّوم ثمّ بعد ذلك سيأتي بغلبته لأهل الإيمان عليهم طبعاً. ذكر بعد ذلك قال: (أنّ هذا يدل على الكتاب مثاني تُثنى فيه الوُعود والأخبار والأحكام بطريقة عجيبة لو تأملها الإنسان لوجدها حقّاً على غاية من الدِّقّة والإحكام ) يقول البقاعي: (أنّ الله عزّ وجلّ لمّا أنزل في أوّل القرآن { الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2}} بيّن الأحكام والأوامر لأنّه هدى للمتّقين الّذين يعملون بأوامر الله قال: ما زال يُبَيِّنُها حتى وصل إلى آيات الجهاد وغزو الرّوم في غزوةِ تبوك الّتي نزلت فيها سورةُ [براءة]، ثمّ بدأ بعدها يقول: الثّلث الثّاني في قوله {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {1}} هي ذكر لأحكام الكتاب في سورة [يونس] قال: ومثلُ ذلك أيْضاً ما زالت هذه الحكمة تتوالى في هذه السور حتى خُتِمَت بهذه السورة سورة الرّوم، الّتي ذُكِر فيها غزو الرّوم، الأولى غزو الرّوم، وهذه فيها أيْضاً غزو الرّوم، ثمّ جاء بعدها {الم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {2}} [لقمان] ذُكِرَت فيها الحكمة حكمة هذا الكتاب يقول على نحوٍ أدقّ لأن فيها هداية ورحمة قال { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ {3}}
د. عبد الرحمن: لاحظوا في قوله: {غُلِبَتِ الرُّومُ {2}} أنّ الذّي غُلِبَ جيش صغير من جيوش الرّوم أمام فارس، عبّر عن غلبةِ جيش الّذي يُمَثِّل هذه الأُمّة من النّاس أنّها غُلِبَت كلُّها قال: {غُلِبَتِ الرُّومُ {2}} لأنَّ الّذي يُمَثِّلُها في هذه المعركة قد غُلِب.
د.مساعد: وأيْضاً من لطائف القرآن لمّا قال: {غُلِبَتِ الرُّومُ} لم يقُل: غلبت فارسٌ الرّوم، يعني: بُنِيَ الفعلُ للمفعول كأنّه احتقاراً لهذا الغالب لهذا الغالب مَن هو؟ ولهذا يُعِدّونه من أسباب بناء الفعل للمفعول، يُسمّى الفعل المبني للمجهول، فيُعَدُّ من أسبابه-احتقار- الإعراض عن ذكره لحقارته، فلا يبعُد أن يكون ذلك من المقاصد.
د. الخضيري: في قوله {غُلِبَتِ الرُّومُ} الحقيقة أنا أقول فيها أمران مهمّان ينبغي على طلاّب العلم والدُّعاة إلى الله عزّ وجلّ أن ينتبهوا لها، وهي: أهميّة الوعي في حياة المسلم؛ مع أن المسلم يتعبّد الله يصلّي يقرأ القرآن ويصوم، لكن لا ينبغي له أن يكون غافلاً عمّا يدور حوله، فهؤلاء يعيشون في مكّة لا صلةَ لهم بغلبةِ فارس على الرّوم والرّوم على فارس، ولكن من أجل أن يكونوا حاضرين في هذه الأحداث ويتّخذون موقفاً ويعرفون كيف يتصرّفون، ويحدّدون أيْضاً اتّجاههم وعلاقاتهم السّياسيّة، هذه الأمور مهمّة جدّاً للدّعاةِ إلى الله عزّ وجلّ، ولأهل الإسلام، وأنا أقول أُتِيَ المسلمون في الأزمنة المتأخّرة من هذه الجهة جهة أنّهم صاروا يعيشون، يعني أحوالهم الخاصّة ولا يبالي أحدٌ منهم حتى بأهل الإسلام في المناطق المجاورة ولا يُبالي أحدٌ منهم بأهل الإسلام والمناطق المجاورة فضلاً عن أعداء المسلمين، ضعف الوعي لا شكّ أنّه يناقض أتمّ المناقضة للحال الّتي يكون يجب عليها أهل الإسلام.
ثمّ أيْضاً ممّا ينبغي أن يُستفاد من هذه الآيات: هو أنّ هذا الوعي يجب أن يُتَّخَذ وسيلة للتّخطيط، يعني أنا أعرف كيف أتصرف مع من حولي إذا عرفت الواقع الّذي يعيشه النّاس، وبعض النّاس يظنّ أنّ هذا الأمر فضلة وأنّه أمر لا أهميّةَ له، أو تضييع وقت، انظر إلى الهدهد هدهد سليمان كان عنده علم بالحال الّتي عليها النّاس، ولذلك لمّا طار ورأى ناساً يعبدون الشّمس من دون الله، ويعظّمون ملكتهم بلقيس جاء نذيراً إلى سليمان قال: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ {22} إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}[سبأ:22-23] فذهب وصار داعية لأنّه اطّلع على واقع يحتاج إلى دعوة، وهدى الله أُمَّة بسبب هدهد، أنا أقول الآن: اليوم الهدهد خير من كثير من النّاس الّذين لا يأبهون بما عليه دينهم ولا بما عليه النّاس ولا يرفعون الجهل عن الخلق، ولا ينشرون هذا الدّين في آفاق الأرض -نسأل الله العافية والسّلامة-
د.مساعد: قوله سبحانه وتعالى {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ} الّذي يُفْرَح به الآن نُسِبَ إلى الله سبحانه وتعالى، وهو نصر الرّوم على فارس وقال الله: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ} ثمّ قال: {يَنصُرُ مَن يَشَاء}، لكن حقيقة أيْضاً لفتة في أنَّ الله سبحانه وتعالى نسب هذا النّصر له، وهذا فيه نفس القضيّة الّتي ذكرناها قبل قليل في أنَّ الفرح بانتصار أهل الكتاب مع أنَّنا مقتنعون بأنّهم على باطل هذا من المطالب الشّرعيّة، وهو منصوص عليه بالكتاب ولذا لا بُدّ من الموازنة في مثل هذه الأمور؛ لأنّه قد يأتيك إنسان لو حدث مثل هذه القضايا، وفرحتَ بشيْءٍ من الأُمور الّتي قد تكون بين أهل الكتاب وبين الوثنيّين، قد يقول قائل هذا مخالف لعقيدة الولاء والبراء، أو لماذا أو أو إلخ ولهذا هو لو اطّلع على مثل هذه الدّقائق الّتي نصَّ الله سبحانه وتعالى عليها.
د. الخضيري: هذه من فوائد السورة، لأن السّورة فوائدها منهجيّة وليست مجرّد خبر أنَّ الرّوم غُلِبَت، هذا خبر، لكنّه يراها هذه المقاصد المهمّة الّتي ذكرتموها قضيّة أن يكون المسلم على وعي فعلاً بواقعه، وأن يقرأ وأن يطّلع وأن يكون على بيِّنة.
الأمر الثاني: كما ذكر الدّكتور قضية أن يكون مكان العبرة والاتّعاظ بهذا.
د.مساعد: أيْضاً بودّي أن ينتبه القارئ إلى نفس الآية بعضهم يقول {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ} يوم بدر، وهذا الحقيقة السّياق لا يعطيه؛ لأنّ السّياق يتكلّم عن غلبة الرّوم على فارس، والسورة مكيّة، فلاحظ الحدَث قال {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} يعني يوم يغلِب يفرح المؤمنون بنصرِ الله لأهلِ بدرٍ على الكفّار. فنقول: هذا المعنى بعيد، ولكنه يمكن أن يكون ممّا تُشير إليه الآية، لكن المقصد الأوّل فيها هو الفرح بنصرِ الرّومِ على فارس.
د. عبد الرحمن: في قوله سبحانه وتعالى: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} {غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3}} مع أنّ أهل التفسير يقولون: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} يعني: في أدنى أرض للرّوم من أرضِ فارس، ونحن نقول: أدنى يعني: أقرب. الآن يقولون فيمَن يكتبون في الإعجاز يقولون: أنّهم اكتشفوا أنَّ أخفض بُقَعة في العالم الإسلامي هي منطقة [غور الأردن] وما حولها، ويستدلّون بهذه الآية؛ لأنّ الله يقول {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} على أنَّ أدنى يعني: انزل وأخفض. هل هذا اللّفظ يُؤدّيها؟
د. مساعد: هذا من الغرائب الحقيقة لأنّ الآن أدنى تُقابل ماذا؟ الأبعد الأقصى، والغور والعمق لا يقابله إلاّ الأعلى، فهذا الحقيقة أنا أعدّه من التّمحُّل في إرادة استكشاف قضيّة مرتبطة بما يُسمّى بالأعجاز العلمي وهو هذا خروج عن أساليب اللّغة ومفرداتها، ولسنا بحاجة لمثل هذا التّكَلُّف فيه لسنا بحاجة له.
د. الخضيري: في قوله عزّ وجلّ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {21}} فأنا أقول: هذه السورة سبحان الله سورة التفكّر يعني انظر حتى في بداياتها {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} لاحظ كلّها أمر بالنّظر والاعتبار والتّفَكُّر والتَّأمُّل، فلاحظ هنا قال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} بالفعل عندما تتفكّر تجد أنَّ العلاقة بين الزّوجيْن أمرٌ يَدْعو إلى التّفَكُّر، وأنَّهُ بقليل الفكر يُهتَدى إلى حكمةِ الله البالغة في هذا الاشتباه، تأمّل يا أبا عبد الله أنَّ الإنسان إذا جاء يتعرّف على إنسان أجنبي عنه قد يجلس اليومين والثّلاثة والأربعة بل حتى أحياناً يُصاحبه الأشهر، وهو لا يعرف بعض دقائقه، ولا يركن إليه، ولا يعتمد عليه، ويستحي منه في بعض الأشياء. والزّوجان منذ أن يلتقِيا سبحان الله! يذهب كثير من هذه الحواجز في العلاقة من أوّل ليلة، ألا تَعْجَبون كيف الارتباط التّام بين الرّجل والمرأة يتمّ بهذه الصّورة؟! هذه آية من آيات الله، لو تأمَّلَها الإنسان لهدته إلى ربّه سبحانه وتعالى. ثمّ قال {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} أنا أقول: لمّا جمَعَهما في هذا الجمع يعني عجيبة؛ لأنّ العلاقة لا تخلو إمّا أن تكون مودّة ومعها الرّحمة؛ لأنّه إذا جاءت المودّة جاء معها الرّحمة، أو تكون رحمة قد لا يودّ أحدهما الآخر إمّا المرأة لا تودّ الرّجل، وإمّا الرّجل لا يودّ المرأة، لكن تبقى الرّحمة، فكأنّ الرّبّ سبحانه وتعالى يُشير إلى أنَّ العلاقة الّتي ينبغي أن تكون بين الزّوجَيْن تدور بين هذيْن المعنيَيْن، إما المودّة ومعها طبعاً يتبعها الرّحمة، أو الرّحمة، ولذلك هذا يحصل كثيرا في حياة الزّوجين في أوّلِ حياتِهما تكون مودّة ورحمة يعني: بينهم حبّ وبينهم إلف، ثمّ مع الأيام والمشاكل والإحَن والبلايا قد تضعُف المودّة، لكن تبقى الرّحمة، مثل إذا كبِرَ الزّوج أو كبرَت المرأة كأن رجل يقول: ما الّذي يجعلك تبقى مع هذه المرأة الكبيرة والعجوزة؟ يقول: هي أمّ أولادي وبيني وبينها عيش وملح فهو يرحمها؛ علماً بأنّه لا ينتفع منها بشيء.
د.مساعد: يا شيخ محمد تخيفُ مَن يسمعك الآن.
د. الخضيري: أو المرأة أيْضاً قد تكون امرأةً شابّة وزوجها كبير فتقول لها لم لا تطلبين الطّلاق وتتخلّصين من هذا الرّجل فتقول: لا لي منه ولد، وأنا أرحمه قد رقّ عظمه وكبُر سنّه فما يليق بي، تبقى الرّحمة سبحان الله! .
د.مساعد: وهذا مع الأسف أنّ كثير من النّاس إذا فقد الأوّل نزع من نفسه الثّاني.
د. الخضيري: نعم وهذا غير صحيح.
د.مساعد: وهذا غير صحيح، المُفْتَرَض للمسلم الّذي يتدبّر كلام الله سبحانه وتعالى أن يكون على خبرٍ من هذه الآية {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإن لم توجد المودّة فعلى الأقلّ تبقى الرّحمة.
د. الخضيري: في الطّلاق الآن عند كثيرٍ من النّاس إذا حصل مشكلة بين الزّوج وامرأته، بين الرّجل وامرأته، تجد الرّجُل إذا طلّق خلاص مسح بالمرأة الأرض، أخرجها من البيت ذليلة صاغرة ليس معها شيء حتى من المتاع الّذي تملكه، ثمّ رماها عند أهلها وآذاها، ولم ينفق عليها مع أنّها في العِدّة مع أنه واجب عليه، ولم يعترف لها بالمتعة الّتي أوجبها الله عزّ وجلّ على المطَلِّقين، وتركها هكذا من أجل أن تذلّ أمامه. أين الرّحمة يا أخي؟! بينكم عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة من العيش يذهب كلّه في لحظة غضب أو لموقفٍ معيّن؟! ما يليق، إذا ذهبت المودّة تبقى الرّحمة طلّق بإحسان؛ كما أنّك لما أمسكت أمسكت بإحسان أيْضاً إذا فارقت فارق بإحسان، وهكذا عند بعض النّساء، عندما يُطَلِّقُها زوجها ما تدع خصلةً من خصال السّوء إلاّ وصفت به زوجها، وما تدع نقيصة إلاّ ألحقتها به، وهي ظالمة له في ذلك، ونسيَت كلّ المعروف والخير والبِرّ والإحسان الّذي كان منه بموقف أو لأنّه طلّق أو لأنّه أساء إليها أو ضربها أو غير ذلك!.
د. عبد الرحمن: في قوله سبحانه وتعالى في هذه السورة {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {27}} يسأل كثير من السّائلين عن قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} يعني عندما يقول الله سبحانه وتعالى أنَّ الإعادة أهون من البَدْء، استخدام أفعل التّفضيل دائماً يدلّ على أنّه هناك شيء هيّن وهناك شيء أهون، وهناك شيء صعب مثلاً وهي في حقّ الله سبحانه وتعالى كلّها سواء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82}[ يس:82]، لكنّ هذا القرآن جاء جارِياً على عادةِ العرب في كلامهم عندما يقول {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} لا شكّ عقلاً أنّ الإعادة أهون من البدء، الّذي قدر على الخلق من العدم فهو قادرٌ على الإعادةِ بعد الموت والإحياء بعد الموت، وهذا الأُسلوب مُسْتَخْدَم في القرآن الكريم كما في قوله سبحانه وتعالى {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }[الأنعام:124] هل معنى “أعلم” أنّ هناك موازنة بينه وبين خلقه في العلم، لا مجال للموازنة، وإنّما أفعل التّفضيل جاء هنا على غير بابه على كمالِه.
د.مساعد: من باب المثاني نلاحظ أنّه قبل في الآية العاشرة قال الله عزّ وجلّ {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {11}} وهناك ذكر الخلق والإعادة في آية مهمّة لو فقط سابقة نرجع إليها إذا تكرّمتم التي هي آية 6 وآية 7 لمّا قال {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {6}} فنفى عنهم العلم، ثمّ قال {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ {7}} فهذا الحقيقة نقول: يحسن بالمسلم أن يتأمّلها ويتدبّرها لماذا؟ لأنّ المسلم قد يُفْتَن فيما يراه من التّقَدُّم الّذي حصل للغربِ والشّرق، ولا يشعر بما عنده من العلم الحقيقي الّذي هو المكسب الأكبر، وهو العلم بالآخرة، قبل قليل قلنا إنّه أفضل من الدّنيا بالجهات الأربع: بالزّمان والمكان والكميّة والكيفيّة. فالّذي يُفَضِّل الشيْء الزّائل على الشيء الباقي، أو الّذي يجهل بالشيء الباقي ولا يعلم من الشيء الزّائل لا شكّ أنّه جاهل جداً! خذ مثالاً وإن كان من باب تقريب الصورة: مثلاً يرجل يدخل عند قوم ويعرف عادتهم أنّهم يقدّمون من الطّعام شيْئاً خفيفاً، ثمّ بعد ساعة يُقْدِمون على خيرٍ وفير، فهذا يعرف هذه العادة فيأكل قليلاً وينتظر ما هو أفضل، والإنسان لأوّل مرّة يدخل فيرى هذه الأشياء فيتوقع أن هذا كلّ شيء، فماذا يصنع؟ يأكل حتى يشبع وبعد ما يقال تفضلوا للطّعام يصاب بالحسرة! تقريب المثال إلى أنّ الله سبحانه وتعالى كيف نفى علماً ثمّ أثبت علماً، ثمّ نبّه على سبب ذلك قال {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ {7}}.
د. عبد الرحمن: والمشكلة في خُلُق الإنسان سبحان الله! الاستعجال؛ لذلك عندما قال {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ {20} وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ {21}[القيامة:20-21] الإنسان كما قال المتنبّي يقول:
إنّي لأَرْجو منك بِرّاً عاجِلاً والنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ العَاجِلِ
الإنسان طُبِعَ على هذا، لكنّ المؤمن؛ لأنّ الله قد علّمه وكشف له ما لم يكشف لغيره في هذا القرآن يعلم أنَّ الآخرة خير وأبقى، ولذلك كما قال الله في سورة الضّحى للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قال {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى {4}[الضحى:4]؛ لذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يحرص على الدّنيا. ومع حاجته عليه الصّلاةُ والسّلام فقد عاش يعني حياةً كفافاً، كان إذا جاءه المال الوفير أنفقه حتى كان يتسامع به شيوخ قبائل العرب فيقولون أنّه يعطي عطاء من لا يخشَ الفقر؛ لأنّه عليه الصّلاة والسّلام قد عرف أنّ الآخرة خير وأبقى، وأنّها خير من الأولى. هذا تعليق على قول الدّكتور فعلاً على كون الإنسان
د. الخضيري: في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فنقول هذه السّورة لمّا كانت سورة التأمُّل والتّفَكُّر لبيان وحدانيّة الله وانتظار موعود الله عزّ وجلّ، دلّل على ذلك بأنّ هذا الّذي تُدَلّون عليه أو تهدَوْن إليه هي الفطرة المركوزة في النّفوس، يعني كما أنّ العقل يدلّ عليها، والآيات الشّاهدة أيضا تدلّ عليها.
أيْضاً الفطرة قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “مَا مِنْ مَوْلُدٍ يُولَدُ إلاّ على الفطرة فأبواهُ يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانِه” ثمّ ذكر مثالاً بالبهيمة لمّا تُنتَج جَمعاء هل تجدون فيها من جذعاء؟ يعني عندما تخرجُ من بطنِ أُمِّها تخرج وهي كاملة الخلق، فيأتي النّاس فيقصّون أُذنها أو يشقّونها أو يكوونها أو يفعلون بها شيْئاً من الأفاعيل فيغيرونها، كذلك ابن آدم عندما يولد يولَد وهو يوحّدُ الله عزّ وجلّ وفيه إيمان أصلُ الإيمان موجود، لكن يأتي البشر فيُغَيِّروا هذه الفطرة فنقول لهم الله مُحتَجّاً عليهم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فطر النّاس كلّهم ليس أهل الإسلام، بل كلّ إنسان مفطور على التوحيد، لكن تأتي هذه المُغَيِّرات.
د.مساعد: كي لا يأخذنا الوقت؛ لأنّ الوقت بدأ ينتهي. في سورة لقمان تبقى فيها لفتة لطيفة جدّاً فيما يتعلّق في تفسير النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسّر آيتين من سورة الأنعام، وهي مكيّة بآيتين من سورة لقمان وهي مكيّة. في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}[الأنعام:82] لمّا سأل بعض الصّحابة عن معنى الظّلم قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا لقول العبد الصّالح {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13}}
والآية الأخرى عند قوله سبحانه وتعالى {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}[الأنعام:59] قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ” مفاتح الغيب خمس وذكر هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} .
د. الخضيري: هذا يُؤكّد أنّ القرآن مثاني.
د.مساعد: نعم، وأنا لم أجد من خلال تتبّعي لم أجد تفسيراً للقرآن بالقرآن في سنّةِ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير هذين المثالين، لم أجد غيرهما. هذه دعوة للسامع لعلّه يجد؛ لأنّ أنا الحقيقة تتبّعت وحرصت على التّتبُّع هذا فما وجدت غير هذا في الأحاديث الصحيحة.
د. عبد الرحمن: أنا أُشير إلى معنى في قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} فالله سبحانه وتعالى امتنّ على لقمان بأنّه قد آتاه الحكمة وأمره بالشّكرِ على هذه النّعمة، وأنا أقول للإخوة الّذين يقرأون هذه السورة: أنّ هذه السورة في حاجة إلى تأمُّل وتدبُّر في سورة لقمان الحقيقة، الآن الوقت ضيق لا نريد أن نتكلّم بكلّ ما فيها لكن فيها في كلّ آيةٍ منها حكمة منطوية فيها، وقد جُعِلَت قصة لقمان مثالاً على هذه الحكمة الّتي آتاها الله لقمان، ثمّ انظر إلى وصاياه لابنه، ولذلك يقولون عنه لقمان الحكيم، وفي وصاياه الّتي أوصى بها ابنه أعظمها {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} الآية الّتي ذكرها الدّكتور مساعد، وكيف فسّر النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بها المعنى الّذي في سورة الأنعام وهو الظّلم. ثمّ أيْضاً في قوله سبحانه وتعالى {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة: 269] قد يسأل سائل ما هي الحكمة؟ نقول تعال هذه سورة لقمان تأمّلها واقرأ تفسيرها وانظر إلى الحكم الّتي بثّها الله فيها، والله لتنفعنّ الإنسان نفعاً عظيماً.
د. الخضيري: ثمّ لاحظ ترتيب هذه الحكم الّتي ألقاها لقمان على ابنه فيها حكمة.
د.مساعد: لذلك من أهم الأمور
د. الخضيري: من توحيد الله وقضاء حق الوالدين وأهمّ الوالدين مَن هم؟ الأُمّ هنا ذكر حقّ الأُمّ، وهذا من الحكمة. ثمّ غرس الخشية من الله عزّ وجلّ في النفس، وأنّ الله مطّلع على كلّ شيء، وأنّه لا يخفى عليه شيء من حال عباده {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ {16}}. ثمّ بعدها تأتي ذكرُ الواجبات: إقام الصّلاة، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والصّبر على ما يُصيبُ الإنسان. ثمّ يأتي بعدها الأخلاق ومكارم الأمور قال ماذا؟ {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ {19}}.
د. عبد الرحمن: هذه الوصايا تصلح نبراساً للحياة لو كان هناك وقت لِمَن يريد أن يتدبّرها.
د.مساعد: أيْضاً نحن لو عندنا وقت لفضلنا في هذا ما عندنا وقت الحقيقة .
سبحانك الله وبحمد نشهد أن لا إله إلاّ أنت نستغفرك ونتوب إليك نسأل الله أن يجعل هذه المجالس مباركة علينا وعلى الجميع.