سحر البيان

سحر البيان في القرآن- بلاغة أسلوب القرآن في المعالجة

اسلاميات

سحر البيان في القرآن

د. محمود شمس

حلقة 29/6/2012م

بلاغة أسلوب القرآن في المعالجة

هانحن نلتقي مع بلاغة أسلوب القرآن في المعالجة كما بينت في الحلقة السابقة. في الاصلاح بين الإخوان في المجتمع أنت مطالب بأن تحقق الأخوة الإيمانية بأن تُصلح كما قال الله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ (10) الحجرات) الفاء في قوله (فَأَصْلِحُوا) يسميها العلماء فاء التفريع بمعنى أن الأمر بالاصلاح تفرّع على إقرارك بالأخوة الإيمانية (فَأَصْلِحُوا) لكن هذا الاصلاح ذكر الله تبارك وتعالى لك كيف تُصلِح كما بيّن لك كيف تعفو عندما أمرك بالعفو -والموضوع في الحقيقة طويل ويحتاج إلى تفصيل لكني سأحاول أن أبيّن بعض الملامح- هل تعلم أن العفو والصفح عمّن ظلمك يترتب عليه مغفرة الله لك؟ اِقرأ قول الله تبارك وتعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا (22) النور) قال بعدها (أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) بأسلوب العرض، ولذلك عندما قرأ أبو بكر تلك الآية وأنتم تعلمون سبب نزولها في قضية الإفك عندما تكلم من تكلم في حق أم المؤمنين البارئة المطهرة رضي الله عنها برأها الله من فوق سبع سموات بقرآن يتلى إلى ما شاء الله كان ممن تكلم مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر وكان أبو بكر ينفق عليه ويعطف عليه فأبو بكر بفطرته البشرية أقسم ألا ينفق عليه مرة أخرى، الله تبارك وتعالى يقول (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ (22)) لا يأتل يعني لا يحلف وفي قرآءة أخرى (ولا يتألّى) (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي، إذن سيعفو ويصفح.

ننتقل للواقع في مجتمعاتنا ولذلك هذا أسلوب في الإصلاح بين الناس، أخاطب الناس جميعاً، هل أنت كأبي بكر؟ هل قيل في حقك مثل ما قيل في أبي بكر؟ هل فعل فيك الذي تقول بأنه ظلمك مثلما قيل في حق أبي بكر؟! وإذا كان قد قيل في حقك فهل ابنتك مثل ابنة أبي بكر رضي الله عنها؟! ومع ذلك قال: بلى أحب أن يغفر الله لي. إذن لا بد أن تعلم بأنك مطالب بأن تعفو عمن ظلمك وأن تصفح. وعلّمنا الله تبارك وتعالى من خلال قصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنك عندما تعفو لا ينبغي أن تذكّر من تعفو عنه بإساءته إليك، ما ينبغي لأننا عندما نعفو نعفو ونخطئ فنقول له سأعفو عنك مع أنك لا تستحق، مع أنك لست أهلاً للعفو مع أنك قلت في حقي كذا، الله تبارك وتعالى يعلّمك هذا الأسلوب الراقي في العفو عن العباد. عندما التقى يوسف بأبويه وإخوته وذكر امتنان الله تبارك وتعالى عليه قال الله على لسان يوسف (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (100) يوسف) تدبَّر (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) يوسف أُلقي في الجُبّ وإخوته هم الذين ألقوه في الجُبّ ثم أُدخل في السجن وامرأة العزيز هي التي أدخلته في السجن. أيُّ الأمرين ينبغي أن يذكر امتنان الله عليه فيهما؟ خروجه من الجُبّ أم خروجه من السجن؟ بالتأكيد خروجه من الجبّ لأن الجب كان هلاكاً لا محالة السجن فيه حياة أما الجب ففيه الهلاك وكان طفلاً صغيراً ومع ذلك لم يذكر إخراجه من الجُبّ لم يقل وقد أحسن بي إذ أخرجني من الجُبّ وأخرجني من السجن حتى لا يذكّر إخوانه بإساءتهم، حتى لا يقول لهم أنتم أسأتم إليه وإنما أراد أن يخفيها ولا يظهرها لأنه يعفو ويصفح. ولذلك بعض المفسرين يرى أن كلمة السجن تشمل الجُبّ والسجن لكن فارق كبير بين الجُبّ والسجن، الجُبّ بئر فيه هلاك والسجن فيه حياة، ولو وافقناهم فكونه لم يذكر على لسانه كلمة الجب تعطينا دلالة عدم الإساءة أيضاً وهذا تعبير قرآني لا بد أن نتعلمه وأن نطبقه في حياتنا.

ثم بعد ذلك تدبر كيف تصلح بين إخوانك (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا (9) الحجرات) لم يقل بالعدل هاهنا لم يقل فأصلحوا بينهما بالعدل، لا، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) ثم في المرحلة الثانية (فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا (9) الحجرات) لماذا لم يذكر الإصلاح بالعدل في المرة الأولى؟ إشارة إلى أن الإصلاح يمرّ بمرحلتين: المرحلة الأولى مرحلة شد الأعصاب، الاقتتال، اقتتلوا على إرادة اقتتال، كل طائفة جهزت أسلحتها وجهّزت أمورها فأنت في هذه المرحلة ليس بالضرورة أن تُصلِح بالعدل ليس بالضرورة أن تقول للمظلوم أنت مظلوم حتى لا تجعله ينتقم ويفكر في الانتقام أكثر، وإنما قل له يا أخي تصبّر، يا أخي إنتظر، بإذن الله ربي سيأتي لك بالخير، تحاول، ولذلك هذا ينفعنا في الإصلاح بين الأزواج وبين الإخوة ليس بالضرورة أن تقول لابنتك فعلاً أنت مظلومة هكذا وإنما قل لها كل الحياة هكذا لكن بعد أن تهدأ الأمور وبعد أن نبدأ بالهدوء (فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) أقسطوا بمعنى اعدلوا لكنها تبين معنى الاصلاح بالعدل وهو إزالة الظلم عن المظلوم يعني لن تصلح بالعدل إلا إذا أبعدت الظلم عن المظلوم وهذا هو أسلوب القرآن الكريم في المعالجة. والموضوع يحتاج إلى وقت أطول ولكن ربما تكون لنا عودة في حلقات أخرى بإذن الله نستكمل بلاغة القرآن الكريم وسحر البيان في القرآن الكريم.