سحر البيان

سحر البيان في القرآن – (ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا)

اسلاميات

سحر البيان في القرآن

د. محمود شمس

حلقة 13/7/2012م

تكلمت في اللقاء السابق عن القرآن الكريم هدى للناس جميعاً وبينت أن الله علمنا أن نحمده بأن أنزل على عبده الكتاب وقلت بأننا سنبين في كل حلقة ما يؤكد أن القرآن الكريم إنما هو كلام الله تبارك وتعالى وبينت كيف أن القرآن الكريم كما نقول بأن فيه إعجازاً بلاغياً بينما الحروف التي تكونت منه الكلمات والكلمات التي يستعملها القرآن هي نفس الكلمات التي يتكلم بها الناس قلت لأن الله تبارك وتعالى يراعي حال المخاطَب الظاهري والباطني وهذا لا يملكه إلا الله تبارك وتعالى. وهناك في القرآن الكريم الكثير من الأمثلة على ذلك، نأخذ مثالاً في قول الله تبارك وتعالى (وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ (6) النساء) هذا في شأن مال اليتيم الله تبارك وتعالى ينهى وصيّ اليتيم أن يأكل مال اليتيم إسرافاً وبداراً أن يكبروا. ما معنى إسرافاً وبداراً؟ كان وصيّ اليتيم إذا اقترب اليتيم من البلوغ – لأن تلك الجملة وردت بعد قوله تعالى (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) بمجرد أن تعلم أن اليتيم قد بلغ الرشد وهو حُسْن التصرف لا ينبغي أن تتأخر في تسليمه حقه. ثم قال الله بعدها (وَلاَ تَأْكُلُوهَا) الضمير يعود على مال اليتيم (إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ) هذا تصرف كان يفعله بعض الأوصياء وظاهِرهم أمام الناس أنهم غير مسيئين وأنهم غير آكلين لمال اليتيم لكن الله تبارك وتعالى الذي يعلم حال الإنسان الباطني يأتي بهذا النهي. ما معنى (وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا) كان وصيّ اليتيم إذا اقترب اليتيم من البلوغ يجلس ويعمل عملية حسابية هذا اليتيم إذا سلمته ماله سيكون نصيبه من المال أكبر من أولادي وهو رجل لا يريد أن يأكل مال اليتيم فماذا يفعل؟ كان ينفق على اليتيم ببذخ وإسراف يعطي اليتيم بالألف والألفين خُذ واصرف ما تشاء، خُذ يا ولدي وعش حياتك، هذا ظاهره أمام الناس أنه رجل لا يبخل على اليتيم الذي تحته. ثم بعد ذلك إذا اقترب اليتيم من البلوغ ولم يبلغ الرشد وهو حسن التصرف يبكِّر بتسليمه المال هذا معنى (وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ) فالله تبارك وتعالى يسمي هذا أكلاً مع أنك عندما تتدبر معي تتيقن بأن وصيّ اليتيم لم يأكل هو أنفق على اليتيم ببذخ وبإسراف، علّم اليتيم الإسراف وسلّمه ماله باكراً قاصداً من أعماقه أن اليتيم يُهلك ماله بيديه فالله تبارك وتعالى سمى هذا أكلاً مع أن الوصيّ لم يأكل. من يقرأ تلك الآية ويتدبرها يفهم أن الله نهى وصيّ اليتيم أن يأكل مال اليتيم مسرفاً، هو لم يأكل لكنه علّم اليتيم الإسراف وعلّمه هلاك ماله فسمّاه الله أكلاً. وعندما تتدبر معي تجد أن هذا التصرف أسوأ حالاً ممن يأكل مال اليتيم وكلاهما سوء وتصرف الله تبارك وتعالى توعّد في ختام الآيات بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) النساء). لكن هذا التصرف مع أنه لم يأكل لكنك عندما تتأمل معي تجده أسوأ حالاً لأنه أهلك مال اليتيم وعلّم اليتيم الإسراف والإنحراف. اليتيم لا يحسن التصرف فعندما يأخذ هذا المال معه وعندما يرى في يديه الألف والألفين والأكثر وينفق ما يشاء بإيحاء من وصيّه سواء كان عمه أم أحد أقاربه فإنه بذلك سيتعلم الإنحراف وسيتعلم الإسراف وسيتعلم البذخ فيما يفيد وفيما لا يفيد. من الذي يملك أن يرى أن تصرف وصيّ اليتيم أكلاً لمال اليتيم؟ لا يملك هذا إلا الله تبارك وتعالى. فالله جلّت قدرته هو الذي يعلم ما في أعماق النفس والله يعلم ما في أنفسكم (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ (51) الأحزاب) فالله تبارك وتعالى عندما يخاطِب يخاطِبُ مطابقاً الكلام لمقتضى الحال الظاهري والباطني، ولذلك كان مفهوم الإعجاز البلاغي عند البلاغيين وعند المفسرين كما يأتي:

عند البلاغيين كما يقول الخطابي يرحمه الله يقول بأن الإعجاز البلاغي هو وضع كل نوع من أنواع الكلمة في موضعها الأخص بها بمعنى وضع الحرف في موضعه الأخص به ووضع الكلمة في موضعها الأخص بها ووضع الفعل في موضعه ووضع الاسم في موضعه ولو أردت أن تبدل حرفاً مكان حرف أو كلمة مكان كلمة كما يقول الخطّابي سيحدث عنده أمران:

الأمر الأول أن يختلّ المعنى

الأمر الثاني أن تقلّ درجة البلاغة في المعنى.

نقول أبداً، عندما تريد أن تبدل حرفاً مكان حرف يختل المعنى تماماً ولا يؤدي المعنى الذي أراده الله تبارك وتعالى ولذلك أختم هذه الحلقة بقول ابن عطية يرحمه الله في تفسيره المحرر الوجيز يقول جملة عجيبة في المقدمة يقول بأن كل حرف وكل كلمة وضعت في مكانها للدلالة على المعنى المراد ولو أردت أن تبدل كلمة مكان كلمة لاختل المعنى. ثكم يقول: وولو أدير لسان العرب بأكمله لتجد حرفاً أو كلمة مرادفة تؤدي المعنى محل الكلمة التي استعملها الله تبارك وتعالى لن تجد كلمة تؤدي هذا المعنى، وهذا ما سنفصله ونبينه في الحلقات القادمة بحول الله وقوته.