حلقة 15/6/2012م
بلاغة الكلمة في القرآن الكريم
د. محمود شمس
نلتقي لنبين أن كل كلمة في موضعها للدلالة على معنى أراده الله تبارك وتعالى. تكلمت في الحلقة السابقة عن استعمال الاقتراف في قوله تبارك وتعالى (وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) الشورى) ولي وقفة لا بد منها لأبيّن لك لماذا ختم الله تبارك وتعالى الآية بقوله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)؟ عندنا آيات تُختم بالمغفرة وبالرحمة (غفور رحيم) (وهو الغفور الرحيم) وبعض الآيات ختمت بالمغفرة وبالشكور (غفور شكور) فما الفرق؟ لأعطيك بعض ملامح التدبر التي لا بد أن نتعلمها جميعاً وأن نطبقها. المغفرة والرحمة تأتي في ختام الآيات التي تتحدث عن ذنوب للعباد ارتكبوها وأن الله تبارك وتعالى يفتح باب المغفرة والرحمة لعباده فالمغفرة تدل على نقصان في البشر أنهم أنقصوا في الطاعة، أنهم فعلوا ذنوباً، ارتكبوا بعض المعاصي فالله يفتح باب التوبة والمغفرة ويفتح باب المغفرة أي الستر على ما مضى ويُتبعه بالرحمة دلالة على أن مغفرة الله لعباده إنما هي رحمة منه تبارك وتعالى.
أما غفور شكور لم ترد في القرآن كله إلا في ثلاثة مواضع: موضع هاهنا في سورة الشورى وموضعان في سورة فاطر.
الموضع الأول في سورة فاطر في ختام الآيات التي ذكرها الله تبارك وتعالى في قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) فاطر) والموضع الثالث في نفس سورة فاطر لكن الله ذكره على لسان أهل الجنة عندما يتنعّمون لسان الذين اضطفاهم من عباده وأورثهم الكتاب مع أن الله ذكر أن منهم من سيكون ظالماً لنفسه ومنهم من سيكون سابقاً بالخيرات بإذن الله ومنهم من يكون مقتصداً (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) فاطر) لكن الله تبارك وتعالى جمع هؤلاء الأصناف الثلاثة مع أن منهم ظالم لنفسه قال (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) فاطر) جمعهم الله جميعاً في واو الجماعة تلك ولذلك عندما تسمع كلام بعض العلماء في أن تلك الواو في كلمة (يدخلونها) ينبغي أن تكتب بماء العين نعم، فالله جمع بين الظالم لنفسه وبين المقتصد وبين السابق بالخيرات بإذن الله ولذلك سيفسر هذا ختام الآية التي سأتكلم فيها الآن: ذكر الله على لسانهم (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) فاطر).
ثلاثة مواضع هي التي خُتمت (غفور شكور) موضعان بعد آيات يحثّ الله فيها العباد على فعل الطاعة وموضع يذكر الله فيه ثناء أهل الجنة الذين أورثهم الله الكتاب في الدنيا ودخلوا الجنة وقالوا (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)).
وتدبر معي: (غفور) تعطي معنى النقص في فعل الطاعة وتعطي معنى ارتكاب المعصية وتعطي معنى عدم اتمام الطاعة على كمالها. و(شكور) تعطى معنى أن الله يعطي ويمنح الأجر أكثر مما توقع أنت، فالله شكور. لماذا غفور شكور في هذين الموضعين اللذين يحث فيهما العباد على فعل الطاعات؟ لأن العباد في فعل الطاعات سيكونون على أحوال، من الناس من تفعل الطاعة بتمامها وكمال ويوفقها الله لأدائها بإخلاص فهؤلاء وصلوا القمة، ومن الناس من يؤدي الطاعة بنسبة خمسين في المئة وتسعين وبنسبة عشرين في المئة فالله تبارك وتعالى يشير إلى أن هذا النقص الذي نقص في طاعتكم الله تبارك وتعالى يغفره لأنه غفور. لكن إياك أن تتكئ على هذا، إياك أن تتكئ على أنك تكون مقصراً وإلا كنت مُصرّاً لا، ينبغي أن ترتقي إلى أن تصل إلى درجة شكور. وشكور تعطى معنى أن الله اعطى العباد أكثر مما كانوا يتوقعون. فالله جلت قدرته يحثك على فعل الطاعة فإذا كان عندك خلل فاجتهد وحاول أن تصل إلى درجة الرقي وأن تصل إلى درجة الامتياز وأن تصل إلى درجة المئة في المئة حتى تكون من أهل الشكور.
ثم يأتي ختام الآية الثالثة التي أوردها الله على لسان أهل الجنة ممن أورثهم الله الكتاب في الدنيا (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)) غفور لأن من هؤلاء من كان ظالماً لنفسه في الدنيا. ظالمٌ لنفسه بالتقصير في الطاعة، ظالمٌ لنفسه بعدم اتمام الطاعة على كمالها وعلى تمامها، ظالمٌ لنفسه بأنه لم يجتهد في محاولة الوصول إلى الارتقاء بالطاعة وبالاخلاص لله تبارك وتعالى فعندما يرى هذا الجزاء يقول إن ربنا لغفور، وشكور لأن من هؤلاء من هو سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يقولون (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) وهكذا نجد كل كلمة في موضعها للدلالة على المعنى الذي أراده الله.