سحر القرآن

سحر القرآن 22

اسلاميات

الحلقة 22:

 

الأمثال في القرآن:

 

يقول الإمام الحسن البصري في قوله تعالى في سورة الحشر (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) الحشر) قال: إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشع وتصدع من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم كلام الله عز وجل؟ في هذه الآية مثل والقرآن مليء بالأمثال وكل مثل فيه معاني من الإعجاز والجمال ولذا أحببت أن أجعل هذه الحلقة خاصة بالأمثال في كتاب الله رب العالمين.

 

القرآن له أساليب خاصة منها إستعمال الأمثال ويكثر القرآن من استعمالها. بعض العلماء يقول أن هذه الأمثال قصص حقيقية يستشهد بها والبعض يقول هي خيال والله أعلم لكن القصد من معاني الأمثال التي يمكن أن نستخرجها منها. البعض يمرون على الأمثال ولا يفهموا معناها ولكن عليهم أن يقرأوا التفسير ويفهموا.

 

مثال في سورة البقرة: قال تعالى (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) البقرة) الهدف هو التفكر والتأمل والنظر. نتأمل في هذا المثل البديع الذي رسم مشهداً عجيباً ببيان رائع. المشهد يصور رجلاً غنياً أعطاه الله تعالى من النعم ووسع عليه من الرزق له بستان يحتوي على جميع أنواع الفواكه والثمار تمر الأنهار داخله من عظمته وهي أنهار عديدة وليس نهراً واحداً وتسقيه وهذا الإنسان كل ثروته في هذا البستان ينفق منه على نفسه وعلى أولاده فيكيفيهم ويغنيهم واستمر على هذا الحال إلى أن أدركته الشيخوخة وكبرت به السِنّ فلم يعد يستطيع العمل وأطفاله صغار لا أمل له أن يديروا البستان ويعتنوا به وليس له رزق إلا في هذا البستان الذي يخرج له الخير الكثير وبينما هو في هذه الحالة التي هو أحوج ما يكون لثمار بستانه جاءت ريح عاصفة مدمرة تصحبها نار محرقة فأحرقت الزرع والثمر ولم يبق من البستان شيء. كم تكون مصيبته عظيمة؟ يقول الإمام البصري: هذا مثل قلّ والله من يعقله: شيخ كبير ضعف جسمه ووهن عظمه وكثر أولاده وصبيانه أحوج ما كان لجنّته فجاءها إعصار فيه نار فاحترقت وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا إنقطعت عنه الدنيا. هذا المثل في غاية الحسن ونهاية الكمال كما يقول العلامة النيسابوري يقول: لا يخفى أنه أبلغ الأمثال لأن الإنسان لو كان له حديقة في غاية الجمال والكمال وكان في غاية الإحتياج إلى المال وقت الشيخوة والكبر مع وجود الأولاد الصغار فإذا أصبح ووجد بستانه محترقاً كم تكون حسرته ودرجة الألم في قلبه؟ هذا مثل يدل على الحسرة العظيمة. يقول علماء اللغة هذا في علم البلاغة يسمى الإستقصاء يتناول المعنى من جميع جوانبه لا يترك فيه شيئاً يمكن أن يقال. العبارة أحاطت بكل ما يخطر على البال في مثل هذا المقام. انظروا كيف استقصت القصة أتم وأكما إستقصاء: بدأت بالأسلوب الاستفهامي الرائع (أيود أحدكم) هل يتمنى أحدكم مثل هذه الأمنية بستان مثمر فيه جميع الثمرات تجري من تحته الأنهار يسقيه ماء النهر بدون تعب له في هذا البستان من جميع ما يخطر على البال من الثمار واللفظ يفيد العموم والتنويع كما يفيد الدوام والخلود. تصور أنواع الفواكه فما من ثمرة يشتهيها إلا موجودة وأصابه الكبر فكبر وضعف وعجز عن العمل وله ذرية ضعفاء أطفال صغار لا قدرة لهم على الكسب، كل هذه الأسباب توحي بشدة الحاجة وفي هذه الحالة جاء المصاب والبلاء فجاءها الإعصار والنار فاحترقت. فكيف تكون حال هذا المسكين بعد أن أتلف الإعصار الشجر وأحرق الثمر؟ هل هناك أبلغ من هذا على فاجعة تصيب الإنسان في ماله؟ هذا شأن من أغناه الله تعالى ووسع عليه بالرزق فبدل أن يشكر الله تعالى بدأ يعصي (غني وعاصي) بدأ يعصي الله تعالى فسلب عنه هذه النعمة ويختم له بخاتمة السوء ويجد ناراً فتخيلوا إنساناً يعيش منعماً في الدنيا له فيها من كل أسباب الرخاء ويحتاج لكل شيء يوم القيامة فبكفره يحترق عمله فأصيب هذه المصيبة فأي حسرة وأي ندم يكون عليه؟ هذا هو مثل سورة البقرة على الجنة التي احترقت.

 

يروي الإمام البخاري أن عمر رضي الله عنه أيام خلافته سأل من كان عنده من أصحاب النبي r: فيمَ ترون هذه الآية نزلت (أيود أحدكم أن تكون له جنة)؟ فقال بعضهم الله أعلم فعضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم النبي r صاحب العلم وكان حاضراً معهم وهو صغيرهم فقال: يا أمير المؤمنين في نفسي منها شيء لا أدري أصحيح هو أم خطأ؟ قال عمر: قُل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك فقال ابن عباس ضربت هذه الآية لعمل. قال عمر أي عمل؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله (أي تتعلق بإنسان مؤمن صالح يعمل بطاعة الله) ثم بُعث له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله الصالحة بمعاصيه لله. فاستحسن عمر ذلك وارتضاه. لأن الرياء يبطل العمل والمعاصي تدمر الحسنات تصبح أكثر من الحسنات فتأكلها. هذا معنى خطير أن يكون الإنسان من أهل الصلاح وهو مطمئن لعمله الصالح لكنه يدمره فتكون حسرة عليه.

 

مثال آخر: آكل الربا يمثل له القرآن تمثيلاً عجيباً في سورة البقرة في آية في غاية الروعة والجمال يقول تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) البقرة) المثل هنا يمثل حال المرابين بالذين يمتصون دماء البشر. صوّرهم القرآن بهذه الصورة المرعبة صورة الممسوس الذي أصابه مسّ من الجنّ (أخذها كثير من الناس أن الجن يتلبس بالإنس فيسيطر عليه وينحكم به وأنا أريد أن أقف عند هذا وقفة: تلبس الجن بالإنس مسألة فيها إختلاف عند العلماء منهم من يعتقد بوجوده ومنهم من لا يعتقد بهذه السيطرة لأنها تتنافى مع التكليف والله تعالى قال (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) النحل) بالنسبة للمؤمن وكذلك ليس له سلطان حتى على الكفرة. في كلام إبليس لأهل النار (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) إبراهيم) في الحالين لا يوجد تلبس والتلبس ينفي التكليف فكيف أُكلَّف وأنا غير متحكم بنفسي؟ والرسول r يقول: رفع القلم عن ثلاث عن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستسقظ وعن الصبي حتى يبلغ. وما قال r وعن الممسوس حتى يفيق!). معنى الممسوس أي المصروع فالعرب يسمون المصروع ممسوساً. وإلا هناك خطورة في سيدنا أيوب لما قال (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ص) هل يعني أنه تلبسه جنّي؟ كلا. تلبسه الشيطان اي أصابه مرض شديد.

 

الآية تمثل حالة المصروع وهذا إبتلاء من الله تعالى والمصروع إذا صبر له الجنة كما في قصة المرأة التي جاءت رسول الله r فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُصرَع فأتكشّف فادعُ الله لي، قال: إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت بل أصبر لكن ادعُ الله أن لا أتطشف لما أُصرع فدعا لها r فكان الصحابة يقولون إذا أردتم أن تروا إمرأة من أهل الجنة فانظروا إلى هذه المرأة. إذ الصرع إبتلاء وشكله مخيف هكذا يكون آكل الربا.

 

جريمة الربا التي يتساهل بها البعض جريمة خطيرة جداً. القرآن شبه آكل الربا بالممسوس أي المصروع الذي يتخبط كالمجنون فاقد الوعي والإحساس لأن الربا أثقل في بطونهم من هذا الممسوس في حالة فلا يستطيع أن يمشي سوياً. يقول سعيد بن جبير: تلك علامة أهل الربا يوم القيامة ذلك لأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ما دام هناك تراضٍ بين الطرفين فلماذا يكون حراماً؟ للأسف نظموا الربا في سلك البيع والشراء واعتبروه شيئاً واحداً قالوا إنما البيع أُحِلّ لأنه فيه فوائد والربا فيه فوائد وما عرفوا أن الربا فيه سلب لجهود الآخرين ومص لدمائهم فالعامل يتعب ويشقى ثم يحاول أن ينفق على أسرته ولحاجته يسلب منه آكل الربا حهده لذا كذبهم الله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) صحيح هناك تشابه بين البيع (بيع المرابحة) والربا لكن الفرق أن هذا حلال وهذا حرام. أحل البيع لما فيه من تبادل منافع وحرّم الربا لما فيه من أضرار جسيمة وآكله مثل الوحش المفترس. ما يقال عن الربا أنه منافع هذا كذب صريح فمن أعطى درهمين بدرهم ضيّع درهماً لا يقول عوّضه بالزمن فالمال لا يتولد بالزمن وإنما بالجهد والتعب. ولذا جاء إعلان الحرب على المرابين فقال تعالى (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) البقرة) إبن عباس رضي الله عنهما يقول: يقال لصاحب الربا إحمل سلاحك قال: لمَ؟ قال لتحارب الله. الله تعالى لم يعلن الحرب على السارق ولا على الزاني ولا على القاتل وإنما أعلنه على آكل الربا. وهل هناك وعيد أشد من ذلك؟ يقول سيد قطب عند الآية (كالذي يتخبطه الشيطان من المس) إن هذه الجملة مفزعة تصوير مرعب ما كان لأي تهديد مهما بلغت شدته أن يبلغ هذه الصورة صورة الممسوس المصروع ويقول مررت على معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام بهذه الصورة المفزعة هو القيام من القبور لا يقوم من الموت إلا كما يقوم الممسوس واليوم نراها على الأرض عملياً البشرية تتخبط بسبب هذا النظام الربوي الذي حكم العالم. العالم عالم قلق وخوف واضطراب على الرغم من كل مظاهر الرخاء والمادية. الحروب والاضطرابات أليس هذا حال إنسان فقد الوعي؟ البشرية كلها في عصر منكود وطغيان وإستغلال الإنسان للإنسان يتقاتل البشر وينتحرون من أجل المادية. هذا كله (فاذنوا بحرب من الله) عندما تنسون حال الفقراء وتصبح المسألة هذا الكسب الحرام مقدم إليكم فتكون أحوال المرابين كأحوال المصروعين الذين فقدوا الوعي.

 الأمثلة في القرآن عظيمة وتهز الكيان ولنا معها وقفة.