سحر القرآن

سحر القرآن 24

اسلاميات

الحلقة 24:

 القصة في القرآن الكريم

 

كنت أود أن آخذ فقط جانباً من جوانب الإعجاز وأفصّل فيه لأن حلقان البرنامج لا تكفي للحديث عن جانب واحد من جوانب الإعجاز وكنت أفكر أن آخذ جانب القصة لكن كيف أترك المثل؟ وإعجاز الحرف والكلمة؟ فقلت لعل الأجدى أن أفتح الباب للمشاهدين حتى يتأملوا معي وينظروا ويفكروا وليكون حافزاً لهم بأن يقرأوا في التفاسير وكتب البلاغة فيتعرفوا على سحر القرآن.

 

(وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) تأمل في القصة في القرآن وردت بصورتين رئيسيتين: مرة واحدة جاءت القصة كاملة وفصلة متسلسلة من بدايتها إلى نهايتها وذلك في قصة يوسف u. أما باقي القصص فجاءت مفرقة مقسمة موزعة. وهذا إعجاز كأن الله تعالى يقول أن القصة ليست هدفاً بحد ذاتها وإنما المعنى والعبرة هما الهدف. لذا قسّم قصة موسى u على أكثر من 72 موضع حسب حاجة الموضع وحسب المعاني التي يراد إثباتها في ذلك الموقع حتى لا يقال أن القرآن غير قادر على الإتيان بقصة كاملة فجاءت قصة يوسف لتعطي القصة بشموليتها.

 

لكن إذا تدبرنا قصة موسى u كيف رأى ناراً وردت في أكثر من سورة. كيف عبّر عنها القرآن؟ وما الإضافة في كل جزء؟

 

نجد في سورة النمل قوله تعالى (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7))، هذه الآية تشير أن موسى وأهله وضاعوا وهم محتاجون إلى من يدلهم على الطريق وأنهم في أيام برد يحتاجون لنار ليتدفأ بها هو وأهله. بينما هذه القصة جاءت في سورة طه بألفاظ مختلفة (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)) إذن موسى u محتاج لقبس ليشعل ناراً ومحتاج من يدله على الطريق. نفس المعنى بألفاظ أخرى جاء في سورة القصص (فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)). إذن نفس القصة ونفس الخبر لكن أعطي بصورة مختلفة بالإضافة أن هذا بلاغة وبيان عجيب. لكن لو تأملنا نجد أن كل قصة فيها إضافة تختلف عن الأخرى.

 

أتى الله تعالى بالقصة على ضروب وأشكال ليعلّم أعداء القرآن عن عجزهم عن جميع هذه الطرق فإذا كنت من أهل الصنعة في البلاغة فاعمد إلى أي قصة وعبّر عنها بأفضل أسلوب لديك ثم اكتبها بأسلوب ثانٍ بنفس درجة البلاغة ثم اكتبها بأسلوب ثالث بنفس درجة البلاغة هل يستطيع أحد ذلك؟ فإذا أردت أن تتحقق من ذلك وكنت من أهل الصنعة فاعمد إلى أية قصة في القرآن أو حديث وعبّر عنه بألفاظ من عندك ثم تبيّن النقص حتى تعرف عظمة القرآن. من يستطيع أن يعيد القصة مرات عديدة في كل مرة بأسلوب مختلف وفي كل مرة بأعلى درجات البيان والبلاغة وفي كل مرة إضافة بسيطة تعطي معنى جديداً بحيث لم جمعتها كلها تحصل على القصة كاملة.

 

لما جاءت الملائكة لإبراهيم u جاءت بصورة بشر ليخبروه أنهم سيدمروا قوم لوط ويبشروه بأنه سيأتيه ولد وهو u من كرمه ذهب ليذبح لهم عجلاً ففي آية وصف (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) الذاريات) وفي آية أخرى (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) هود) أي مشوي، هنا إضافة. جاء بعجل سمين مشوي وهذا يدل على درجة كرمه ويعطينا تفاصيل القصة. لن نعرف تسلسل القصة إلا إذا نظرنا في كل تفاصيلها. القرآن يضرب القصة لا لأجل القصة وإنما لأجل المعاني من ورائها ثم يدعك تفكر وتجمع القصة وتتأملها وهنا يتبين أهل العلم عن غيرهم. ويمكن للقرآن أن يأتي بالقصة في سورة واحدة كما جاء في قصة يوسف u.

 

يصعب في حلقة واحدة أن نجمل الإعجاز الذي جاء في القصص لكن نشارك معكم بعض الإعجاز في هذه القصص. قصة يوسف u الوحيدة التي جاءت مكتملة من أولها إلى آخرها وهذا فيه إعجاز للذين قالوا أن القرآن لا يستطيع أن يأتي بقصة كاملة فجاءت قصة يوسف. قصة يوسف فيها إعجاز ليس فقط في حبكة القصة واكتمال كل عناصر البلاغة والبيان والفن في القصة وإنما في الحكم والمواعظ وتصحيح التاريخ الذي كان يظنه بنو إسرائيل.

ونستعرض شيئاً من إعجاز القرآن في قصة يوسف.

 

(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)) هذا قرآن عربي وأنتم أهل البلاغة والبيان فاتوا بمثله. ثم بدأت القصة (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)) عادة نمر على هذه الآية ونعتقد أنها تعبير بسيط لكن حاولوا أن تعبروا عن معناها باسلوب مشابه. نقف على بعض الآيات في القصة: لما راود إخوة يوسف أباهم أن يأخذوا يوسف معهم قال يعقوب u (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)) كأنه هو الذي أوحى لهم بهذا وهذا يدل على كذبهم أنهم لما جاءوا قالوا أكله الذئب. لما ذهبوا ورموه في الجب قالوا (قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)) إذن هم ليسوا صادقين بل كاذبين فعرف يعقوب u ذلك وخاصة لما جاءوا على قميصه بدم كذب (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) فقال (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)). ولما بلغ يوسف أشده وصار في بيت العزيز (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) لما راودته امرأة العزيز جاء الهمّ في أبلغ كلمات: هي تريد الفاحشة وانظر تعبير القرآن عن هذه القصة! أما في الإنجيل ففيه تصوير مقزز لهذه العلاقة بتفاصيلها. لم يذكر القرآن حتى اسمها حتى لا يشنّع عليها وإنما قال (التي هو في بيتها).

 

والتعبير بـ (عن نفسه) (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ (23)) يقول أهل البلاغة لم يستعمل في لغة العرب هذا اللفظ من قبل فالقرآن يأتي بتعابير رائعة  ولا يريد أن يعبر عن المسألة يتفاصيلها لأنها موضوع حساس (ولهذا يجب أن لا نتحدث بهذه المسائل علناً كما يحدث للأسف الآن على المحطات التلفزيونية وعلى صفحات المجلات وفي كل وسائل الإعلام) وذلك حتى يبقى للمجتمع ذوقه وأدبه. أي إعجاز هذا!

 

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) هل همّ بها؟ كلا لم يهمّ لأنه رأى برهان ربه وهذا من إعجاز القرآن في قصة يوسف.

 

الله تبارك وتعالى مدح سيدنا يعقوب في قصة يوسف بأنه (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)) لماذا مدحه بالعلم؟ إذا قرأنا سورة يوسف من جديد ننظر في كل مرة يتكلم فيها يعقوب u ستجد شيئاً عجيباً فهو لا يتكلم إلا ويذكر الله سبحانه وتعالى في كل آية نطق بها يعقوب. هذا عجيب. فمدحه الله تعالى بالعلم لأن ذكر الله دائماً على لسانه. من يستطيع أن يذكر الله في كل جملة يقولها؟ هكذا كان يعقوب u فمدحه الله تعالى.

 

قال القرآن على لسان يعقوب (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86)) هذه الآية صارت شعاراً لكل محزون أنه لا يشتكي لبشر لأن الشكوى لغير الله مذلّة. وهناك أمثلة عديدة للإعجاز في قصة يوسف.

 

ننتقل إلى قصة أخرى: قصة سليمان u في سورة النمل.

في قصة سليمان u مع بلقيس ملكة سبأ شيء عجيب في الإختصار للقصة بعدما ذكر الهدهد لسليمان أنه وجد ملكة وأنها تعبد وقومها الشمس دون الله (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)). إختصار للقصة (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)) إختصار لأوامر سليمان u للهدهد ثم ينتقل المشهد إلى سبأ كأن الهدهد وصل إلى اليمن وألقى الكتاب فتنتقل الآيات لمشهد آخر ولمكان آخر لأن التفاصيل لا داعي لها، إنما سقط الكتاب على بلقيس فجمعت أركان الدولة (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) ). بين المشهدين أحداث كثيرة لكن القرآن الكريم يتجاوزها ليصل إلى غاية المعنى (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)) أي إعجاز في هذه الآية ! يقول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم معناه يؤمن بالله والكتاب بسم الله الرحمن الرحيم وفيه إختصار الرسالة بأمرين (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)): أن لا تعلوا علي (أي اتبعوني) وأتوني مسلمين (أي أسلموا لله رب العالمين)، من يستطيع مثل هذا الإيجاز والإعجاز؟!. ويستكر الإعجاز بعدما شاورت بلقيس الملأ فقالت (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)) علّق القرآن على كلامها لأنه صحيح فقال: (وكذلك يفعلون).

 إقرأوا القرآن واستمتعوا بقصص القرآن فإنه ستفتح لكم أبواب من الفهم بالقرآن تتلذذون بعده بالمعنى والبيان في كل كلمة.