في رحاب سورة

في رحاب سورة المؤمنون – 2 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة المؤمنون – 2

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

إجابة على أسئلة المشاهدين:

سؤال من د. شهاب الجبوري من العراق: هل هناك لفتة بيانية في قول الله سبحانه وتعالى (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٨﴾ المائدة) في الأولى ألصق اليد بالقتل وفي الثانية فصل بين اليد والقتل بـ(إليك)؟

د. المستغانمي: سؤاله وجيه، القرآن الكريم كما قال جل ثناؤه (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴿١﴾ هود) ما من كلمة إلا هي في موضع دقيق، ولا حرف من حروفه، تقديم جملة عن جملة، تقديم فعل عن فعل، ليس اعتباطًا، هو استنبط من قوله (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) قرّب ما بين اليد والقتل للدلالة على إرادة قابيل لقتل هابيل وهو لم يكن يريد ذلك فقال (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) باعد بينهما، وهذا تأويل جيد وإن كان العلماء يقفون من الناحية البلاغية وهي أنه استعمل الناحية الفعلية من جانب القاتل قال (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) واستعمل اسم الفاعل والجملة الإسمية من جانب المقتول (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أكّد أنه لن يناله بأذى حتى لو ناله أخوه بأذى، هذا من ناحية، نفى الأمر باسم الفاعل لم يقل لن أبسط يدي إليك لأقتلك قال (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) الجملة الإسمية أشد توكيدًا، والباء النافية تزيد النفي وتؤكده، فقال له: لئن نالني منك أذى فلن ينالك مني أذى أبدًا، هذا التأبيد أفادته الجملة الإسمية. ثانيًا هو في موضع النُصح لأخيه فأراد أن يستدرّ عطفه فقدّم (إليّ) قال: لئن بسطت إليّ أنا أخوك وتمتد يدك إليّ لتقتلني فقدّم ما به هو أعنى، وهذه نظرية سيبويه العظيمة في كتابه: العرب يقدمون في كلامهم ما هم ببيانه أعنى. فأراد أن ينصحه وأن يوقظ شحنة وجذوة الأخوة فقال (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ).

الأخ السائل طلب أمثلة والقرآن مليء بالتقديم والتأخير وفي بناء الكلمة قوله تعالى (أَنُلْزِمُكُمُوهَا)[هود:28] الضمائر كما قال العلماء مُكرهة فيما بينها: (أ: همزة الاستفهام)، نون المضارع، (كم) ضمير الجمع، (وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) النبي وهو يدعو قومه قال لهم أنكرهكم على العقيدة وأنتم لها كارهون؟ ولكن البيان القرآني أكره الضمائر فيما بينها وذلك مقصود أيضًأ من الناحية الصوتية (أَنُلْزِمُكُمُوهَا) إكراه الضمائر وإلصاقها وهذا عظمة البيان القرآني.

مثال آخر (حتى إذا جاء أحدكم الموت) دائمًا في القرآن، المقتضى اللغوي: إذا جاء الموت أحدكم، أو جاء الموت أحدكم، المقتضى تقديم الفاعل على المفعول به لكن في الموت دائما يؤخره لأن النفوس تكره الموت وتريد تأخيره، هل ثمّة إنسان يحب تقريب الموت؟! القرآن نزل يعالج النفس الإنسانية لأنه يعلم أننا نكره الموت ونفر منه (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٨﴾ الجمعة) ففي التعبير يؤخره وإن كان المقتضى حتى إذا جاء الموت أحدكم.

سؤال من الأخ فيصل: هل هناك فرق ما بين المعجزة والإعجاز؟

د. المستغانمي: كلاهما من الفعل أعجز، وعجز أي قصُر عن فعل شيء وعجز عن الإتيان به، أعجزه أي دعاه أو حدا به إلى عدم الإتيان بذلك الأمر وفي القرآن الكريم (وما أنتم بمعجزين) لن تستطيعوا أن تجزوا الله سبحانه وتعالى فكلمة معجزة من الفعل عجز وأعجز، عجزتُ أي لم أستطع أن أفعل الشي وأعجز أي ذهب به إلى الجانب الآخر فلم يستطيع أن يفعل ما يجاري تلك المعجزة. فالرسل عليهم السلام أيدهم الله بالمعجزات والمعجزة كما وصفها العلماء، أعطي التعريف الدقيق للمعجزة: هي الأمر الخارق للعادة والمقرون بالتحدي وسالم عن المعارضة، أمر خارق للعادة يُراد بها التحدي كما فعل موسى عليه السلام بعصاه وعيسى يبرئ الأكمه والأبرص المعجزت الحسية ولما جاء القرآن جاءت المعجزة القرآنية القرآن هو المعجزة القرآنية الخالدة. بينما الإعجاز مستمر، الرسل أيدهم الله بمعجزات، الإعجاز مصدر أعجزه أعجازًا وعندما نتحدث عن إعجاز القرآن لأنه مستمر، الإعجاز في علم الأجنّة، الإعجاز في علم الفلك، الإعجاز في اللغة، أعجز البشر أن يأتوا بمثله وتحداهم فالكلمتان متقاربتان إلا أن المعجزة تطلق على معجزات الرسل وحتى لما نقول معجزة الإسراء والمعراج.

سؤال من الأخت بكار: يقول الله تعالى في القرآن كثيرا (إنا نحن نزلنا الذكر) (إنا أنزلناه في ليلة القدر) (إنا أعطيناك الكوثر)  كلنا يعلم أن الله أحد صمد فرد فلماذا يستعمل نون العظمة؟

د. المستغانمي: هذه تسمى نون العظمة، (نا) الفاعلين وعندما يستعملها الله جلّ جلاله (إنا أعطيناك الكوثر) (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) تفيد العظمة والتفخيم ما لا تفيده تاء الفاعل فعندما يراد التوحيد (إنني أنا الله رب العالمين) يوحّد في سياق التوحيد أما لما يكون السياق جللًا وعظيمًا (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) صلح الحديبية، (إنا أنزلناه) تعود على القرآن، عظمة القرآن، تفخيم مقام القرآن فتأتي (نا) الفاعلين لإفادة هذه العظمة، (إنا أعطيناك الكوثر) الكوثر هو القرآن هو الإسلام هو هذا الدين، هو الخير الكثير والنهر العظيم يوم القيامة، تستعمل دائمًا للتعظيم.

سؤال من الأخت مجدولين: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) ما المقصود بالأذان؟ وكيف يكون ذلك؟

د. المستغانمي: شرحنا ذلك في سورة الحج ، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) أي أعلِمهم، الأذان هو الإعلام عندما تعلم إنسانًا وتشعره وتنبؤه بأمر أنت تؤذنه، تؤذّن. فكلمة الأذان بمعنى الإعلام حتى المؤذن عندما يؤذن للصلاة يُعلن ويُعلم الناس بوقت الصلاة. ارتقى إبراهيم عليه السلام جبل أبي قبيس كما يقول الرواة وقال ألا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجّوا. قال وأين يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعليّ البلاغ. الأذان هو الإعلام بشكل عام والمؤذن يعلمنا بأوقات الصلاة.

سؤال من الأخت صابرينا يحياوي: يقول الله تعالى في سورة الحج (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الحج:37] كنت أظن أن (الله) تعرب فاعلًا ومعنى الآية لن يأخذ اللهُ لحومها ولا دماؤها، أرجو أن تفسر لي معنى (ينال) حتى تصبح كلمة (الله) مفعولا به.

د. المستغانمي: الله لفظ الجلالة منصوب على العظمة (مفعول به)، لحومُها فاعل مؤخَّر، دماؤها معطوف.

المقدم: لا يقال للفظ الجلالة مفعول به، منصوب على العظمة.

د. المستغانمي: أولًا تقديم (الله) وهو الأول والآخر والفاعل هو لحومها من الناحية الإعرابية، حتى يستقيم الكلام، أصلها: لن يقبل الله هذه الدماء ولا اللحوم لكن يتقبل التقوى، هكذا المعنى الصحيح لكن الإعراب: (اللهَ) لفظ الجلالة منصوب على العظمة، لن يبلغ اللهَ لحومُها لن تصعد إليه لحومها فعلماء التفسير والنحاة دون استثناء يعربون هذا اللفظ منصوب والقراء دون استثناء كأننا نقول: لن يبلغَ اللهَ لحومها، أو لن تبلغ اللحومُ اللهَ جلّ جلاله.

المقدم: لماذا جاء الفعل هنا (ينال) مذكرا وليس مؤنثا؟

د. المستغانمي: هذه قضية أخرى.عندما يفرّق بين الفعل والفاعل يجوز أن يذكّر الفعل ويجوز تأنيثه نقول جاءتهم آياتنا وجاءهم آياتنا.

المقدم: ولأن المؤنث مجازي وليس حقيقي

د. المستغانمي: في القرآن عندما نقول جاءتهم آياتنا، جاءهم آياتنا، إذا تم التفريق بين الفعل والفاعل بمفعول به يجوز التذكير والتأنيث وهذه قضية لغوية. إذن لن يبلغ اللهَ لحومها أي لن تبلغ اللحوم الله لأن القرشيين والمشركين كان عادتهم أنهم إذا ذبحوا الضحايا تقربا لله كانوا يشرّحونها وينضحون دماؤها حول النُصُب وحول الكعبة فقال الله تعالى قاطعًا الطريق أمام هذه الظاهرة: اللحوم لن تصعد إلى الله والدماء لن تصعد إلى الله، إنما التقوى الحقيقية تصعد إلى الله.

سؤال آخر من الأخت صابرينا يحياوي: قلت في الحلقة الماضية يجوز الوجهان، سورة المؤمنين وسورة المؤمنون على الحكاية، ما معنى الحكاية؟ وأنا مهتمة بالإعراب والبلاغة وأنت قلت القرآن لا يفهمه إلا من عرف عادات العرب في الكلام وأريد أن تخبرني عن بعض أمهات الكتب حول عادات العرب في الكلام.

د. المستغانمي: (سورة المؤمنون) على الحكاية وسورة المؤمنين على الإضافة، المضاف إليه يكون مجرورا بالياء هنا لأنه جمع مذكر سالم. أما لو قال سورة المؤمنون على الحكاية يعني نترك الكلمة كما وردت في النص الأصلي (قد أفلح المؤمنون) العلماء يقولون: سورة المؤمنون، على الحكاية، أو إذا رويتُ أقول: “الصيف ضيعتِ اللبن” حتى لو تحدثت مع رجل أقول له: الصيف ضيّعتِ اللبن لأن المثل ورد في الحديث مع امرأة فأحافظ عليه حفاظًا على الحكاية، المحافظة على النص كما ورد.

المقدم: مثل مدينة أبو ظبي يقال زرت أبو ظبي ومررت بأبو ظبي على الحكاية.

د. المستغانمي: الكتب التي تتناول سنن العرب في كلامها من أحسنها فقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي ومن أحسنها أيضًا: الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها للإمام ابن فارس, فقه اللغة يعني أن نفقه الكلمات العربية والجذور والفروق بينها إذا ذهبت إلى فقه اللغة للثعالبي يقول لك: الجمال في الوجه والحلاوة في العينين والرشاقة في الجسم، كيف نفرق في استعمال الكلمات، والفوارق اللغوية، ومنها الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري وكتب اللغة كثيرة ومنها أيضًا كتب الأدب، أدب الكاتب والأدب للكامل والمبرّد.

ورد تنبيه من د. صالح رضا بعث لنا أن الحديث صحيح: ثمة حديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنها أخوة الإسلام” طبعًا الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وهو خليل الله، الدكتور جزاه الله خيرا لتذكيرنا، أنا كان ينبغي أن أشير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وخُلّته لكنها ليست مذكورة في القرآن، ما قلته صحيح بالنسبة للقرآن الكريم ما ذكر الله رسولا بالخلّة في القرآن الكريم إلا إبراهيم الخليل. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رسولنا الكريم هو أفضل الرسل إطلاقا والحديث رواه الإمام مسلم، ونحن نرحب بكل من يدلنا وينصحنا جزاه الله خيرا.

المقدم: موسى عليه السلام هو كليم الله هل ورد كذلك أن نبينا محمد كليم الله؟

د. المستغانمي: لا، ما ورد هذا في الأثر، حتى في ليلة الإسراء سألته عائشة هل رأيت ربك؟ ورد في جوابه: نور أنّى أراه سُبُحات وجهه… لم يثبت على علمي أنه كليم الله والله أعلم.

سورة المؤمنون

المقدم: تحدثنا عن علاقتها بسورة الحج ولما بدأ الله عز وجلّ بهذا الاستهلال وقلنا أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الفلاح في أواخر سورة الحج (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩﴿٧٧﴾) (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾). ورد ذكر مجموعة من الخصال للمؤمنين هل من الممكن أن نقف عندها ولماذا وردت بهذه الصياغة (الذين هم صلاتهم خاشعون، معرضون، فاعلون، حافظون)؟

د. المستغانمي: هذا لبُّ لباب حديثنا إن شاء الله. (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد تفيد التحقيق، قد لما تسبق الفعل تفيد التحقيق والتأكيد كما تفيد (إنّ واللام) في الجملة الإسمية (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) كما قلنا إن المؤمنين أفلحوا، للتوكيد. (قد) عملها مع الفعل الماضي كعمل (إنّ) مع الجملة الاسمية. وبدأ في تفصيل صفاتهم والذين يتلبسون بالشعائر الإسلامية بشكل عام، في البداية ذكر الشعائر ومنها بعض صفات القلوب ولكن في وسط السورة فصّل في ذكر الأعمال الباطنية ثم في النهاية ذكر بعض أدعيتهم.

هنا (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾) الذين هم يتّصفون بالخشوع في الصلاة. الشيء الأول وصفهم بالجملة الاسمية (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) لم يقل الذين يخشعون في صلاتهم أو الذين في صلاتهم يخشعون، الجملة الإسمية أوكد وأدوم تفيد الدوام والاستمرار والجملة الفعلية مؤقتة فوصفهم بالدوام.

المقدم: لأنها مرتبطة بالفعل والفعل له زمن

د. المستغانمي: سواء في الماضي أو المضارع. ثانيًا: نجد التقديم: (فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) وهذا التقديم هنا لا نقول إنه يفيد الحصر وإنما يفيد الاهتمام، لأن المؤمن أيضًا يخشع في أشياء أخرى، لو  وقفت موقفا في وفاة تخشع، أمام القبور نخشع، أمام ذكر الآخرة نخشع، لكن هنا قيّد الخشوع بالصلاة فلذلك قدم الصلاة للاهتمام بهلا، للاهتمام الخشوع فيها ولأن الصلاة من أدعى العبادات للخشوع لأن الصلاة متلبسة بالقرآن، هل ثمّ’ صلاة بدون قرآن؟!

المقدم: ما معنى الخشوع؟

د. المستغانمي: الخشوع هو الخوف مع الخضوع مع التعظيم، نخشع لله نخاف منه ونعظّم جلاله جلّ جلاله

المقدم: هذا ما يتعلق بالصفة الذهنية ولكن الصفة الفعلية، كيف يخشع الإنسان فعليًا؟

د. المستغانمي: يخشع الإنسان عندما يتدبر الإنسان فيما يقرأ وأنه في حضرة الله سبحانه وتعالى وأنه مستمع لتلاوته وهو يتدبر هذا الكلام فهو موجّه من الله عز وجلّ فينعكس ذلك على جوارحه فيخشع بحيث لا يتحرك في صلاته

المقدم: لذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الذي كان يعبث بلحيته قال: لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

د. المستغانمي: كثرة الحركة، كثرة الالتفات، النظر في السماء تتنافى مع الخشوع

المقدم: ناهيك عن أن هذه الآية قالوا أنها نزلت وبعدها كان الصحابة لا ينظرون إلى الأعلى وإنما كانوا ينظرون إلى محل سجودهم.

د. المستغانمي: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾) التقديم للعناية والاهتمام. وهنا قيد الخشوع بالصلاة، السؤال المطروح: العبادات الأخرى فيها خشوع؟ بلى، الخشوع أفضل لكن لو خلت من الخشوع لكانت مقبولة وتستقيم، لو قلنا الزكاة، الزكاة عبادة لكن تتحقق الزكاة ويتحقق الغرض من الزكاة بمجرد إخراج المال دون خشوع، إخراج المال يُخرج منك الشحّ والبخل وإغناء الفقراء يتحقق، لو أخرجت الزكاة ولم تكن خاشعًا في تلك اللحظة فزكاتك مقبولة. صيامك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لو خشعت زيادة في الخير، الحج مثلا يريد مجاهدة وقد تنام وقد تغفل وقد تُلبّي، نعم، لكن الخشوع في الصلاة لا يبارحها ولا يزول عنها، ليس لك من صلاتك إلا ما عقل منها فؤادك وقلبك.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾) أنبّه إلى أنه كرر اسم الموصول (الذين) في كل الآيات (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴿٤﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٥﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٦﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩﴾) لو قال بدون (الذين) لتوهّم القارئ ولظنّ ظانٌّ أنه لن يفلح إلانسان المسلم إلا إذا جمع بين جميع الصفات، لا، أراد بإعادة تكرار وتكرير (الذين) للتصريح بأن كل صفة جديرة بأن توصلك إلى الفلاح، هذه النكتة البلاغية.

المقدم: بمعنى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون وقد أفلح المؤمنون الذين هم عن اللغو معرضون، وقد أفلح المؤمنون الذين هم للزكاة فاعلون وهكذا..

د. المستغانمي: يعني كل صفة من هذه الصفات جديرة بأن تقودك إلى الفلاح، لو جمعها بدون تكرار اسم الموصول (الذين) قد يعتقد (أنا أقول (قد) تفيد التوقع) يعتقد وتحتمل أن الإنسان لن يفلح إلا إذا جمع بين الصفات. وحتى الواو هنا تفيد المغايرة بين الصفات.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾) اللغو هو الكلام الباطل، كل كلام لا فائدة فيه فهو لغو ومن باب أولى الذين يلغون في القرآن (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴿٢٦﴾ فصلت) اللغو كل كلام باطل والمؤمن الحقيقي يبتعد عن اللغو ويجنّب لسانه اللغو من الكلام، وجاءت بعد الصلاة مباشرة لأن الخشوع في الصلاة يقتضي البعد عن اللغو، مقابلة جميلة جدًا: الذي يخشع في صلاته ويتدبر القرآن وهو يتلوه ويخاف من الله ويعظّمه هذا تجده أبعد الناس عن اللغو، الذي لا يخشع في الصلاة تجده أقرب الناس إلى اللغو. لذلك تقريبًا المقام الوحيد[1] الذي تم فيه التفريق بين الصلاة والزكاة. بعد ذلك قال (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴿٤﴾) هكذا قال العلماء: ربط الله تعالى وقرن بين الصلاة والزكاة في أكثر من اثنين وثمانين موضعا (وأوصاني بالصلاة والزكاة) (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) وهنا جاء وصف المؤمنين المفلحين بأنهم يعرضون عن اللغو لأن الخشوع في الصلاة يؤدي بهم إلى البعد عن اللغو.

المقدم: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) ما هي الزكاة؟ ما المقصود بالزكاة؟ ما قال مؤتون أو مؤدّون؟

د. المستغانمي: الفعل الذي يرتبط بالزكاة المالية هو الإيتاء (آتوا الزكاة) لم يقل: والذين هم للزكاة مؤتون،  لو قال مؤتون لانحصرت الزكاة بأنواع الزكاة المالية والغنم والذهب في الزكاة التي نؤديها لكن فعل زكى له معنيان: بمعنى طهُر (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التوبة:103] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴿٩﴾ الشمس) من طهّر نفسه (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴿١٠﴾ الشمس)، التزكية بمعنى التطهير. والزكاة بمعنى النماء والنمو، زكا الزرع بمعنى نما، فالمعنيين مرعيان هنا، لما قال جل ثناؤه (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) لم يقل مؤتون حتى لا يحصرها في أنواع الزكاة التي نؤديها، للزكاة، للتطهير فاعلون، تحتمل، لتطهير أنفسهم وللزكاة المالية وأنواع الزكوات فاعلون، ففاعلون كلمة الفعل مرتبطة بالخير لذلك يقولون: فِعال الخير. فإسداء المعروف هو الفَعال فربط بين الزكاة والفَعال لتوسيع الدلالة، لو قال مؤتون لانحصرت ونحن في سورة المؤمنون أراد الله أن يثني على المؤمنين بأنهم يعملون أعمالًا متنوعة من بينها أداء الزكوات المالية والغنم والذهب ومن بينها تطهير النفس.

المقدم: هنا الله سبحانه وتعالى يسترسل في ذكر صفات المؤمنين حتى يصل مرة أخرى إلى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩﴾) لماذا؟ ذكر (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾) ثم ذكر الصلاة مرة أخرى، هذا سؤال. والسؤال الآخر هذا النص من سورة المؤمنون يذكرنا بسورة المعارج حينما يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿٢٣﴾ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٢٦﴾ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴿٢٧﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴿٢٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٢٩﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٣٠﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٣١﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٣٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴿٣٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٣٤﴾ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴿٣٥﴾) هناك تشابه كبير بين السورتين.

د. المستغانمي: أولًا لماذا بدأها بالصلاة وأنهاها بالصلاة لكن بطريقتين مختلفتين، (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾) هنا تحدث عن الخشوع في الصلاة كأنه يقول قد أفلح المؤمنون المصلّون الخاشعون وهنا قال (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) المحافظة على الصلاة، قد سكون إنسان مسلم يحافظ على الصلاة ولكن لا يخشع فيها، ضرورة الجمع بين الخشوع في الصلاة وبين المحافظة عليها لذلك فرّق بينهما كل واحدة في آية. ثم جاء في الصفة الأولى والسابعة بالمحافظة لربط الدائرة أو من الناحية البلاغية يسمى: ردّ العجز على الصدر وهذا من تحسين الكلام والعرب يحبون الكلام البليغ، القرآن خاطب العرب البلغاء

ومن يسقي ويشرب بالمنايا إذا الأبطال لم يسقوا ويُسقوا

بمجرد ما بدأ بفعل (يسقي) ردّ العجز على الصدر، العرب كانوا يستسيغون (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) العرب ينتظرها ويتوقعها أما أنا وأنت قد لا ننتظرها، وهكذا كان الأعراب، فالقرآن يأتي بطريقة تشدّ العربي.

لما قال (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٥﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٦﴾) هنا النهي عن الزنا والمؤمنون الصادقون الخاشعون يتزوجون الزواج الشرعي (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧﴾) (فأولئك) ميّزهم (هُمُ الْعَادُونَ) هم المبالغون في العدوان، ما قال المعتدون لأن معظم الصفات جاءت على صيغة اسم الفعل (خاشعون، فاعلون، عادٍ فهو عادون، وارثون) وبعدها قال (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٨﴾) الإيقاع الصوتي مطلوب. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٨﴾) الأمانات هي الأمانة والمسلم مطالب بأداء الأمانة والدين كله يراعي الأمانة، الذي لا يرعى الأمانة قد لا يتوضأ، الذي لا يرعى الأمانة قد لا يصوم، الصوم أنت في بيتك وقد أرخيت السدول ما الذي يجعلك تخاف من الله؟ من الذي يمنعك أن تأكل؟ ضميرك وأمانتك إذن رعي الأمانة مطلوب، وعطف عليها العهد لأن العهد جزءٌ من الأمانة، عندما يتعاهد اثنان، انت تعاهدني على أن تفعل كذا وكذا وأنا أعاهدك، لقد ائتمنتني وأنا ائتمنتك فالعهد جزء من الأمانة.

بعد ذلك لما وصفهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٨﴾) اختلف هنا الأسلوب بعد أن كرر وصفهم بـ(الذين) قال (أولئك) أشار إليهم إشارة البعيد ليس بعد المكان بل بعد المكانة كما نقول (ذلك الكتاب) هو ليس بعيدًا، القرآن بين يدينا لكن ذلك القرآن علة المكانة، (أولئك) ميّزهم كأنه يقول هؤلاء أحرياء بأن أميزهم وبأنهم الوارثون وحذف المفعول به للوارثون، يرثون ماذا؟ الجنة، الأسلوب اختلف، كان المقتضى: أولئك هم وارثو الفردوس (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧﴾) ابتغى وراء ذلك أي ابتغى وراء زوجته وما ملكت يمينه فأولئك هم العادون، وهنا قال (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴿١٠﴾) ميّزهم كأنه يقول هم جديرون بالتمييز أحقّاء أحرياء أن يرثوا ماذا؟ (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿١١﴾) لم يأت بها مباشرة والنكتة البلاغية هنا: لو قال أولئك هم وارثو الفردوس، انتهى الكلام،  لكنه قال (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴿١٠﴾) يتطلع القارئ والسامع والخاشع: ماذا يرثون؟ يرثون الفردوس،  الإبهام ثم الإجمال يعطي حلاوة للقرآن ثم يشوّق السامع. (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴿١٠﴾) الميراث يكون في المال، عندما يموت ميّت يتوفى متوفّى يرثه أهله أبناؤه وزوجه، الميراث هو أقوى الأسباب لاستحقاق المال ثم تأتي التجارة فكأنه يقول أولئك هم المستحقون للفردوس، هم الجديرون بأن أن يرثوها كأنما ورث الابن أباه، هنا استعارة، – ونحن نتذوق وكم من سائل في الإيميلات قال دعنا نتذوق بلاغة القرآن!- فأولئك هم الوارثون المستحقون لم يقل المستحقو واستعار الوراثة لأن الوراثة هي الاستحقاق، يرثون الفردوس وهي أعلى مراتب الجنة وهي كلمة كما يقولون رومية أو فارسية.

المقدم: هل في القرآن كلمات ليست عربية؟ أحدهم اعترض عليّ في أحد البرنامج حينما قلت أن في القرآن بعضًا من الكلمات التي أصلها غير عربي وقال كيف تقول هذا الكلام والله تعالى قال (إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا)؟!

د. المستغانمي: ذكرها الإمام السيوطي، عرّبها القرآن، اصطفى العرب لأنهم كانوا فصحاء وبلغاء استقوا من اللغات أجملها واختاروا من الفارسية أجمل ما لديها ومن الهندية ومن الرومية والحبشية فعرّبها العرب بالاستعمال فجاء القرآن وأخضعها للقواعد: استبرق وسندس وفردوس وكثير من الكلمات

المقدم: نأتي للمقارنة بين مطلع سورة المؤمنون ومنتصف سورة المعارج

د. المستغانمي: الكلمة المفتاحية هي (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾) والآية (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ المعارج) الكلمة المفتاحية هي: المصلين هذا الوصف جاء إثر وصف المصلين وهنا الوصف للمؤمنين الخاشعين في صلاتهم، سورة المؤمنون تثني على المؤمنين وترفع من شأنهم. هنا قال (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) في المعارج وصفهم بالمداومة على الصلاة، (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) الحق المعلوم كما يقول العلماء: الزكاة، 2.5% مقدّر لأنه إذا قرأت في آية أخرى غير محدد فهو ليس الزكاة وإنما الزكاة وغيرها (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿١٩﴾) في سورة الذاريات.

المقدم: وهنا أيضًا لم يفرّق بين الصلاة والزكاة (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿٢٣﴾ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾)

د. المستغانمي: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾)) يتحدث عن طائفة المصلين، وهنا يتحدث عن طائفة الخاشعين المؤمنين الذين لهم أكثر من صفات جاء التعبير يختلف ولكل مقام مقال، هنا قال يداومون على الصلاة، يؤدون الزكاة المفروضة (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾)) (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٢٦﴾) هذه لم تذكر في الصفات السبع الأولى ولكنها ذكرت في وسط سورة المؤمنون (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴿٥٧﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴿٥٩﴾ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴿٦٠﴾) سورة المؤمنون تفصل وفي المعارج أوجزها في مكان واحد. (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴿٢٧﴾) هم من عذاب ربهم خائفون مشفقون من الإشفاق، لكن في سورة المؤمنون قال (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴿٥٧﴾) في سورة المؤمنين وصفهم بأنهم مشفقون من الخشية ومن تعظيم الله وهنا مشفقون من العذاب لأن سورة المؤمنين جاءت تثني على المؤمنين فأتت بأعلى درجات الإيمان (الخشية والوجل والخشوع) كلمات كأنها من عائلة واحدة بينما سورة المعارج سورة العذاب (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴿١﴾) وفي وسطها يقول (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴿١١﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ﴿١٢﴾ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴿١٣﴾ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ﴿١٤﴾) كلها عن العذاب فالأحرى أن يقول (مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) لا أن يقول من خشية ربهم مشفقون، لكل سياق مقال والقرآن دقيق. (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴿٢٨﴾) بينما في سورة المؤمنون الخشية تكفيهم. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) ذكرها في السورتين (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) ذكرها أيضًا وهي من أساسيات صفات المؤمنين، المصلّين الخاشعين.

المقدم: لماذا بالتحديد سورة المؤمنون وسورة المعارج ورد فيها هذا التشابه الكبير جدًا في الصفات؟

د. المستغانمي: الله سبحانه وتعالى تكلم عن المصلين في عدة مواضع لكن ليس بهذه الدرجة من التشابه، هنا وصف المصلين بأدنى ما يمكن أن يقدموه بما أن الآية قال (إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿٢٣﴾) يؤدون الزكاة، يحفظون فروجهم، يخافون من عذاب ربهم، هذا أدنى شيء. لو ارتفعنا قليلًا في سورة المؤمنون: خشوع، بعد عن اللغو، فعل الزكاة بأوسع معانيها بالمعنى الشامل للزكاة، المحافظة على الأمانات، لو ارتفعنا أكثر نذهب إلى المحسنين في سورة الذاريات (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٥﴾ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ﴿١٦﴾ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿١٧﴾ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿١٨﴾) لا يتكلم عن الصلاة العادية هؤلاء يصلّون بالليل، فهم يصلون الصلاة العادية من باب أولى لكن في الليل كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، هذه درجة الإحسان، (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿١٨﴾) ليست الصلوات العادية (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿١٩﴾) ما قال معلوم، حق أوسع من الزكاة، أبو بكر رضي الله عنه لما تصدق بماله سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تركت لأهلك؟ قال تركت لهم الله ورسوله. هؤلاء من المحسنين يعني ليس الزكاة المعلومة فقط، بل أوسع: الصدقات، الهبات، الإحسان. وصف المحسنين (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٥﴾ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ﴿١٦﴾) فلكل مقام مقال. (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴿٤٢﴾) في سورة المدثر (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴿٤٣﴾) ما صفات الذين سلكوا في سقر؟ (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴿٤٣﴾ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴿٤٤﴾ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴿٤٥﴾) عكس (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٤٦﴾) عكس سورة المعارج (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٢٦﴾)  نحن بحاجة أن نقرأ القرآن بذكاء. (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴿٤٧﴾ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴿٤٨﴾)

عندما وصف هؤلاء المصلين بهذه الصفات ختمها وقال (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴿٣٥﴾) أما في سورة المؤمنون (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿١١﴾) والفردوس أعلى جنان الجنّة. كما ورد في الحديث الصحيح.

في سورة المعارج العذاب أثّر على كل شيء، لما تحدث عن خلق الإنسان في سورة المؤمنون (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿١٣﴾ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾) لما كان القرآن ينزل – ورد في الأثر في التفاسير ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لأول مرة على كتبة الوحي، أبيّ بن كعب، كتبة الوحي الذين يكتبون زيد بن ثابت، عمر بن الخطاب، كما تقول الرواية – لا ندؤي سندها يذكرها المفسرون وليس ذلك ببعيد عن عمر بن الخطاب – لما وصل إلى (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ) نطق عمر وقال (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبها يا عمر هكذا نزلت. لأن عمر له مواقف كثيرة وافق فيها القرآن، فليس ذلك ببعيد.

المقدم: وهذا مما ذكرتم أن العرب كانوا يتوقعون نهايات الشعر أو الآيات لأن هذه من البلاغة ومن البيان الذي آتاهم الله إياه.

د. المستغانمي: عندما ذكر صفات المؤمنين ثم عقّب ذلك بالخلق (وَلَقَدْ خَلَقْنَا) اللام تفيد التوكيد وقد تفيد التحقيق و(نا) تفيد التعظيم وذكر المراحل (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾) سلالة أي صفوة الطين، من سلّ الشيء والسيف المسلول وفلان سليل دوحة الكرم من أعظمهم نسبًا وأرومة ومحتدا. إذن سلالة الطين عناصر، ثم ذكر المراحل بدقة وهذا ما أثبته علم الأجنة، إعجاز علمي عجيب نحن لا نخوض في علم الأجنّة، ثمّة علماء. نطفة فعلقة فمضغة (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)

انظر كيف ذكر مراحل الخلق في سورة المعارج (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ﴿٤٠﴾ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿٤١﴾ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿٤٢﴾) قبلها قال (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ﴿٣٨﴾ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ﴿٣٩﴾) هنا أبى البيان القرآني أن يفصّل، ما ذكر حتى كلمة منيّ أو نطفة، قال (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) للتحقير، ألا يعملون مم خلقناهم؟! كلمة نزّه الله القرآن عنها

المقدم: سورة المعارج فيها عذاب وفيها غضب من الله سبحانه وتعالى فبالتالي حريٌ بالإنسان الغضبان أن لا يفصّل كثيرًا، أنتم تعلمون مما خلقناكم

د. المستغانمي: أسلوب تحقير وتهوين من شأن هذا المخلوق الذي يتكبر، أيطمعون أن يدخلوا الجنة؟! ألا يعلمون مم خلقتهم؟! (كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) السياق والمقام يتطلب هذا النوع من الأسلوب لكن لما أراد الإعجاز في هذا الماء قال (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿٢﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿٣﴾ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴿٤﴾ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴿٥﴾ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴿٦﴾) سمّاه من ماء دافق، تكلم عن الإعجاز (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴿٧﴾) صلب الرجل وترائب المرأة، صلب الرجل العظام الظهرية وترائب المرأة العظام الصدرية والعلم الحديث أثبت أن الماء يصنع في هذه الأماكن.

أنبه إلى أن نقرأ القرآن قرآءة تكاملية، لما أراد أن يبين الإعجاز قال (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴿٦﴾) في آية أخرى هذا الإنسان الذي تكبر وتمطى وأعرض عن الله قال له (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ﴿٣١﴾ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴿٣٢﴾ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴿٣٣﴾ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿٣٤﴾ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿٣٥﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴿٣٦﴾ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ﴿٣٧﴾ القيامة) لم يقل من ماء دافق لأنه لا يستقيم، قال (مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) مهين لأنه يتمطى ويتطاول ويتكبر فذكّره الله سبحانه وتعالى بأصله.

سورة المؤمنون أثنت على المؤمنين في مواضع فجاء الأسلوب مزركشًا مزخرفًا بما يتناسب مع عظمة المؤمنين.

[1] ووردت أيضًا في سورة الشوى في الآية (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣٨﴾) حيث فرّق بين الصلاة والزكاة بالحديث عن الشورى لأهميتها في سورة الشورى والله أعلم.