في رحاب سورة

في رحاب سورة المؤمنون – 3 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة المؤمنون – 3

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

إجابة على أسئلة المشاهدين:

سؤال من الأخت عبير الحلّاق: ما المقصود بالآية الكريمة (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿١١٣﴾ البقرة) ومن هم الذين هادوا والنصارى والصابئين؟

ما المقصود بالآية (إني متوفيك)؟ وقوله تعالى (فلما توفيتني) كيف توفى الله عز وجلّ سيدنا عيسى عليه السلام ونحن نعلم أن الله لم يتوفى عيسى بل رفعه الله إلى السماء وسيبعث؟

د. المستغانمي: السؤال الأول المتعلق بقوله تبارك وتعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) من سورة البقرة هذا ذكر لما بين النِحل والمِلل المختلفة من تنازع فاليهود يضللون النصارى والنصارى يضللون اليهود، فالآية معناها قالت اليهود ليست النصارى على شيء حق يُعتدّ به ويُعترف به والنصارى ردوا عليهم بالمثل وقالت النصارى ليست اليهود على شيء يعتد به وليسوا من أمر الديانة من شيء صحيح وكذلك قالوا عن الإسلام لكن الحق أبلج كما يقول العلماء، فهذا التنازع بين الملل موجود.

المقدم: تأكيدًا لهذا التفسير قول اليهود (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)[المائدة:18] (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)[التوبة:30]

د. المستغانمي: وردّ عليهم القرآن كثيرًا خصوصًا في سورة آل عمران وسورة المائدة بشكل تفصيلي.

السؤال الثاني حول الذين هادوا هم اليهود، هادوا بمعنى تابوا إلى الله، (إنا هدنا إليك) تبنا إليك، هم في عهدهم تابوا إلى الله عز وجلّ مع موسى عليه السلام، النصارى هم أتباع عيسى عليه السلام، الصابئة تحدثنا عنهم في سورة الحج (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿١٧﴾) الصابئة هم فرقة يدّعون أن دينهم سماوي ويؤمنون بأبناء آدم، بشيث وبنوح عليه السلام وببعض الأنبياء ويؤمنون بيحيى عليه السلام ولكن الحقيقة دينهم ليس صحيحًا وهم يعبدون الكواكب ويقولون نحن لسنا في محل نستطيع أن نعبد الله فنستطيع أن نعبده عن طريق وسيلة فيعبدون الكواكب لتقربهم إلى الله زلفى وفي الوقت نفسه هم يوجدون في جنوب العراق خصوصًا وفي كثير من الدول وفيهم خلاف، بعضهم يقول هم فرقة من النصارى وبعضهم يقول هم قبل النصارى ويدّعون أن لديهم دينًا سماويًا وورد في الآثار أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب” يعني اعتبروهم في بعض الأمور لكن في الحقيقة حكم القرآن بضلالهم في الاعتقاد وبطلان دينهم.

السؤال الثالث: ما المقصود بـ(إني متوفيك) ونحن نعلم أن الله لم يتوفى عيسى بل رفعه؟

د. المستغانمي: هنا الآية تحتاج إلى تفصيل دقيق وأنا بحثت فيها عند جملة من العلماء ووصلت إلى ما يلي: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿٥٥﴾ آل عمران) (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ثمة طائفة من العلماء يقولون توفاه الله وفاة حقيقية ومن بينهم ابن عباس رضي الله عنه (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي إني مميتك، من الوفاة لأن التوفّي هو أن يقبض الله الروح، والتوفي لغة هو قبض الشيء مستوفًى، لما تذهب عند تاجر تقول وفّاني حقي، بلغ توفية الشيء حقّه ونصابه ثم اختار الله هذا الفعل وخصّصه في القرآن بالتوفّي بمعنى أن يأخذ روح الميت (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)[الزمر:42] (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴿١١﴾ السجدة) فعل التوفّي في القرآن مستعمل في هذا المجال، فقال العلماء لماذا نخرجه من سياقه؟ فالله توفى عيسى عليه السلام قبض روحه ورفعه وعندما يحين وقته ينزله والأحاديث في ذلك صحيحة والقرآن الكريم يقول (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ)[الزخرف:61] أي إنه لعلامة للساعة وورد (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)[النساء:159[ قبل موته المرة الثانية، هذا تأويل.

الرأي الثاني أن كثيرًا من العلماء يقول أنه رفعه وقبضه إليه دون موت وهو عنده جلّ جلاله وسيُنزله قبيل نهاية مدة الدنيا ويصلي وراء إمام المسلمين ويقتل الدجّال كما ثبتت الأحاديث الصحيحة ويوفِّقون بين هذا وذاك.

المقدم: هل هناك أقوال معتبرة في علماء المسلمين أن عيسى عليه السلام توفّاه الله؟

د. المستغانمي: نعم موجود، الإمام الحسن البصري وابن جريج يقولون متوفيك أي قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، ابن زيد يقول: متوفيك وقابضك ومتوفيك ورافعك نفس الشيء، الربيع عن ابن أنس: وهي وفاة نوم (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ)[الأنعام:60] النوم وفاة قصيرة، الإمام القرطبي يعلق قائلًا: والصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير موت ولا نوم وهو قول الحسن البصري وابن زيد، صاحب التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور يقول: إني متوفيك أي إني مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله في القرآن كله بالاستقراء، ويستدل أيضًا بقول الله تعالى على لسان عيسى (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)[المائدة:117] لأنه لا يدري فالوفاة تقطعه عن الدنيا فهو لا يعلم ما وقع بعده، فالقضية خلافية بين العلماء وابن عباس يقول مات موتًا حقيقيًا وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، والحديث في صحيح مسلم “يبعث الله عيسى” كلمة “يبعث” يعني بعد موته. فثمة أدلة متنوعة في هذه القضية والدقيق أن الله سيبعثه وسيصلي خلف إمام المسلمين ويُحق الحق ويصلي وراء جنازته المسلمون.

المقدم: عيسى عليه السلام ليس موجودًا بيننا الآن وسوف يعود بإذن الله كما تدل النصوص والأحاديث الواضحة في هذا الشأن، لكن الآن هل هو متوفى أو عند الله فهذا علمه عند ربي

د. المستغانمي: نحن ذكرنا أقوال العلماء ومن شاء مزيدًا من التفاصيل يمكن الذهاب إلى مفاتيح الغيب للرازي والجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

سؤال من الأخ أحمد الشرفات من الأردن: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴿١٠٦﴾ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴿١٠٧﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴿١٠٨﴾ هود) هل يُفهم من هذا أنه من دخل الجنة يخرج منها إن شاء الله وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ أنهما وردتا في سورة مكية؟

د. المستغانمي: سؤال وجيه جدًا ويلفت كل قارئ متدبر والآية لا بد أن نحملها على عادات العرب في كلامهم. كلام العرب عندما يقول (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴿١٠٥﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴿١٠٦﴾ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ) ليس معنى ذلك إذا انقضت السموات والأرض يخرجون، هذا المعنى غير مقصود.(ما دامت) على لسان العرب يقولون: سأدعو الله ما لاح برقٌ وما لاح كوكب، العرب يقولون في كلامهم هذا للدلالة على الديمومة وعدم الانقطاع، وهذا الرأي الراجح عند المفسرين (ما دامت السموت والأرض) تفيد التأبيد على لسان العرب أي كأنه يقول خالدين فيها أبدًا لأن العرب يقولون: والله سأفعل ذلك الأمر ما لاح قمر، وما لاح كوكب، ما دام الليل والنهار.

المقدم: هنا لفتة لغوية أسأل عنها (ما دامت السموات والأرض) أين خبرها؟

د. المستغانمي: باقيتين، لم يذكره، الحذف موجود في اللغة العربية ما دامت السموت والأرض مستمرتين باقيتين لكن نحن نعرف في القرآن الكريم (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات) لو ربطناها بوجود السموات والأرض معنى ذلك لا يدومون، لا. هو في الحقيقة تفيد الدوام والتأبيد. الإشكال يقع في قوله (إلا ما شاء ربك) الاستثناء سواء في حق أهل النار أو في حق أهل الجنة، الاستثناء هنا ليثبت عقيدة المشيئة المطلقة عند الله سبحانه وتعالى وهذا كلام الإمام القرطبي، كلام الإمام الرازي، كلام صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا وصاحب محاسن التأويل جمال الدين القاسمي يقول (إلا ما شاء ربك) يعني الله سيخلِّد الكافرين المشركين في جهنم ولكن تبقى المشيئة مطلقة، خلودهم ليس طبيعيًا إنما هو خلود بمشيئة الله سبحانه وتعالى لو شاء أن يغيّر النظام لفعل لكن شاءت قدرته ومشيئته أن يخلد الكافر في النار، فهي من باب فتح باب المشيئة المطلقة دائمًا الله تعالى مشيئته مطلقة. في القرآن الكريم سيدنا شعيب عليه السلام قال له قومه (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴿٨٨﴾ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا)[الأعراف] شعيب متأكد وموقن، هو نبي ومع ذلك ترك استثناء المشيئة بيد الله (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴿٦﴾ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴿٧﴾ الأعلى) فتح باب المشيئة هذا شيء عظيم. الدليل على أن عذاب الكافرين ثابت وخالدين في النار ونعيم المؤمنين الصادقين الموحّدين ثابت نعيم في الجنة أن الله تعالى لما علق على المؤمنين قال (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع، الجذاذ هو القطع (جعلهم جذاذا) أي قطعًا، عطاء غير منقطع هذا دليل على الاستمرار، ذكرها في الجنة ولم يذكرها في النار لأنه في الجنة فيها امتنان وإحسان فيحسن تذييل الآية (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) لو قال لأصحاب النار “عذابا غير مجذوذ” ليس فيها تفضّل، أنهى آية النار بقوله (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وهذا فعله العدل وأنهى آية الجنة (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هذا الخلود في الجنة دليل على الخلود في النار، إنما جاءت الآية على وفق لسان العرب.

سورة المؤمنون

المحور العام للسورة والأفكار الرئيسية في السورة:

سورة المؤمنون تتحدث عن صفات المؤمنين ذكرتها في بداية السورة وفي وسطها وفي نهايتها. هذا المحور العظيم أيضًا يدور حوله مواضيع تلتفّ حوله هي تعتبر ملامح رئيسة للسورة: أول ملمح التوحيد، وإن كان ثمة سور كثيرة محورها التوحيد، محور التوحيد موجود في كثير من الآيات، محور رسالة الأنبياء، محور نفي البشرية الذي عوّل عليه المشركون (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) جاءت السورة تبين أن حقيقة الرسل هم بشر بدليل أنهم يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون وجاء كثير من الأدلة لإثبات بشرية الرسل أنهم بشر بعثوا لبشر لأنه لو بعث الله ملائكة كما يقولون لقالوا هؤلاء ملائكة يطيقون ما لا نطيق، لا يأكلون ولا يشربون ولا يتعبون،

المقدم: وذكر ذلك واضحًا جليًا في سورة الإسراء (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴿٩٥﴾)

د. المستغانمي: وذكر هنا أيضًا (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ) هذا ملمح من ملامح السورة. ثم ورد في السورة أدلة الخلق وأدلة الكون كما تكلمنا على خلق الإنسان، خلق السموات، إنزال المطر، من بيده ملكوت السموت والأرض، من الذي يجير ولا يجار عليه؟ للتذكير بالعقيدة الصحيحة لكن المحور الأساسي سماها الله سورة المؤمنين كما سمى سورة للكافرين وكما أن ثمّة سورة للمنافقين.

المقدم: ندخل موضوعًا جديدًا وهو حديث الله سبحانه وتعالى في هذه السورة حول الجنات والنخيل وقبل ذلك حول الماء الذي أنزله من السماء. هنا ذكر الجنات والنخيل والأعناب والزيتون ليس مقتصرًا على هذه السورة بل ذكره في مواضع كثيرة لكن ليس بنفس الترتيب، هنا قدّم الجنات النخيل والأعناب والفواكه على شجرة الزيتون ولم يقل شجرة الزيتون لكن قال (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) نريد أن نقف عند هذه الآيات.

د. المستغانمي: من نعم الله على البشر أن أنشأ الله الجنات في الأرض أكلًا سائغًا للبشر حتى تستمر حياتهم، فأنواع الثمار وأنواع الفواكه أنواع القوت تختلف وتتنوع. هنا يمتن الله عز وجلّ على البشر جميعًا أن أنشأ لنا جنات من نخيل وأعناب ودائمًا يتحدث الله عز وجلّ عن النخيل والأعناب لأنها من الثمرات التي يعرفها العرب في بلادهم. أحيانًا يقدّم الخضراوات: الزيتون والزرع (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿١١﴾ النحل). هنا للامتنان، بيان الامتنان والإحسان فبدأ بالنخيل والأعناب، النخيل يعطينا التمر والتمر قوت وفاكهة منه الرُطب ويقتات منه الناس، يتقوّت منه الناس ويقتاتون ويأكلون، القوت والفاكهة مرعيان فيه، والعنب نأكله عنبًا ونأكله زبيبًا، هو قوت وفاكهة وأخّر الزيتون لأنه قوت فقط بينما عندما يقول في سورة النحل سورة النعم قال (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)

المقدم: مع أنه في هذه الآية (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿١٩﴾) قدّم الفواكه على القوت

د. المستغانمي: والفاكهة تؤكل، هو يتكلم عن (منها تأكلون) من جنات التمر من النخيل من الأعناب من الفواكهة، أنهاها بالفواكه وهنا أسلوب امتنان (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ) ذكر خلق الإنسان بطريقة الامتنان عليه وهنا أيضًا قدّم الفاكهة والقوت على الزيتون بينما في سورة النحل قدّم الزيتون والزرع على الفاكهة لأنها سورة النعم بسط فيها جميع النعم من مأكولات ومشروبات. في سورة المؤمنون يمتنّ الله تعالى على المؤمنين أن سخّر لهم كل هذا.

(فواكه كثيرة) أحيانًا نجد آيات فيها فواكه بدون وصف كثيرة، فاكهة الجنة كلها كثيرة (لا مقطوعة ولا ممنوعة) لكن أشير فقط أن (فواكه كثيرة) للمؤمنين الصادقين الخاشعين تتناسق مع المنافع الكثيرة في الأنعام لما قال (و وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ) بينما في آيات أخرى ذكر (ولكم فيها منافع). في سورة الصافات يقول (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ﴿٤١﴾ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ﴿٤٢﴾ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿٤٣﴾) لم يقل هنا فواكه كثيرة لأنه ليس في سورة الصافات ما يقتضي هذا الوصف، كان يتكلم عن الأبرار في الجنة. في سورة المرسلات يقول جلّ جلاله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ﴿٤١﴾ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴿٤٢﴾) لم يقل وفواكه كثيرة، في سورة ص (مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ﴿٥١﴾) هنا وصف الفاكهة الكثيرة والمفروض: وأشربة كثيرة، لو قال بفواكه بالجمع تأتي (وأشربة) حتى لا يختلّ إيقاع سورة ص، جمعٌ فإفراد، شراب إفراد، فصل الخطاب، إنه أوّاب، هي نفسها، هي في الحقيقة نفسها، الجنة فيها فاكهة وفواكه، عندما يقول فاكهة ليس المقصود بها حبة وإنما جنس الفاكهة، كل أنواع الفواكه إلا أنه هنا قال (بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ) لم يقل بفاكهة وشراب لأنه موجود في سورة ص (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ) هذا نظرية التجاذب.

لو جئنا إلى سورة يس (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿٥٥﴾ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴿٥٦﴾ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ﴿٥٧﴾) لا يوجد ما يقتضي كثيرًا بينما في سورة المؤمنون ثمّة ما يقتضي (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿٢١﴾ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿٢٢﴾) وهذا من الامتنان العظيم في سورة المؤمنون على المؤمنين الخاشعين الصادقين.

المقدم: قال (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) ما قال زيتون ولكنها الزيتون؟

د. المستغانمي: هي الزيتون، وأنا أقرأ لدى المفسرين (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) وهل شجرة الزيتون تخرج فقط في سيناء؟ أول ما أنبتها الله في هذا المكان بدليل (أنشأنا) الإنشاء من البداية، أنشأ الإنسان (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ)، أنشأنا الجنات، أنشأنا رسلًا، فهو لم يقل عن الإنبات، بعدما أنشأها في بلد الطور وفي سيناء بعد ذلك أُخِذت وكان الإنبات في جميع الأرض، هنا يتحدث عن البدايات.

المقدم: لعله هنا يستقيم مع قول الله سبحانه وتعالى (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿١٩﴾ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) كأنه يستقيم قول: فأنشأنا به شجرة تخرج

د. المستغانمي: هذا هو المطلوب، العطف هنا وارد والواو عاطفة ليست استئنافية: أنشأنا به جنات وأنشأنا به شجرة والفعل لا يُعاد لأنه مفهوم.

المقدم: وكيف استدللت على ذلك؟ هل في القرآن موضع آخر ذكر فيه: أنشأ الزيتون؟

د. المستغانمي: السياق كله عن الإنشاء وإنما جاءت الواو عاطفة (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ) أي وأنشأنا شجرة لأن التعاطف نعطف على ما سبق والجملة السابقة فيها فعل ماضي و(شجرةً) مفعول به.

المقدم: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ) ما معنى صبغ للآكلين؟

د. المستغانمي: يصبغ به، “كلوا منه وادّهنوا” زيت الزيتون الذي يُعصر من الزيتون هو صبغ للآكلين كانوا يأتدمون به وانظر إلى الآكلين كيف أضافها، كل هذه الكلمات جمعها الله في سياق واحد ثم يعطينا الخلاصة عندما نصل إلى قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) كل هذا تمهيد وإلا الله جلّ جلاله كان يستطيع أن يقول وهو مستطيع وشجرة تخرج من طور سيناء وصبغ، (لِلْآَكِلِينَ) هو يمهّد للبشر والرسل بشر.

المقدم: يستمر الحديث حول الأنعام (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿٢١﴾ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿٢٢﴾) حتى يأتي بداية القصص، نرى الحديث حول الأنعام والامتنان على المؤمنين بالأنعام واضحًا جليًا في هذه السورة فما دلالة هذا الأمر؟

د. المستغانمي: أولًا الأنعام ذكرهم في كثير من السور، في سورة الأنعام وفي سورة النحل ذكرهم ذكرًا مفصًلا للأنعام وفي سورة المؤمنون وأيضًا (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴿٧١﴾ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴿٧٢﴾ يس) فالأنعام نعمة عظيمة والعرب كانوا على صلة بالإبل على وجه الخصوص، هي سفينة الصحراء ومنها يشربون اللبن ويتفاخرون بما لديهم. (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿١٧﴾ الغاشية) العربي عندما كان يحبّ بعيره ويحبّ ناقته أحيانًا أكثر من حبه لأولاده أو حتى لنفسه. ثم قال (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا) اللبن، هذه نعمة، ونأكل من لحومها، جلودها وأصوافها وأوبارها نستفيد منها أيضًا، الأنعام يقصد بها الإبل والمعز والبقر والغنم لكن يرجح دائما لما قال (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) الإبل لأن العرب يعرف قيمة الإبل، هذا الحضور واضح في سورة المؤمنون لأنها تمتنّ على المؤمنين بهذه النعم.

في سورة النحل ذكر الله تبارك وتعالى الأنعام في ثلاثة مواضع: في بداية السورة وبعدها بقليل وفي نهايتها، شيء لافت للانتباه، في البداية يقول (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) قال منافع ولم يقل كثيرة (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ثم قال (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴿٦﴾) سياق سورة النحل هي سورة النعم وسورة الرحمن هي سورة الآلآء، ذكر نعمة الله في الأنعام وقال (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) الدفء يؤتى من الجلود، جلود الغنم وجلود البقر وجلود الماعز، هذا الدفء الذي يجده العربي ويجده غير العربي (وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ربط الدفء الذي نجده في تلك الجلود (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) العربي كان يجد متعته عندما يكون القطيع عائدًا (حِينَ تُرِيحُونَ) العودة من الرعي (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) قدّم العودة على الذهاب لأن الفلاح يكون فرحًا مسرورًا بعودة النوق وهي محمّلة، بعودة القافلة، النظرة الجمالية في القرآن مقصودة فقال (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) الناس يتفاخرون بالملابس الجلدية.

في وسط السورة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) – وفي سورة المؤمنون قال (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا) – من لبن (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا) هنا التركيز على نعمة اللبن لأن السياق يتحدث عن المشروبات (سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) وعطف عليها (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿٦٧﴾) النبيذ ولم يكن قد نزل تحريمه في مكة، (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) هذا إشارة إلى أن البيع والتجارة والأكل أحسن من الشرب لكن هو ذكر ما يستخرج من النخيل والأعناب وقال (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) وبعدها قال (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) في سياق الشراب الذي يخرج من النحل وهو العسل وما يخرج من الثمرات ذكر ما يخرج من الأنعام.

في نهاية السورة قال (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا) كيف كان العربي يصنع خيمته من جلد الناقة ويستخفّها يحملها وهو يرحل (تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) جاء هذا المقطع في المقطع الذي يتحدث عن البيوت وعن الأكنان وعن الجبال (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) فالقرآن دقيق جدا يأتي بالنعمة في سياقها.

في سورة المؤمنون (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) امتنان وإحسان (مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) كأنه يقول تنتفعون بها في أسفاركم ومنها أيضًا تأكلون (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿٢٢﴾) وجاء بالفلك هنا في الحديث عن الأكل والأنعام لأن الفلك هو وسيلة من وسائل النقل البحرية المواصلات البحرية وزالأنعام وسيلة العربي سفينة الصحراء فجمع بين النعمتين نعمة وسيلة التنقل البرية ووسيلة التنقل البحرية (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿٢٢﴾) ثم جاء بعدها (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا) هذا يسمى حسن التخلّص وهو شيء رائع في القرآن. حسن التخلص في البلاغة هو أن يأتي المتكلم البليغ وفضلًا الله تعالى أبلغ البلغاء، القرآن كله بلاغة، يأتي المتحدث بكلام ثم يشفعه بجملة يتخلّص منها إلى موضوع آخر هو الأساس وهو المطلوب -إن صح التعبير- وهنا قال (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿٢٢﴾ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) نوح مشهور بصناعة الفلك وقومه يسخرون منه.

المقدم: ما الفرق بين (من بطونه) (من بطونها)؟

د. المستغانمي: في اللغة العربية دائمًا التأنيث أكثر من التذكير، المؤنث كثير في القرآن، (وقال نسوة) نسوة مؤنث وجاء الفعل (قال) مذكرًا لأن عدد النسوة قليل، نسوة هو جمع تكسير يجوز فيه الوجهان قال نسوة وقالت نسوة، نسوة مؤنث حقيقي لكن لأنه جمع تكسير يجوز فيه تذكير وتأنيث الفعل، قال رجال وقالت رجال، قالت العرب وقال العرب، هذه قاعدة معروفة، قالت الأعراب وقال الأعراب. النسوة اللواتي قلن حديثًا عن امرأة العزيز عددهم قليل فمع القليل جاء بالفعل مذكرًا ومع الأعراب وهم قبائل كثيرة جاء الفعل مؤنثًا (قالت الأعراب آمنا) هذه قاعدة معروفة في اللغة العربية، المؤنث دلالة على الكثرة.

في سورة النحل عندما قال (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أتى بهاء الغائب التي تدل على المذكر (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا) كم عدد الأنعام التي يسقينا من بطونها لبنا؟ قليل، اللبن يؤتى من الإناث فقط ليس من الذكور ومن الإناث في أزمنة معينة، إذن العدد قليل فجاء (مِمَّا فِي بُطُونِهِ). في سورة المؤمنون الحديث عن الأنعام، كل الأنعام (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا) أتى بالمؤنث لأنه ذكر كثيرًا من منافعها. في سياق سورة النحل ذكر فقط اللبن، في سياق اللبن الإناث فقط، في سياق الأكل والشراب والمنافع الكثيرة عدد كبير من الأنعام ذكورا وإناثًا، التي تلد والتي لا تلد فناسب (مِمَّا فِي بُطُونِهَا) جميعًا، سياق الكثرة اقتضى الهاء (مِمَّا فِي بُطُونِهَا) وهذا معهود في اللغة العربية.

المقدم: بدء القصص في سورة المؤمنون والبداية كانت من قصة سيدنا نوح عليه السلام ولا شك أن القصص في القرآن حافل وهو في سورة المؤمنون لم يذكر قصة نوح فقط وإنما جاء بقصص أخرى كذلك. نتوقف وقفة عامة حول القصص التي وردت في سورة المؤمنون والاختلاف بين ما ورد هنا وبين ما ورد في أماكن أخرى، مثلًا قصة نوح من الأماكن القليلة التي جاءت مفصّلة كما وردت في سورة المؤمنون، ربما في سورة نوح كذلك؟

د. المستغانمي: وفي سورة هود، في سورة المؤمنون فيها تفصيل ولكن موضع سورة هود أكثر تفصيلًا وثمّة أسباب. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٢٣﴾) مثيلتها من سورة هود (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿٢٥﴾) تشبهها لكن هناك خلاف (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿٢٦﴾) أما هنا في سورة المؤمنون ليس فيها تهديد ولا يوجد وصف الإنذار (إني لكم نذير مبين). القصص في كل القرآن وهذه قاعدة عامة يخضع لجو السورة يخضع لهدف السورة، سورة تتحدث عن التكذيب يؤتى من قصص الأنبياء ما يؤيد أن الأقوام السابقين كذّبوا فنالهم العذاب وأهلكهم حتى يتعظ المشركون والمخاطبون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذوا العبرة من الأقوام السابقين.

لو ذهبنا إلى سورة القمر (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿١٨﴾) (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ﴿٢٣﴾) وتحدث عن تكذيبهم وعن إلحاق العذاب بهم. هنا جاء التركيز على الأمر بالعبادة والأمر بالتقوى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٢٣﴾) ما ورد من قصة نوح في سورة المؤمنون هو في الحقيقة مرآة صغيرة لما عاشه محمد صلى الله عليه وسلم، كل ما أنطق الله نوحًا في قصته وما صوّرته لنا جاء في سورة المؤمنون ما يشبهه من حياة محمد صلى الله عليه وسلم. مثلًا نوح عليه السلام قال لقومه (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) نوح أمر بالعبادة وسورة المؤمنون تأمر بالعبادة (في صلاتهم خاشعون، للزكاة فاعلون) عبادات. سيدنا نوح قال لقومه (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) توحيد، تقرأ في سورة المؤمنون (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿٨٦﴾ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٨٧﴾) ما جاء على لسان نوح موجزًا جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مفصّلًا لأن القرآن موجّه للعرب ولأمة الإسلام والمسلمين ليس لقوم نوح، نوح ذكّرهم ما قال فقط (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هو قال كثيرًا لكن أوتي بهذه العبارة الجامعة وفي عهد محمد صلى الله عليه وسلم تم تفصيلها (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴿٧٨﴾) هذه دعوة للتوحيد، (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿٧٩﴾) من هو الله، عرّفنا بالله الذي تأمرنا بعبادته، الله الذي أأمركم بعبادته هو الذي ذرأكم في الأرض، الله الذي أأمركم بعبادته هو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار. فما جاء على لسان نوح موجزًا أو أي نبي موجزًا جاء مفصّلًا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم

نوح قال (أَفَلَا تَتَّقُونَ)، محمد صلى الله عليه وسلم قال (أفلا تتقون، أفلا تذكّرون، أفلا تعقلون، فأنّى تسحرون) أيّها أكثر تفصيلًا؟! القرآن موجه للعرب، للمسلمين، للأمم. في قصة نوح عليه السلام قال قومه عنه (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) به جنّة يعني مجنون، هم تحرزّوا ما قالوا مجنون، تأدبوا لكنهم سيقولونها في موضع آخر لما أراد الله تعالى تصوير هلاكهم في سورة القمر (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) وقتها انتهى الكلام (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴿١٠﴾) فجاء العذاب. بينما هم قالوا (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) لغويًا: ما هو إلا رجل به جُنّة. المشركون قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴿٦٩﴾ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) كل ما جاء هناك جاء مفصّلا مفرّقًا (أم يقولون به جنّة) لكن الفرق أن نوحًا جاءت القصة أقول مجرّدة والقصة في عهد محمد جاءت بردّ من الله (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ) الله تعالى لم يتخلى عن محمد صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب موجه لقومه اتهموه بالجنون الله تعالى رد عليهم (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ). سنقرأ بعد قليل الرسول الذي سيأتي (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ﴿٣١﴾ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٣٢﴾) نفس الكلام ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم، قال (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) لماذا كل هذا التفصيل؟ أرسلنا فيهم رسولًا منهم وهذا الكلام ينطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسولا فيهم، في قريتهم، منهم، من نسبهم ينحدر من أصولهم، لما جاء عند الرسول صلى الله عليه وسلم قال (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) هو ولِد فيكم، هو ابن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، قال أحد المفسرين: وكفى بالخطبة التي ألقاها أبو طالب في نكاح خديجة – ذكر كل النسب وكل حسب ونسب – قال كفى برُغائها مناديًا. كفى بهذه الخطبة العصماء منادية عليه، كانوا يسمونه الصادق الأمين (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)؟!.

نوح عليه السلام، أفصّل حتى يعكس القارئ القصص على حياة محمد صلى الله عليه وسلم هذا هو المطلوب، لما دعا ربه (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴿٢٦﴾) قال (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) وذكر عذابهم بشيء من الاختصار ذكر عذاب المشركين (لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴿٦٥﴾) ثم قال (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴿٧٧﴾) ذكر كيف عذبهم في الدنيا وسوف يعذبهم في الآخرة من مات على الشرك. في قصة نوح الموجزة قال(فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿٢٨﴾ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴿٢٩﴾) علّمه كيف يدعو. البيان القرآني ركّز على دعاء نوح، سورة المؤمنون علّم الله تبارك وتعالى محمدًا كيف يدعو (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴿٩٣﴾ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿٩٤﴾) وفي الآخر قال (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴿١١٨﴾) علّمه كيف يدعو كما علّم نوحًا عليه السلام (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴿٩٧﴾ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴿٩٨﴾) نفس التعليم موجه لنوح، نفس التعليم موجه لمحمد صلى الله عليه وسلم وثمّة تفاصيل عندما نصل إلى القصص الآخر.

المقدم: هنا نجد في الآية الأولى (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) ونجد في الآية الأخرى (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ما الفرق بين التعبيرين؟

د. المستغانمي: التعبير في قوم نوح (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الملأ هم الذين يملأون العيون بهجة ووقارًا ويملأون العوين أبّهة، بينما الفقراء لا يملأون العيون حتى وإن زاد عددهم، المقصد قال الملأ كبار القوم من قوم نوح كفروا، الآية عبّرت عن الملأ الذين كفروا. بينما الآية الثانية (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا كل قومه الذين كفروا، الرسول الثاني عانى عناء أكثر، نوح (وما آمن معه إلا قليل) هذا أكثر لأن الآية قالت (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الذين كفروا صفة للقوم وليست صفة للملأ بينما التعبير الأول ركزت على الملأ الكافرين هنا الموقف الثاني لما قال (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴿٣٣﴾) ما قال هذا الكلام في الأول قال (كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ) أخّر الصفة ليعطف عليها، أخّر صفة الكفر لأنه لو قال: “قال الملأ الذين كفروا من قومه وكذبوا” يلتبس الكلام.

القصة الثانية -والعلماء يقولون إنها تخص سيدنا صالح عليه السلام- (رَسُولًا مِنْهُمْ) بدليلان اثنان: (لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وفي سورة الحجر (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴿٨٣﴾)، هذا رأي العلماء المفسّرين في الاستنباط، لكن الله تعالى ما ذكر اسم النبي إنما العبرة أن النبي كان منهم ودعاهم والذي يهمنا في هذا السياق أنهم كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم، نفس الصفات كانت في المكذبين من قريش كفروا وكذبوا (أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿١٠٥﴾) ثم قال (وَأَتْرَفْنَاهُمْ).

https://www.youtube.com/watch?v=76nTyU-ExYw&index=23&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5