في رحاب سورة

في رحاب سورة المؤمنون – 5 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة المؤمنون – 5

تفريغ الأخت نوال جزاها الله خيرا لموقع إسلاميات حصريًا

إجابة على أسئلة المشاهدين:

الأخت عبير الحلاق سألت مجموعة من الأسئلة وكنا قد أجبنا على أحد أسئلتها في حلقات سابقة، ومن الجيد كذلك أن نعود مرة أخرى إلى بريدها الإلكتروني للإجابة عن سؤال آخر، كانت تقول: في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}، هل هذا له علاقة بما يحدث هنا في أمريكا؟ هي مقيمة في أمريكا يبدو أنها، حيث أن كثيرًا من المشركين والعياذ بالله سمعنا أنهم قتلوا أبناءهم ومنهم أطفال بدون سبب، يعني هو الأبلغ في اللغة العربية أن تقول: من دون سبب أو المقصود منها معنىً آخر؟

د. المستغانمي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، في الحقيقة الآية عامة ونزلت في الاعتراض على ما كان يقوم به أهل الجاهلية من وأد البنات وقتلهن، فكما قال جل ثناؤه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}.

– لكن هنا قال: {أَوْلَادِهِمْ}.

– الأولاد بشكل عام.

– إي يجوز للولد والبنت.

– والمقصود بها بالدرجة الأولى البنت، لماذا؟ لأنهم كانوا يقتلون البنات مخافة العار ويقولون: إن البنات يجبن الآباء، يعني يجبنهم أي يجعلن الآباء في جبن عن الذهاب إلى المعارك وخوفًا من العار.

– وإن كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق كذلك.

– نعم، لكن هنا الآية عامة كما تفضلت، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}، يعني بناء الآية عجيب نوعًا ما نقف عنده. فيها تقديم وتأخير وفيها التزيين كذلك، {كَذَلِكَ} الكاف هنا تعود على هذا التزيين، يومًا ما تكلمنا عندما جئنا إلى تشبيه القرآن بالقرآن، هنا {كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} كذلك التزيين، زين كثير الشركاء قتل الأولاد؛ يعني بلغة بسيطة إذا جئنا إلى أن نشبه هذا عملية القتل، هذه العملية عملية القتل في بشاعتها وفظاعتها فلن نجد مشبَّهًا به أكثرًا منها. {كَذَلِكَ} كذلك القتل، {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ}

– يعني أشبه هذه الحادثة بذاتها.

– نعم، “والسفاهة كاسمها” هكذا يقول العرب، فشبه قتلهم أولادهم بقتلهم لأولادهم في الفظاعة والشناعة هذا أمر غير جيد، ما الذي يجعل إنسانًا يقتل ابنه خوف الفقر أو يقتل ابنته خوف العار؟ هذا شركاء يعني شياطين الجن والإنس، لذلك الآية تصف ما كان يقدم عليه الجاهليون وتبطل أعمالهم الباطلة.

– الآن هو ينطبق على أمريكا ولا لا ينطبق على أمريكا؟

– ليس شرطًا يعني هذا يعني نحن نقول: الآية فيما نزلت فيه وهؤلاء طبعًا المشركون الكفار يعني يفعلون العجب، وساوسهم وتصرفاتهم تدعوهم إلى أن يفعلوا الكثير

– بل يفعلون أكثر من ذلك أحيانًا.

– نعم، لكن هذا هو معنى الآية والشركاء يزينون لهم قتل أولادهم {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}، {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} يظنون أن هذا يتقربون به إلى الله، وإلى آلهتهم. (ليلبسوا): ليجعلوا دينهم ملتبسًا في أذهانهم، أثمة عقيدة تدعو إنسانًا إلى قتل أحب خلق الله إليه وهو ولده؟ ولذلك ورد في آيات أخرى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}، {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} حاضر خشية إملاق متوقع أو من إملاق حاضر.

– من هذه من السببية أو من؟

– ولا تقتلوا أولادكم بسبب الإملاق الحاضر {مِنْ إِمْلَاقٍ}، والثانية {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} متوقع.

– المستقبلي.

– لذلك في {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاهُمْ} لما يكون الفقر الإنسان يريد يطمئن على نفسه، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}.

– يعني إذا كان الفقر حاضرًا فنحن نرزقكم بداية منكم.

– ثم نرزق أبناءكم.

– ثم نرزقهم.

– أما خشية الإملاق المتوقع.

– وأنتم تستطيعون العيش الآن.

– {نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}. والآية في سورة الإسراء موجهة للأغنياء بدليل {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}، والمبذر يعني لا يخاطب الفقراء بالتبذير لأن ليس لديهم شيء. فأنا فقط أقول للأخت السائلة: بأن الآية عامة وقد تنطبق على الجميع يعني.

سؤال آخر ورد من الأخ بكار عبر البريد الإلكتروني للبرنامج، قال: جزاكم الله خيرًا، ما هو الفارق بين أتاك وجاءك في التعبير القرآني بشكل عام ومثال ذلك: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، و{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}، بشكل عام ما الفرق بين جاء وأتى؟

– هذه في الحقيقة بحثت فيها وتكلم عنها العلماء الذين تكلموا عن المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، هو أتى وجاء من الأفعال المتقاربة المترادفة، لكن في القرآن

– لكن ليس في القرآن مترادف.

– نعم أقول: متقاربة مترادفة في المعنى، لما يقولوا: أتى أو جاء، لكن في القرآن ثمة أسباب في كل سياق، لا يوجد ترادف بمعنى الترادف.

– لماذا استعمل أتى هنا ولم يستعمل جاء، واستعمل جاء هنا ولم يستعمل أتى؟

– لا بد على المفسر أن يطرح السؤال، من بين الأسئلة الإجابات التي ذكرها المفسرون أن الفعل أتى فيه سهولة، سهولة في النطق وسهولة في المأتى، لذلك الفعل أتى جاء بجميع التصرفات في القرآن أتى، يأتي في المضارع، آتٍ.

-إيتوني.

– إيتوني في الأمر، مأتيًا اسم مفعول بينما جاء لم يأتِ إلا في صيغة الماضي، لم يأتِ منه المضارع يجيء.

– ما جاء يجيء؟

– أبدًا والمصدر المجيء.

– جيء.

– أو جاءٍ.

–  جيء.

– جيء في نعم، وجيء بجهنم، نعم.

– وجيء بجهنم.

– في الماضي المبني للمجهول، أما المضارع يجيء أو المجيء أو الإنسان جاءٍ على اسم فاعل، لم تأتِ في القرآن أبدًا إلا الماضي منها، لماذا؟ نظرًا لصعوبة الجيم والألف والهمزة في التلاقي بين هذه الحروف صعوبة، فالملاحظ من قراءة السياق القرآني في عدد من المواضع أن جاء تستعمل في الشدة. {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ}، جاء فيها شدة، المرسلون من الملائكة جاءوا لينفذوا قضية معينة. لما نقول: إبراهيم الخليل قال لأبيه {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} لم يقل أتاني، جاءني فيها ثقة في النفس، {جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي}.

– {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} جاء نصر الله نعم، أتى تستعمل فيما يكون فيه سهولة وأحيانًا تنوب هذه عن هذه لكن السياق يحدد. مثال: أتى، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} {مَذْكُورًا}، أو {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}.

– معنى الحديث هنا حول أمر شديد.

– جميل لكنه في أمر الله وفي يده، أتى.

– {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}.

– {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، كل ما أتى من قبل الله سبحانه وتعالى.

– للنبي صلى الله عليه وسلم.

– صلى الله عليه وسلم، فيه سهولة، نعطيك مثال أن جاء، جاء تستعمل لما فيه مشقة مثلًا، المثال الذي يوضح {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} يثبتهم، الرسول وما أدراك ما رسول وأحيانًا يستيئس من إيمان قومه ويكون في حالة نفسية قوية وشديدة.

– بينما هناك قال: فأتياه {فاتياه فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}.

– جميل جدًا، فأتياه بطريقة ذكية وسهلة، لا، الآية ثمة آية مشابهة للأولى بتقول: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}، هنا يقول: جاءهم نصرنا، وهنا يقول: أتاهم نصرنا.

– طيب هنا نفس المعنى.

– لا، كذِّب الرسل تكذيب الرسل معهود، كم من الرسل كُذِّبوا؟ كثير معظمهم، لكن {اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} أي دخلوا في مرحلة الشدة واستيأسوا. استيأسوا بمعنى وصلوا إلى درجة في الشدة.

– مع أن استيأس استفعل يدل على طلب الشيء

– نعم، فيها مبالغة التصوير، مبالغة اليأس الذي كاد أن يصيب قلوبهم، هنا جاءهم نصر يعني نصر الله سبحانه وتعالى يثبت قلوبهم، فمرحلة الشدة جاء فيها جاء، مرحلة العادية إن صح التعبير جاء أتى، هذا ما يقوله العلماء يعني ليس كلامي فقط، يعني ومن أراد مزيدًا يعني فليذهب إلى كل السياق. يتحدث عنه المفسرون في كل سياق يفسر ذلك، بارك الله فيك.

سورة المؤمنون

توقفنا في الحلقة الماضية حول قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}. كنت أريد أن نعود قليلًا إلى الوراء، تذكرت أننا في حلقات ماضية تحدثنا حول قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}. في سورة الأنبياء وردت آية مشابهة: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا}، وشرحنا هذا في سورة الأنبياء. لكن من الجيد كذلك أن نعود فنشرح هذا الأمر للإخوة المشاهدين، لماذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} ولم يقول: آيتان، ومباشرة بعدها قال: {وَآوَيْنَاهُمَا} بالمثنى، بينما هنا قال: {آيَةً} واحدة وليس آيتان؛ هذا شيء، والشيء الثاني كذلك من الملاحظ حينما يقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى}، {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} { إِلَى فِرْعَوْنَ}، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى}، ثم يقول بعد هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا}، كل الحديث عن الرسل وعن رسالاتهم إلا أنه عن ابن مريم تحدث عن خلقه وعن أمه فبالتالي هذا ربما فيه كذلك وقفة.

– {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}، أولًا: قصة عيسى ابن مريم وقصة أمه وردت في آية واحدة هذه{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أقصد في سورة المؤمنين في آية واحدة. المراد {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} لأن في مولده وفي خلقه معجزة، هو ولدته أمه من دون أب ومن دون زواج. {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}، فخلقه الله خلقًا مباشرًا، كن فيكون {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}، {قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، أولًا: أتطرق إلى المقارنة الأولى التي تحدثنا عنها، هنا قال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} بينما في سورة الأنبياء كما ذكرنا {جَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا} قدم مريم عن ابنها؛ لأن النعمة، أراد في سورة الأنبياء أن يذكر نعمته على مريم ونعمته على عيسى عليه السلام وذكر حصانة مريم وعفتها وطهارتها {نَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} كرّم مريم وكان السياق يتناسب مع التكريم. هنا الحديث موجه إلى الأنبياء مباشرة، بدليل {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ} الحديث يتحدث مع الأنبياء، والخطاب للأنبياء تحدث عن نوح وتحدث عن {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} إلى أن يقول: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ}، هنا حري بالسياق أن يقدم ابن مريم وليس أمه. هذه رقم واحد، (جعلناهما آية) لأنهما مشتركان في المعجزة فوحّدها، تقول: لماذا لم يقول: آيتين؟ ابن مريم أو عيسى لوحده ليس آية ومريم لوحدها ليس آية وإنما أن يأتيا معًا من دون أب هي الآية. إذًا خلق عيسى في رحم مريم دون أب بنفخ رباني وملكي هو الآية، إذًا اشتركا، ثم قال: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}.

سؤالك الثاني هنا لم يتحدث عن رسالة عيسى، بينما في سورة الصف {إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ}، وفي سورة مريم وفي المائدة أيضًا تحدث عن رسالته، هنا تحدث عن خلقه، لماذا؟ أسلفنا في الحلقة الماضية أو ما قبلها أن القصص، يؤتى من القصص ما يخدم روح السورة وشخصيتها والمراد منها، هنا المراد إبطال الشرك وتوحيد الله سبحانه وتعالى والملمح العام هو الحديث عن خصائص المؤمنين، لكن في إثبات التوحيد وإبطال الشرك خلق عيسى من دون أب هو المعجزة، بدليل أنه بعد قليل سنصل {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ}، الآية كما وردت تخدم الآية التي بعدها، كأن الله يريد أن يقرر ما اتخذ الله من ولد، هل اتخذ ولدًا؟ أبدًا، {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}، أتى من قصة عيسى ما يثبت هذا المعنى. ولو تكلم عن رسالته شيء آخر، أحد المفسرين يقول، وهو الطاهر ابن عاشور يقول: في مولده وفي خلقه بهذه الطريقة دليل على رسالته دليل على صدق رسالته، ما دلالة صدق محمد صلى الله عليه وسلم؟ القرآن الكريم، دلالة أو معجزة موسى عليه السلام؟ العصا واليد و و و، دليل على صدق رسالة عيسى؟ مولده معجزته، فذكر مولده وهو يدل على الرسالة أيضًا. لكن أنا أفضل الرأي الأول الذي هو أراد الله أن يفنّد أنه اتخذ ولدًا فأتى بمولده الذي يخدم القرار الإلهي العظيم بعد قليل.

– الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} هذه الآية وردت كذلك مررنا عليها في سورة الأنبياء لكن هناك لم يقل {زُبُرًا}، قال: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}. هنا يقول: {زُبُرًا}، ثم ما الداعي لأن يقول: {زُبُرًا} وهو يوضح يقول: {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} اختلفوا أو تفرقوا. فلماذا قال: {زُبُرًا} حال كونهم زبرًا؟

– هذه الآية فيها عدد من اللطائف حتى نوضحها؛ أولًا: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} لو سألتك أو سألت أي متحدث: (هذه أمتكم) مبتدأ وخبر. (إنّ) مؤكدة، هذه أمتكم، مبتدأ وخبر. ألا يعرفون أن هذه هي أمتهم؟ بلى. النحويون يقولون: والخبر الجزء المتم الفائدة، ابن مالك يقول: والخبر الجزء المتم الفائدة كالله برّ والأيادي شاهدة، الخبر يتم الفائدة نقول: هذا كتابي، أنا أفيدك بأن هذا كتابي، الرسل والمخاطبون يعلمون أن هذه أمتهم.

– ما الفائدة؟

– في الحقيقة في مثل هذا التعبير الفائدة لا تكمن في الخبر إنما تكمن في الحال بعدها {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} حال كونها أمة واحدة، (أمة واحدة) حال عند جميع المفسرين، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} إن هذه أمتكم خبر، أمة واحدة حال كونها أمة واحدة.

{هَذِهِ} هو اسم إن، و{أُمَّتُكُمْ} خبر إن. (أمة) حال منصوبة بالفتح لأنه أصلًا لا يأتي الخبر منصوبًا، خبر إن لا يأتي منصوبًا.

– أنا أنبهك إلى هذه النقطة اللطيفة، هنا النحويين يقولون – أنا لا أستند إلى رأيي -: إذا كان المخاطب يعلم الخبر الفائدة تكمن في الحال، كأنه يقول: إن هذه أمتكم حال كونها أمة واحدة، يعني ركزوا، عليكم أن تنتبهوا إلى ما يوحدكم وهو الإيمان والتوحيد.

أعطيك مثالًا آخر حتى يتضح لك المقال وللمشاهد الكريم ، لما جاء الملائكة وبشروا سارة زوج إبراهيم الخليل بشروها بإسحاق. قالت: أألد وأنا عجوز؟ الملائكة تبشر سارة يعلمون أن إبراهيم زوجها أم لا؟ بلى يعلمون، قالت: أألد وأنا عجوز وهذا بعلي، هذا بعلي ما الإعراب؟ وهذا بعلي شيخًا . أنا أقول لك أدلل على ما أقول، هذا بعلي مبتدأ وخبر هل الفائدة في الخبر؟ هم يعلمون ذلك، هي تقول لهم: وهذا بعلي حال كونه شيخًا كيف تبشروني بالولد حال كون زوجي شيخًا لا يستطيع أن ينجب وأنا عجوز عقيم، فالفائدة تكمن في الحال التي بعد الخبر؛ هذه النكتة، هنا الكلام ذاته. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} حال كونها أمة هي المهم، لذلك نصبها وأتى بها بعد الخبر، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}

– {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، في سورة الأنبياء ماذا قال؟ {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} وذكرنا ذلك من باب الفائدة، سورة الأنبياء بنيت على ملمح العبادة وهنا ملمح التقوى من البداية إلى النهاية، {أَفَلَا تَتَّقُونَ}، نوح قالها عليه السلام، صالح قالها، محمد صلى الله عليه وسلم قالها، مبنية على التقوى إذًا هنا {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.

رقم 3 سؤالك وجيه، بمجرد ما قال لهم {فتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} الفاء ماذا تفيد؟ التعقيب يعني فلم يتعقلوا أبدًا. بل سرعة التعقيب {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا} مباشرة، كأنهم يستعجلون على التفرق والتقطع فيما بينهم، تقطع هو مطاوع قطع، المطاوع لما نقول: كسرت القلم فانكسر، فانكسر مطاوع كَسَر. الفعل في اللغة العربية نقول: كسرت فانكسر. هنا قطعوا أمرهم بينهم، أو قطّعوا أمرهم فتقطّع. الأصل قطعوا أمرهم وقطعوه قطعًا بالتضعيف. فتقطع أمرهم، هذا مطاوع قطع، الفائدة هنا ليس في التشديد فقط والمبالغة وإنما يدل على أن بعضهم طاوع بعضًا في التفرّق، هؤلاء قالوا: نتخذ فرقة، والثاني قال: ونحن نتخذ أخرى، وطاوع بعضهم بعضا، فعل المطاوعة مثل فعل المشاركة يدل على المشاركة وعلى التقطع، نقول: فعلت ذلك الشيء فانفعل، هذا فعل المطاوعة، هنا تقطعوا مطاوع قطعوا. إذًا {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} بمعنى أمر بعضهم بعضًا وزين بعضهم لبعض حتى تقطّع أمرهم شذر مذر وتفرقوا أيدي سبأ كما يقول المثل العربي، هنا لأن السياق يتحدث عن المشركين وفي ذمّهم سوف تقول: السياق في سورة الأنبياء يتحدث عنهم أيضًا، لكن في سورة الأنبياء تكريم عظيم للأنبياء، قال: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} وهنا قال: {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} قطعًا، وأضاف: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} الإضافة هذه لم تأتِ في الأنبياء. هنا قال: {زُبُرًا}: زبرًا لها معنيان اثنان: إما نقول: زبر جمع زَبْرة وهي زبرة الحديد؛ أي تقطعوا أمرهم قطعًا قطعًا قطعًا بمعنى فرقًا، متفرقين وهذا يستقيم مع المعنى و{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} جزلون مسرورون، أو نقول: {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} كتبًا، أصحاب الملل والنحل كلهم يدعي أن له كتابًا، الزبر من زبور، جمع زبور، ويقال: الزبور سمي زبورا لأنه جمع من مفرّق، أنا أعطيتك المعنيين، إما بمعنى زبَر الحديد وإما بمعنى زُبُرًا بمعنى كتبًا، فالمعنى هنا استعارة تهكمية بلاغية، كأن الله تعالى يقول: فتقطعوا أمرهم بينهم مللًا ونحلًا كل أمة تدّعي أن لديها كتابًا، فهذه استعارة تهكمية، وهل المجوس لديهم كتاب؟! وهل اليزيديين وأيًا كان لأن هؤلاء الذين ليس لهم كتب صحيحة، وإن كانت لهم فأتونا بها، فكأن القرآن يقول: تقطعوا أمرهم بينهم كتبًا ادّعوا وانتسبوا إلى بعض الأنبياء والأنبياء منهم برآء، واضح؟ هذا هو المعنى.

– هناك إشارة كذلك يعني بلاغية في الموضوع {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وهنا يقابلها {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} هذه مقابلة رائعة بين توحيد الأمة وبين تفرّقها شذر مذر.

– يقول الله سبحانه وتعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}، ما علاقة هذه الآية التي ختم الله بها ما قبلها من حديث، ما علاقتها بما قبلها من حديث.

– نعم، هي شديدة الصلة، ألم يتحدث عن الفرق والملل والنحل {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}؟ وكان المشركون إحدى الفرق.{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} بما أنهم اختاروا لأنفسهم. الغمرة هي أن يغمر الماء قامة الإنسان، الغمرة من الماء المغمور.

– يعني فذرهم في انهماكتهم وفي غرقهم وفي انغماسهم. الغمرة معناها اللغوي الدقيق هو أن يغمر الماء إنسان حسب قامته، فنقول: هو في غمرة في غمرات. ولذلك استعملت أيضًا في سكرات الموت والعياذ بالله، اللهم ينجينا إن شاء الله. {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ}، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} هنا في غمرة الشرك وغمرة الإلحاد وغمرة الجهل واللهو والإعراض وغمرة عدم الإيمان باليوم الآخر،،، إلى غير ذلك، {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} الخطاب الآن توجه مباشرة إلى محمد صلى الله عليه وسلم متحدثًا عن المشركين.

{ذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} إلى أجل غير محدد، محدد لكن (حين) زمن مُبهم.

ثم يقول: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} هاتان الآيتان يراد التوقف عندهما، ما العلاقة بين الآيتين؟ هو في الحقيقة في أول الحلقة ذكرنا: فذرهم في غمرتهم حتى حين، جيد ما هي الغمرة؟ غمرة الجهل كما قلنا غمرة الشرك، غمرة عدم التصديق باليوم الآخر، غمرة عدم الإيمان بالآيات، سوف تقول لي: من أين لك هذه المعلومات؟ من المقطع الذي أتى بعدها {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} فهم في غمرة عدم الخوف من الله، {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} فهم في غمرة عدم الإيمان بآيات الله. {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} هم في غمرة الشرك. وغمرة أخرى وهي أن لديهم أموالًا كانوا مترفين، قريش صناديدها كانوا يعيشون في ترف وكانوا تُجبى إليهم ثمرات كل شيء، وجعلهم الله في حرم آمن، هذا الترف جعلهم يعيشون في غمرة ويظنون أن الله يسارع لهم في الخيرات، الحقيقة غلط تقييمهم ليس دقيقًا، لذلك قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} ونعطيهم {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} أبدًا {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}، (أنما): (ما) هذه موصولة يعني أن الذي نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم به بالخيرات بل لا يشعرون أبدًا، ما معنى لا يشعرون؟ لا يشعرون بمدى الاستدراج الذي وقعوا فيه، الله استدرجهم أعطاهم {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}، بل لا يشعرون الغمرة التي هم فيها ولا يشعرون الاستدراج الذي وقعوا فيه، إذا رأيت كافرًا وأن الله تبارك وتعالى أعطاه من المال وهو في غمرات كفره ليس معنى ذلك أن الله يحبه، الله يعطي الدنيا لمن شاء للجميع، كل من يجتهد واضح؟ فهنا قال: أيحسبون أنما نسارع لهم في الخيرات؟ أبدًا، بل لا يشعرون، (بل) إبطال لما قبلها، إضراب إبطالي لما قبلها، بل انعدم عندهم الشعور فهم لا يميزون، وكما ترى المتعلق محذوف.

هذه تذكرني في آية أخرى في القرآن في قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، الإملاء، في ذات المعنى هنا قال: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}.

– ثم بعدها بآيات قليلة قال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} هذا في وصف المؤمنين. بينما هنا في وصف المشركين قال: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}، ثم يُعرض فيتحدث أو يفتح موضوعًا جديدًا {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، هنا لماذا جاء بفعل الإسراع هنا وهنا؟ وإن كان هناك اختلاف. اختلاف في إسناد الفعل لأي ضمير؟ لفاعله. هنا قال: نسارع نحن. لما تحدث عن المشركين الذين مكنهم والذين أمدهم بمال وبنين، قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا} نسارع نحن {نُسَارِعُ لَهُمْ}، وهذا ظن خطأ وفهم خطأ، بينما عندما تحدث عن المؤمنين وذكر إيمانهم وخشيتهم وتوحيدهم، وهم يعملون هم يسارعون لست أنا الذي أسارع لهم أنا أوفقهم جل جلاله يقول: أوفقهم، لكن هم يسارعون، أسند الفعل إليهم {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} يسابقون إلى الخيرات.

– لماذا قال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ} بالمضارع، ثم قال: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}؟

– هذا الآن أمر آخر، يسارعون يفيد التجدد الفعل المضارع يفيد التجدد والاستمرار، فهم يسارعون ولا يتوقفون، والمسلم لا يتوقف عن العبادة وعن المسارعة إلى أن يتوفاه الله، {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أراد الله مدحهم والثناء عليهم بالجملة الاسمية وهم سابقون لها، وهم سابقون إليها، وهنا سأشير لك فيما بعد إن شاء الله {لَهَا سَابِقُونَ} يعني ورد كثير من اللام التي تفيد التقوية، اللام تفيد التقوية {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} لما يقول: في سورة المؤمنين وردت لام التقوية بطريقة {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}، لها عاملون أنت لو قلبنا وقلنا: عملت هذا العمل، ما تقول: عملت لهذا العمل. فلما فرّع عن فعل العمل اسم الفاعل فأتى باللام التي تفيد الجر وهي تقوي العامل الفرعي؛ لأنا لما نقول: اسم الفاعل، اسم الفاعل فرعًا الفعل، لما اسم الفاعل فرع عن الفعل جاء باللام تسمى لام التقوية وهي ظاهرة بارزة في سورة المؤمنون {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}، الزكاة نقول: مؤتون الزكاة ولا مؤتون للزكاة؟ آتوا الزكاة يعني فعل أتى، الفعل أتى يتعدى بذاته والفعل فعل الخير يتعدى بذاته، لما قال: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} قلب السياق وأتى بلام التقوية، هنا الأمر ذاته {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} أصلها هم عاملون لها أو هم يعملونها  لما أتى باسم الفاعل أتى بلام التقوية، أقول لك شيئًا آخر: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} لو أتينا بالفعل نقول: أكثرهم يكرهون الحق أو يكرهون للحق؟ يكرهون الحق. لما عكس أتى بلام التقوية، {لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، هذه يعني تقنية لغوية رائعة ووظفها القرآن بطريقة يعني دعني أقول: حكيمة في سورة المؤمنون.

– وهنا استعملها {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وهم يسبقون إليها لكن أتى بلام التقوية للتناسق اللغوي بين الآيات السابقة.

– بعد ذلك الله سبحانه يقول: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ما دلالة هذه الآية عما سبقها، الحديث عن المؤمنين في شق والحديث عن الكافرين في شق آخر؟ .

– هذه الآية هي ناطقة بمعناها، ربطها حتى {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} كأن هذه الآية تقول: عندما كلّف الله المؤمنين بأن يخشوا من الله تعالى وبأن يؤمنوا بآياته وبأن يسارعوا إلى الزكوات أنواع الزكوات، ونحن لم نشر إلى {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}، ما معنى ما آتوا؟ أيًا كان الذي أتوه، لم يقل: يؤتون الزكاة، لا، يؤتون كل الذي أعطوه: زكاة صدقة، زكاة مال، علم، كل أنواع، عمل صالح، إذًا {مَا آتَوْا} تفيد العموم، الله في فرضه لهذه الأشياء والمؤمنون في فعلهم لهذه الأشياء لم يكلفهم الله فوق طاقتهم، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسعها}.

– هنا أفهم من هذه الآية ومن حديثك فضيلة الشيخ الدكتور {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} يعني للمؤمنين لم نكلفهم أكثر من طاقتهم ولكنهم سارعوا للخيرات وعملوا أكثر مما يعني هو مطلوب منهم من الفريضة ولكن المشركين كذلك لم نكلفهم فوق طاقتهم لكنهم انحدروا في الشرك والضلال والكفر فمعنى ذلك لدينا فريق أقل، جاء بأقل مما طلب منه وفريق بأكثر مما وجب عليه، وفي النهاية المؤمنون يتفاوتون درجات والجنات درجات الأنبياء فالصديقون فالشهداء،،، إلى غير ذلك، فالكل يجتهد ليسارع في الخيرات وفي النهاية لم يكّلف الله نفسًا إلا وسعها ولدينا كتاب، انظر إلى التكملة {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أيّ كتاب هذا؟ كتاب الذي تكتب فيه الأعمال، لكن كلمة الكتاب في القرآن تعني القرآن وتعني اللوح المحفوظ في كتاب محفوظ وكتاب الأجل، هنا كتاب الأعمال، الدليل: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} ما معنى ينطق بالحق؟ يعني يدل على أعمالهم، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} فيما قدّموا من أعمال، كل ما قدّمه الإنسان يجده أمامه، الدليل من سورة الدخان على ما أظن {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} كتاب الأعمال، لما نقرأ {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} ليس ننسخ، نستنسخ يعني قوة الكتابة، شيء لا يضيع من العمل مثقال ذرة.

– حتى هنا أريد أن أسأل دكتور {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ينوع القرآن كثيرًا في هذا الأمر يقول: {لَا يُظْلَمُونَ}، {لَا يُبْخَسُونَ}، ما الفرق بين البخس والظلم؟

– هنا {لَا يُظْلَمُونَ} بمعنى لا ينقص من أعمالهم، ذكرنا في سورة الكهف لم تنقص منه شيئًا الجنة {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} ما معنى لم تظلم؟ ولم تنقص، نفس المعنى. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ولا ينقصون. معناها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا ينقصون لا ينقص من أعمالهم مثقال ذرة.

– سؤالك الثاني وجيه، مرات يقول: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} بمعنى لا يظلمون ولا ينقص من أعمالهم ومن أجورهم، لماذا وردت يبخسون في سورة هود؟ لأن في سورة هود نجد حديثًا بين شعيب وبين قومه يا قوم، قال لهم أوفوا المكيال والميزان، الكلام عن البخس (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، شعيب يتكلم يا قوم أوفوا المكيال، ما معنى أوفوا المكيال؟ وفّوا وأعطوا الناس حقهم، أتموا، اعدلوا وأوفوا المكيال حقه، ولا تبخسوا الناس ماذا؟ ولا تنقصوا، إذًا الإيفاء والبخس في الميزان، من باب التشاكل والتناظر والتناسق قال: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}، لما تحدث {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ}، إذًا قال: نوفّ، ما قال: نؤتهم، من باب الوفاء لأن قصة شعيب قريبة وألفاظها تدل على العدل والوفاء وعدم البخس، قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}، هذا قاموس في القرآن. تقول لي: لماذا؟ التناسق مرعيّ والتجاذب مرعيّ، نفس الكلام لو ذهبنا إلى سورة الشورى، قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} ما قال نوفّه، قاموس آخر.

– يعود مرة أخرى ويقول: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ}، والآن قبل قليل قبل عدة آيات قال: فذرهم في غمرة، {فِي غَمْرَتِهِمْ} ثم يقول: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ}.

– في الحقيقة هذا كلام عظيم، القرآن مرتب بطريقة، {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} معطوفة على ما سبق، يعني كأن هنا (بل) هذه جاءت للإعراض يعني كأنه يقولك فذرهم في غمرتهم بل قلوبهم في غمرة. هذا هو التركيب، والجملة الاعتراضية الكبيرة {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} جاءت لوصف أعمال المؤمنين لتدل على أضدادها، أعمال المشركين هي ضد أعمال المؤمنين، سوف تقول لي: لماذا؟ اقرأ الآية التي بعدها {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} {لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} من دون أعمال المؤمنين، دونها وبعضهم قال: ضدها، أعمالهم ضد ما تم وصفه. أراد الله جل ثناؤه في هذا المجال أن يأتي بأوصاف المؤمنين ليستدل بها على أوصاف المشركين وأعمالهم. وروعة في التعبير وجاءت هذه الجملة الطويلة {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} وإن وإن كذا، معترضة بين بل {ذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ}،

– هنا كذلك استعمل اللام {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}، هذه اللام لتقوية العامل الفرعي الذي هو اسم الفاعل.

– هنا طبعًا يقول: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ}، هل العذاب فقط على مترفيهم؟ ولماذا ذكر بالتحديد المترفين {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ}، ما قال: حتى إذا أخذناهم جميعًا، هم كلهم مشركون؟

– أولًا: عندما العذاب السماوي عندما يصيب يصيب الجميع، العذاب إما أرضي في الدنيا وإما أن يأتي العذاب السماوي من الله.

– معنى ذلك أنك ما قلت: العذاب السماوي، إلا أنك تقصد أن هناك عذابًا أرضيًا كذلك؟

– نعم، العذاب الأرضي كما يقول المفسرون: هو عذاب يوم بدر، عذاب يوم بدر يوم سلط الله المؤمنين على صناديد المشركين وقتل كثير من صناديدهم، وهنا ذاقوا العذاب الحقيقي، وبعضهم يقولون {أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} أي نوع من العذاب؟ لم يوضح، قد يكون – هذا كلام المفسرين ونحن نحترم كلام المفسرين – قد يكون عذاب يوم بدر حيث قتل من صناديدهم العديد، وقد يكون عذاب الجوع عندما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جعلها سنين كسنيّ يوسف عليه السلام، حتى إن يقولون: إن أبا سفيان قبل إيمانه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا محمد، ألم تقل بأنك بُعثت رحمة للعالمين؟ الحديث يعني القصة واردة، فقال: بلى، قال: أهلكت الآباء بالسيوف والأبناء بالجوع. هذه واردة في كلام أبي سفيان: أهلكت أو قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، عندما دعا عليهم، فالآية تحتمل لكن ليست عذابًا سماويًا. {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} لماذا تحديد المترفين؟ هو في الحقيقة العذاب جاء على الجميع لكن المترفين كانوا سببًا، العوام دائمًا يتبعون المترفين، والمترفون في كل بلد – إلا من رحم ربك – هم الذين يسوقون رعاء الناس وعامة الناس هم من يتسببوا بهلاك الأمم، هم الذين يمنعهم مالهم وصولجانهم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا} وفي قراءة {أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أمرناهم بالخير فكفروا {فَفَسَقُوا} هذه الفاء تسمى الفصيحة تعطف على فعل محذوف {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا} يعني أمرهم ليفسقوا؟ لا، أنهم جاءوا بجواب أمر، أو استجابوا لأمر الله، لا، هذا المعنى غير مقصود، المقصود إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها بالإيمان والعمل الصالح فكفروا وفسقوا، فهنا الفاء تسمى الفصيحة تعطف على فعل محذوف ضرورة في القرآن. ومثلها {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} فضرب فانفجرت، وإلا كيف يستقيم؟! يعني هو قال، ما ضرب بعد، هذه تسمى الفاء الفصيحة تعطف على شيء محذوف. لكن الذي كنت أريد أن أشير إليه أنه المترفين هم من يتسببون بالعذاب والدليل على ذلك الآية التي ذكرناها في سورة الإسراء التي ذكرناها، وبعضهم قال: أمّرنا مترفيها في قراءة أخرى، فما بالك إذا كان المترفون أمراء ولا يخافون الله سبحانه وتعالى؟! هذا بلاء كبير! وأيضًا أخذنا مترفيها تنظر إلى الآية التي ذكرناها قبل {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ}، ألم يذكر قومًا من الأقوام؟ كفروا وكذبوا وأترفناهم، هنا التناسق والتجاذب يقول: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} والعذاب عندما يأتي يعمّ الجميع ولكن هؤلاء كانوا السبب.

– {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} {يَجْأَرُونَ} يعني يتضرعون ويرفعون أصواتهم بالصراخ: يا رب يا رب يا رب، ولكن لا ينفعهم ذلك لأنهم لو تركهم ولو رحمهم لعادوا لما نهوا عنه، {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} هذه آية عجيبة وقفت عليها ، في آية أخرى نفس المعنى {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ} المعنى ذاته هنا، {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فستأتي الآية على ذات المنوال.

– هنا حتى يقول: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي} هو طبعًا يفسر لماذا جاءهم هذا العذاب، {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ} تعليل {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} نريد أن نقف عند هذه الآية، يعني أنا شخصيًا قد يعني لا أفهمها في هذا السياق ممكن نشرحها؟

– هو أولًا: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} هذا تعليل لما سبق، لماذا هم يجأرون وكذا ولا يستجيب الله تبارك وتعالى لهم؟ {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} المؤمنون كانوا بآياتنا يؤمنون أنتم كنتم بها تكذبون، هنا على أعقابكم كنتم ترتدون على أعقابكم، الأعقاب جمع عَقِب وهو مؤخرة القدم، لو قال: كنتم على أعقابكم، {تَنْكِصُونَ} ما معنى تنكصون أي ترتدون إلى الوراء.

نكتة بلاغية رائعة، لو قال: قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم تنكصون عنها، كلام صحيح، ترتدون عنها، على أعقابكم، هذا يسمى ترشيح للتمثيل، عندنا استعارة مرشحة، ما معنى ترشيح؟ يعني هو تمثيل شبّه ارتدادهم بنكوصهم إلى الوراء ولزيادة الترشيح أضاف الأعقاب، صورة عجيبة جدًا. في البلاغة عندنا إذا أتينا في الكلام بكلام يتناسب مع المشبه به ترشيح، وإذا أتينا بكلام يتناسب مع المشبه تجريد، وسنقف عنده بعد ذلك، هنا رائع، ثم يقول بعدها {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} الحديث موجه للمشركين، أين كان يعيش المشركون؟ في مكة، الخطاب في مكة والسورة مكية {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} فيها معنيان اثنان وكل ما أقوله ذكره أبو حيان في البحر وذكره الرازي وذكره الزمخشري إلى غير ذلك. مستكبرين بالحرم مستكبرين بالمسجد الحرام، وكان الأوْلى أن تتواضعوا وأن تطامنوا من كبريائكم، عوض أن يتواضعوا في هذا البلد الحرام العظيم هم يستكبرون بها، هذه رقم واحد. مستكبرين مستهزئين به؛ بالقرآن، ثمة معنيان وكلاهما مرعي والتوسع الدلالي موجود في القرآن، {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِين} مستهزئين بالقرآن، هذا المعنى رقم واحد الذي هو تضمين، ضمن الفعل استكبر الاستهزاء والسخرية. مستكبرين مستهزئين بالقرآن، وهذا كان ديدنهم لأن الحديث هنا عن الآيات {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} وهو القرآن فكنتم بها. والمعنى الثاني أيضًا جميل، مستكبرين بالمسجد مستكبرين {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} ما معنى سامرًا؟ السامر هو جمع، السامر من السمر والسمر هو أن يتحدث الناس فيما بينهم على ضوء القمر أو في ظلمة الليل، نقول: يتسامرون فالمشركون أين كانوا يتسامرون؟ حول الكعبة هذا ديدنهم، التاريخ يقول ذلك، كانوا يجتمعون حول فناء الكعبة ويذكرون، قديمًا كانوا يذكرون آباءهم وأجدادهم وأشعارهم، لكن لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كان حديثهم فقط لتفنيد – أستغفر الله – وإبطال الإسلام، سامرًا بالليل تهجرون تأتون بالهجر، وفي قراءة نافع (تُهجِرون) تأتون بالهجر من الكلام والفحش، يتحدثون فقط لتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الذي يجعلنا يعني أيضًا نرجح المعنى الثاني.

https://www.youtube.com/watch?v=ril975R5GV0&index=25&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5