في رحاب سورة

في رحاب سورة المؤمنون – 8 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة المؤمنون – 8

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

تتمة سورة المؤمنين

المقدم: توقفنا في اللقاء السابق عند قول الله تعالى (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴿١٠٧﴾ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴿١٠٨﴾ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴿١٠٩﴾) ما المراد من ذكر العباد ولم يسمهم بالمؤمنين من بعد ذكر مناجاة الكافرين في إخراجهم من جهنم؟

د. المستغانمي: ذكرنا في الحلقة الماضية أن المشركين والذين يدخلون النار يلجأون إلى الله سبحانه وتعالى ويصرخون ويصطرخون ولكن الإجابات جاءت في سور القرآن الكريم متنوعة حسب سياق كل سورة، في سورة المؤمنين قال (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا) فإن عدنا إلى المعاصي وإلى الذنوب وإلى ما اقترفنا (فَإِنَّا ظَالِمُونَ) فأجابهم الله جلّ جلاله (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا) وشرحنا كلمة اخسأوا – تقال لطائفة الكلاب- اخسأوا انزجروا ولا تكلمون. بعد ذلك قال –ليس من باب التعليل – أراد إغاظتهم، أسلوب إغاظة (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا) أنتم للأسف لم تكونوا منهم وكنتم منهم تضحكون وكنتم بهم تستهزئون زيادة في التقريع وزيادة في تلهيفهم وتحسيرهم يتحسرون أكثر ويتلهفون: كان فريق من المؤمنين ولم نكن نحن معهم! بالعكس كنتم منهم تسخرون وسخريتكم بهم أدّت بهم إلى الجنة صبروا وهناك آية تقول (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا) صبروا على سخريتكم فكانت سخريتكم مدعاة ومساعدة لهم وسببًا لدخولهم الجنة. يستوقفني (إنه) لم يقل إن فريق من عبادي، (إنه) هذه الهاء تسمى ضمير الشأن والتفخيم والتعظيم، الله سبحانه وتعالى عندما يريد أن يفخّم يقول (إنه) لو قيل: اخسأوا فيها ولا تكلمون إن فريقا من عبادي، الأسلوب صحيح ولكنه قال (إنه) هذا أسلوب التعظيم، ضمير الشأن يفيد التعظيم. في القرآن (يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) النمل) لما تأتي الهاء ضمير يفيد التعظيم والشأن، يعني الله سبحانه وتعالى ينوّه بعباده المؤمنين. في سورة فاطر (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) ولما رد عليهم الله سبحانه وتعالى قال (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) وذكرنا سابقًا لماذا قال يعمّركم هنا لأن سورة فاطر تتحدث عن تعمير الإنسان (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) [فاطر: 11]. في سورة الزخرف قال (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) [الزخرف: 77] القرآن كل مرة يأخذ قولهم من زاوية، قالوا (يا مالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) من شدة العذاب الموت أهون فقال (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) لماذا اختار القرآن هنا قولهم (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا)؟ لأن هذه السورة تقول (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿٧٤﴾ الزخرف)

المقدم: وهذا يتنافى مع الخلود

د. المستغانمي: هم يريدون أن يبطلوا هذا

المقدم: فكأنهم يطلبون شيئا يتنافى مع ما تدعو إليه السورة

د. المستغانمي: نعم، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿٧٤﴾ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴿٧٥﴾ الزخرف) لا يفتّر عنهم أي لا ينقطع (مبلسون) آيسون من رحمة الله فدعوا بالعكس فقالوا (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) ثم قال (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴿٧٨﴾) وكل السورة مبنية على الحق (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ﴿٢٩﴾) وكراهية المشركين للحق فلذلك يتناسب.

المقدم: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴿١٠٩﴾) ما علاقة هذه الآية بالمحور؟

د. المستغانمي: قلنا (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي) ونحن في سورة المؤمنين

المقدم: لم يقل لم تكونوا من المؤمنين لأن السورة سورة المؤمنين ويفهم منها هذا الكلام.

د. المستغانمي: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) سِخريا مصدر تُقرأ سِخريا وسُخريا وكلاهما حول الهُزء، من سخر، سخِر منه أي هزئ منه وليس من السُخرة العمل بدون مقابل. (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) أصل الكلام فاتخذتموهم مسخورًا بهم مستهزأ بهم استعمل المصدر بدل المفعول به للمبالغة (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) والجواب (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿١١١﴾) كان يمكن أن يقال إني جزيتهم اليوم أنهم هم الفائزون وإنما قال (بِمَا صَبَرُوا) وهذا في البلاغة يسمى الادماج وهو أن يدخل معنى في معنى، لو قيل في غير القرآن: إني جزيتهم اليوم أنهم هم الفائزون كلام صحيح لكن قال (بِمَا صَبَرُوا) على استهزائكم وسخريتكم فزاد من إغاظتهم أنهم هم الفائزون.

المقدم: هم طلبوا أمرًا ورد الله سبحانه وتعالى عليهم بعدم تحقيق ما يطلبون وكذلك قرّعهم بأنه أنا جزيت من كنتم تستهزئون وتسخرون وتضحكون منهم بأني جزيتهم بما صبروا من سخريتكم زيادة في التقريع. ويقول الله سبحانه وتعالى بعد ذلك ويكمل السورة (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴿١١٢﴾ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴿١١٣﴾) ما علاقة هذه الآية بما قبلها؟

د. المستغانمي: ما زلنا في نفس السياق الله سبحانه وتعالى يتكلم بعدما قرّعهم ولهّفهم وجعلهم يتحسرون وأنتم تطلبون الخروج كم لبثتم في الأرض؟ أم تطلبون واحد مكّنه الله في الأرض يعيش خمسين ستين مائة سنة لم يصلي لله يوما ولم يركع كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟! بعض العلماء يقولون هذا يحدث بعد إدخالهم جهنم، البعض الآخر يقول لا، هذا السؤال عندما يفيقون ويبعثهم من القبور كأن هذه الاية جواب فإذا نفخ في الصور (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴿١٠١﴾ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿١٠٢﴾ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿١٠٣﴾ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴿١٠٤﴾) قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين. لما أفاقوا اندهشوا، كم لبثتم؟!

المقدم: كأن كل ما بينها جملة اعتراضية

د. المستغانمي: جملة اعتراضية عن طريق التفريع عن طريق الفاء (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ). الإنسان الذي كان نائمًا يعرف كم نام خمس ساعات أو ست ساعات فما بالك بإنسان مات قرونًا! هم يظنوا أن الدنيا قائمة على حسابهم وهم لا يستطيعون ضبطها، بعض المفسرين يقول: فاسأل الملائكة وبعضهم يقول اسأل من في الدنيا ظنًّا منهم أن الناس ما زالت والحياة مستمرة وهم فقط الذين أحياهم الله. هنا السؤال يبين لهم خطأهم وظنّهم الخطأ.

المقدم: (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿١١٤﴾) ما تفسير الآية؟

د. المستغانمي: (إِنْ لَبِثْتُمْ) هم ما ضبطوا المدة الزمنية قال (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) قال لهم (إِنْ لَبِثْتُمْ) اي ما لبثم إلا قليلا (إن) هنا نافية، لو أنكم كنتم تعلمون لعلمتم أنكم لبثم مدة قصيرة، هنا جواب الشرط محذوف. قال (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي إلا زمنّا مهما كان قليل (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جواب الشرط هنا محذوف كأنه يقول: لو أنكم كنتم تعلمون لعلمتم واستيقنتم أنكم لبثتم قليلًا وهذا الزمن بسيط جدًا في عدّ الله سبحانه وتعالى.

المقدم: يقول الله سبحانه وتعالى (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴿١١٦﴾)

د. المستغانمي: هذه خلاصة السورة وكما سماها أحد المفسرين روعة المقطع. عندنا في البداية براعة المطلع وفي النهاية روعة المقطع (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)

المقدم: لماذا قال الكريم؟ وفي سورة أخرى قال (العرش العظيم)

د. المستغانمي: قالها في هذه السورة (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿٨٦﴾) وهنا قال (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) هو عرش عظيم وهو عرش كريم، الكريم من أي جنس هو ما نال أشرف صفات الجنس، عندما نقول جنس الإنسان أكرمهم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] ما نال الصفات الحسنة من جنس الإنسان. عندما نتكلم عن الحجارة ما أنواع الحجارة؟ نقول الحجارة الركامية والبركانية وعندنا الأحجار الكريمة أكرم أنواع الحجارة التي نالت الحسن والجمال وهنا وصف العرش بصفة الحسن، أجمل شيء

المقدم: حتى كفار قريش حينما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.

د. المستغانمي: هنا قرآءتان (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) على قطع الكريم صفة لله لكن وردت (رب العرش الكريمُ) هو الكريم على القطع لكن القرآءة المستفيضة صفة العرش (الكريم).

المقدم: يذكرني هذا بآية سورة البروج (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿١٥﴾)

د. المستغانمي: هي (ذو العرشِ المجيدُ) وثمّة قرآءة صحيحة (ذو العرش المجيدِ) فيجوز وصف الله جلّ جلاله بأنه المجيد ووصف عرشه بأنه مجيد. لماذا في سورة البروج قال (ذو العرش المجيد)؟ لأنه ورد فيها (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ﴿٢١﴾ ) لما وصف القرآن بأنه نال صفة المجد (مجيد) فقال (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿١٥﴾) وهو الله أو ذو العرشِ المجيدِ. وهنا في نهاية سورة المؤمنون (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) وعلّم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يدعو (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ). أحد الأعراب سمع قارئًا يقرأ (ما غرك بربك الكريم)؟ الأعرابي على البديهة قال: أقول له: غرّني كرمك! كرم الله واسع. هنا في سياق الدعاء الكريم أولى وفي سياق الاستدلال على الوحدانية والعظمة العظمة أولى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿٨٦﴾) لأنه يثبت عظمة الله فأتى بصفة العرش العظيم.

المقدم: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) لمن يدعو (به) تعود على من؟

د. المستغانمي: لا برهان له بما دعا مع الله إلهًا آخر، من يشرك به آلهة وليست له أدلة كما اسلفنا في الحلقة الماضية تكلمنا عن الدليل العقلي (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) الله دلنا في القرآن على وحدانيته هل يمكنكم أنتم أيها المشركون أن تدللوا على صحة عبادتكم ولآلهتكم المزعومة؟! لا أدلة لديكم، إذن ما الجواب؟ (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) لو شاء الله تعالى لقال: فعذابه جهنم، فعذابه سقر، قال (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) جرمه كبير وحسابه لا يعلمه إلا الله!

المقدم: ووضح بعذ ذلك (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)

د. المستغانمي: العبارة تهوّل (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) هذا الأمر حسابه على الله.

المقدم: حتى لا يهم البعض ويقول فإنما حسابه على الله ربما يكون حسابه هينا أو ربما يعفو الله عنه فرد الله سبحانه وتعالى (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)

د. المستغانمي: أبدًا. كما بدأت (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾) ختمت (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ). (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) هذه نهاية المقطع العجيبة وتعليم للرسول صلى الله عليه وسلم يا محمد قل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحين، هو تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم لنا. أعطي نكتة للمشاهد الكريم: لنا في الأنبياء قدوة كما أن لرسولنا صلى الله عليه وسلم في الأنبياء قدوة (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90] الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم فبهداهم اقتده أي اقتدي. كيف دعا الأنبياء في القرآن الكريم؟ نوح علمه الله سبحانه وتعالى قال (وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) المؤمنون) لاحظ الثناء على الله في نهاية الدعاء (وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)، سيدنا شعيب عليه السلام مع قومه مدين (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف: 89] زكريا عليه السلام قال (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) الأنبياء) والأنبياء خير من يعرفون الدعاء وأولهم نبينا عليه الصلاة والسلام.

المقدم: ولكن وردت كذلك (وأنت أرحم الراحمين)

د. المستغانمي: هذه لأيوب عليه السلام قال (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) الأنبياء) في سورة الأنبياء، سياق الضر والألم يقتضي الرحمة فهو يستدر الرحمة بأرحم الراحمين، دعاه بالأرحمية، لو قال وأنت خير الراحمين صحيحة لكن أرحم الراحمين أبلغ. أما النبي صلى الله عليه وسلم دعاه بالرحمة الشاملة (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) تشمل كل شيء. المرض أدّى إلى أرحم الراحمين. معظم الأنبياء موسى عليه السلام لما أخطأ بنو إسرائيل معه قال (أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) [الأعراف: 155] لأنهم أذنبوا فطلب لهم المغفرة علينا أن نقتدي بالأنبياء وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الدعاء.

إجابة على أسئلة المشاهدين:

تصحيح من سمر الأرناؤوط: ذكرتم في حلقة ماضية عن كلمة ملكوت في القرآن وانها وردت في آية سورة المؤمنون وسورة الانعام (وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض) ولكنها وردت أيضاً في موضعين آخرين: في سورة يس (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) وفي سورة الأعراف (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء).

سؤال من الأخ ماهر توفيق: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿١٠٣﴾) في سورة المؤمنون، هذه الآية تنفي الخروج من النار وتلغي الشفاعة.

د. المستغانمي: الخلود في النار المقصود به خلود الكافرين المشركين الذين لا يعتقدون اعتقادا جازما أن الله هو إلههم الأوحد وأنه هو الواحد الصمد، أي الذي ليس اعتقاده صحيحا هذا لا ينجو من النار أما الأحاديث التي وردت في الشفاعة ففي عصاة المؤمنين كانوا يؤمنون بالله ويحّجون لكن غلبت بعض المعاصي عليهم فيذوقون من العذاب ما يكفر عنهم السيئات وتدركهم رحمة الله وتدركهم شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالآية (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) تحمل على الكافرين المشركين الذين ما ارتدعوا من شركهم وما عادوا إلى التوحيد.

المقدم: وهذا لا ينطبق على من كان في قلبه التوحيد.

سؤال ماء العينين دحمود من موريتانيا: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩﴾) لماذا تم ذكر الصلاة مرتين؟

د. المستغانمي: ذكرنا ذلك في بداية سورة المؤمنين وفي شرحها وتجلية بعض معالمها، في الحقيقة من أخص خصائص المؤمنين أنهم يؤدون الصلاة، الآية الأولى تحدثت عن روح الصلاة (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾) الخشوع هو روح الصلاة وفي آخر آية (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩﴾) كأن هاتين الصفتين تحيطان بالمؤمن فلا تتركانه يخطئ، الذي يحافظ على الخشوع في الصلاة والذي يحافظ على الصلوات في أوقاتها بأركانها وفرائضها وسننها يكون مغمورًا أو في وسط سياج يحميه. ولذلك كررت، وقد نقول ثمة من يخشع في الصلاة ولكن لا يحافظ عليها في أوقاتها أو في المساجد أو في الجماعات أو يقصر في أوقاتها ينسى يغفل وقد يتعب في العمل ولكن إذا صلّى خشع، وثمة العكس من يحافظ عليها دائمًا لكنه لا يكاد يخشع فذكرها لتكون بداية عمل المسلم ونهاية عمل المسلم وهذا شيء عظيم جدًا كأن المسلم يمسكه طرفان كما في سورة الإسراء ذكر كثيرا من الصفات وذكر التوحيد ثم ذكر التوحيد، في سورة الإسراء ذكر التوحيد وختم بالتوحيد وذكر صفات المؤمنين.

سؤال من الأخت آمال من جدة: لفت نظري في سورة القصص تكرار كلمة الظالمون سبع مرات في سرد  قصة موسى فقط فلماذا هذا التكرار؟ وكذلك (لما) (وفلما) كثيرا ولم يقل (حين) فما الفرق بينهما؟. وفي سورة القصص والنمل وطه يقول موسى عليه السلام (امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا) لم يقل رأيت نارًا مع العلم أن رؤية النار لا تؤنس وإنما تخيف فما الفرق بين رأى وآنس وما الفرق بين فلما (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ) و(فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٨﴾ النمل) فما الفرق بين أتى وجاء؟

د. المستغانمي: سؤالها مركب من عدد من الأسئلة. في سؤالها حول كلمة الظالمون التي وجدتها متكررة هي فعلًا أيقونة من ايقونات السورة وما جاءت سورة القصص إلا لتقصص أظافر الظالمين وعلى رأسهم فرعون (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص: 8]. الفرق بين حين ولمّا، (حين) حرف وقد تكون ظرفية و(لمّا) أيضًا تفيد الظرف لكن لها خصوصية في اللغة العربية. (حين) الظرفية (هي ظرف زمن مبهم) في الأزمنة مثل (حيث) في الأمكنة تحتاج إلى إيضاح يأتي ما بعدها يوضّحها (ولات حين مناص) لات الحينُ حين مناص. وقد يأتي لفظ (حين) متصرّفًا يتقبل كل الحركات، مُعربًا (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴿١﴾ الإنسان) فاعل، (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴿٣٥﴾ يوسف) (حين) تفيد الزمن ووردت في القرآن (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة: 177] ظرفية (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِين  الْوَصِيَّةِ) [المائدة: 106] (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) [القصص: 15] كلها تفيد الظرفية. (لما) في اللغة العربية يسميها النحاة حرف وجود لوجود (درسنا أن لو حرف امتناع لامتناع ولولا حرف امتناع لوجود) والآن (لما) حرف وجود لوجود. يقع الكلام الثاني عندما يقع الأول يقع الحدث الثاني عندما يقع الحدث الأول (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ)[القصص:23] وجد الثاني عند وجود الأول، هذه تسمى (لمّا) الحينية وحرف وجود لوجود. مثال (ل فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴿١٩﴾ القصص) وجد الحدث الثاني عند وجود الأول، هنا (حين) لا تصلح. (لما) تتطلب جملتين وتقتضي حدثين لا يحدث الثاني إلا عند حدوث الأول، مثال في سورة القصص (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٣٠﴾). الغالب أيضًا في القرآن وفي اللغة أن الحدث الثاني يأتي بـ(إذا الفجائية) مع (لما) (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)[النساء: 77] (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) الأعراف) (فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [يونس: 23] (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) الأنبياء) إذن هذه (لما) حرف وجود لوجود أما (حين) ظرف تستعمل ظرفية في زمان معين.

المقدم: (امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا) لم يقل إني رأيت نارا مع أن النار لا يُستأنس بها

د. المستغانمي: آنس في العربية تعني أبصر وأحس بالشيء لأول وهلة، نقول آنسه في أول الأمر، فهو كان يمشي في شدة الظلام المغطش فآنس، في أول الإبصار لأنه استأنس بها، هي تقول النار تخيف صحيح، لكنه هو كان في ظلمة وفي ليل بارد والنار هنا كانت له نعمة لم تكن مخيفة. (آنس) في اللغة العربية، الإيناس هو الاستيضاح استوضح أمرًا وأبصره وهو الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه وموسى كان في شدة الظلام فآنس وأبصر يعني رأى ما يؤنسه، فلذلك عبّر القرآن بـ(آنس). يوجد في القرآن رأى ونظر وأبصر ولكن هنا استأنس بها فكانت أدق في المجال. عندنا آنس، عندنا أحسّ وعندنا شعر وكلها متقاربة، آنس استأنس بها، أحسّ أدركها بالحواس (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا) أدركوا بحواسّهم، شعر أدركه بالشعور وهي من الشِعار وهو اللباس الخفيف الرقيق الذي يُلبس. موسى عليه السلام لما رأى النار فعلًا استأنس بها فمن معاني آنس استبصر مع إيناس وهي أدق في بابها.

المقدم: ما الفرق بين أتى وجاء؟

د. المستغانمي: الإتيان يكون بسهولة ومنه الأتيّ النهر الجاري الذي يأتي بسهولة وجاء فيها قوة وشدة ولذلك في القرآن لم يأت (جاء) إلا في الماضي لم يأتي (يجيء) لأنها شديدة، الياء وبعها الهمزة فيها شدة، جاءت بصيغة (جيء وجئت وجاءهم) كلها بالماضي بينما(أتى) عندنا أتى وآتٍ ومأتي ويأتي، ائتوني، أتت بمعظم التصرفات. بحصت عن المسألة ووجدت أن الدكتور فاضل السامرائي جزاه الله خيرا تحدث عن هذه الحقيقة وأنا أجيبها بما ذكره وهو لمّاح وغوّاص: الفرق بين فلما أتاها ولما جاءها في سورة النمل السياق تحدث عن مجيئه بقوة لأنه قطع على نفسه أشياء قال (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴿٧﴾ النمل) في سورة القصص قال (لعلي) لم يقطع على نفسه بمعنى استعمل الأشق (فلما جاء) ولما لم يجزم وقال (لعلي آتيكم منها) (قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) استعمل الله سبحانه وتعالى فعل (فلما أتاها)، هذا جواب د. فاضل السامرائي جزاه الله خيرا لكن المجيء فيه شدة والإتيان فيه سهولة هذا ما يقوله اللغويون.

أم تسنيم من بلجيكا: في حلقة سابقة من سورة المؤمنون تكلم الدكتور في موضوع التقديم والتأخير في فواصل الآيات مثل (بصير بما تعملون) (بما تعملون بصير) وفسّر لنا جزاه الله خيرا أن الله سبحانه وتعالى يُسبق العمل على صفته العليا إذا كان السياق في العمل ويقدم اسمه إذا كان الكلام عن ذاته وصفاته. وهناك أيضًا عندما تكون الأمور قلبية أو سريّة للعباد يقدّم الله سبحانه وتعالى صفاته على العمل كما في سورة البقرة (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿٩٦﴾ البقرة) وكقوله في سورة آل عمران (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿١٥٣﴾ آل عمران)

د. المستغانمي: نشكرها على هذا التوضيح وصحيح قد يرد الحديث عن صفات الله عندما يكون الأمر متعلقًا بالأمور القلبية التي لا يعلمها إلا الله. القرآن لا تنتهي عجائبه!

نبيل من بريطانيا: ما الفرق بين الفعل والعمل في هاتين الآيتين (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) (فلا تبتئس بما كان يفعلون)؟ وما الفارق بين جنات وجنة؟ وما الفارق بين الذنوب والخطايا؟

د. المستغانمي: كل أسئلته جيدة وهي من المتشابه اللفظي، لما الله سبحانه وتعالى يقول (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿٣٦﴾ هود) هذه وردت في سياق سورة هود والحديث موجه إلى نوح عليه السلام فقال له (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) بينما يوسف عليه السلام وفي سورة يوسف قال لأخيه الصغير بنيامين كما ورد في التاريخ والسير (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٦٩﴾ يوسف) وحتى نفرّق بين يفعلون ويعملون جئتك ببحث بسيط حتى نفسّر علميًا الفرق بين اللفظين: في اللغة العربية ثمة فرق كبير بين العمل والفعل، الفعل واسع أعمّ والعمل أخص ونحن نتكلم في الاستعمال القرآني. الفعل هو التأثير في شيء فأنت تفعله والعمل أيضًا لكن في القرآن جاء استعماله خاصًا والصنع أخصّ أيضًا.

المقدم: الفعل عام والعمل أخصّ والصنع أخصّ من العمل

د. المستغانمي: وكلها مستعملة في القرآن (بما كانوا يفعلون) (بما كانوا يصنعون) (بما كانوا يعملون) لما قال (بما كانوا يفعلون) الفعل في القرآن ارتبط بشكل عام (افعلوا الخير) وارتبط أيضًا من بين استعمالاته بأخذ الله الكافرين (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴿٦﴾ الفجر) يعني كيف أهلك هاد (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴿١﴾)، فعل عندما تأتي مطلقة من بين معانيها تحقيق وعيد الله في المشركين والكافرين (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) [إبراهيم: 45] لم يقل كيف عملنا، هنا من معانيها كيف حق وعيد الله للمشركين، لأن هذا الفعل ارتبط بفعل الله بالمشركين فأصبح كأنه يقول ألم تر كيف أهلك الله الكافرين أيضًا جاء استعماله في حق البشر في الفعلة الشنعاء الفظيعة فرعون قال (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) الشعراء) عندما نقول يا فلان فعلت كذا كأنك تشير إلى أنه فعل شيئا شنيعًا، فهذا من التناسق المرعيّ، في حق الله تعالى يجازيهم أشد الجزاء وأسوأ الجزاء والبشر أيضًا ورد في حقهم أن كلمة فعل (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) [الأعراف: 155] أتهلكنا بما أساء السفهاء منا، في آية أخرى (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) [يوسف: 89] من شرّ لكن هذا لا يعني أنها تأتي فقط في الشر، تأتي في الخير أيضًا (للزكاة فاعلون) (وافعلوا الخير). العمل جاءت أيضًا في الشر والخير لكن بما فيه امتداد (من يعمل صالحا) (عملوا الصالحات)، في القرآن كثيرًا العمل الصالح، وهناك من يعمل العمل السيء، لما ارتبط فَعَلَ بالعمل السيئ الذي كانوا يفعلونه قال في سورة هود (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) من سوء ومن إيذاء لك يا نوح بينما يوسف عليه السلام خفف اللهجة مع إخوته لأن الله أعلمه وأوحى إليه، لما خاطب أخاه بنيامين قال (قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال المفسرون كأنه يلوّح إلى الصفح والعفو، أخفّ وهذه دقة القرآن فقال (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فلا تحزن ولا تغتم بما كانوا يعملون لو قال بما كانوا يفعلون لفهم بنيامين أن السوء في عملهم فخففها. بينما الفعل والصنع: الصنع فيه دقة دائمًا، هو عمل ولكن دقيق (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88] ولما يقول (بما تصنعون) أي بما تعملون وتتقنون من عمل لذلك في سورة النور (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿٣٠﴾ النور) بما يتعمّلون ويتصنعون الله أمرنا بالغض من البصر فإذا كنت تتفعل وتتصنع فالله أعلم بك. فالصنع دائمًا يستعمل في القرآن بشيء من الإتقان. آية عجيبة في القرآن الكريم بحاجة أن نقف عندها وهي قوله تعالى في سياق واحد يقول (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٦٢﴾ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿٦٣﴾ المائدة) (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ) من أهل الكتاب (يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) عن من يأكلون السحت والحرام، لما تكلّم عن علمائهم وأحبارهم قال (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿٦٣﴾) في العامّة قال يعملون وفي الأحبار والمتخصصين قال يصنعون لأن المتخصصين من أحبار ورهبان يعلمون بوضوح ماذا أمر الله أما العامة كانوا يأكلون السحت ويأكلون الحرام عبّر عنهم (بما كانوا يعملون) دون دراية ولكن عند الأحبار قال (بما كانوا يصنعون)

المقدم: هي جنة أو جنات؟

د. المستغانمي: في سياق جنة وفي سياق جنات، لما يقول جنة لا يقصد بها مفرد ولكن جنس الجنة. في سياق يستعمل الإفراد وفي سياق يستعمل الجمع وفي سياق يستعمل الزوجية (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴿٤٦﴾ الرحمن) إذن لكل سياق ما يتناسب، في سورة الرحمن بنيت على الزوجية (جنتان) أحيانًا في سياق المبالغة يقول (جنات) لكن لما يقول جنة ويفردها فلا يقصد جنة واحدة وإنما جنس الجنة العظيم الواسع.

سمر الأرناؤوط من السعودية: ما دلالة استخدام هذه الألفاظ: الفلك، الفلك المشحون، السفينة، الجارية في قصة نوح عليه السلام؟ ورد وصف سفينة نوح في سورة الشعراء ويس والصافات بصيغة (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) وورد وصفها بالجارية في سورة الحاقة (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴿١١﴾) وورد وصفها بالفلك في عدة سور منها الأعراف ويونس وهود ووردت في سورة المؤمنون في ثلاث آيات (22، 27 و28) وورد وصفها بالسفينة في سورة العنكبوت (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) ووصفها بـ(ذات ألواح ودُسُر) في سورة القمر. فهل يمكن تحديد سياق معين لورود كل لفظ في السور التي ذكرت فيها؟

د. المستغانمي: الأصل فيها الفلك هي أتت ببعض المترادفات المتقاربات وإن كان كل مفردة في القرآن لها دلالة كما قال ابن عطية الأندلسي: لو أدرت لسان العرب لتجد لفظة هي أدق في بابها لن تجد إلا في القرآن الكريم، والشيخ الشعراوي رحمه الله يقول: اللفظة عاشقة لموضعها. الفلك هو الأصل (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود: 38] وهي وردت كثيرًا والفلك ترتبط بالجريان (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) [الجاثية: 12] وحتى في الفلك الكواكب والنجوم السيارة تجري في فلك معين فكلمة الفلك مرتبطة بالجريان فهي التي وردت كثيرا في القرآن وعندما قال الفلك المشحون الفلك المملوء هذه صفة للفلك كما تحدث في سورة يس (وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) يس) المملوء. استعمل السفينة عندما أرادت الرسوّ عندما أرادت التوقف عند الجبل قال (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴿١٥﴾ العنكبوت) لأن كلمة سَفَنَ في اللغة العربية يعني رسا وتوقف. وهي موجودة في سورة يونس (فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ) [يونس: 73] لأن في السورة ورد كلمة الفلك أكثر من مرة فمحافظة على التناسق القرآن متناسق لا يتناسب أن يقول (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) [هود: 38] ثم وأنجيناه ومن معه في السفينة، عندما ذكر في سورة يونس الفلك (حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [يونس: 22] قال (فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) الشعراء) لما جاء في سورة هود الفلك في هدة مواضع راعاها الله سبحانه وتعالى ولما جاء في سورة العنكبوت قال (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) لأن السفينة من شأنها أن ترسو. سمّاها (الجارية) في سورة الحاقة (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴿١١﴾) في هذه السورة فيها كثير من الكلمات التي جاءت أوصافها وحذف الموصوف. الحاقة وصف ليوم القيامة (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ﴿٩﴾) بالفِعلة الخاطئة، (في الجارية) أي في السفينة الجارية، (واهية) فهي سماء واهية، (لا تخفى منكم خافية) لا يخفى منكم فِعلة خافية، ورد فيها كثيرًا ذكر الوصف اكتفاء بالوصف وعدم ذكر الموصوف وذكر الموصوف أحيانًا (عيشة راضية) (جنة عالية) واللفظة تتناسب مع الإيقاع الصوتي (الحاقة، الجارية، القارعة، خاوية، الخاطئة، رابية، واعية…). في سورة القمر (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴿١٣﴾) هي السفينة، دسر جمع دسار وهو المسمار الكبير المعدني، لماذا في سورة القمر؟ ما قال حملناهم على الفلك أو على الجارية، ذكرها بما سوف تكتشف به وسورة القمر فيها إعجاز عجيب اكتشف الناس علوم الفضاء وجدوا أن بالقمر شقًا عجيبًا ولما جاءت السفينة ذكرها بما سوف تكتشف به (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴿١٣﴾ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ﴿١٤﴾ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴿١٥﴾ القمر) أي معجزة سوف يكتشفها من يكتشفها ودلتنا الآن العلوم الحديثة في الجيولوجيا عن طريق الأقمار الصناعية اكتشفوا الدسر المعدنية الكبيرة، الدسار الواحد مترًا في جبل الجودي الذي يقع في تركيا 300 قدم سفينة كبيرة جدا تقريبا مئة متر والمعادن ظاهرة للإيماء والإشارة بأنها ستكتشف ببعض مكوناتها جاءت الكناية عن موصوف (ذا ألواح) الألواح المتحفرة التي مضت عليها القرون (ودسر) وهذا يتناسق مع ذكر القمر وانشقاق القمر.

المقدم: يتناسق مع الإعجاز ويتناسق مع الدلائل ولذلك في ذات السورة يقول الله سبحانه وتعالى (كذبوا بآياتنا) هذا شيء من الآيات

د. المستغانمي: وأنا أضيف لك دليلًا قاطعًا قوله تعالى (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً) لما تحدث عن فرعون في سورة يونس وأخرج جثته نكالا قال (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً) [يونس: 92] وموجود تركناه آية، عبرة. فهذا الدليل اللغوي يدل على الإعجاز العلمي.

https://www.youtube.com/watch?v=oHAA_MqHkqM&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5&index=28