في رحاب سورة

في رحاب سورة النور – 1- د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة النور – 1

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

إجابة على أسئلة المشاهدين:

سؤال من الأخ بلقاسم: في سورة الأعراف يقول الله تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿٢٠٠﴾) ونجد نفس الآية في سورة فصلت (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٣٦﴾) لماذا الأولى نكرة والثانية معرفة؟

د. المستغانمي: هذا سؤال وجيه في المتشابه اللفظي قوله تبارك وتعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿٢٠٠﴾) في سورة الأعراف والتعبير ذاته يتكرر في سورة فصلت (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٣٦﴾) هو يسأل عن التنكير والتعريف والاختلاف في هذا التذييل. عندما ندرس سياق سورة الأعراف كان الحديث عن الآلهة المزعومة، عن الأصنام التي لا تسمع ولا تضر ولا تنفع ولا تتحرك حتى إن السياق يتحدث عنهم يقول (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿١٩٨﴾) هذه الأصنام، تنظر ولا تبصر. في سياق الحديث يعبدون ما ينحتون من أصنام وتماثيل جاء (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) نزغ وهمز من الشيطان فاستعذ بالله ولما جاء ذكر الله (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) جلّ جلاله لأن السياق الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تتحرك فلم يقتضي السياق مزيدًا من التوكيد فجاءت صفة الله (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). لكن في سياق سورة فصلت كان الحديث عن الإنس والجن وهم يسمعون ويبصرون يقول (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٢٢﴾ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٢٣﴾ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ﴿٢٤﴾ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿٢٥﴾) إلى أن يقول (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ﴿٢٩﴾) فالجن والإنس من صفاتهم السمع ومن صفاتهم البصر، بما معناه الشبهة قائمة فلما جاء يتحدث عن الله جاء بأسلوب جازم (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) وإلجأ إليه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الجن والإنس يسمعون لكن الله هو السميع العليم كأنه نفى عنهم السمع البسيط، سمع الله لا يجارى ليس كمثله شيء أوتي بضمير الفصل (هو) للتأكيد فمن الضروي مع إنه هو السميع العليم كأنه يقول إنه هو السميع العليم لا آلهتكم المزعومة بينما لم يقتضي في سورة الأعراف ذلك وهذا الكلام أخذته من كتاب ملاك التأويل لابن الزبير الغرناطي.

سؤال من د. شهاب الجبوري: ما الفرق بين قوله تعالى في سورة التوبة (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) [التوبة: 94] وقوله (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) [التوبة: 95] ما دلالة استخدام رجعتم وانقلبتم؟ وهل يتغير المعنى إذا وضعنا كلمة مكان الأخرى؟

د. المستغانمي: المتشابه اللفظي هو الذي يستوقف الناس الذين يتدبرون. في اللغة العربية  قد لا يتغير كثيرا هو من المتقاربات اللفظية رجع إلى أهله وانقلب إلى أهله لكن في القرآن لا يجوز، من المؤكد – سواء عرفنا أم لم نعرف- أنا بحثت في الموضوع نقول رجع إلى المكان الذي منه انطلق ونقول انقلب، الرجوع والانقلاب يتقاربان لكن القرآن استعمل الانقلاب لإفادة مزيد من السرعة، هذا الذي يمكنني أن اضيفه للسائل الكريم. لما نقول انقلب فيه سرعة وانقلب يرجع إلى دينه السابق يعني يرتد. لها معنيان إذن في القرآن: انقلبت هذا الأمر فانقلب يعني مطاوع، انقلب على عقبيه بمعنى ارتد، أما (إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) إذا رجعتم إليهم، فيها نوع من السرعة، لماذا؟ استقراء الآيات في القرآن (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران: 144] يتحدث عن محمد صلى الله عليه وسلم (انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) هنا بمعنى ارتددتم ولكن فيها سرعة الانقلاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُم فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) آل عمران) ولو قلنا فترجعوا خاسرين المعنى قريب لكن فيها انقلاب وفيها سرعة (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران: 174] أي فرجعوا محملين بفضل من الله مصحوبين بفضل من الله وفيها نوع من السرعة، السحرة لما آمنوا في مجمع فرعون قال (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) الأعراف) أذلاء، انقلبوا بمعنى سرعة تحوّلهم وتنفيذ الأمر، هم أنفسهم قالوا (إنا إلى ربنا منقلبون) بمعنى راجعون، (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) يوسف) إذا رجعوا لكن فيها سرعة لما يذهبوا ويجدوا بضاعهم يعودون، هذه التي تفيد لكني لم أقف على تفريق بين المفسرين,

المقدم: لكن في القرآن الكريم لا يجوز أن نستعمل كلمة مكان الأخرى.

سورة النور

المقدم: نتحدث عن العلاقة بين السورة وبين سابقتها ولاحقتها، هل هناك علاقة تجعلها في هذا الترتيب باعتبار أن الترتيب توقيفي؟

د. المستغانمي: سورة النور سورة مدنية بين مكيات، كلها مدنية باتفاق العلماء، لما نأتي من الحجر، فالنحل، فالإسراء، الكهف، مريم، الأنبياء، الحج بعضها مكي وبعضها مدني، إلى المؤمنون مكية ثم نعود إلى القرآن المكي مع الفرقان والشعراء والنمل فهي سورة وضعها عجيب. من بين ما لاحظه العلماء عندما تحدث الله سبحانه وتعالى من بداية سورة المؤمنون (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٥﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٦﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧﴾ المؤمنون) هذه إشارة إلى ما سيأتي، كيف يحفظون فروجهم (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)؟ جاءت سورة النور تفصّل وتنظم العلاقة بين الرجل والمرأة، العلاقة الاجتماعية حتى إن أحد العلماء الإمام أبو زهرة الأزهري إمام عظيم قال هي سورة النور وقال لو سميت سورة الأسرة لكانت التسمية دقيقة لما تحدثت فيه عن الفرد وتحدثت عن الأسرة وتحدثت عن المجتمع، فهي تنظم الأسرة والمجتمع. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) جاءت سورة النور تفصل كيفية حفظ الفروج وكيفية الارتفاع بالمجتمع والارتقاء به إلى درجة السمو الأخلاقي، غض البصر (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿٣٠﴾ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) هنا أمر محذوف: قل للمؤمنين غُضوا يغضوا من أبصارهم، البعض يظن (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) جواب الطلب، هذا خطا، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم فسيغضون، أصل الكلام قل للمؤمنات يغضضن فيغضضن، جواب الطلب المحذوف. عندما يقول (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) الدعوة للتزويج، عندما ينهى المرأة عن إبداء زينتها لمن لا يحلّ لها (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) المحارم الذين يجوز للمرأة أن تظهر أمامهم بزينتها العادية. سورة النور ميثاق دقيق ومبين ومفصل للفرد المسلم وللأسرة المسلمة وللمجتمع المسلم وكيف ينبغي لهذا المجتمع وهذه الأُسر أن تعبد الله على نور وبصيرة. وفي آخر الآيات في سورة المؤمنون (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿١١٧﴾ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴿١١٨﴾ المؤمنون) ومن رحمة الله بنا أن أنزل سورة النور ليعيش المجتمع تحت نور الله وفي رعابة الله وتحت هداياته بينما المجتمعات التي لا تمتلك القرآن تعيش في ظلام.

المقدم: الإشارة التي تربط سورة النور بسورة المؤمنون هي ما ذكرت في بداية سورة المؤمنين (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)

د. المستغانمي: فتأتي سورة النور تفصّل هذا الكلام.

المقدم: بعدها تأتي الفرقان فهل ثمة علاقة بينها وبين الفرقان؟

د. المستغانمي: آخر سورة النور (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) تعظيم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ختام سورة النور، الله سبحانه وتعالى أدّب المؤمنين وأدّب المنافقين الذين جافوا الطبع السليم في التعامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما في السورة (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿٥٣﴾) أدّبهم الله في السورة ثم في النهاية (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) جاءت سورة الفرقان تُعلي وتنوّه بشأن هذا النبي العظيم من بدايتها إلى نهايتها (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴿١﴾ الفرقان) فهو عبده ومن أعظم صفات الرسول ومن أعظم صفات أيّ إنسان أنه عبد وبدأت تفصل في صفات الرسول صلى الله عليه وسلم فثمّة علاقة وطيدة إلا أن سورة النور سورة مدنية عالجت المجتمع ومطلعها مطلع عجيب لأن عنصر الأخلاق وعنصر التربية الأسرية شيء عظيم فالسور المكية تحدثت عن الاعتقاد الصحيح، جاءت سورة النور ترتفع بالأخلاق وترتفع بالتربية.

المقدم: لماذا سميت بسورة النور؟

د. المستغانمي: من أعظم آياتها قول الله تبارك وتعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) سميت نسبة لهذه الآية العظيمة ثم جاء تمثيل لنوره (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) هذا تشبيه تمثيلي منتزع من متعدد بحيث تمثيل لنوره هكذا فما بالك بنوره الحقيقي؟! والله هو النور جلّ جلاله ومنه يكتسب المؤمن نور الهداية، نور التوفيق، نور العمل الصالح أما المشركون وصف أعمالهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) ووصف أعمالهم (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ) الكفار يعيشون في ظلام، ظلام الاعتقاد، ظلام الأعمال، أما المؤمن يستنير بنور الله، تقابل (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) ولما يتحدث عن المؤمن (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) نحن نكتسب النور من نور الله سبحانه وتعالى وهل ثمّة نور أكثر من هذه الإرشادات والتوضيحات والآيات البينات من أول السورة إلى آخر السورة؟!

المقدم: هل وردت لفظة النور مطردة في السورة؟

د. المستغانمي: نعم وردت (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) ووردت الظلمات، تقابل بين نور الله وبين ظلمات الاعتقاد وظلمات أعمال الكافرين إلى أن قال (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).

المقدم: ما هو المحور العام الذي تتحدث عنه السورة؟

د. المستغانمي: سورة النور هي سورة النور نسبة إلى نور الله وهي تنير الطريق والدرب أمام كل مسلم حتى إن كثيرا من السابقين يقولون ليت النساء – وأنا أقول ليت الرجال والنساء – يقرأون سورة النور لأنها فعلًا تعلم المجتمع المسلم كيف يمشي، تعلّم الأسرة كيف تنبني، فهي محورها العام: تربية الأسرة المسلمة، لو صح لنا أن نعطيها عنوانًا – طبعًا الله سبحانه وتعالى أعطاها اسم النور – تهدي القلوب وتهدي النفوس وتزكي الأخلاق لكن كمحور عام هي سورة الأسرة المسلمة. سورة النور تبني المجتمع من أوله إلى آخره ولكن بدايتها صعبة بعض الشيء! بعدما قال (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿١﴾) أول حُكم (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) قد يقرأ إنسان يأتي من دين آخر أو يحب وله فضول أن يتعلم الإسلام يقرأ (الزاني والزانية) يقول هذا دين يبدأ بتطبيق الحدود بالجلد! سورة النور لها هندسة عجيبة

المقدم: حتى بدايتها ليست مطردة في القرآن أن يبدأ (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)

د. المستغانمي: لا يوجد إلا هذه، هذا لا يعني أن السور الأخرى ليست سورًا ولكن هذا مطلع فريد! القرآن يتصف ويتسم ببراعة المطلع وروعة المقطع، هذه براعة مطلع عجيبة، تخيل أنت أعرابي تُحسن اللغة تسمع (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) ما هي هذه السورة؟ نكرة موصوفة والنكرة عندما توصف وتخصص ترتقي إلى أن تكون معرفة “ولا يجوز الابتدا بالنكرة ما لم تفد كعند زيد نمرة” لكن هنا مخصصة بالأوصاف (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) الوصف الأول (وَفَرَضْنَاهَا) (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) لماذا يا رب؟ (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) رجاء أن تتذكروا أنتم، أحد المفسرين يقول (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) بحكم صفة كأنه يقول أنزلنا فيها آيات بينات مذكّرات (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) هي جملة رجاء تنقلب إلى صفة للسورة آيات مبينات مذكّرات رجاء التذكير لك كأنه يقول مذكرّات. ثم قال (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) هذا حكم وحدّ من حدود الإسلام، نقول لمن يريد أن يشوّه الإسلام: كم حدًّا في القرآن؟ معدودة، خمسة، ستة: حد الحرابة، حد الزنا، حد السرقة، حدّ القتل، حد القذف، حد شارب الخمر. كم آية في القرآن؟ ستة آلاف ومئتين  ما يصل إلى الواحد بالألف! لكن هل القرآن سبّاق إلى تطبيق الحدود؟ نقول لا، بدأت السورة بالزجر عن هذه الفاحشة المهينة الفاحشة التي إذا انتشرت في المجتمع يصبح وباء وهو الزنا (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)، حتى لا نقع في الزنى كل سورة النور جاءت تشرّع حتى لا نقع في الزنا. إذن أتى بالحُكم أولا ثم أتى بالوسائل الوقائية: غض البصر وقاية، عدم اتباع خطوات الشيطان، إبداء المرأة محاسنها لمن لا يحلّ لها وقاية (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا غض المرأة بصرها وقاية من الخطأ

المقدم: وهذا كله جاء بعد أن ذكر الحكم والحدّ وكيف يتم التعامل مع الموضوع ثم فصّل في كل ما يُبعد عن هذه الفاحشة.

د. المستغانمي: هذا هو البناء الهندسي للسورة، بناء عجيب! أتت بحكم الزنا، أتت بحكم القذف وهو لا يجوز وقذف المحصنات كبيرة من الكبائر (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)، (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) في حق عائشة رضي الله عنها والإفك أكذب الكذب وأكذب البهتان وهو أشد من الزور لأن الإفك هو الكذب العجيب، الكذب الذي يقلب الحق باطلًا والباطل حقًا. من أين أتي بكلمة الإفك؟ يأفِك يعني يقلب وسميت قرى قوم لوط المؤتفكات لأنه قلب عاليها سافلها، الإفك هو قلب الحقائق وهو مثل الزور لكن العلماء في اللغة يقولون: أكذب الكذب هو الإفك. فأتى بالحكم أولًا ثم حتى لا يقع المسلم – أنا أريد أن أصور رحمة الإسلام وسماحة الإسلام أنه ليس سبّاقًا إلى التطبيق “ادرأوا الحدود بالشبهات” لا يتم تطبيق حدّ الزنا إلا إذا رأى أربعة شهود الفعل جهارا نهارا، هل هذا يتم إلا لمن جاهر بالحرام؟! إلا لمن كان الزنا دأبه؟! هذا إنسان مجاهر يستحق تطبيق الحد، هذا ينشر الفساد (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿١٩﴾.). كيف بنيت السورة؟ أتى بالحكم ثم أتى بجميع الوسائل أتى وسائل غض البصر، أتى بوسائل عدم اتباع الشيطان والاختلاط، غض البصر في حق المرأة، أمر بالتزويج (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ)، أمر بعدم دفع الفتيات المملوكات للبغاء (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) والبغاء هو الزنا بعِوَض، علّم الناس الاستئذان كيف تدخل البيوت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) تستأنسوا وليس تستأذنوا معناه تستأذن وإذا أذن لك واستأنست بأن صاحب البيت يأذن لك بمزاجه وعن طواعية فادخل، علم الاستئذان للكبار والصغار (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) (و وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هذه آداب. والمرأة العجوز؟ ورد (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) ما تركت سورة النور شاردة ولا ورادة في العلاقة بين الرجل والمرأة إلا قنّنتها.

المقدم: حتى الذين لا يجدون النكاح يستعفّون

د. المستغانمي: عليهم أن يستعففوا ويغنيهم الله من فضله. فبيّنت السورة كل شيء فأحرى بمن طبق هذه الآداب أن لا يقع في الزنا. إذن تطبيق حدّ الزنا لا يقع بسهولة، وضع الحكم وأتى بسياج من الأحكام وسور من الآداب يجعل المسلم لا يقع فيه أبدًا.

المقدم: إذا تتبع كل هذه المسائل فلن يقع فيها بإذن الله وإذا وقع فيها فحريٌ أن يُقام عليه الحدّ

د. المستغانمي: لأنه مجاهر تجاوز جميع الآيات التي وردت في سورة النور.

المقدم: هذا المحور العام، هل هناك محاور أخرى؟

د. المستغانمي: المحور العام التربية لكن لها خصائص جميلة جدًا، خصائص لفظية وخصائص معنوية. أولًا وأنا أبحث في سورة النور كل سورة شخصية تنطق بها، سورة المؤمنون قسّمها الله سبحانه وتعالى من البداية: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾) ثم قال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴿١٧﴾) ينتهي شوط أو جولة فتبدأ جولة ثانية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) التقسيم لفظي منها وفيها. سورة النور قسمها الباري بطريقة هندسية عظيمة وهي: الآيات البيّنات، من البداية (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) أي واضحات جليّات، اثم بدأت لجولة الأولى تحدثت عن حدّ الزنا (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ثم بعد ذلك الناس تتجرأ وتقذف (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ثم بعد ذلك هب أن رجلًا وجد مع زوجه زنا لا يستطيع أن يُحضر الشهود (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) هذه خصوصية، تخفيف على الأزواج والزوجات، هذه خصوصية البيوت تختلف عن الآية السابقة (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) هذه زوجة فإذا رماها يحلف أربع مرات (الملاعنة) بعد ذلك أتى بحادثة فظيعة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهي حادثة الإفك وفيها اتهام ورمي لأم المؤمنين وأحرى بالمؤمنين أن لا يقولوا هذا الكلام، لما انتهت هذه الآيات (يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٧﴾ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ) في البداية قال (آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)، انتهت الجولة الأولى قال (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ). ثم يأتي الحديث عن وسائل الوقاية مثل: ضرورة تجنب وسائل الإغراء (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)، ضرورة تجنب الشيطان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)، الأمر بغض البصر للنساء والرجال (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)، النهي عن إبداء الزينة لغير المحارم، الأمر بالتزويج، بعد ذلك قال (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) مبيّنات (لم يقل بينات) خطوة أعلى وأعظم تبيّن ما سبق.

المقدم: وردت آية لا أدري كيف نجعلها في سياق الحديث؟ قال الله تعالى (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١٨﴾) ثم ذكر خطوات الشيطان ثم ذكر (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٢٢﴾) هذا الموضوع ليس متعلقا بما سبق!

د. المستغانمي: هذا يتعلق بحادثة الإفك مسطح بن أثاثة الذي كانت له صلة قرابة مع أبي بكر الصديق وتكلم في عائشة وكان حريًا به ألا يتكلم ومنع عنه أبو بكر الصدقة فقال الله تعالى (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أبو بكر (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) فسورة بدأت بحد عظيم الإسلام ولكن رقّت إلى العفو والصفح، إذن الإسلام ليس مخيفًا كما يتصوره الآخرون، فيه حدود عند الضرورة وفيه دعوة إلى العفو والصفح.

المقدم: إذن يختم هذا الموضوع (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٣٤﴾) (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)

د. المستغانمي: بدأ موضوعا جديدًا.

المقدم: قال الله تعالى في بداية السورة (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿١﴾) وبدأ يفصل هذه الآيات البينات فذكرها بعد ختام الموضوع الأول ثم ذكرها بعد ختام الموضوع الثاني والآن دخل في الموضوع الثالث بعد أن قال (آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) قال (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)

د. المستغانمي: هو مرتبط، الله سبحانه وتعالى حكيم فيما يقول وما يفعل، بدأ بآيات حول الزنا تقنين للأسرة المسلمة التي لا ينبغي أن تقع في ذلك ثم ختم (كذلك أنزلنا آيات بينات) ثم بدأ بوسائل الوقاية ثم ختمها (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) ترقي في الاستعمال، مرة قال بينات ومرة قال مبينات اسم فاعل من بيّن (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الآن عاد السياق إلى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وجاء مثل تشبيهي لنور الله (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ). بعد ذلك انتقل إلى أعمال الكافرين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً) أعمالهم تذهب أدراج الرياح (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ) لماذا كل هذا التشبيه؟ لأنهم يعيشون في ظلام الاعتقاد وفي ظلام الجاهلية. ولما انتهى منهم قال (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٤٦﴾) انتهت حلقة من الحديث عن الله والحديث تقليب الليل والنهار (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) فيها آيات كونية تدل على وحدانية الله (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). ثم جاء حديث عن المنافقين بعد (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) (وَيَقُولُونَ) من هم؟ الحديث عن المنافقين لكن لم يذكرهم لأنه إذا كان الكلام معهودًا لا داعي لذكره (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٧﴾) بدأ حديث عن أهل النفاق وكيف أنهم أساؤوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا الطبع الحسن واللائق في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما أدبهم وتحدث عن المسلمين وعن المؤمنين (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) تحدث عنهم ثم عاد إلى الاستئذان قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) الجمل سابقة اعترضية يعني انقطع عن الموضوع ثم يعود إليه وهذا ديدن القرآن يتخوّلنا بالنصح، يتكلم عن موضوع ثم يذهب بك كالخطيب المفوّه المصقع البليغ يتكلم عن موضوع، يخرج إلى قصة، يعود إلى الموضوع،- ولله المثل الأعلى – عاد إلى الاستئذان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٥٨﴾) (كذلك) مثل ذلك البيان السابق، تكلمنا (كذلك) في سورة الزخرف يعني لو أننا بحثنا عن شيء واضح لا نجد أوضح من الآيات السابقة، فمثل ذلك البيان يبين الله لكم الآيات. عاد إلى الحديث عن استئذان الأطفال (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) قال (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) بعد ذلك عاد إلى النساء القواعد، العجائز (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) شرط غير متبرجات بزينة، هذه المرأة الكبيرة إذا كشفت شيئًا من ساعدها، هذه أم، جدّة، توقّر وتحترم في المجتمع المسلم. بعد ذلك (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ثم ذكر المؤمنين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وختمت بروعة المقطع.

الذي أريد أن أقوله أن الذي فصّل هذه السورة وجعلها أبوابًا هو قوله تعالى (يبين الآيات) هل ثمّة سورة أخرى مثلها؟ أنا شخصيًا لم أقف عليها لكن لكل سورة هندسة بنائية وهذه هندستها “البيان”، لماذا البيان؟ لأننا في سورة تشريع ومن حق التشريع أن يُبين للأمة. لو ذهبنا إلى سورة المرسلات (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بناؤها حول (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)، سورة القمر (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ذلك طابعها وتلك شخصيتها. فهندسة سورة النور مبنية على الإيضاح والبيان والتجلية فما أعظم هذا البيان! وهي مقسّمة.

من خصائصها ذكر الله سبحانه وتعالى فيها بعض الخصائص اللفظية التي جاءت متكررة من بينها: أداة (لولا) تفيد شيئين في اللغة العربية: (لولا) حرف امتناع لوجود عندما تكون شرطية و (لولا) تستعمل أداة حضّ وتلهيف إذا جاء بعدها الفعل الماضي (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) هذه ليست امتناع لوجود، كأنه يقول: هلّا إذا سمعتموه، تحضيض. فبالمعنيين أتت (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) هذه امتناع لوجود لأنه ورد بعدها اسم وهو مبتدأ وخبره محذوف تقديره (موجود) “لولا فضل الله عليكم موجود” ، (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) لما اتهموا عائشة بالافتراء، بالإفك، هلّا جاؤوا بأربعة شهاداء، فهنا تفيد التحضيض. (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١٤﴾) (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴿١٢﴾) هلّا إذ سمعتموه قلتم وأصل الكلام: لولا قلتم أنّى يكون هذا إذ سمعتموه، يفترض أول ما تسمع تقول لا ينبغي أن نقول هذا الكلام! (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴿١٦﴾) النظم: لولا قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا إذ سمعتموه، الظرف من حقه أن يؤخر لكن قُدّم لأن المفترض أن لا تنتظر ثانية، يتكلمون في عرض عائشة وتنتنظر؟!. إذن السورة من خصائصها اللفظية تكرار (لولا) (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) لا يوجد هذا الحضور المكثف لـ(لولا) في سورة المؤمنين، هذه السورة مبنية على شاكلة وعلى طريقة معينة وتلك مبنية على طريقة معينة، في سورة المؤمنون (قد) و(لقد) وهذا لا ينفي أن تأتي (قد) هنا لكن أتكلم عن الأيقونات اللفظية البارزة في السورة، لما تسمع قارئ يكرر (لولا) تعرف أنها سورة النور لأنه من خصائصها.

(العذاب العظيم) سورة التشريع تهز المؤمن (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) عبد الله بن أبيّ والذين اتبعوه (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١٤﴾ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴿١٥﴾ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴿١٦﴾) هذا الوصف لم يكرر جزافًا، نحن أمام قضية خطيرة قضية تربية الأسرة المسلمة على العفاف والطهر والابتعاد عن الزنا فنجد هذا التعبير (عظيم) المكثّف في السورة.

أيضًا شيء عجيب وأنا أبحث في السورة في عدد من التفاسير وجدت ذكرًا لله تعالى في سورة النور، عندما تقرأ قرآءة مجردة لا يستوقفك، البحث يجعلك تكتشف. وصف الله ذاته العلية في سورة النور من بين الأوصاف والأسماء الحسنى البارز ومحور السورة العظيم (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وفي السورة وصف الله عز وجلّ ذاته العلية بـ(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) (أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مليئة، ومما وجدت فيها (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) حضور مكثف لأسماء حسنى كثيرة وهي صفات لله تعالى لكن يميزها أنها على الرغم من أنها جاءت تنهى عن أشياء جاءت فيها(سريع الحساب) مرة واحدة وجاءت فيها (غفور رحيم) أربع مرات، في القرآن كاملا وردت 71 مرة في سورة النور وردت (غفور رحيم) أربع مرات، وردت رؤوف، تواب، هل هذا يرجح كفّة العذاب والعقاب أم يرجح كفّة المغفرة؟ طبعًأ المغفرة، يشجعنا على أن نتوب لا على أن يعاقبنا جلّ جلاله، قضية جلية جدًا.

شيء آخر أردت أن ألفت إليه في خصائص السورة اللفظية أيضًا أتت فيها نداءات المؤمنين وإن كانت النداءات موجودة في سور أخرى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ففيها خصائص لفظية وفيها تأكيد (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا) (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) فيها تأكيد لبعض الأحكام وكلها أحكام من بدايتها لنهايتها وثمّة خصائص أخرى قد نتطرق لبعض منها أثناء تفصيلها.

المقدم: هذه البداية لم يبدأ الله سبحانه وتعالى بها أي سورة مع العلم بأن كل سور القرآن أنزلها الله سبحانه وتعالى لكن لماذا يخصص هذه السورة فيقول (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) وهو الذي أنزل سواها وفرض سواها، ويكرر فيها لفظ الإنزال (أنزلنا) فهل في ذلك إشارة أو دلالة معينة؟

د. المستغانمي: طبعًا، أولًا مطلع فريد من نوعه في القرآن كله، هذه  لدينا مجموعة ألم، مجموعة حم، مجموعة سور متشابهة المطالع لكن هذه السورة فريدة من نوعها

المقدم: تذكرني بمطلع سورة التوبة (برآءة) ليس مطردًا هذا الاستهلال.

د. المستغانمي: هناك عدة سور بدأت ببدايات تحتلف لكن هذه (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) أليست السورة الأخرى منزلة؟ بلى، لكن هذه خصوصية العائلة، خصوصية الأسرة كأني بالقرآن يقول الجانب الأخلاقي التربوي الأسري مهم جدًا فإذا كانت السور السابقة تحدثت عن الاعتقاد وأولته عناية فائقة في عدد وجملة من السور فهي سورة فرضت تكاليف اشتدت التكاليف إلى حد إقامة الحدود (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ورقّت وشفّت إلى درجة (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) هذا تكليف وهذا تكليف، فيها أنواع التكاليف: غض البصر، الأمر بعدم إظهار الزينة، بعدم الاختلاط، حتى الأكل نظمته (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) نظّمت حتى طريق الأكل، فهي فيها التكاليف، هذه التكاليف إذا ما طبقها الفرد المسلم أولًا والأسرة المسلمة أنتجت لنا مجتمعًا ودولة نظيفة نقية طاهرة. فللخصوصية والتنويه كرر (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (لعلكم تذكرون) ما معنى تذكّرون؟ هل سبق تعليمه لنا؟ نعم، كل مولود يولد على الفطرة، الفطرة السليمة تقول لك ابتعد عن الزنا، هي تذكير بالفطرة السليمة (لعلكم تذكرون) فمطلع فريد أراه ويراه غيري من أصحاب التفسير بأنه ينوّه بالتكليفات لكن ننبّه على أنها ليس تكليفات للزجر ولكن لبناء الضمير المسلم، الضمير الذي لا ينظر إلى العورات، الضمير الذي لا يدخل البيوت حتى يستأذن، الضمير الذي لا يتتبع خطوات الشيطان كأني أرى الشيطان يمشي وهو يتتبع خطواته، صورة رهيبة! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)، ثم الضمير الذي يهتدي بنور الله في وسط السورة فرأينا محورها ورأينا ما يتفرع حولها من آيات وأحكام وإذا ما فصلنا في كل آية سنجدها تعود إلى شجرتها العظيمة.

المقدم: هل السورة في مجملها لها مناسبة نزول؟ هل حدث أمر وخاصة ورود حادثة الإفك فيها لها علاقة؟

د. المستغانمي: لها علاقة، السورة مدنية نزلت في العهد المدني نزلت بعد آية الزنا في السنة الثانية للهجرة بداية السنة الثانية للهجرة علماء الفقه والتفسير يقولون نزلت أواخر السنة الأولى وبداية الثانية، كلها؟ لا، نزلت منجمة تنجيمًأ عجيباً، مناسبات! القرآن يتنزل حسب الوقائع نزولًا وحسب الحكمة ترتيبًا. آية الزنا نزلت في بداية السنة الثانية أو نهاية السنة الأولى في حادثة لما كان أحد الصحابة أبو مرثد الغنوي كان يذهب ويأتي بأسرى المسلمين في مكة فجاءته واحدة من البغايا القدامى تسمى عناق فقالت تعالى وبِت عندنا فقال لها إن الله حرّم الزنا فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أأنكح عناق؟ فلم يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجبه فنزلت الآية (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) هذا دأب الفاسدين، دأب أصحاب الفواحش أما أنت يا صحابي يا جليل لا ينبغي لك أن تنزل وتسفّ إلى هذه الدرجة!. ثم جاءت آية القذف بعد ذلك جاءت (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) هذه نزلت في حادثة الإفك التي حصلت بعد غزوة المصطلق في السنة الرابعة للهجرة (آية نزلت في السنة الرابعة وضعها هنا)، آية الملاعنة الذي يرى زوجته تزني وقعت بعد غزوة تبوك السنة التاسعة للهجرة لما رأى أحد الصحابة وجاء يشتكي عند الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) وضعها الله أمام آية الإفك، بناء عجيب! آية الزنى، آية الذين يرمون المحصنات، ثم آية رمي الأزواج التي نزلت في السنة التاسعة، الملاعنة ثم عاد إلى آية الإفك التي نزلت في السنة الرابعة، ما هذا التنجيم! وما هذا الترتيب! إذن نزل حسب الوقائع تنزيلًا لكن في الأولى عندما نقرأ نقرأ آية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ونقرأ آية الملاعنة تتناسب معها ثم عادت إلى قصة تطبيقية من حياة رسول الله (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) كأنه مثال لما تحدث عنه سابقًا، فترتيبها عجيب وسنذكرها في حينها بإذن الله.

المقدم: الله سبحانه وتعالى يقول في الآية الثانية مباشرة (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) في غير القرآن ربما يقول القائل الزانية والزاني اجلدوا، لماذا هذه الفاء؟ قد يقول الفاء زائدة لكن في القرآن لا شيء زائد.

د. المستغانمي: تسأل عن نظم الآية ونظم الآية هذه عجيب، الزانية والزاني، سيبويه يقول: هذا مبتدأ وخبره محذوف: فيم يُتلى عليكم خبر الزانية والزاني، الزانية والزاني فيم يتلى عليكم. (فاجلدوا) هذه جواب شرط محذوف، كأنه يقول الزانية والزاني إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. بعض العلماء أصحاب الإعراب يقولوا (فاجلدوا) هذا خبر (الزانية) لكن هذا مستبعد. عندما ندقق – وأنا ارتحت إلى هذا الرأي – سيبويه يقول: “فيم يتلى عليكم الزانية والزاني” مبتدأ وخبر (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) هذا جواب شرط محذوف وهذا ديدن القرآن عندما تأتي الفاء التفريعية الواقعة في جواب الشرط بعد المبتدأ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) المائدة) كأنه يقول السارق والسارقة إن أردتم أن تعرفوا الحكم اللازم لهما فاقطعوا أيديهما، (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (16) النساء) اللذان يأتيان الفاحشة في سورة النساء، إن أردتم حكم اللذان يأتيان الفاحشة فاذوهما، كان الإيذاء ثم جاءت آية الجلد. إذن التركيب الزانية والزاني تقدير الكلام: التي تزني والذي يزني لأن اسم الفاعل يعوّض الفعل المضارع، كأنه جلّ جلاله يقول: التي تزني والذي يزني إن أردتم الحكم فيهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة.

المقدم: لماذا بدأ بالزانية؟

د. المستغانمي: هذا كلام طويل أوجزه لك، علماء التفسير وقفوا، الإمام الشوكاني والإمام ابن كثير، هذا تقديم بارز لماذا الزانية بينما في السارق والسارقة (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) الرجل أقدر على السرقة بقوته يتجرأ على السرقة والعياذ بالله، المجرمون السرّاق، أكثر السارقين هم من الرجال قد تخوّل له نفسه بما لديه من عضلات وشطارة أما في نظافة المجتمع والزنا من المتسبب الأول؟ هذا رأي العلماء – قد توافقه وقد تختلف- المرأة هي التي توقع بتبرجها وسفورها وابتذالها وتزيّنها لو أن المرأة لم تمكّن هذا الرجل لا يستطيع. فسبب المرأة في الزنا أكثر من سبب الرجل، لكن هل هذا يعفي الرجل؟ كل واحد لو شاء لقال: الزانية والزاني فاجلدوهما، لو جاءت فاجلدوهما (هما) تعود عليهما، أيهما أولى بالعقاب؟ كلاهما أولى بالعقاب (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) الزانية هي التي تتسبب رقم واحد، لأن المرأة إذا لم تتزين ولم تغري ذلك الرجل الذي في قلبه مرض لا يقع هذا لا يعني أن الرجال برآء لكن الحكم جاء للإثنين نسأل الله العافية في هذا المجال.