في رحاب سورة

في رحاب سورة النور – 3 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة النور – 3

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: الحديث لا زال متواصلًا في سورة النور من القرآن الكريم وتحدثنا حول محورها العام وحول أهم الموضوعات التي فيها وتحدثنا حول خصائصها اللفظية وبعض الصفات التي وردت فيها إلى أن بدأنا نتحدث عن آياتها بالتفصيل ووصلنا إلى حادثة الإفك لم يتسع الوقت في الحلقة الماضية للتفصيل فيها. قلنا في الحلقة الماضية أن حادثة الإفك رغم الشر الذي فيها إلا أن فيها خيرًا كثيرًا وهذا ما توقفنا عنده ولنتحدث عن حادثة الإفك، ولنتحدث عن قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾[النور: 11] ولماذا قال: ﴿عُصْبَةٌ﴾ ولماذا قال: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وبعد ذلك سوف نسأل عن الذي تولى كبره من هو هذا الذي تولى كبره؟!

د. المستغانمي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد. كما تفضلت حادثة الإفك حادثة استوقفت المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ الغليان والفوران في المجتمع المدني كيف يتم هذا، وتحدثت الألسن عن هذه الأكذوبة العظيمة، وعن هذا البهتان العظيم الذي افتراه المنافقون عن عائشة رضي الله عنها. فسميت بحادثة الإفك حتى أصبحت كلمة (الإفك) علماً بالغلبة على هذه الحادثة، فلما نقول: الإفك هو الكذب وهو أشد الكذب، وقلنا بأن أفك بمعنى: قلب الحق باطلاً والباطل حقاً، هو الكذب الذي يقلب الحقائق، ومنه سميت قرى قوم لوط: ﴿الْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ القرى التي جعل الله عاليها سافلها فقلبها، قرى سدوم. فهنا (الإفك) هو قلب الحقائق، وورد في القرآن ﴿أَفَّاكٍ﴾ يعني كذّاب (معتدٍ أثيم) وعندما يقول: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ في القرآن معناها أنّى يصرفون عن الحقيقة، أنى يعدلون عنها.‏

ملخص الحادثة بإيجاز: بعد غزوة بني المصطلق كما قلنا: عائشة رضي الله عنها التمست عقداً لها فقدته فعادت لأخذه أو لتتلمسه ولما رجعت ‏جدت أن الجيش قد رجع قافلاً، وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله وسيذكرونني وبقيت في مكانها. جاء فجأة رجل كان دائماً يتفقد آثار المسلمين ممن يتتبعهم، فإذا نسوا شيئاً فقدوا شيئاً أسقطوا شيئاً، هذا من الاحتياطات اللازمة، فكان هو صفوان بن المعطِّل رجل أمين وصادق فلما رأى عائشة رضي الله عنها استرجع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أناخ لها الجمل وأتى بها إلى القافلة. طبعاً أدركوهم بعد وقت معين، فهنا اختلقت الألسن وليست العقول يعني بدون تفكير، واختلق المنافقون كلاماً خطيراً والذي تولى كبر القضية هو المنافق الكبير: عبد الله بن أبي بن سلول.‏

المقدم: ما معنى تولى كبره؟‏

د. المستغانمي: تولى كبره يعني الذي أخذ حصة الأسد من هذه المصيبة العظيمة، وأصبح يشيعها بين الناس ويدينها ويؤكد، وقال مقولته ‏المشهورة: والله لا نجت منه ولا نجا منها.‏

المقدم: الهاء هنا تعود على من؟ ﴿تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾؟

د. المستغانمي: كبر الإفك كبر هذا الافتراء: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ حتى إن العلماء قالوا: بمجرد ما قال: له عذاب عظيم معناه: لا يتوب إشارة إلى أنه سيموت على هذا، وكيف يتوب وهو كان أكبر المنافقين النفاق العقائدي، وليس السلوكي العملي، ممكن واحد ينسى قد يعد ويخلف هذه خصلة من النفاق العملي. أما هؤلاء المنافقون العقائديون فهم يضمرون الكفر ويظهرون الإسلام.‏

المقدم: هؤلاء من قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾.‏

د. المستغانمي: ولما قال: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ قال العلماء: فيه إشارة إلى عدم توبته، أما بعض المسلمين تحدث حسان بن ‏ثابت يعني مثلما تقول: راجت عليهم الأحدوثة ومرت عليهم كان بعض منهم ساذجاً مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش وهي زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم انطلت عليهم المسألة طبعاً يقول بعض المفسرين: نظراً لغيرتها على أختها يعني كانت عائشة ضرة كما يقولون لزينب، المهم انطلت عليهم وتاب الله عليهم، ماذا قال الله في القرآن: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ يعني يحاسبون حسب ما اكتسبوا ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ عظيم بمعنى خاص.‏

المقدم: هذا خلاف هؤلاء؟

د. المستغانمي: خلاف هؤلاء، إذاً انطلت الفكرة على كثير من المنافقين، وبعض المسلمين البسطاء رددوا الكلمة دون تفكر ودون تروّي.‏

المقدم: وبعض المسلمين من كبار الصحابة وقتها ربما لم تنطلي عليهم المسألة كأنهم اتخذوا مواقف تجاهها مثل: أبو بكر الصديق رضي ‏الله عنه وأرضاه يعني تصرف تصرفات لا شك من غيرته على ابنته وكذلك على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه منع الصدقة ممن تحدث ‏في هذه القضية، ولامه النبي صلى الله عليه وسلم وعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم.‏

د. المستغانمي: نزل القرآن في مسطح ابن أثابة كان ابن خالته وكان مهاجراً وكان فقير الحال كان ينفق عليه فيما قبل، فطبعاً من لا يأخذه الغيرة ومن لا تحركه.

المقدم: طبعاً يتحدث في عرضي وأنا أنفق عليه؟!

د. المستغانمي: فقوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾[النور: 11] بداية عظيمة بداية استئنافية لقصة حادثة حقيقية بدأت بـ (إن) المؤكدة: ‏‏﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾ لم يقل (إن الذين كذبوا) ﴿جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾ هذا التعبير دائماً المسافر الغريب يأتي بأخبار غريبة المسافرون يأتون بأخبار غريبة منها الصحيح ومنها غير الصحيح، كأن القرآن يقول: إن الذين جاؤوا بهذا الخبر الغريب وهو الإفك ولم يقل: إن الذين ‏كذبوا على عائشة، لا لا، هو أصبح الإفك علماً بالغلبة على هذه الحادثة المكذوبة المفتراة المختلقة.‏

المقدم: لماذا قال: (جاءوا بالإفك) ولم يقل (أتوا بالإفك)؟

د. المستغانمي: لأنه شيء عظيم، وقلنا هنا: (جاء) دائماً تستعمل في الأمور الشديدة العظيمة كما تذكر جاءوا بالإفك عصبة منكم عصبة من ‏العلماء من يقول: أقل من العشرة وبعضهم يقول: من عشرة، أقل من الفريق بالتأكيد عصبة، وبعضهم يقول: من العشرة إلى الأربعين، ضبط هذه الكلمات في اللغة العربية نقول: عصبة ونقول: جماعة ونقول: فريق، ثلّة، ونقول: طائفة، ما شاء الله القرآن استعملها كلها بطرق حكيمة. ‏﴿عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ أنا تستوقفني كلمة: (منكم) يعني حتى ولو تكلموا انطلت عليهم الفكرة لكن هم من المؤمنين.‏

المقدم: هل (منكم) لبيان الجنس، وإلا للتبعيض؟

د. المستغانمي: لبيان أنهم منكم يعني: من جنس المسلمين، وأيضاً ثمة من المنافقين من تحدث يعني قصدي (منكم) كانوا من المؤمنين.‏

المقدم: يعني ليسوا من المشركين ليسوا من كفار قريش؟

د. المستغانمي: من هذا المجتمع المسلم الذي يستمع كل يوم إلى الوحي وإلى الرسول، ومع ذلك انطلت عليهم الكلمة بعدما روّج لها المنافقون، بدليل الآيات التي ستأتي بعد: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ مجتمع. إذاً أقول (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم) من الاقتضاء اللغوي في غير القرآن لو قال: لا تحسبوه شراً لكم بل خيراً لكم، (بل) تعطف وتبطل: بل للإضراب والإبطال: (لا تحسبوه شراً بل خيراً) تأتي معطوفة القرآن ما قال؟ قال: ﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ جملة جديدة اسمية مبتدأ وخبر لإفادة التوكيد لإفادة ‏مدى العظمة والخير في هذا الحدث، طبعاً ظاهره محنةٌ، وباطنه منحةٌ كما يقول العلماء. ‏﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أولاً: لكل منهم ما اكتسب من الإثم وهذا يتحمل، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم عبد الله بن أُبي بن سلول وغيره. ‏﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾* ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ سوف تقول: ما الخير فيه؟ الخير فيه أنه ابتلى الأمة المسلمة محصها وأظهر ‏المنافقين منها، الخير فيه: أنزل براءة عائشة رضي الله عنها من فوق السماء، وأنزل آيات تتلى إلى يوم القيامة، قالت: ولقد نزل عذري من السماء. الخير فيه: الفتنة عمل تطبيقي للآيات التي قالت: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ دائماً العمل التطبيقي يثبت الفكرة.‏

المقدم: هذه الحادثة جزء مما تحدث عنه القرآن قبل قليل جزء من رمي المحصنات جزء من رمي الأزواج، وهذا جزء من الرمي.‏

د. المستغانمي: وكانت الحادثة العملية في أعظم بيت، بيت النبوة، يعني لماذا مثلتم بكذا وكذا؟ لا، التمثيل الواقعي الحقيقي ذاق شدته وبلاءه محمد صلى الله عليه وسلم، وزوجه تخيل عائشة رضي الله عنها مرّ عليها ثلاثون يوماً وليلة عانت الويلات، وكان الرسول صلى الله عليه ‏وسلم مغاضباً لا يعاديها ولا يقاطعها قضية صعبة ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب – وهنا الفائدة وهو لا يعلمه-  لو كان يعلم ‏الغيب لاتخذ الموقف من أول لحظة، لو كان القرآن – استغفر الله- مفترى مكذوباً كان سيكتب آية يوم ويريحنا بدل ثلاثين يوم، القرآن من عند الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، والخيرات كثيرة توالت وكانت عملاً تطبيقياً وبرّأ الله البيت النبوي إلى أن جاءت الآيات: ﴿أُولَئِكَ ‏مُبَرَّءُونَ﴾ ليس (بريئون) (مبرأون) اسم مفعول مستخلصون مصطفون من عند لله سبحانه وتعالى، فكانت النتائج كلها رائعة.‏

المقدم: كأنه هنا إشارة إلى أن هذا يحدث وهذا يحصل في المجتمع إذا كان قد حصل في بيت النبوة فربما يحصل ‏في كل البيوت، ومن اتهم كذلك ليس بغريب على المجتمع الإسلامي، لذلك قال الله سبحانه وتعالى (منكم) أي من مجتمعكم من المسلمين ‏أنفسهم، ومن المنافقين الذين هم في مجتمع المسلمين كذلك. وهذا كأن فيه تمهيد أو ربما ختام لما مرّ علينا سابقاً بأن في المجتمع كذلك من يرمي المحصنات، وفي المجتمع من يرمي الأزواج، وفي ‏المجتمع كذلك من يقوم بفاحشة الزنا التي لا بد أن يكون الحد فيها رادعاً كما ذكر القرآن ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾.

هنا الله سبحانه وتعالى قال: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ أريد أن أفهم معنى هذه الآية، ثم نشاهد هنا (لولا) وهذه (لولا) بخلاف (لولا) الذي تحدثنا عنها قبل آيات: (لولا فضل الله) تلك تعني الوجود وهذه؟

د. المستغانمي: هذه تحضيضية تحض.

المقدم: تحضيضية وكنا قد تحدثنا عنها سابقاً في إحدى الحلقات، لكن السؤال هنا: الآيات كرر فيها (لولا) بشكل مستطرد: ﴿لَوْلَا إِذْ ‏سَمِعْتُمُوهُ﴾، ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ﴾، ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ﴾، ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ مرة أخرى، فهذه كذلك يجب أن نتحدث عنها.‏

د. المستغانمي: لعلك تذكر في أول حلقة قلت: لكل سورة صبغة لكل سورة شخصية، هذه من بين الأيقونات اللفظية المستعملة بطريقة حكيمة أقول: إلهية حكيمة (لولا) وفي أشياء أخرى سأوقفك عليها إن شاء الله. ولعل المشاهد الكريم والذين يتلون بتدبر سيجدون ما لا نجد، فـ (لولا) أولاً في اللغة العربية تأتي بوجهين:‏

  • تأتي بامتناع لوجود، تسمى (لولا الامتناعية).‏
  • وتأتي للتحضيض الحثّ مع الحضّ.‏

المقدم: وتلك يجب أن يكون لها جواب، الأولى لما تكون امتناعية يجب أن يكون لها جواب يقال: جواب لولا، أما هذه فلا، هذه تحثّ.‏

د. المستغانمي: لولا الامتناعية التي لها جواب قد يكون الجواب مذكوراً وقد يحذف مثلاً: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ﴾ ذكر الجواب. وأحياناً: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ لعاقبكم ولأهلككم ما يذكر، فعندما يحذف جواب (لولا) ويحذف جواب (لو) ‏ليجعل العاقل يذهب كل مذهب في تصور ذلك الجواب، إثراء للمعاني, فهنا (لولا) أيقونة لفظية مستعملة بطريقة عجيبة، الله حضّهم على استعمال العقل: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ معناها الحرفي: هلّا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً؟! كان المفترض وكان الأولى إذا سمعتم مثل هذا الخبر الشنيع المفترى المكذوب الذي ليس وراءه دليل أن يظن بعضكم ببعض خيراً، وانظر هنا التعبير أصل (لولا التحضيضية) الفعل يجيء وراءها مباشرة: (لولا ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً إذ سمعوا الخبر) هذا هو ‏المفروض.‏

المقدم: سبحان الله! فيها تقديم وتأخير؟

د. المستغانمي: التقديم قدّم الظرف لماذا؟ ليقول لهم ولنا: (لولا إذ سمعتموه مباشرة) تسمع مثل هذا الخبر أن تكذبه، تقول هذا إفك، وتقول: من هذا ‏مؤمن مؤمنة؟ إذاً لا ينبغي أن أصدّق مثل هذا.‏

‏﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ في عدول التعبير ما هو العدول؟ ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ خطاب لمن؟ للمؤمنين، ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ ‏المفترض يكون: (ظننتم بأنفسكم خيراً) ولكن ما قال كذا، ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ﴾ هذا يسمى إظهار بدل إضمار، لماذا إظهار بدل ‏الإضمار؟ كأنه يقول: لولا إذ سمعتموه كانت خصلة الإيمان التي تجمع بين المجتمع وبين روابط هذا المجتمع تمنع من هذا القول، ظنّ المؤمنون ‏والمؤمنات بغيرهم؟ لا، (بأنفسهم) أنت عندما تتكلم عن عرض عائشة تتكلم عن نفسك، عندما تتكلم عن عرض جارك تتكلم عن نفسك، المقتضى وأقول لك ما جاء عليه القرآن، يعني الحديث عن جارك هو حديث عن نفسك لذلك قال: ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ ‏بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ هذا على شاكلة قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أنت تلمز نفسك وإلا تلمز آخر؟ أنت تلمز أفراداً آخرين، ولكنك عندما تلمزهم فأنت تلمز نفسك.‏

المقدم: وهذا على شاكلة الحديث الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم: بأنه لا يسب الرجل أباه، قالوا: كيف يسب الرجل أباه؟ قال: يسب أبا ‏الرجل فيسب أباه.‏

د. المستغانمي: حديث صحيح ما شاء الله واستدلال دقيق جداً. ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ والظن مثل الشك المنافقون دخلتهم الشكوك، لكن الظن أنك تظن خيراً بالمسلمين. (لولا) هنا تحضيضية وما جاء أحياناً امتناعية، وأحياناً تحضيضية.‏

المقدم: (ظن) أحياناً تأتي من باب الظن، وأحياناً تأتي من باب اليقين؟‏

د. المستغانمي: في سياق آخر نعم، وهنا من باب الظن الظن الحقيقي.‏

المقدم: ﴿وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ واضح جليّ

د. المستغانمي: وانظر إلى إفكٌ مبين بعد قليل سيقول: (هذا بهتان عظيم) لكن مبين أيضاً ركز معي هنا الأيقونات اللفظية في سورة الشريع البيان: ‏‏(آيات مبينات) (يبين الله لكم الآيات) (إفك مبين) (ولقد أنزلنا إليكم آيات بينات) يعني كثُرت الإبانة والتبيين أنا أقول لك شيئاً: أولاً: نحن في سورة تشريع والتشريع حقه البيان. وثانيًا نحن في سورة النور، والنور هو البيان. يتناسق الاستعمال بدليل في آية التي سوف نصل إليها: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا ‏الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ وفي سور أخرى: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ ويسكت، هنا المبين مطلوبة لأنها سورة البيان.‏

المقدم: يقول الله سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ ‏هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾. هنا يتحدث ويذكرنا بما طلبه سابقاً من أربعة شهداء، (جاءوا عليه) على من؟ على الإفك؟ على هذه الحادثة؟.‏

د. المستغانمي: لولا جاءوا عليه على هذا الإفك المفترض بأربعة شهداء هو أحد المفسرين قال: بنو إسرائيل لم تجف أقدامهم من البحر الأحمر ‏قطعوا مع موسى أنجاهم الله من فرعون وأغرق فرعون في اليم، وأنجاهم الله أحد المفسرين يقول: وكانت أقدامهم مبللة لم تجف بعد، ومروا ‏على أصنام قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. أنا تذكرت وأنا أقرأ هذه الآية هؤلاء لم تمر عليهم ثلاث أربع آيات: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ نسي المسلمون ونسي الذين خاضوا وخاضوا في عرض من؟ في أطهر امرأة في التاريخ في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. فلذلك قال: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ هنا تعريف المسند والمسند إليه والإتيان بـ (هم) ضمير الفصل هذا أسلوب حصر وقصر، لكن الحصر والقصر لدينا نوعان:‏

حصر حقيقي، وحصر إضافي، أو قصر إضافي، هنا من ضمن القصر الإضافي، لأنه لما قال: ﴿فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ كأنه لا كاذب في الوجود غيرهم، هناك غيرهم يكذبون لكنه حصر من باب القصر الإضافي لتشنيع ما فعلوا من كذب، واضح كأن غيرهم بالنسبة لهم لا يعتبر كاذبًا.‏

المقدم: هنا (لولا) هذه التحضيضية؟

د. المستغانمي: التحضيضية التي تحض.‏

المقدم: ما فيها تقديم وتأخير هنا: (لولا جاءوا عليه)؟

د. المستغانمي: هذه جاءت على الأصل.‏

المقدم: لكن التي بعدها: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ هنا هذه (لولا) امتناع لوجود: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ وكل الأركان موجودة: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا﴾ طبعاً الخبر محذوف وجوباً موجود في الدنيا والآخرة: ﴿وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ ‏فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هنا ذكر العذاب العظيم.‏

د. المستغانمي: هذا واحد. ثانياً هنا ذكر الجواب: ﴿لَمَسَّكُمْ﴾ كما تفضلت لولا المتناعية يكثر ارتباط أو اقتران جوابها بـ‏‏(اللام) لولا كذا لفعل كذا.‏

المقدم: دائماً وإلا اضطراراً؟

د. المستغانمي: يقول: يكثر وغالباً لام المؤكدة هذه: ﴿لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ عذاب عظيم لولا رحمة الله موجودة إلى غير ذلك. لكن هنا ﴿أَفَضْتُمْ فِيهِ﴾ ما معنى (أفضتم فيه) استطردتم بكثرة الإفاضة دائماً تقول: أفاض الكأس زاد عن حده، لو قلنا: ملأ الكأس ملأه أفاضه بمعنى: صبه فيه إلى أن سال ‏الماء من فوق ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ بكثرة، فالإفاضة دائماً فيها كثرة، هنا قال لمسكم فيما أكثرتم فيه من الحديث عذاب عظيم وكان الأولى أن يتعقل المسلمون في هذه الحادثة وأن يترووا، والدليل ما يأتي بعد ذلك ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.

المقدم: هنا الإنسان يتلقى بإذنه أو بقلبه أو بعقله، لكن لا يتلقى بلسانه، بل يقول: بلسانه، لكن الله سبحانه وتعالى يقول ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ ‏بِأَفْوَاهِكُمْ﴾؟

د. المستغانمي: هذه كل العلماء وقفوا عندها ولكل رأيه التلقي كما تفضلت يكون بالسمع والذهن عندما يسمع يفكر ويعقل، ويوازن ‏ويقارن، أنت تتلقى الأخبار بالأذان، ثم العقل يفكر، هم للأسف الشديد ما تلقوا هذه الإفك المبين بعقولهم، ولا بقلوبهم

المقدم: يعني كأنهم مباشرة حينما وصلهم لاكوه؟

د. المستغانمي: لاكوه ولفظوه وأخبروا به غيرهم، وأذاعوه، كأنهم تلقوه بالألسنة، يعني شبه الخبر، الصورة البلاغية: شبه الخبر بإنسان ‏غريب يأتي وأنت تتلقاه بالأحضان هم تلقوا الخبر بالألسنة وتهيئوا له، بمجرد ما سمعوه لاكته الألسنة ولفظته، لم يعوه ولم يفكروا فيه، ولم يوازنوه، لا بد قبل أن تتكلم أن تفكر فهم لم يستعملوا مثقال أثارة من العقل.‏

المقدم: حتى أحياناً سبحان الله ربما يستمع الإنسان إلى خبر فلا يعقله، فيلوكه أو يكرره أو ينشره، القرآن هنا لم يقل: استمعوه بآذانهم، بل كأنه حتى لأن البعض ربما يستمع بالأذن ولا يكرر حتى لو لم يعقل لا يكرر، هذا مباشرة كرر ونشر.‏

د. المستغانمي: هذا يسميه البلاغيون استعارة بالأيلولة بمعنى: استمعوه بآذانهم، في الحقيقة استمعوه بألسنتهم التي آل الأمر للتكلّم بها، فهم ما ‏فكروا أبداً، هذا رقم واحد، استعارة بالأيلولة، أو مجاز بالإيلولة. إذ تلقونه أصلها (إذ تتلقونه) لكن السرعة القرآني خفف التاء لتصوير السرعة، كانوا مستعجلين حديث خطير أتعرف ماذا وقع اليوم في ‏المجتمع؟! الكل يتكلم مؤمنون وغيرهم، طبعاً بين مصدّق ومكذّب معظمهم كذبوا، لكن الذين صدقوا وانطلت عليهم عدد. ‏﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ منطقي لو قال: وتقولوا نعرف أنهم قالوا بماذا؟ بالأفواه وبالألسن، وهنا لماذا لم يقل (وتقولون بألسنتكم)؟ أولاً: كان ‏المفروض (وتقولون) لم يقل: وتقولوا بألسنتكم، بل قال: (بأفواهكم) يعني بملء أفواهكم، وإن كنتم تكررون كلاماً لا معنى له، لا صفة له إلا أنه قول يقال، فكأنه يقول: قلتم كلاماً لا معنى له، لا عقلانية فيه لا منطق يزنه، وهذا المقصود.‏

المقدم: وهنا إشارة حتى أعتقد في علم التجويد هنا حكم أحد الإدغامات ربما إدغام ‏متماثلين أو متجانسين لأن الذال والتاء نفس المخرج، فبالتالي تدغم، هذه ربما فيها كذلك فيها إشارة إلى السرعة؟

د. المستغانمي: هذه عند القارئ حمزة، حمزة الكوفي: (إتلقونه) وعند غيره التاء عند الذال لها نفس المخرج. أما نحن في قراءتنا في حفص: (إذ تلقونه بألسنتكم).

المقدم: سبحان الله! فهذا فيه سبحان الله إشارة إلى السرعة كما ذكرت.

‏﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.‏

د. المستغانمي: هذا تكرير لتوكيد الفعلة الشنعاء العظيمة التي افتراها المنافقون وانطلت على بعض المسلمين.‏

المقدم: هنا إذ هذه ظرفية.‏

د. المستغانمي: ظرف زمان مبهم.‏

المقدم: ثم يقول: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ﴾ هذه (لولا) كذلك التي هي التحضيضية تحضه. ‏﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ فيها تقديم وتأخير كذلك.‏

د. المستغانمي: وهي تحض وتوبخ يعني المعاني الثانية تسمى المعاني الثانوية التي تستنتج، هو الآن يعني يحضهم يكرمهم؟! لا، يحضهم ‏ويوبخهم على ما صنعوه.‏

المقدم: كما في الاستفهام هناك استفهام استنكاري، وهناك استفهام.. وهكذا. ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾.يعني كأن فيها تقديم وتأخير: (ولولا قلتم ما يكون لنا هذا إذ سمعتموه).‏

د. المستغانمي: إذ سمعتموه تقديم الظرف للعناية يريد القرآن أن يقول لهم: (كان الأولى أن تبادروا) كلمة (أن تبادروا) جاءت بالتقديم والتأخير.‏

المقدم: قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾ ثم قال: ﴿وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ ثم كنّى عن الإفك بالضمير قالوا جاءوا عليه (لا تحسبوه) الهاء: هنا فيه إشارة إلى الإفك. لكن هنا قال: ﴿هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾.‏

د. المستغانمي: وأنت قلت في المرة الماضية الفرق بين الإفك والبهتان: الإفك في الكذب هو أقوى شيء. والفرق بينهما: أن الإفك تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، فهو من أشد الكذب. البهتان: وهو كذب وهو أن تلقى المخاطب بشيء يبهته بمعنى لا يكاد يصدق ما يسمع، يدهشه، يحتار من الحيرة والدهشة والبهتان، ومنه: ‏﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ ما معنى (بهت)؟ يعني اندهش تعجب فهي ليست التصوير ببهتان عظيم نستطيع أن نقول: فيه نوع من الترقي ووصف من زاوية أخرى.‏

المقدم: يعني هذا كذب فيه دهشة

د. المستغانمي: يدهش كل مؤمن لا يُعقل وليس بمنطق سليم، كل ذي أثارة من إيمان يعرف طهارة محمد صلى الله عليه وسلم، ويعرف طهارة عائشة رضي الله عنها، ويعرف أن الطيور على أشكالها تقع ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ ما كان لكم أن تقولوا مثل هذا ‏الكلام. فهو مرة وصفه بـ (إفك مبين) ومرة قال: (بهتان عظيم).‏

في القرآن لم يصف الله تعالى البهتان العظيم إلا شيئين اثنين: حادثة الإفك، والذين قالوا عن مريم بهتان عظيم، وأيضاً قالوا عنها في عرضها وبغت وأتت بهذا الولد، فعبّر عنه ببهتان عظيم غير هذا يقول بهتان أو شيء من هذا.

﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ هذا أشد أنواع النفي أنت تقول لي: هل ستفعل كذا، لا أفعل كذا (لا) النافية (لن أفعل) أشد توكيدا (لست أفعل هذا) أشد توكيداً (ما يكون لي أن أفعل هذا) ‏أبداً لن يحصل أبدًا، جحود وأسلوب جحود، وهذا في القرآن ما يكون أبداً يعني هذا أشد أنواع النفي، حتى إن عيسى عليه السلام يوم القيامة عندما ‏يوقفه الله يقول: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ موقف صعب. قال ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي ‏بِحَقٍّ﴾.‏

المقدم: أشد أنواع النفي

د. المستغانمي: طبعاً عيسى هنا في مكان لا يحسد عليه أشد المواقف: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ﴾؟ هنا نفى بأشد الأنواع هنا قال ‏القرآن للمسلمين للمؤمنين: (هلا إذ سمعتموه) بمعنى: (لولا) نحن استعملناها (هلا) للتحضيض قلتم ما يكون أبداً أن ننطق بمثل هذا الكلام البيّن ‏الكذب.‏

المقدم: يعني هو هنا كررها بكل التعابير في البداية قال: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ يعني قالوا لم ينفوا وإنما قالوا قرروا العكس، ولكن هنا يقول: لا، نفوا بأشد أنواع النفي.

الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الله سبحانه وتعالى ينصحهم ويعظهم، لكن الموعظة والوعظ يجب أن يكون لئلا يعودوا لمثله؟

د. المستغانمي: أنت تقصد: (يعظكم أن تعودوا لمثله) كأنه ينصحكم أن تعودوا؟

المقدم: هذه (أن) ماذا تعني؟

د. المستغانمي: (أن) أداة نصب (أن تعودوا لمثله) هنا يعظكم أن تعودوا ليس المقصود يعظكم لتعودوا لا، تكلمنا عن تقنية التضمين في القرآن أن يضمن فعلاً لمعنى فعلٍ آخر للإيجاز والبلاغة، ‏هنا يعظكم محذراً إياكم أن تعودوا، كأنه قال: (يعظكم ويحذركم) أن تعودوا وليس يعظكم لكي تعودوا، هو ينهاهم، إذاً السياق يجعلنا لا نفهم ‏المعنى الثاني.‏

إذاً: (يعظكم) أنت تقصد يعظك بكذا أنا أعظك بأن تصلي المفترض: (يعظكم) بعدم العودة لئلا تعودوا، أو ألا تعودوا، لكن القرآن أرقى في ‏الأسلوب فضمّن فعلاً بمعنى فعلٍ آخر ستقول لي ما دليل التضمين؟ لأن السياق ينهى عن الكذب وعن الإفك، إذاً قال: (يعظكم محذراً إياكم أن ‏تعودوا لمثله) وأبداً تفيد النفي القاطع في المستقبل. ‏المقدم: تفيد النفي القاطع في المستقبل فمعناها: ألا تعودوا لمثله أبداً.‏

د. المستغانمي: أو قل: (ويحذركم) تضمين السياق خلنا نفهم نحذركم.‏

المقدم: إن كنتم مؤمنين وربطها بالإيمان؟

د. المستغانمي: ربطها بالإيمان هنا (إن) شرطية وجوابها محذوف كأنه يقول: (إن كنتم مؤمنين فلا تعودوا).

**********

المقدم: انتهينا من حادثة الإفك تقريباً أقول: لأننا كما أسلفنا سابقاً هناك خواتيم للمواضيع، وهذه الخواتيم نعرفها حينما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ فكلما ينهي موضوعًا يقول الله سبحانه وتعالى بما يشبه هذه الآية: ﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فيعني كأننا انتهينا من آية من الآيات.‏

د. المستغانمي هو صحيح انتهى الحديث المباشر، لكن ستأتي توابع خلال الآيات تعالج لها علاقة بالموضوع من بعيد وتعالج أشياء عميقة.

المقدم: والدليل على ذلك الآية التي تلتها مباشرة، حينما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾ والفاحشة تخرج مما تحدثنا عنه سابقاً سواءً الزنا، أو رمي المحصنات، أو رمي الأزواج،أو الذين جاءوا بالإفك هذه كلها ممن يحب أن تشيع بين المسلمين، فهذه من ‏الفواحش التي الله سبحانه وتعالى يتحدث عنها في الآيات القادمات.

يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.‏

هنا ذكر وقال: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ﴾ بشكل واضح.

د. المستغانمي: في الدنيا والآخرة لأن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة وأن تنتشر وأن تذاع هي في الحقيقة: إن الذين يحبون أن تنتشر أو أن تشيع ‏أخبار الفاحشة، هنا نستطيع أن نقدر يعني: المعنى الذي قلته مقصود أيضاً يحبون أن ينتشر الزنا من الذي يحبون؟ المنافقون والمشركون إلى غير ذلك، وهذا وجه صحيح. لكن أيضاً نستطيع أن نحمل الكلام على إذاعة الأخبار وإشاعتها: إن الذين يحبون أن تنتشر وأن تشيع أخبار الفاحشة بغير علم هؤلاء لهم ‏عذاب أليم؛ لأنهم لم يستعملوا العقل وأذاعوه وأشاعوه بدون حق.‏

المقدم: أنا أشرت هنا بأن الله سبحانه وتعالى قال بشكل صريح: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ﴾ على اعتبار أننا تحدثنا في الحلقة الماضية وقلنا حينما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ﴾ قلنا: هذا العذاب الدنيوي وليس العذاب الأخروي. هنا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ هنا قال: (رؤوف رحيم) قبلها قال: ﴿وَلَوْلَا ‏فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ لماذا قال هناك: (تواب حكيم) وهنا قال: (رؤوف رحيم)؟

د. المستغانمي: صحيح هذا تحدث فيه العلماء السابقون أيضاً يعني ابن الزبير الغرناطي في ملاك التأويل أنا بحثت في القضية جميل جداً هو التناسق ‏بين التدليل كأن الآية كلها جاءت تدليلًا لما سبق، ففي البداية لما قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ أين أتت؟ أتت ‏بعد جريمة الزنا والعياذ بالله، وبعد كبيرة رمي المحصنات ورمي الأزواج ولولا فضل الله موجودٌ، ولولا فضل الله الذي شرع لكم كي ‏تدرأوا الحدود بالشبهات، وكي تطبقوا على الزناة هذه الحدود، ولولا أن الله تواب بمعنى:يقبل التوبة ممن تاب وحكيم في هذه التشريعات ‏لهلكتم، جواب (لولا) كله محذوف: لولا فضل الله تفضل منه وتشريع منه ورحمة منه جل جلاله ولولا أنه تواب شرع التوبة ‏لكل من يخطئ لأن الذي يخطئ في المجتمع الإسلامي لو أن الله لم يتب عليه سيزداد جرماً ويزداد انحرافاً، لكن فتح باب التوبة يجعل ‏المجتمع في أمان، هذه رحمة أم لا؟ ‏﴿وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ كأنه يقول: وأنه فتح التوبة لحكمة منه جل جلاله لهلك المجتمع، أنا أعطيك تقديري أنا، غيري يقدر: لمسكم، لأهلككم ‏الله، للحق بكم التكالب، لك أن تقدر ما تشاء، أصلاً هو محذوف للتقدير.‏

الثانية بعد حادثة الإفك قال: ‏﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ رأفة بالأمة الخبر جلل، والأمر خطير جداً اتهام زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ‏لولا رأفة ورحمة من الله لأهلك جميع الذين تكلموا، هنا تدخلت رحمة الله، وتدخلت رأفة الله، وليس التوبة، التوبة رغب من يريد أن يتوب، ‏هنا لولا رحمة خاصة والرأفة: هي رحمة خاصة عوض أن يقول: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ ولولا رأفة الله صاغ الرأفة في اسمه ‏العظيم الرؤوف، لولا الرأفة والرحمة لمسكم ما مسكم من خلال إفاضتكم في الحديث الإفك الذي ليس له أصل. والله أعلم.‏

المقدم: الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾.أولاً: ما مناسبة هذه الآية بما قبلها؟ ثانياً: لماذا قال: (لا تتبعوا) الإنسان يتبع الخطوات التي يراها، أنا أتبع خطوات شخص يمشي أمامي، والأعرابي قال: الخطوة تدير على المسير، لكن الشيطان ليس له خطوات لا نرى خطواته فكيف نتبعها؟

د. المستغانمي: جوابًأ عن سؤالك الأول: ما المناسبة؟ المناسبة: كل ما سبق ما الذي جعلهم أقول بتعبيري الخاص يتمرغون في حمأة الإفك إلا الشيطان، (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) الذي يستعمل عقله المفكر المسلم النقي الطاهر لا ينبغي أن تنطلي مثل هذه الأفكار، فكل ما سبق سواءٌ الزنا، سواء رمي المحصنات، الإنسان يوسوس ‏للإنسان زوجتي اليوم خرجت دخلت ، الذين تحدثوا في الإفك كلهم وسوس لهم الشيطان، وإذا كنت تذكر في حلقة من حلقات ‏سورة المؤمنين تحدثنا بأنه دائماً لما يأتي كلمة الشيطان الوسوسة، أما إبليس فالسياق يتحدث عن الكِبر وعن الاستكبار وعن الكفر، ﴿وَقُلْ ‏رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ كأن الله يقول: لا تتبعوا خطوات الشيطان التي دلّاكم بها فيما سبق، وتحدثتم في الإفك أوقعكم دلاهما بغرور، لا تتبعوا الخطوات، طبعاً الشيطان لا يأتيك مباشرة افعل كذا، لا تصلي كذا، يأتيك بخطوات، فهنا جواباً عن سؤالك الثاني: الشيطان ‏لا نرى خطواته، لكن نتّبع الأفكار التي يبثّها، هنا في الحقيقة تشبيه محسوس بمعقول، الناس كل البشرية لها صورة للشيطان في أذهانها، ‏اذهب عند المسلمين عند اليهود عند النصارى عند المجوس للشيطان صورة مشوهة مخيفة يأمر بكل الشرور ونحن لم نره. هنا شبه الحالة المحسوسة بحالة معقولة معروفة ذهنيًا فقال: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ كأن الشيطان يمشي بخطوات وللأسف الذي يتبع ‏أمر الشيطان يتبع خطواته حذو القذة بالقذة حتى لو دخل جحر ضب لدخلتموه. فلا تتبع خطوات الشيطان ولا تتمادوا في اتباع الوساوس التي يزينها في قلوبكم. بعدها ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ ‏يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ النهاية: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ﴾ المفروض دائماً في أسلوب ‏الشرط: (إن تجتهد تنجح) أقصد من كلامي يتحدث عن نفس الموضوع: يعني الشرط مرتبط بالجواب في نفس الموضوع، هنا نقول: ‏‏(ومن يتبع خطوات الشيطان) يتكلم مع إنسان (فإنه يأمر) من الذي يأمر؟ الشيطان تجاوزًا في النحو نقول: (فإنه يأمر) جواب، لكن هو ليس ‏الجواب هو دليل الجواب: (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يقع في الفحشاء لأن الشيطان يأمر بالفحشاء) هذا هو التحليل الصحيح للغة، لذلك هذا دليل الجواب: ومن يتبع خطوات الشيطان لا محالة يقع في الفحشاء والمنكر، لماذا؟ نقول: لأنه يأمر ‏بالفحشاء والمنكر.‏

المقدم: وردت متلازمة كثيرة هذه (الفحشاء والمنكر) في أكثر من آية ربما ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى ‏عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ فما الفرق بينهما؟

د. المستغانمي: في القرآن كلمة (الفحشاء) تعني الزنا الدرجة الأولى، الفحشاء أو الفاحشة من نفس الجنس اللغوي يعنى ‏بها الزنا وما رادفه من أشياء ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾. فالفاحشة: هي عمل قوم لوط – والعياذ بالله- الزنا أو اللواط أو السحاق أو ما شابه العمل في الفحشاء، لكن لغوياً (فحشاء) بمعنى شيء ازداد عن كل الحدود فحش بمعنى: فات أو تجاوز كل الحدود. أما المنكر: هو ما ينكره الشرع ما ينكره الذوق السليم، ما ينكره المجتمع العرف، هذا ‏المنكر، فهو يقرن بينهما كثيراً الشيطان يأمرك بأن تتجاوز كل الحدود فيما يخص العلاقة بين المرأة والرجل وفيما يخص الأعراف.‏

المقدم: كثيراً يذكر الله سبحانه وتعالى بفضله علينا –جل جلاله- أو بفضله على المؤمنين: أقصد في هذه الآيات: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ‏‏﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ كثير يذكر هذا الأمر؟

د. المستغانمي: آخر الآية ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ يذكرهم بهذه النعمة العظيمة نحن لا نعرف نعمة فضل الله علينا حتى نبتلى لا نعرف نعمة الصحة.‏

المقدم: ما المقصود: (ما زكا)؟

د. المستغانمي: ما طهر، يعني ما طهرت نفسية أي واحد فيكم لولا فضل الله عليكم بهذا التشريع العظيم ما زكا، ما طهر. انظر إلى كلمة التزكية ‏بمعنى: الطهارة.‏

المقدم: القصد: لماذا ذكر الزكاة هنا أو الطهارة هنا وربطها بالفحشاء والمنكر؟

د. المستغانمي: تزكية النفس ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ وقد خاب من رماها في وحلة من أوحال الشرك وأوحال الكفر. زكى نفسه تزكية طهرها من كل الأدران من الشرك ومن النفاق، ومن الفواحش هذه التزكية الحقيقية. وتأتي التزكية بمعنى: الافتخار: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ هنا قال: لولا فضل الله عليكم بهذه التشريعات العظيمة وبهذه الآداب ما زكى منكم من ‏أحدٍ أبداً، أي: ما زكى من أحد تستغرق كل جنس البشرية.‏

المقدم: لكن سؤالي كان: أنت ذكرت بأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ ‏ذكر تواب رحيم لمناسبتها لما ذكر قبلها، وذكرت:  ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ لمناسبتها لما قبلها، هنا لماذا ‏ذكر: (ما زكا منكم من أحدٍ) لماذا تفضل الله علينا بالتزكية؟

د. المستغانمي: لأن المجتمعات دائماً تتمرغ في أوحال الفواحش والمنكرات لا يخلو إنسان من نظرٍ من كذا فالتزكية هذه توفيق من الله سبحانه ‏وتعالى عن طريق التشريع، يعني لولا فضل الله عليكم كان ذاعت الكلمات السيئة والأفعال السيئة والشنيعة، ما الذي يمنع المجتمع ‏المسلم؟ عندما الله يزكيه بفضله بشرعه بالآداب التي سنّها الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وسلم. نقف عند الأيقونة اللفظية (زكا) التي تسأل عنها: (ما زكى منكم) أي: ما طهر نفسياً وما طهر اجتماعياً.‏

المقدم: قال: (ما زكَى) ولم يقل: (ما زكَّى)؟

د. المستغانمي: في قراءة: (ما زكَّى منكم من أحدٍ) ما زكَّى هو الله، فإذا قلنا: (ما زكى منكم من أحد) صارت (من أحد) فاعل مجرور لفظاً مرفوع محلاً كأنه يقول: ما زكى أحدٌ. لو قرأناها: (ما زكَّى منكم أحداً) صارت مفعول به  إذاً قراءتان متكاملتان. المادة اللغوية التزكية بعد قليل يقول: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ إلى أن يقول: ﴿قُلْ ‏لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ في الآيات التي سنصل إليها: غض البصر يؤدي إلى زكاة النفس، ﴿أَزْكَى ‏لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ ذلك أزكى أيضاً، إذاً مراعاة لفظية رائعة في التناسق.‏

المقدم: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.‏

د. المستغانمي: ما معنى (أزكى لهم)؟ أطهر، لماذا لم يقل: (أطهر)؟ لأنه قبل قال: (ما زكى منكم من أحد) ثمة تناسق في استعمال الكلمات.

المقدم: حتى قال: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾؟

د. المستغانمي: هذا يخرج من مشكاة واحدة: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ أطهر أفضل أخير جميل، لكن القرآن يخرج من مشكاة لغوية عظيمة يا سبحان الله!‏

المقدم: لماذا ختم الآية بالسمع والعلم وقال: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾؟

د. المستغانمي: هذا للتذييل تذييل جميل انظر الآية فيها لفتات بلاغية كثيرة. أولاً: (والله سميعٌ عليم) تذييل هذا التذييل فيه وعدٌ ووعيد، وعدٌ بمعنى: خير، ووعيد فيه تشديد، من سمع خبراً مثل الإفك وانطلى عليه الله سميع عليم جل جلاله وعليم بما صنع، بردّة فعله، إذاً الله سميع عليم من باب الوعيد. من سمع مثل هذا الإفك المفترى نقول: لا، لا ينبغي هذا الكلام ولا ينبغي أن يقال في امرأة، وظنّ بالمؤمنين خيراً فله أجرٌ عظيم، والله سميع ‏عليم، سميع عليم تذييل يتناسب مع النفوس السابقة كانت في جانب الخير أو في جانب الشر، فنقول: هو تذييل يفيد الوعد والوعيد.‏

المقدم: كما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ هم يسجلوا ما تقوله من خير أو من شر، فلم يقل خيراً أو شر، قال: ما يلفظ من قولٍ.‏

د. المستغانمي: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ لماذا هذا التكرير؟ القياس اللغوي في ‏غير القرآن؟ لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبعها، أو ومن يتبع خطواته، هو لا، أظهر كلمتين وأعاد ذكر الكلمتين لزيادة ‏التنفير من جميع الخطوات.‏

المقدم: هنا الفعل جاء بالتضعيف: (لا تتبعوا) (ومن يتبع).‏

د. المستغانمي: لأنك تتكلف لم يقل: (لا تتبعوا) فيه تكلف (تتّبعوا) غير (تتبعوا) فيه تشديد على النفس أنت لا تستطيع الإنسان الزاني لا يستطيع ‏إلا إذا تكلف أشياء وأشياء، وهو الذي قاد نفسه إلى اتباع خطوات الشيطان وبحرص منه.‏

المقدم: يعني حينما يخرج هذا الذي يقصد الزنا والعياذ بالله فهو قد بيّت النية وخرج قاصداً الزنا وربما يكون قد تكلف أو دفع مالاً، وربما ‏سافر لغرض هذا الأمر، وربما، فهو يتبع.

د. المستغانمي: يتبع ويتكلف ويعلم ما يفعل، لذلك: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ما قال ومن يتبعه، لا، (ومن يتبع خطوات الشيطان) زيادة الإظهار بدل الإضمار لمزيد التشنيع من هذه الفعلة والتنفير منها، فأنت لا تتبع ملكاً إنما تتبع خطوات الشيطان.‏

المقدم: سوف نأتي للآيات التي تليها نحن توقفنا عند الآية الحادية والعشرين: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ثم ‏يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ﴾ وهذه قلنا: نزلت في أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وعن الصحابة أجمعين‏

 

https://www.youtube.com/watch?v=AnxMMebkL5E&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5&index=29