في رحاب سورة

في رحاب سورة النور – 8 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة النور – 8

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: نحن في هذه الحلقة وهي آخر حلقات البرنامج ما قبل رمضان، نحاول أن نتم سورة النور من أجل أن نلج ‏سورة الفرقان، والفرقان هو القرآن الذي أنزله في رمضان، فمن المناسب أن تكون أولى حلقات البرنامج في ‏رمضان إن شاء الله في سورة الفرقان.‏

الإجابة عن بعض أسئلة المشاهدين:‏

سؤال من الأخ ماء العينين دحمود: يقول الله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ لماذا يقدم الله تعالى السجود على القيام والقيام ربما يكون أشمل؟ إذاً لماذا قدم (سُجداً وقياماً)؟ ولماذا جاء (سُجداً) بهذه الصيغة (فُعَّلاً) ولم يقل (ساجدين) و ‏‏(قائمين)؟‏

د. المستغانمي: وقف المفسرون عند تقديم كلمة (سُجداً) على القيام، والقيام في الصلاة قبل السجود، ‏ولكن ثمة دائماً اعتبارات في التركيب اللغوي القرآني وفي التركيب العربي ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ‏الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ * ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ طبعاً يبيتون لربهم قياماً وسُجداً هو في تفكيره المنطقي وفي تفكيرنا أن القيام قبل السجود.

أولاً: التقديم هنا لعدة اعتبارات:‏

الاعتبار الأول: أن السجود في الصلاة أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، من أعظم أفعال الصلاة ‏السجود، طبعاً القيام شيء عظيم ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ ولكن عندما تسجد تفتح باب الدعاء، الله فتح أمامك ‏أبواب الدعاء، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.‏

المقدم: وإن كان الصلاة تحسب بالركعات وليس بالسجدات؟‏

د. المستغانمي: جميل جداً صحيح. في كل ركعة معها سجدتان فالسجود يعني فيه خضوع والركوع أيضاً فيه ‏خضوع، لكن السجود فيه طمأنينة وخضوع وخوف وتبتل وانقطاع أنت أمام الخالق، ويكفيك قوله تبارك ‏وتعالى في نهاية سورة اقرأ ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ وخير ما يكون السجود ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ‏الْقَدْرِ﴾ فالسجود شيء عظيم جداً. هذا رقم واحد، وهذا لا يبخس القيام حقه.‏

ثانياً: للإيقاع الصوتي للآيات: سُجداً وقياماً كل آيات عباد الرحمن تنتهي بهذه الميم الفاصلة القرآنية، الله عز وجلّ يراعي المعنى ثم الإيقاع، فالإيقاع لا يأتي على حساب المعنى، لكن مرعي، بعض الناس  يقول لك: ‏لا، كل القرآن فواصل وإيقاع صوتي عجيب، وإلا كيف تأثر العرب بهذا الكلام الجزل العظيم الذي له إيقاع ‏يهز الوجدان؟! ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ * ‏‏﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ * ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ ‏غَرَامًا﴾.‏ من المؤكد أن مراعاة المعنى موجود، لكن أيضاً الإيقاع وهذا التأثير الصوتي، ولذلك وثمة أسرار قد لا نعلمها.‏

أما قضية (سُجداً) على وزن (فُعلاً) سُجد جمع تكسير يفيد كثرة السجود، بينما عندما تحدثنا سابقا عن القيام نقول: هو قائم وهم قيام، والقيام الفعلي كلمة الجمع: (قياماً) هو الجمع ‏الفعلي لـ (قائم) أما (قائم) (قائمون) هنا يتلبس بأمرٍ آخر مثلاً نقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ لما ‏تقوم بأمر آخر، أما القيام الحقيقي فجمعه قيام، أما نقول: هؤلاء قائمون بأماناتهم.‏

المقدم: القيام الحقيقي المقصود فيه هيئة قيام الرجل أو المرأة قيام بني آدم، هذا يسمى قياماً، فنقول: (هم قيام) حقيقيون بينما نقول: (هم قائمون) أو يقومون بأمرٍ هم قائمون بالمسؤولية هم قائمون بشهاداتهم وليس القيام الحقيقي، قائمون بعمل ما أو قائمون بمسؤولياتهم. أما (سُجداً) على وزن (فُعلا) فتفيد كثرة السجود.‏

سؤال من الأخت سمر الأرناووط جزاها الله خير تقول: ورد في سورة الدخان: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ ‏أَمِينٍ﴾ * ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ في سورة الذاريات ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ وفي الطور ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ وفي المرسلات ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ﴾ فما دلالات هذا الاختلاف؟

د. المستغانمي: بارك الله فيك سؤال وجيه جداً وهو يخدم البرنامج بمعنى الكلمة لأنه من رحاب كل سورة، ‏وفي الحقيقة أنا تدبرت هذا الكلام وكنت قد كتبت فيه شيئاً:‏

أما في سورة الدخان: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ * ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ لماذا قال في (مقام أمين)؟ أولاً: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ هذه واردة في كثير من آيات القرآن، وما جاء على الأصل لا يُسأل عنه، نقول: ‏لماذا وردت ﴿ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ﴾ و ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ في سورة الدخان عندما كان التعليق حول القوم الذين أهلكهم الله عندما قال: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ ‏جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ * ﴿وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾* ﴿وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ لما تحدث عن الذين ظلموا وكانوا في جنات وعيون أرضية في الأرض، ومقام كريم كانوا في سعة من المال والرزق، مقام كريم، ﴿وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا ‏فَاكِهِينَ﴾ لكن لأنهم لم يشكروا هذه النعمة ولم يوحدوا الخالق ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ﴾. لما جاء مقام ‏ذكر المؤمنين في الجنات يوم القيامة ذكرهم بطريقة أفضل ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ أولئك كانوا في مقام ‏كريم، لم يكونوا في مقام أمين، ما جدوى أن يكون لديك في الدنيا أموال، ولكن لا تأمن زوالها، فلذلك ‏رد عليهم القرآن بطريقة حكيمة ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ عند الله ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ فلماذا قال ﴿فِي ‏مَقَامٍ أَمِينٍ﴾؟ سأختصر.

في سورة الذاريات أنا أرى بتوفيق الله جاءت على الأصل: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ‏وَعُيُونٍ﴾ * ﴿آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ إذا ذهبنا إلى الطور بعدها مباشرة ﴿إِنَّ ‏الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ لماذا في الذاريات (وعيون) وهنا (جنات ونعيم)؟ أقول (في جنات وعيون) ترددت كثيراً فهي الأصل تقريباً حسب استقراء القرآن بينما لما قال: ﴿فِي جَنَّاتٍ ‏وَنَعِيمٍ﴾ لأن النعيم جاء ذكره بالتفصيل في سورة الطور، اقرأ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ * ﴿فَاكِهِينَ بِمَا ‏آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ * ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ * ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ ‏مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ جاء ذكر النعيم وكل الجزاء في الجنة نعيم، وفي الدنيا قلنا: متاع، مهما آتانا الله في الدنيا وكنا في بحبوحة ‏هو متاع ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ في الجنة نعيم، لذلك هذه الألفاظ يستعملها الله بدقة. لما ذكرت تفاصيل النعيم ‏في الطور فقال ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ * ﴿فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ إلى ‏أن يقول: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾* ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ * ﴿وَيَطُوفُ ‏عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾. هذا هو النعيم..‏

الآن نأتي إلى سورة المرسلات باختصار قال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ﴾ ما الذي جعل السياق القرآني أو ‏البيان القرآني يقول (ظلال)؟ في كل الجنات فيها ظلال عندما يقول ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ ويقول ﴿ظِلًّا ظَلِيلًا﴾، ‏لكن القرآن يستعمل ما يتناسق مع السورة ففي سورة المرسلات كما تعرف وتعرف السائلة جزاها الله خير، ‏يتحدث القرآن عن ظلّ الكافرين يقول: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ * ﴿لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ ‏اللَّهَبِ﴾ لما تحدث عن أهل النار بأنهم يكونون في ظلٍ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب، ‏تهكّم، جاء بأن المتقين في ظلال حقيقي، سورة المرسلات يقول قبلها: ‏‏﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ * ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ * ﴿لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ * ‏‏﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ وهل في جهنم ظل؟! هو أسلوب تهكم لهم ظل لكن من لهب!!.‏ أما المؤمنون الحقيقون في ظلال وعيون ولله في القرآن أسرار نسأل الله أن يعلمنا.‏

سؤال من الأخت سمر الأرناؤوط: لم ترد سورة الغابرين في القرآن كله إلا لامرأة لوط عليها السلام، فما اللمسة البيانية في هذا ‏الاستخدام للفظ الغابرين لها تحديداً ما قيل مثلاً من الهالكين؟ ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ في الأعراف.، وفي سورة الحجر: ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾، في الشعراء ﴿إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ﴾ وهي المقصودة، ‏﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ وهذه في النمل، وكذلك العنكبوت وردت مرتين، والصافات: ‏‏﴿إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ﴾.‏

د. المستغانمي: صحيح هذه ملحوظة دقيقة جداً وجزاها الله خير على هذا السؤال الوجيه في المتشابه ‏اللفظي هو في الحقيقة: (إلا امرأته كانت من الغابرين أو قدرناها من الغابرين) ليس معنى الغابرين بمعنى الهالكين ‏مباشرة، هي هنا التبس الأمر، الغابرين من غَبَر بمعنى: إما مكث بقي أو زال، كلمة غبر في اللغة العربية من ‏الأضداد (إلا امرأته كانت من الباقين) والذين بقوا بعدما خرج لوط وأهله أهلكهم الله فمعناها ينطبق عليهم ‏المعنين لذلك هي سألت لماذا جاءت كلمة الغابرين فقط في قصة لوط؟ نظراً للمعنى المعجمي كلمة أنت تذكر ‏في حلقة (سورة النور) عندما سأل ذلك الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إلى متى نحن نظل خائفين؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تغبرون إلا قليلاً أي: لا تمكثون ولا تبقون إلا قليلاً حتى يأمن كله واحد… كلمة (غبر) بمعنى: بقي. ‏(إلا امرأته كانت من الغابرين) أي: من الباقين لوط بما أمرهم؟ أمرهم بالخروج، والله تعالى أمره قال: ﴿فَأَسْرِ ‏بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ * إلا امرأته التفتت وبقيت، ‏فكانت من الباقين بمعنى: كانت من المهلكين.‏

المقدم: لو قال: (من المهلكين) لحق عليها الهلاك فقط لكن لما قال (من الغابرين) حق عليها الهلاك ‏والبقاء.

د. المستغانمي: بقيت مع المهلكين في بيوتهم، فلذلك الغابرين هي خصوصية لتناسب أكثر.‏

سؤال من الأخت أم نذير من عدن تقول: لماذا في سورة النور كانت عقوبة الزنا الجلد، وليس الرجم، كما ورد في سورة ‏النور، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحد على امرأة زنت بالرجم، ولم تذكر عقوبة الرمي في ‏القرآن كاملاً؟

د. المستغانمي: السؤال يتعلق بسورة النور التي نحن في نهايتها إن شاء الله وفعلاً آية ‏النور الثانية: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ الجلد جاء عاماً، لكن عندما زنت تلك ‏المرأة المحصنة المتزوجة والرجل ماعز والغامدية وأقرا بالذنب يعني: وتابا، طبعاً الزاني المحصن تم رجمه بالسُنّة بمعنى: ‏الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فعل ذلك، لأن المحصن غير الأعزب، فالذي لم يعرف ما معنى الزواج القرآن ودين الإسلام يخفف عنه، وهذه من سماحة الإسلام وسهولة الإسلام، بينما المحصن هو إنسان تزوج ‏ويعرف حقيقة الإسلام وحقيقة الزواج وحدود الناس، لكن العقوبة وردت في السنة، والسنة مكملة وهي بيان ‏للقرآن الكريم، وثاني مصادر التشريع.‏

ثانياً: ورد هناك في الآثار والأخبار أن الصحابة كانوا يقرأون: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) فقيل: هذه كانت آية ثم نسخت لفظاً وبقيت حكماً. ومن معاني ذلك: أن الله تعالى لم يشأ جل جلاله: هذا رؤيا الحديث: (الشيخ والشيخة إذا زنيا –بمعنى: الكبير في ‏السن- فارجموهما البتة) فأثبتت حكماً ونُسخت لفظاً، ولو صح هذا الحديث ورواته، فالله ينزه القرآن أو يسمو ‏بالقرآن أن يذكر هذه الحالة: امرأة عجوز وكبير في السن، فليس من المعقول أن يتورط إنسان كبير في السن ‏وامرأة عجوز بمثل هذه، وورد ذلك في السنة. لكن السؤال المطروح: كم تم رجم من إنسان؟ أعداد لا تفوق أصابع اليد، ممكن في السيرة وردت في وقت ‏الرسول حادثة، وفي عهد الخلفاء –ولست جازماً- مرة أو اثنين، يعني لكن لماذا؟ لأن المجتمعات كانت تطبق ‏سورة النور.‏

المقدم: وحتى نبين المسألة ما حدث في السيرة النبوية الرسول صلى الله عليه وسلم أعطانا فيه دروساً كثيرة، جاءت المرأة فقالت: طهّرني يا رسول الله! فردّها، فجاءته فردّها، أربع مرات إلى أن أقام عليها ‏الحد، فهذا يدللنا على أن الأصل في الإسلام ليس قيام الحد، أو إقامة الحد.‏

د. المستغانمي: نعم الأصل ليس إقامة الحد، والأصل درء الحدود بالشبهات، لكن إذا أقر وأقر وثبت ذلك هو ‏الضمير المسلم كان يقظاً، فلذلك ورد في السنة وجمهور العلماء يقولون به.‏

سؤال: آخر سورة الإسراء: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾ أتمنى من سيادتكم توضيح وتفسير ‏سياق هذه الآية؟

د. المستغانمي: هذه الآية هي آخر آية في سورة الإسراء ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ‏شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ الله أكبر! فهي آخر آية تنزّه الله جل جلاله: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أنت يا محمد! الله يلقنه: قل الحمد لله الذي لم ‏يتخذ ولداً، طبعاً هو لم يلد ولم يتخذ ولداً في سورة الإخلاص: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ هذه الولادة الحقيقية، ‏قد يقول قائل من المشركين والكافرين: لم يلد لكن اتخذ ولداً بالتبني، هكذا يقولون النصارى. ولم يكن له شريك في الملك ‏ملك السماوات والأرض، لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك، لذلك هل سمعنا أحداً يدّعي أنه يملك ‏المشتري والمريخ؟ لم يكن له شريك في الملك، أكملت الآية كل الأنواع ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾ لم يكن ‏له ولي نصير ينصره من الذل، الله عزيز (من الذل) (من) هنا حرف جر ينصره من الذل، الله عزيز الجانب هو عزيز هو القوي، ‏فليس له نصير أولي ينصره من ذلٍ، ينصره من شيء حاق به، الله هو الذي ينصر هو العزيز هو الغالب هكذا الآية، ‏فنزه الله تعالى في ذاته، نزّهه من الشريك نزّهه من الولد، نزّهه من النصير، هل الله محتاج من ينصره؟ هذه هي ‏المعنى، ولم يكن له ولي ينصره ويعز الله، فالله في غنى عن ذلك. وانظر إلى تناسق هذه النهاية مع بداية سورة ‏الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾ تنزه الله تعالى وآخرها ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ‏شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ سبحانه وتعالى.

———–فاصل————-

المقدم: نواصل الحديث الآن في سورة النور وتقريبا نحن في الجزء الأخير منها. توقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ ‏يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ نقف عند هذه الآية وخاصة أننا تحدثنا في الآيات التي قبلها عن موضوع الاستئذان، لا زال ‏الحديث هنا ليس في الاستئذان وإنما متعلق به.‏

د. المستغانمي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة قوله تبارك وتعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أولاً: (قواعد) جمع: قاعد. والقاعد: هي المرأة التي قعدت ‏عن الحيض وقعدت عن الولادة كبر سنها فهي قاعد، وليس المقصود أنها غير مستطيعة للحركة من كِبَر، ولو ‏كان ذلك مقصوداً لقلنا: هي قاعدة بالتاء والرجل قاعد، هذه (قواعد) لفظ مخصص للنساء، كما نقول: امرأة ‏حائض وامرأة طالق، وامرأة حامل، ومرضع بدون تاء، (وامرأة قاعد) أي: هي قاعد عن الحيض، يئست من ‏الحيض، أو انتهت مرحلة الحيض لديها، وامرأة قاعد عن الولادة وهي بلغت من الكبر لا أقول عتياً بلغت مبلغاً ‏كبيرا، فهؤلاء القواعد رخص الله لهن أن يخففن شيئاً من الجلباب

المقدم: ما المقصود بالتخفيف والترخيص؟

د. المستغانمي: الترخيص امرأة عجوز عمرها سبعون أو عمرها ثمانون أو تسعون هل يعاملها المجتمع كما يعامل ‏امرأة شابه في العشرين؟!.‏

المقدم: سؤالي: الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ ‏عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ﴾ ما المقصود بهذه الثياب؟

د. المستغانمي: الثياب التي من فوق، المرأة طبعاً لها ثياب تلبس ثوبين أو ثلاثة داخلية وتلبس الحجاب الخارجي، ‏فهذا الحجاب الخارجي لا جناح عليها أن تضعه فإذا تبين شيء من سواعدها من ذراعها من سيقانها فلا مانع حتى ‏شيء من شعر المرأة العجوز لا مانع، وشيء من جيدها من رقبتها هذا هو المقصود، أن تخفف شيئاً إذا خففت فلا مانع غير ‏متبرجة بزينة، هذا قيد، فإذا كانت في الستين وقد تكون جميلة وقد تتزينن لا، القرآن لم يشرع لها، والإسلام لا ‏يجيز لها أن تضع شيئاً من ثيابها.‏ أما إذا كانت امرأة عجوزاً فالله أرحم، ودين الإسلام أرحم بهؤلاء العجائز التي يراها كل واحد أماً له، فلا يعني ‏ينوي شراً، ولا ينظر إلى شيء فيها، فإذاً هذا تخصيص.‏ في بداية السور أنت الآن من حقك ومن حق السائل أن يسأل يقول: لماذا جاءت الآية هنا؟

في بداية السورة نهت عن الزنا، وأعطت حد الزنا، وبدأت أعطت الوسائل الوقائية، من بين الوسائل الوقائية: ‏‏﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ لما جاءت في الآيات الأصلية التشريعية: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ﴾ ثم أخذنا القرآن في جولة مع المنافقين مع آية ‏النور عاد الآن للتخصيص: خفّف الحكم على القواعد من النساء.. الآيات في الأخير كأنها تخفف وتخصص ما ‏سبق، فهذه خصصتها، إذاً غير متبرجات بزينة. بعد ذلك قال ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ هنا أفضل حتى ‏ولو كانت كبيرة السن ذات وقار واحترام ولو ظلت مرتدية خمارها فذلك أفضل لها، يعني لا تخفف لكن من ‏شاءت وخففت فلا جناح عليها.‏

المقدم: وهذه كالآية التي في سورة البقرة التي تتعلق بالصيام ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ ‏أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾.‏

د. المستغانمي: الذين يطيقونه بمشقة الذين يستطيعون الصيام بمشقة هنا له الرخصة: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ‏إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وهناك: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ إشارة تلميحية أنها لو حافظت على حجابها وجميع ‏مستلزمات حجابها أفضل، لو تخففت في سواعدها فذلك لا يضرها.‏

المقدم: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هل هذا التذييل له علاقة؟

د. المستغانمي: طبعاً سميعٌ جل سمعه جل جلاله عليم بكل الدقائق وذكر السمع بالتحديد -على حسب فهمي- لأن ما ‏يقال الله يسمع كل شيء فمن باب التذييل كأنه تحريك لما أقول لك: يا فلان! افعل كذا وكذا، أو لا تفعل كذا ‏وكذا، والله سميع عليم، كأنه يقول: إنني معكما أسمع وأرى، والله يلاحظ ويرى ويراقب وأعلم بالنوايا، أنا ‏وأنت يخفى علينا كل شيء وهو لا يخفى عليه شيء من نوايا المرأة أو العجوز أو القاعد.‏

المقدم: هنا كذلك نريد تسليط الضوء على المعنى الإجمالي للآية وهي من الآيات الطويلة في الحقيقة يعني ‏أكثر من نصف صفحة تقريباً: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ والموضوع متعلق في الأكل في ‏البيوت؟

د. المستغانمي: الآية أولاً: ما زالت الآية تخصص وتخفف ما سبق وهنا تخفيف أيضاً: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ ‏وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ﴾.‏

المقدم: ﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ واضحة ليس على الإنسان حرج أن يأكل من بيته، فلماذا تُذكر؟

د. المستغانمي: جميل سأشرحها أنا معك وهذه لفتت انتباه المفسرين وأنا شخصياً لفتتني. ‏﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ سأعطيك شيئاً بسيطاً في تفسير هذه الآية: المفسرون والإمام القرطبي والإمام ابن ‏كثير والشوكاني وغيرهم يذكرون أن الذين كانوا يذهبون إلى الغزوات يخلفون وراءهم هؤلاء الضعفاء المرضى ‏الذين لا يستطيعون الجهاد سواءٌ كان أعمى أو كان مريضاً، أو قاعداً، وهؤلاء عندما سمعوا الآيات في سورة ‏النور وغيرها كانوا يتحرّجون المجاهدون يتركون عندهم مفاتيح بيوتهم أو يخلّفونهم فيظلون في البيوت لكن يتحرجون يأكلون أو لا يأكلون؟ فجاء قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ إثم ولا جناح. ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ ‏حَرَجٌ﴾ إلى غير ذلك، لماذا جاءت هي هنا بالذات؟ هي رفعت الحرج عن هذه الشريحة الاجتماعية الضعيفة، ‏وجاء مع: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ بمعنى ذلك: نوّه عن ضرورة مساعدتهم وإذا أكلوا ‏معكم.‏

المقدم: هل معنى ذلك أن ساوى هذه الأصناف بنفس الإنسان؟ أي: أنه جعل الإنسان الأعرج والمريض في مقام الشخص نفسه أن يأكل من بيته؟

د. المستغانمي طبعاً في الإسلام تكاتف المسلمين وتوادهم وتراحمهم وتعاطفهم فأنت إذا جاءك إنسان مريض أو ‏أعرج وفتحت بابك فمن باب أولى الإسلام يحث على ذلك، وكانوا عندما يأكلون مع الأعمى قد يتحرجون ‏يقول: هو أعمى لا يرى أخاف ألا أنصفه، لا، ليس هناك حرج، الإسلام يرفع الحرج ويسهل العملية، إذاً ليس ‏عليهم أن يأكلوا في بيوت المسلمين أو بيوت غيرهم.‏

ثانياً: عندما كانوا يخلفونهم في الغزوات كانوا يتحرجون فنزلت ونفت الحرج عنهم إطلاقاً.‏

الآن السؤال ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ نحن من الطبيعي أن نأكل من بيوتنا ولسنا بحاجة إلى ‏تشريع، إذاً هنا التمس المفسرون المخارج أو دعني أقول: أوّلوها، فمن بين التأويلات قال: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ‏أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ أي: بيوت أبنائكم لأن ابنك هو ملك لك عندما اشتكى ذلك الرجل قال: (أنت ‏ومالك لأبيك)، وبعدها “خير ما يأكل الإنسان من كسب يده وابنه من كسبه” ورد هذا في الحديث أو كما ‏قال صلى الله عليه وسلم. فبعض العلماء قالوا: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم لأنه لم يذكر الأبناء ذكر الآباء والأعمام والأخوال ‏والخالات، السؤال مطروح: هل نأكل من جميع البيوت ولا نأكل من بيوت أبنائنا؟ لا، لذلك فأبنائنا ‏بيوتهم هي بيوت لنا.‏

أحد المفسرين الذي هو شيخ الأزهر السابق الطنطاوي رحمه الله سيد محمد الطنطاوي يقول في التفسير الوسيط ‏يقول فكرة رائعة يقول: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم، والأصل أن نأكل من بيوتنا، لكن جيء بها ‏ليقيس الأكل من بيوتنا مع صلاحية الأكل من جميع البيوت، كأنه يقول: في ذات المرتبة للتساوي بين المنازل ‏فأنت كما تأكل في بيتك ولا حرج فلا حرج أن تأكل من بيت آبائك وأمهاتك أو أعمامك هو أتى بهذه الفكرة ‏أنا في الحقيقة راقت لي وأعجبتني.‏

المقدم: لماذا ذكر هنا الصديق في قوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى ‏الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ ‏بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ‏أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾.‏

د. المستغانمي: أولاً: (أو بيوت) ثلاثة عشر مرة ذكرت في سورة النور ‏فما أحرى أن تسمى المساجد بيوتًا كما قلنا فيها: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ وقلنا: هذه سورة البيوت ‏كيف تحترم وكيف تسلِّم على البيوت.

ثانياً: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ والله إنسان وكلك فوضك أن ترعى بيته أو تحافظ على رزقه وأنت في هذا البيت ‏لا تأكل ولا تشرب كيف تعيش؟ ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ أي: ما وكل إليكم أن تخدموه وأن تحافظوا عليه فلا ‏جناح أن تأكل بما يرضي الله. قال: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ وبالإفراد، هذه الوحيدة ما قال: (أصدقائكم) لماذا؟ أحد المفسرين يقول: لقلة الصديق في ‏الحياة، وكما قيل:‏

ما أكثر الإخوان حين تعدهم ‏            ولكنهم في النائبات قليل

فلقلّة الصديق ولذلك في آية أخرى تقول: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ﴾ * ﴿وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ لكثرة الشافعين ولقلة الصديق الناريون الجهنميون استنجدوا، ولما استنجدوا استنجدوا بالشافعين الذين يشفعون لهم، أو الصديق، الصديق: هو ‏من يصدق في مودته وهو قليل، وقد يكون ثمة أسرار أخرى نحن لا نعلمها.

‏﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ طبعاً كانوا يتحرّجون نأكل في جماعة أو نكون منفردين، فالإسلام مسهل دين يسر أكلتم في جماعة كثرة البركة، أكلتم منفردين ما شاء الله! إذاً ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ ‏جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾.‏

بعدها مباشرة: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا﴾ لماذا الإعادة هنا؟ هو قال في الأول ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ ‏بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) وهنا أعاد قال ﴿فَسَلِّمُوا﴾ لماذا؟ حتى لا نتوانا ونتكاسل تقول: هذا والله ‏بيت عمتي وبيت خالتي أدخل ولا أسلّم، يعني: أعرفهم، لا، آداب الإسلام لا بد أن نحافظ عليها، إذا قال: ﴿فَإِذَا ‏دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أنت لا تسلّم على الآخرين أنت تسلّم على نفسك بمعنى: ليس شرط أن ‏تقول: السلام علينا تسلّم السلام عليكم، هذا السلام إذا وجد أناساً فأنت تسلم عليهم، وفي الوقت نفسه أنت ‏تسلم على نفسك لأنه سيعود عليك.‏

المقدم: وهذا دائماً ديدن الإسلام دائماً يدعو إلى السلام بالتلفظ وبالمعاملة. يعني إذا كان الأموات شرع النبي صلى الله عليه وسلم أن نسلم عليهم (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم ‏السابقون ونحن اللاحقون).‏

د. المستغانمي: فما بالك الأحياء؟ وكذلك (أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلّوا بالليل والناس نيام ‏تدخلوا الجنة بسلام) فإفشاء السلام أمر محبب في الإسلام، وكما قلت لك: لماذا كررها؟ لأنه قال في البداية: ‏‏(سلموا) في سورة النور ثم كررها حتى لا يتوانى الناس ببيوت الصديق ببيوت الخالة ببيوت العمّة، فتقول: هذا ‏بيت أخي أدخل، جيد، بيت أخيك نعم لكن سلم، فإن السلام يعود عليك، ووصفه ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً ‏طَيِّبَةً﴾ تحية إلهية ربانية مفروضة من عند الله أو منزّلة من عند الله محثوثاً عليها من عند الله مباركة، أنا أعجبتني كلمة (مباركة) وانظر ﴿شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ وانظر إلى تجاذب الألفاظ في السورة ذاتها، واذهب إلى سورة ‏أخرى قد لا تجد كلمة مباركة.‏

المقدم: إلى أن يأتي قوله سبحانه وتعالى ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.‏

د. المستغانمي: هنا قال: الآيات بالألف واللام؛ لأنه فصلها: (بيوت آبائكم بيوت أمهاتكم بيوت إخوانكم) فصلها فجاء ‏بالتعريف.‏

المقدم: إلى أن قال سبحانه وتعالى في نهاية السورة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ ‏عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ كذلك في الاستئذان حتى في المغادرة.‏

د. المستغانمي: في بداية السورة كان الاستئذان للدخول إلى البيوت، الآن الخروج من عند ‏الرسول صلى الله عليه وسلم.‏

المقدم: يعني ما يصح أننا نجلس في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم نذهب مغادرين من دون استئذان.‏

د. المستغانمي: من دون استئذان ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ المنافقون والعياذ بالله يتسللون خلسة لواذًا يتسللون حتى لا يراهم، الله تبارك وتعالى يراهم، ولذلك انظر الذي يعجبك في عظمة هذا البناء ‏القرآني والهندسة البنائية للقرآن: ما الذي دعا إلى اختيار هذا الاستئذان استئذان المؤمنين والمنافقين من ‏الرسول في نهاية السورة؟ لأن السورة فيها استئذان، لكن الآخر: إذا كان استئذان على البيوت فهؤلاء المنافقون ‏كانوا لا يستئذنون في الجهاد، أو كانوا يتسللون فقال: إنما المؤمنون الحقيقيون الأصليون المخلصون الذين ‏يستئذنون الرسول ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ على أمر عظيم ﴿لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾. جمال التعبير: جعل الله أعاد التعبير مرتين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا ‏بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ الأمر الجامع الأمر المهم الذي يهم الأمة أمر صلاة أمر جهاد أمر استشارة. قال: ﴿لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ ثم عكس قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ‏ جعل المسند إليه مسندًا، والمسند إليه مسند، يعني: جعل المبتدأ خبر، وبعدين جبر الخبر مبتدأ ‏والمبتدأ خبر: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ من هم؟ حصرهم في الذين يؤمنون بالله ورسوله وإذا ‏كانوا معه على أمر جامع، (الذين آمنوا بالله ورسوله) كلها خبر المؤمنون (إنما) كافة ومكفوفة (المؤمنون) مبتدأ (ما) تكفّ (إنّ) عن عملها، ويسمى الذي بعدها مبتدأ تكفّ عن العمل بدليل أنها جاءت مرفوعة بالواو. فكل الاسم الموصول وما بعده خبر المؤمنون، ثم عكس قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ‏بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الخبر جعله مبتدأ والمبتدأ جعله خبر، عمر هو الفاروق ثم قال: الفاروق هو عمر.‏

المقدم: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾

د. المستغانمي: لو قال: فإذا استأذنوك فأذن لهم يدخل المنافقون فيه، لكن القرآن يقول: فأذن لمن شئت منهم، الرسول ‏صلى الله عليه وسلم حرٌ ويرى مصلحة المسلمين ويأذن للصادقين وإن شاء ألا يأذن لا يأذن فخيّره الله، ولماذا ‏يستغفر لهم؟ إشارة إلى تفضيلهم لمصالحهم الشخصية على الأمر الجامع غير محمول، فإن كان لحق بهم شيء من ‏اللمم من مخالفة الأولى فاستغفر لهم حتى ولو كانوا مؤمنين.‏

المقدم: هنا ذكر الاستئذان في الخروج والمغادرة ونحن نغادر سورة النور.‏

د. المستغانمي: وهذا من جماليات التناسق.‏

المقدم: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ نأتي إلى آخر آية: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا ‏عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.‏

د. المستغانمي: طبعاً هذا كله باختصار سريع وثمة نكت رائعة، لكن الوقت يداهمنا هي في الحقيقة: ﴿لَا تَجْعَلُوا ‏دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ جاءت بعد الاستئذان في أمر جامع عندما يدعوك الرسول أيها ‏المؤمن في الأمة الإسلامية لا تجعل دعاءه إياك ومنادته لك كمناداة بعضكم لبعض كمناداة، يعني إذا دعاكم الرسول ‏فأجيبوه.‏

المعنى الثاني: لا تجعلوا دعاء الرسول كمناداته أنا أقول: يا أستاذ محمد يا محمد لكن لا تقول لمحمد صلى الله عليه وسلم يا ‏محمد أو يا ابن عبد المطلب لا، بل يا رسول الله، يا نبي الله، لا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء بعضكم بعضاً لها ‏معنيان.‏

آخر آية: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ ‏بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هذه خلاصة السورة إن الله تعالى ينبئكم يوم القيامة بما عملتم ومن بين ما كلّفكم به أحكام سورة النور ‏والله بكل شيء عليم، فهي خلاصة تحرك وجدان المسلمين وتحرك قلوبهم للانتفاع بما نزل فيها من أحكام وببذل ‏الجهد والوسع لتطبيق ما فيها.‏

https://www.youtube.com/watch?v=7jhm5ktsHao&index=2&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5