لمسات بيانية

لمسات بيانية – التقديم والتأخير في القرآن 1

اسلاميات

الحلقة 1

أسرار التقديم والتأخير في القرآن الكريم

د. محمد صافي المستغانمي

نبذة عن الدكتور المستغانمي: باحث وكاتب لغوي، له باع في مجال دلالة القرآن وبيان القرآن وبلاغته. يقول الدكتور عن نفسع من خلال توجهاتي اللغوية البلاغية أكتب في هذا المجال، ورسالتي في الماجستير كانت بعنوان: بلاغة تصريف القول في القصص القرآني، دراسة تحليلية بلاغية لقصة موسى عليه السلام وهي رسالة في المتشابه اللفظي ولي كتاب “درر بيانية” وهو عبارة عن أجزاء طُبِع الجزء الأول منه ويناقش الدرر البيانية واللمسات الفنية في القرآن الكريم. ولي كتاب آخر “كيف تصبح فصيح اللسان” وهو عبارة عن مجموعة دروس ومحاضرات كتبتها عندما كنت معيداً في الجزائر، لي أيضاً كتاب عندما كنت إماماً خطيباً في الأوقاف “الخطيب الناجح بين عوامل الإقناع ووسائل الإبداع” صدر مؤخراً وأُهدي إلى رئيس الجمهورية. والموسوعة إن شاء الله في الطريق، موسوعة قرآنية جامعة تتناول الجانب اللغوي والفقهي والعلمي وفيها جهود بعض العلماء الذين يساعدونني وإن شاء الله تصدر في وقتها.

سؤال: من عناصر البلاغة مسألة التقديم والتأخير، فما معنى بلاغة التقديم والتأخير؟ وهل للتقديم والتأخير أغراض؟ وما هي أغراضه؟

التقديم والتأخير هذا باب عظيم من أبواب البلاغة العربية وقد أفرد له العلامة عبد القاهر الجرجاني باباً واسعاً في كتابه “دلائل الإعجاز” وقال عنه عبارات مشهورة “باب فريد، جمّ المحاسن، بعيد الغور، عظيم المنفعة، إلى أن يقول تفتر لك كل جملة عن بديهة وتقرأ فتجد ثمة لطيفة وإذا ما تأملت في السياق تجد أن مكمن ذلك الجمال يعود إلى تقديم كلمة أو تأخيرها أو تحويلها عن محلها. التقديم والتأخير في الحقيقة تقنية بلاغية رائعة في علم المعاني. البلاغة ثلاثة أنواع وثلاثة أقسام بيان فمعاني فبديع. علم المعاني الذي خصص له العلامة عبد القاهر الجرجاني “دلائل الإعجاز” وعلم البيان خصص له “أسرار البلاغة” فعندما أفرد حصة لا بأس بها للتقديم والتأخير وفعلاً عندما يتعرف الإنسان على هذه التقنيات يتلذذ الخطاب القرآني

سؤال: ما هي أنواع التقديم والتأخير في القرآن الكريم؟

هناك نوعان عظيمان واسعان: النوع الأول التقديم من أجل التناسق اللفظي، تقديم يستدعيه السياق فهذا عندما نوازن بين آيتين متشابهتين مثلاً مثل (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى (20) يس) وفي آية أخرى (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى (20) القصص) هذا يكون بدراسة السياق هنا والسياق هنا

أما التقديم المعهود في اللغة والشعر وجاء به القرآن مثل قوله (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ (66) الزمر) أصلها “بل اعبد الله” هذا تقديم مراد منه غرض بلاغي ، قوله (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53) الشورى) أصلها ألا تصير الأممور إلى الله، هذا التقديم له غرض، التخصيص له غرض، الحصر له غرض، العلماء يقسِّمون إلى هذا.

سؤال: في قوله تبارك وتعالى (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) البقرة) وفي موضع آخر (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) آل عمران) ما سر التقديم والتأخير بين الإبداء والإخفاء لما في النفس البشرية؟

قبل أن نفقه أو نسبر معنى آية في القرآن الكريم لا بد من دراستها في سياقها. الآية الأولى في سورة البقرة (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)) الأصل في الكلام أن يكون الإبداء ثم الإخفاء، وفي الوقت نفسه الحديث عن المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (282)) الخطاب للمؤمنين والمؤمنون ظواهرهم وبواطنهم مستوية في الظهور فالله قدّم الإبداء والإظهار. بينما آية سورة آل عمران (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)) إذا نظرنا وأمعنا النظر نجد أن الآية تحدثت عن صفات المنافقين وتنهى المنافقين عن كثير من صفاتهم إلى درجة أن يقول سبحانه وتعالى (يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ (154)) وكانوا يتقاعسون ويبطّئون المؤمنين عن الجهاد ففي هذا السياق الأوْلَى تقديم الإخفاء على الإبداء لأن الله يحذرهم (إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ) لأن السياق سياق تحذير للمنافقين. فهذا الذي رجّح تقديم الإخفاء على الإبداء في آية آل عمران.

سؤال: قد يقول قائل إن تبدوا أو إن تخفوا، يقدّم، يؤخر، المهم أن هناك إبداء وإخفاء

القرآن متناسق (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) هود) التناسق يراعى في القرآن الكريم وهناك كثير من الأمثلة تجعلنا نطمئن لهذا التوجيه وهذا التوجيه ذكره العلامة الرازي وذكره الألوسي وذكره الدكتور فاضل السامرائي، الحديث عن المنافقين كأن السياق يهددهم (إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ) لأنهم أبدوا كثيراً من الأشياء لكن يخفون كثيراً. إذن معوّل الإخفاء عندهم مقدّم على الإبداء، وأصل النفاق هو إظهار غير ما يبطن الإنسان (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14) البقرة) إذن (إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ) في هذا السياق الأولى تقديم الإخفاء للتناسق العام مع السياق. المؤمن العادة عنده أن يبدي وسِرُّه كعلانيته لوضوحه ولجلاء شخصيته لا يوجد بواطن سيئة للمؤمنين بدليل أن آية البقرة سبقها الحديث عن المؤمنين.

سؤال: ما الغرض البلاغي من التقديم والتأخير؟

علماء التفسير عموماً يقولون التقديم للإهتمام بهذا المقدَّم والمفسرون ينطلقون من مقولة سيبويه صاحب “الكتاب” يتحدث عن العرب فيقول “إنما يقدّمون من الكلام ما هم ببيانه أعنى” ما يعنيهم يقدمونه تقريباً دائماً، وهناك أغراض أخرى يلمح لها الإنسان يأتي ولدك يقول لك “الجائزةَ نِلْتُ” كأنه يريد تعجيل المسرة، الغرض من التقديم هنا العناية وتقديم المسرّة وتعجيلها. قوله تعالى (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ) الغرض البلاغي للحصر إلى الله وحده تصير الأمور لا إلى غيره، فهو مختص بصيرورة الأمور إليه. القرآن الكريم أعطى عناية واهتماماً للإخفاء لأن المنافقين يخفون كثيراً من الأشياء فإياكم أن تخفوها أيتها الطائفة. وهم يعتمدون على الإخفاء أنه لا يظهر للمؤمنين فبالتالي لا يُكتشف أمرهم لا يذاع صيتهم ولكن الله سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

سؤال: في الحديث عن السيدة مريم وسيدنا عيسى عليه السلام قال تعالى مرة (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91) الأنبياء) ومرة (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) المؤمنون) فما دلالة التقديم والتأخير؟

القرآن لا بد أن يُقرأ في سياقه. عندما نقرأ الآية في سورة الأنبياء (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) قبلها بقليل قال (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا) السياق يتحدث عن مريم عليها السلام وعلى ابنها ونبينا أفضل الصلاة والسلام، هنا (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) قدّمها على ابنها لأن الحديث عنها مع أن ابنها أفضل منها لأنه نبي ورسول من أولي العزم ومريم امرأة صالحة اجتباها الله. لكن في سورة المؤمنون السياق يتحدث عن الأنبياء والرسل (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (44) المؤمنون) إلى أن يقول (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)) إلى أن يقول (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)) في الحديث عن الرسل، ففي الحديث عن الرسل الأَوْلَى أن يُقدّم عيسى على والدته فقدّم. الحديث عن الرسل (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) فالأولى تقديم عيسى بن مريم على أمه (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً). بينما في سورة الأنبياء تحدثت عن فضل الله عز وجل على مريم عليها السلام وعلى ابنها والسياق عنها (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا) هنا الأوْلَى أن يقدّم الحديث عنها (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) وهذا من دراسة التناسق.

سؤال: الفعل (جعل) في اللغة يدل على التحول والتغير من حالة إلى حالة كما تقوم بعض المعاجم العربية، فما اللمسة البيانية في استخدام فعل (جعلنا) في الآيتين؟ ودلالة تكرار الفعل (جعل)؟ فهل لهذا فائدة بلاغية؟

من خلال الدراسة فعل (جعل) جعله ولم يكن من قبل كما يقول تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً (23) الجاثية) هنا (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) مولد عيسى ابن مريم مولداً عجيباً في العالم كله، وولادته ذات عجب تحير العالمين أنجبته مريم من دوب أب، فالله تعالى جعله وأبرزه آية ظاهرة جلية للعالمين هو وأمه العذاراء البتول الطاهرة المطهرة، ففعل (جعل) يعني صيّره آية للعالمين فحمل معنى الإبداء ومعنى الجعل ومعنى التصيير والإظهار.

سؤال: في الحديث عن الثقلين الإنس والجن مرة يقدّم الجنّ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات) ومرة (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) الرحمن) ومرة يقدِّم الإنس (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء) فما دلالة التقديم والتأخير؟ وهل هو تقديم وتأخير زمني؟

يُنظَر في التقديم والتأخير من وجوه متعددة. الآية الأولى تتحدث عن الخلق والله تعالى يقول في القرآن (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) الحجر) الأسبقية للذي خُلِق قبل، فلما كان السياق يتحدث عن الترتيب الزمني للخلق قال (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات) الجن خلقه الله قبل الإنس بدليل آية سورة الحجر (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)). بينما آية سورة الرحمن (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) هنا التقديم يراعى فيه تقديم الجن لا لترتيب الخلق وإنما مراعاة لطبيعة الجن فالجن خُلِق من نار وهو أقدر على النفوذ- جنّ وجانّ والجانّ هو أصل الجِنّ والجنّ ما سمي جناً إلا لاستتاره والجنين في بطن أمه المستتر- (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) من الأقدر على خرق السموات والأرض وعلى العروج؟ الجنّ، إذن يقدمون، الحديث موجّه إلى الطائفتين لكن موجّه إلى الجنّ بالدرجة الأولى (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) فالعملية لها صلة بالجنّ أكثر ويخترقون السموات لا بقدرتهم الذاتية ولكن الله مكّنهم وأقدرهم على ذلك. أما الآية الثالثة في سورة الإسراء (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء) هذا تحدي بالقرآن الكريم، لو نأتي للناحية البيانية والإفصاح والبيان والتبيين الإنس أقدر على البيان من الجن قال تعالى (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الرحمن) في البيان الإنس أولى لأن الإنس أقدر على الإبانة والتبيين وهو الأفصح (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) الزخرف)، الإنسان مُبين رزقه الله هذه الفصاحة وهو مميز بها وله قدرة على الحوار وعلى النقاش وعلى الإبانة أما الجن فليس كذلك. الشعراء من الإنس والأدباء من الإنس. ينسبون كل بديع لوادي عبقر، وهذا الوادي يقال كان فيه جنّ كثيرون ومن أتى بشيء بديع من الشعر والفنّ يقولون جنيّ من عبقر كان يوحي له زخرف القول غروراً. إذن معول الكلام في التقديم والتأخير يعود على السياق.

سؤال: هل هناك قاعدة تحكم مسألة التقديم والتأخير؟

القاعدة استقرائية، استقراء للنص القرآني، عندما نقرأ النص القرآني نجده يقدِّم لأغراض معينة ولدواعٍ معينة فهناك مثلاً مراعاة السبق (وَعَادًا وَثَمُودَ (38) الفرقان) قال عادا وثمود لأنه راعى فيه السبق الزمني. (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) آل عمران) قدّم آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم آل عمران، هذا الترتيب الزمني تاريخياً. والقرآن في كثير من الآيات راعى الترتيب الزمني ولكن ليس في كل شيء. هناك أغراض أخرى، أحياناً يقدّم ما هو به أعنى، للمسرّة، للتشويق، من القِلّة إلى الكثرة إلى غير ذلك وهذا من استقراء العلماء وعلى رأسهم العلامة الغرناطي في ملاك التأويل، الخطيب الإسكافي في درة التنويل، هؤلاء أثبتوا هذا العلم العظيم ونحن لهم تَبَعٌ وقُرّاء.

سؤال: هل بنفس المنطق نقيس مثلاً في قوله تبارك وتعالى عندما يتحدث عن ذاته (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) يقدّم الغفران على الرحمة بينما نجد في سورة سبأ (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)) فما دلالة التقديم والتأخير بين اسمين من أسماء الله تعالى؟

وهذا كثير تقديم أسماء الله الحسنى بعضها على بعض، حكيم عليم – عليم حكيم. أولاً القاعدة العامة في صفات الجمال الرحمة والمغفرة مقدّمة على صفات الجلال عند رب العالمين، الله غفور رحيم وهاب رزّاق والله في الوقت ذاته الديان المقتدر المنتقم الجبار سبحانه وتعالى. القرآن يقول (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (156) الأعراف) رحمة الله سبقت غضبه سبحانه وتعالى. نقرأ في القرآن (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ (3) غافر) (نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50) الحجر) بين المغفرة والرحمة الغالب تقديم المغفرة لأن القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ليخاطب المكلَّفين ونحن المكلفين بحاجة إلى مغفرة الله لفرط الذنوب وصدور الآثام عنا وكل ابن آدم خطّاء ونحن بحاجة إلى مغفرة وكما يقول العلماء في التفسير “المغفرة سلامة والرحمة غنيمة”، نحن نبحث عن السلامة أولاً يعني المغفرة ثم يكرمنا الله برحمته جل وعلا فإسم الغفور مقدّم. أما في سورة سبأ من بدايتها (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ (2)) يتحدث عن مخلوقاته جل وعلا (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) الحديث عن المخلوقات بشكل عام. (ما) هنا إسم موصول يعود على جميع المخلوقات ولا يعزب عن علم الله شيء. جميع المخلوقات بحاجة إلى رحمة الله لكن عندما يخصص الحديث بالمكلَّفين هم بحاجة إلى المغفرة أولاً والرحمة ثانياً، لا نجد حديثاً عن المكلَّفين في سياق سورة سبأ فالحديث عن جميع المخلوقات لذلك تتغشاهم رحمة الله. بينما لنقرأ كل الآيات التي وردت فيها (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) تجدها تتحدث عن سياق المكلَّفين المأمورين بكذا والمنهيين بكذا ومهما كانوا هم سوف يقصِّرون وبحاجة إلى مغفرة (وعزتي وجلالي لو لم تذنبوا لخلقت خلقاً يذنبون فيستغفرون فأغفر لهم )

إذن مناط الكلام على السياق وكما قيل “البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال” وهذا أحسن تعريف للبلاغة. من حيث اللغة يجوز أن نقول غفور رحيم أو رحيم غفور لكن إذا كان المتكلم بليغاً فصيحاً يحسن ترتيب الكلام ويحسن رصف ألفاظه يراعي ما يقول.

سؤال: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا (31) الأنبياء) (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) نوح) ما دلالة التقديم والتأخير؟ وما اللمسة البيانية فيه؟

الآية الأولى في سورة الأنبياء (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)) الرواسي هي الجبال جعلها الله تعالى وثبّتها في الأرض لكي لا تميد بأهلها (تميد بمعنى تنحرف وتتحرك) ولا تتزلزل تحت أقدام أهلها. الفِجاج جمع فجّ (مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج) الفَجّ هو الطريق بين جبلين والسبيل هو طريق وهي طريق – يقال هذا طريق وهذه طريق ولكن التأنيث أجمل والقرآن استعملها- (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ (108) يوسف). السبيل هو الطريق الواضح والفج هو الطريق بين جبلين وهنا في السياق (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) الأنبياء) الأولى أن يذكر فجاجاً قبل سُبلاً لأن الفجّ هو طريق بين السبيلين والشبيه يقرّب من الشبيه في اللغة وهذه من الكلمات المتصاحبة، الكلمات المتصاحبة في اللغة أن تستعمل كلمة تلك الكلمة تقتضي زميلتها، ونحن نقرأ الشعر العربي نقول أحياناً الشطر الأول يجيزه الثاني، هو يعلم ما يتوقع، توقع في محله من كثرة الكلام الفصيح. وهنا يقول (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) الفجاج تتناسب مع الجبال، هذه الملاءمة وهي المناسبة وهي التناسق، التقديم من أجل التناسق. بينما في الآية الثانية (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) وردت في سورة نوح ونقرأ سياق السورة ما قبلها وما بعدها، كل آية تمسك بعنق الأخرى وهذا إحكام رباني، سيدنا نوح قال (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿١٠﴾ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴿١١﴾ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴿١٢﴾ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴿١٣﴾ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴿١٤﴾ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ﴿١٥﴾ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴿١٦﴾ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴿١٧﴾ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴿١٨﴾ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ﴿١٩﴾ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴿٢٠﴾) بساطاً ممهدة مذللة، سبلا فجاجاً لأن كلمة السبيل هي طريق ممهدة تناسبها كلمة بساطاً التي سبقت. كثير من علماء التفسير يقولون التقديم والتأخير من أجل مراعاة للفاصلة، صحيح أنه مطلوب ومراعى في القرآن لكن الجانب المعنوي مرعي أكثر، (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)) السبل مقدمة من أجل أن الأرض ممهدة منبسطة وفجاجاً مؤخرة لهذا السبب وللفاصلة القرآنية (نَبَاتًا – إِخْرَاجًا – بِسَاطًا – فِجَاجًا) وهذا هو الإيقاع القرآني. الضابط هو السياق ولا تتحكم الفاصلة وإنما تتحكم بالشعراء الذين تنقصهم الألفاظ أما القرآن الكريم فمنزّه وكلام رب العالمين محكم دقيق، الذي يتحكم هو المعنى ثم تراعى الفاصلة وتكون الكلمة أحسن ما تكون في موقعها.

سؤال: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) قال لتسلكوا منها وليس لتسلكوا فيها مع أنه ورد في القرآن الكريم (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ (32) القصص)؟ وما معنى سلك؟

سلك بمعنى أخذ طريقاً له، (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) يعني أدخلها في جيبك، أٌسلك يعني ادخل بين شيئين. (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) من بين سبلها، من بين طُرُقها. أما في سورة النحل جاء فعل اسلك متعدي (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً (69) النحل). الأفعال قد تكون لازمة وقد تكون متعدية سواء يكون التعدي بدون حرف جر ويكون التعدي بحرف من الحروف (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) الفاتحة) بدون حرف جر، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) الشورى) الفعل قد يعدى بحرف وقد يعدى بدون حرف لظروف معينة ولمعاني يقصدها القرآن. (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) علم النحو يقول هذا الكلام، سلك هنا متعد بغير حرف جر وهنا متعد بـ (من) وقد نجد (اسلك في) وهناك كتاب عظيم ضخم إسمه “تعدي الأفعال وتنوع الحروف”. هناك من درس الفعل وتعديه في القرآن الكريم والغرض البلاغي منه، هناك كتاب ألفه دكتور مصري أزهري بعنوان “الأفعال وطريقة تعديها في القرآن الكريم” كتاب رائع جداً. والدكتور إبراهيم الشمسان كان له بحث رسالة دكتوراه في هذا الموضوع والذي فتح الباب هو الرماني في حروف المعاني وعلماء كثيرون والزمخشري في كشّافه وعبد القاهر الجرجاني في كتبه كلهم تحدثوا لكن من جمعه وأفرده قليل لكن موجود..

سؤال: إذا نظرنا إلى ترتيب (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) و(لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) هل هما طريقان مختلفان؟ أو صفة؟ ولماذا لم يأت بالعطف والعطف يقتضي المغايرة؟ هل فجاجا وصف للسبل؟

(لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) هنا الواضح لغوياً ونحوياً أنها صفة وليس فيها حرف عطف والعطف يفيد المغايرة والأولى أيضاً صفة ومن حق المتكلم البليغ أن يصف بما يشاء. أقول مثلاً “جاء إلى المدرسة محمد الشاعر الخطيب الكاتب”، في هذا السياق يهمني الصفة الأولى من صفات محمد وهي الشاعر، الصفة الأولى (بحسب قاعدة سيبويه العرب يقدمون من الكلام ما هم به أعنى) ثم إنه خطيب ثم إنه كاتب. وفي هذا السياق (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) سبلاً ووصف بأن بعضاً منها يكون فجاجاً بين جبال. في السياق الأول (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ (31) الأنبياء) والجبال من أهم وظائفها تثبيت الكرة الأرضية حتى لا تتزلزل تحت أقدام أهلها. فهنا ينبغي الحديث عن الفِجاج التي هي عبارة عن طُرُق داخل الحبال وهي بذات الوقت سُبُل ممهّدة لأصحابها ونحن بعيدون كل البعد عن العطف وهذا واضح من خلال الآية.

سؤال: الفجّ طريق له وصف معين والسبيل طريق له وصف معين، فلماذا هذا الرابط؟ وأيهما يصف الآخر؟

هذا يصف هذا وهذا يصف هذا. في الموقع الأول السبيل يصف الفجّ رغم أنها كانت في جبال إلا أنها كانت ممهدة وقد تجد بين الجبال طرقاً. والثاني رغم أنها كانت سبلاً لكن كان بعض منها فجاج بين بعض الجبال، وأيضاً اقتضت الفاصلة القرآنية الرائعة واقتضى التقديم لكلمة بساطاً.

سؤال: في مسألة تنظيم الأسرة وتنظيم النسل ورد في القرآن الكريم آيتان (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (151) الأنعام) ومرة (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم (31) الإسراء) ما دلالة التقديم والتأخير؟ وما هو التفسير لهاتين الآيتين؟

الآية الأولى من سورة الأنعام في نهايتها (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (151)) والعربي القديم كان يقتل البنت والأولاد بشكل عام لكنهم كانوا يئدون البنات خوفاً من العار والفقر والإسلام نهى عن ذلك وديننا كرّم المرأة (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) التكوير)، وأد البنات كانت حالة عند العرب وذكرها القرآن، اهتم القرآن بذكرها ولو كانت حالة واحدة في الإنسانية كاملة لأنها نفس فما بال الدماء تسفك اليوم؟! عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً فمرت جنازة يهودي فقام فقالوا يا رسول الله إنه يهودي، قال أوليست نفساً؟ فالنفس عند الله معظّمة.

(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) الآية تقول لا تقتلوا أولادكم خوفاً من الفقر الواقع بكم والإملاق هو أشد الفقر، الفقر المدقع (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ). بينما الآية الثانية (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (خشية) مفعول لأجله، لا تقتلوهم لأجل الخوف من الفقر، أنتم لستم في فقر الآن ولكنهم يستعجلون الفقر ويتوقعون السوء ولذلك هذه الاية استقطبت العلماء وذكرها الفخر الرازي والألوسي والزمخشري كلهم ذكروا فهي نكتة واضحة ولمسة بيانية رائعة، (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) ننتبه لكملة (من) كأن الله تعالى يقول لنا لا تقتلوا أولادكم من إملاق واقع فكأن الحديث موجه لهم حالياً، فالمخاطبون في الآية الأولى في سورة الأنعام فقراء معدمون معوزون فالخطاب إليهم والنهي إليهم (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) من إملاق واقع ومن فقر حاضر. وفي الإسراء (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) هذا الخطاب ليس للفقراء، هم في حالة جيدة ولكنهم يخشون الفقر في المستقبل فقال لهم الله لا تتوقعوا الفقر ولا تتوقعوا لسوء (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم (31)) هؤلاء الذين تخشون الفقر من أجلهم هؤلاء سيأتي رزقهم معهم والله يأتي برزقهم معهم حين ميلادهم، (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) أنتم تستعجلون، أنتم تخشون وتتوقعون السوء فقط. أما في سورة الأنعام المخاطبون فقراء (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) والفقراء مطالبون بأن نطمئنهم، فقير معدم، (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) رزقكم مكفول وإياهم. فالآية الأولى في الأنعام تخاطب الفقراء الذين يعانون شظف العيش وشدة الفقر طمأنهم على رقزقهم أولاً (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ). وفي سورة الإسراء المخاطبون أغنياء لأن السياق قبل الآية قال (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ (27) الإسراء) المبذِّرون هم أغنياء لا فقراء، فالخطاب لطائفة أخرى، للذين يتوقعون الفقر ولذلك جاء الخطاب لهم (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم).

سؤال: هل القتل بعد أن تلد المرأة يُقتل؟

طبعاً ولكن معظمهم كان يجهض، الإجهاض بعد بلوغ النطفة بعد أربعين يوماً يعتبر قتلاً للنفس، عندما تتخلق المضغة وينفخ فيها الروح بعد 120 يوم الإجهاض هو قتل والله سبحانه وتعالى متكفل برزق المخلوق.

سؤال: ما البلاغة في استخدام القرآن لكلمة الإملاق؟

الإملاق أشد الفقر، وأنا من أنصار أنه لا يوجد مترادفات في القرآن، بعض الناس يقول هناك مترادفات وهذا رأيه ولكني لا أؤيده، لا يوجد في القرآن مترادفات ولكن كل لفظة في محلها بدقة متناهية فعندما يقول تعالى مرة (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً (60) البقرة) ومرة (فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا (160) الأعراف) لو كان الانفجار عين الإنبجاس فلماذا هذا التنويع؟ لا، هنا معنى وهنا معنى. والترادف باب واسع. نور الدين الجزائري كتب عن الترادف في القرآن الكريم “فروق اللغات في التمييز بين الكلمات” وأبو هلال العسكري كتب “الفروق اللغوية” يقولون لا توجد حدود فاصلة بين الكلمات لكن توجد فوارق دلالية، لكن المعنى العام مثل الإملاق، الفقر، العوز، المعدم، الحاجة، المسغبة كلها من عائلة واحدة لكن كل كلمة تستعمل في سياقها والبليغ الفصيح من يحسن استعمالها ونحن نؤيد هذا المعنى لأن القرآن الكريم يستعمل من الألفاظ ما يتناسب مع المعاني المطروحة. العرب ليس عندهم ترادف وربما دخل من لهجات أخرى مثل المدية والسكين، والسيف والمهنّد والصارم لكن بعضهم يقول هي أسماء وأبو عبد الله الفارسي يقول هي صفات ولا أعرف للسيف إلا اسماً واحداً. الإملاق هو أشد الفقر حتى في أشد الفقر نحن نرزقكم وإياهم، وأذكر بيت معروف الرصافي عن المرأة الأرملة:

تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها

فالإملاق أشد الفقر.

سؤال: أخبرنا الله تعالى عن فئة من الناس فقال (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7) البقرة) وفئة أخرى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً (23) الجاثية) لماذا قدّم السمع في آية وأخّره في آية؟

من ختم الله على قلبه فماذا ينتظر؟ من لم يهده الله فما له من نور!. هذه الفئة في سورة البقرة وهم الكفار الكفر ملة واحدة لكنهم درجات، هناك إنسان شاكّ وهناك مُصِرّ جاحد عنيد والكفر درجات، الكافرون الذين تحدثت عنهم سورة البقرة من نوع فريد ميؤوس منه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6)) هؤلاء ميؤوس منهم ولذلك (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) إذا ختم الله على قلبه فلا ينفعه سمعه ولا بصره، السمع وسيلة العلم والبصر وسيلة التعلم إذا ختم الله على قلب إنسان فلا تنفذ العلوم ولا الهدايات لقلب هذا الإنسان.

من ناحية علمية السمع قبل البصر في القرآن الكريم كله دائماً يقدّم السمع على البصر لعدة أسباب، أولاً السمع مداه غير مدى البصر، البصر مداه محدّد، الإنسان يرى أمامه بينما يسمع الإنسان من كل الجهات، وهذا ما قرأته عند الفخر الرازي، السمع في المرحلة الجنينية عندما يخلق الله الجنين في بطن أمه يخلق جهاز السمع ينشأ ويخلّق قبل البصر، هذا طبياً وهذا إعجاز علمي. في قصة أهل الكهف (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) الكهف) ذكر الضرب على الآذان ولم يقل مثلاً ضرب على أعينهم لأن الله سبحانه وتعالى جعلهم ينامون فترة ثلاثة قرون النوم أول شيء فيه الإزعاج الصوتي فضرب الله على آذانهم دون أن يميتهم سبحانه وتعالى جعل لهم فترة نوم مستديمة لثلاثة قرون حافظ على أبدانهم وعلى أجسادهم (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (18) الكهف) قال (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) حتى لا تأتي المزعجات الصوتية وتزعجهم. الختم هو الطبع، وذكر القرآن (طبع). القلوب في القرآن الكريم الحديث عن القلب في القرآن مجاله واسع نكمله في الحلقة القادمة إن شاء الله.

بُثّت الحلقة بتاريخ 18/6/2010م


من قسم الفيديو