برنامج بينات

برنامج بينات 1428 – الجزء الثاني والعشرين

اسلاميات

الحلقة الثانية والعشرون

بينات 1428هـ

الجزء الثاني والعشرون

د. مساعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحن الآن في الجزء الثاني والعشرون في سورة الأحزاب، وكما نلاحظ أن سورة الأحزاب بدايتها في الجزء الحادي والعشرون، ونهايتها في الجزء الثاني والعشرون. وسورة الأحزاب كما ما هو واضح من اسم السورة أنها تتحدث عن غزوة الأحزاب، لكن هناك موضوعاً آخر ومهم جداً وخاصة في هذه الأيام وهو موضوع مهم جداً وهو: “حقوق النبي صلى الله عليه وسلم”.

د. محمد: حتى في غزوة الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الدرس ظاهر كيف أن مجموعة من الصحابة آثروا النبي صلى الله عليه وسلم وقاموا معه ونصروه هذا أيضًا لإظهار جانب من بيان حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وكأن السورة جميعها في حقوق النبي صلى الله عليه وسلم.

د.مساعد: فأقول حري بالمؤمنين في هذا الوقت الذي نشهد فيه هجمات على نبينا صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا إلى كتاب ربهم ويعرفوا مثل هذه الحقوق التي وضعها الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وستظهر لنا خصوصاً في بيته صلى الله عليه وسلم، وكيف كان له من الخصائص ما ليس لغيره صلى الله عليه وسلم.

د. محمد: بداية نقول: السورة بدأت بـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، والختام بـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا {69}} فهذه البداية وهذا الختام يدلان على موضوع السورة، وهو حماية وصيانة حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، ورعاية قدره وإجلاله وتوقيره عليه الصلاة والسلام.

د. عبد الرحمن: وتأكيداً لهذه الحقوق في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {56}} انظر إلى هذه الكرامة العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، أيُّ فضل! فليس هناك نبي من الأنبياء له مثل هذه المزية، فلا يذكر نبينا صلى الله عليه وسلم إلا ويصلى عليه؛ ففي الأذان يذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، وفي التشهد يذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ويصلى عليه، ويأمر الله سبحانه وتعالى أمراً عجيباً في هذه السورة عندما يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الله أكبر!

د. محمد: بدأ بنفسه عز وجل، وثنَّى بملائكته، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فقبل أن يأمر المؤمنين ذكر لهم أنه هو سبحانه وتعالى يصلي على نبيه.

د. عبد الرحمن: ثم ذكر بعدها آية عجيبة قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}} فكأن من معانيها والله أعلم أن الذي لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا نوع من أذية النبي صلى الله عليه وسلم، {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}} إهانة لهم على هذا الأذى الذي آذوا به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وخصوصا في زماننا هذا كما تقدم كثرت الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم كثرة عجيبة من أعداء الإسلام ولا غرابة في هذا، وهذا يرجع لأسباب، منها:

أولاً: حسدهم الذي أخبر الله عنه {حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} عندما يرون انتشار الإسلام، وكثرة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فنجد أن بعض أهل الكتاب من الكفار يحرص على أذية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أن في هذا استفزازاً لمشاعر المؤمنين به عليه الصلاة والسلام. فيتذكر المؤمن هذه الآيات وأن الله تعالى قد توعد من آذى نبيه صلى الله عليه وسلم باللعنة في الدنيا والآخرة، وأن الله قد أعد له {عَذَابًا مُّهِينًا} ولاحظ الصفة التي وصف بها العذاب فلم يقل: عذابا أليماً، ولا عذاباً شديداً، ولكن{عَذَابًا مُّهِينًا} وهذا هو المناسب للمقام، العذاب مع الإهانة، لأنهم ما صنعوا هذا إلا تشفّياً من النبي صلى الله عليه وسلم وإهانة له صلى الله عليه وسلم وإهانة لأتباعه، فتوعدهم الله في الآخرة بالعذاب المهين جزاء لهم على هذه الإساءة وهذا الفعل المشين.

ويدخل في أذيته صلى الله عليه وسلم هذه الرسوم الساخرة والمنفرة التي رسم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا والله من أذيته صلى الله عليه وسلم، وهو أذى لنا أيضا، فالمسلم عندما يرى مثل ذلك يشعر ولابد بغيظ وحرارة وغضب وألم، أشد مما لو رسمت أنا أو رسمت أنت، أنت لو رسمك واحد في كاركاتير، هل ستغضب مثل هذا الغضب؟

د. محمد: لا يؤثر عليك مثلما يؤثر لو رسم هذا الجليل القدر العظيم المنزلة صلى الله عليه وسلم  فإن هذا يؤذيه ويؤذينا، وهو والله أحب إلينا من أنفسنا.

د. عبد الرحمن: فنقول لمن رسم مثل هذا أو تعاون فيه أو على نشره، نقول له: أبشر بالعذاب المهين وباللعنة في الدنيا والآخرة، وقد سمعنا عن بعض من صنع هذا أنه قد عوقب أشد العقاب.

وهذا درس لنا نحن أيضا- معاشر المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن خير رد على أمثال هؤلاء هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتمسك بسنته ونشرها، والدعوة إليها، وعدم الحياء منها؛ لأن البعض وللأسف الشديد قد يستحي عندما يكون متلبساً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وترى الذين يخالفون سنته صلى الله عليه وسلم لا يبالون، بينما والله الشرف كل الشرف إنما هو في الاقتداء بسنته عليه الصلاة والسلام، وفي السير على منواله عليه الصلاة والسلام، وأن تقول هذا كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {33}[فصلت:33] على سبيل الفخر والاعتزاز {إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

د. محمد: ومن العجائب اللفظية في الآية قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فبدأ بنفسه ثم بالملائكة كقدوة للمؤمنين، وهذا فيه من ألوان التكريم ما لا يقادر قدره إلا الله عز وجل. والغريب في الآية أنها الآية الوحيدة التي جاءت فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في وسط الآية، ما جاءت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في وسط الآية إلا في هذا الموطن. إذن لو كانت العادة جارية لقال: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً فإن الله وملائكته يصلون عليه؛ ولكن رفعة لقدره صلى الله عليه وسلم وبياناً لفضله ومنزلته قدّم سبحانه نفسه وملائكته وبيّن أنه سبحانه وملائكته يصلون على نبيه، ثم قال أنتم أيضا أيها المؤمنون صلوا أيضاً، اقتداء بربكم وبملائكته.

الآية الأخرى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} فالناس قد ينتبهون لأذى الله وأذى رسوله فيتُّقوهما، ولا ينتبهون إلى أذى المؤمنين، وهذا خطير {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي بغير ذنب اقترفوه، {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا {58}} أنا أهدد بهذه الآية كل من يستخفّ بحقوق المؤمنين، وبما جعله الله لأعراض المؤمنين من الشأن ومن الأهمية، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم اغتنم الفرصة في حجة الوداع لإحياء هذا الموضوع (حق المؤمن)، جمع الصحابة وقال لهم: «أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟» والصحابة يجيبونه صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك يقول «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» أين هؤلاء الذين يستخفون بأعراض المؤمنين من هذا الكلام؟! حتى الأذى أحيانًا يأتي بصور حتى بعض الصالحين لا يبالي به يوقف سيّارته عند باب هذا الإنسان يطلع مسكين يريد أن يخرج بسيارته فيجد سيارة واقفة ويقول: آسف يمشي ! أو حتى إذا رآه غضباناً قال ماذا هناك؟! ما الموضوع؟! يا أخي تصير عند بيتك أحيانًا شجرة فيتزاحم عليها الجيران، هذا أذى! قمامة صندوق قمامة تجد بعض الناس يتهاون ويضعها! الآن تجد من أخلاقيّات بعض الطلّاب في المدارس يأتي طالب ويفسد المراوح ويفسد المكيف ويكتب في دورات المياه هذا أذى يا أخي! يؤذي أعين المؤمنين ويؤذي نفوسهم أين نحن من هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}؟! كل واحد بحاله تأكيدًاً لهذا الأمر {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}

د. مساعد: في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الخطاب هنا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم. قال في نهايتها: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} أهل البيت هنا كما هو واضح من سياق الآيات أنها نازلة في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قيل إنها في من هم أخصّ آل البيت فإن هؤلاء لا يخرجون بدلالة السياق. ومن باب الفائدة نقول: إن آل البيت في الشريعة – الكتاب والسنة – على ثلاثة أقسام:

1- آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهم قرابته من بني هاشم.

2- ثم آل بيته زوجاته.

3- ثم أخصّهم آل بيته أصحاب الكساء وهم ابنته فاطمة وزوجها علي وابناهما الحسن والحسين. لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ووضع الكساء عليهم وقال: «هؤلاء أهل بيتي» وذكر هذه الآية، مما يدل على أن كون السياق في نساء النبي لا يعني خروج الخاصّين، فنساء النبي دخلن في الأمر بنصّ القرآن، وهؤلاء الخاصّون دخلوا بنصّ السُنّة، فإذن هذا إذًا مما ينتبه له أن السياق دل على هذا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: «إنما هؤلاء آل بيتي» أراد أهل بيته الخاصّون فقط.

د. محمد: في آخر هذه السورة قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا {69} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} هذه إشارة إلى أن أعظم ألوان الأذى هو الأذى القولي ولذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، وهذه الآية مما شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتلوها وأن نقرأها في خطبة الحاجة، عند عقد النكاح ونحوه، فتقرأ مع قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102}[آل عمران:103]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}[النساء:1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، أنا أقول كيف نُؤمر بعد تقوى الله بأن نقول قولاً سديداً؟ ماذا تعني كلمة (سديداً)؟ أي قد وافقتم فيه وجه الحق والسداد، سددتم أقوالكم وألفاظكم حتى لم تخطئوا الحق قدر ما تستطيعون. وأكثر الناس الآن لا يتهاونون بشيء مثل تهاونهم باللفظ، فتجده مثلا يقول: فلان والله كتب الكتاب الفلاني، فيهضمه حقه ويبخسه منزلته ويتحدث عنه كأنه شخص عادي، والأولى به طالما أنه لا يعرفه أن يسكت، وهكذا يتكلم الناس بعضهم في بعض أو في بعض القضايا دون أن يوافقوا وجه الحق ويقولوا قولاً سديداً، وانظر إلى الوعد قال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}

د. عبد الرحمن: لأنك قد سددت القول وأحسنت في عملك فإن الله عز وجل يوفقك إلى سداد العمل،

د. محمد: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.

د. عبد الرحمن: ومصداقاً لهذا الكلام تجد الذين يطلقون ألسنتهم بسبّ الناس وسلب الناس وانتقاد الناس؛ هذا أخطأ في كذا، وهذا أساء في كذا، وهذا فاته كذا، فتجده أنه هو أكثر الناس أخطاء، لأنه قد تتبع عورات الناس فكشف الله عورته للناس،

د. محمد: يتتبع الله عورته فيفضحه ولو في قعر بيته،

د. عبد الرحمن: ولذلك صدق الشاعر عندما قال:

لسانك لا تذكر به عورة امرئ         فكُلُّك عورات وللناس ألسُن

فأنت إذا كففت لسانك عن الناس وسدّدت القول، إن وجدت مجالاً للنصيحة التي هي أحسن كما قال الله: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وانظر إلى جمال الجزاء {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ومن منا لا يريد أن يصلح الله له عمله؟! وهذا الذين ينتقد الناس لو سألته ما هدفك من هذا القول؟ يقول لك: أريد تقويم العمل، ويريد تقويم العمل وهو أول المخالفين للسنة فأساء في القول ولم يوفق للسداد، ولذلك لن يصلح له عمله بهذا، فلن يصلح العمل إلا بسداد القول والإحسان فيه. ولو تأملنا الآيات التي جاءت في تسديد القول في القرآن الكريم {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء:53]، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت:46]

د. محمد: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ}[الأنعام:152] ، فقال في الميزان: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} لأن الإنسان لا يدري هل وزن أو لم يزن؟ هل وافق الحق أم لم يوافقه؟ لكن في القول فهو يعلم من نفسه ما يعتقد هل هو قال الحق والعدل أم لا

د. عبد الرحمن: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ}، وهنا يقول أيضاً {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}

د. محمد: قصة طريفة حول أن من سلب الناس في أعمالهم لم يصلح الله عمله، وهي أن مجموعة من الشباب سافروا في رحلة، وكانوا قد تقاسموا الأعمال بينهم، فكان على كل مجموعة الطبخ يوماً، فكان منهم اثنان ينتقدون كل ما طبخ الآخرون سواء أرز أو بيض أو أي شيء؛ هذا طعمه كذا، وهذا فيه كذا، وهذا حدث له كذا، وأنتم لا تعرفون الطبخ، وأنتم لا تصلحون و.. و..، فلما جاء موعدهم انتظر الجميع لينظروا إلى الطبخ الذي ليس له مثيل، ولم يأكلوا قبله مثله ولن يأكلوا بعده مثله، ولم يسمع أحد بنظيره، فلما قدما الطعام للناس فإذا به ملح أجاج، والسبب أن الله لم يصلح لهم أعمالهم، كانوا قد وضعوا الماء وكان الماء من البحر، فكانوا يسقون الأرز بماء البحر، ثم بعد ذلك يضعون عليه الملح، مع أن الطعام كان يأتي في السابق فيه بعض العيوب الخفيفة التي تحتمل ويؤكل معها الطعام، لكن ما قدموه لا يحتمل ولم يؤكل منه شيئاً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}

د. مساعد: في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا {37}} هذه الآية تعتبر من الآيات المشكلة، وسبب إشكالها هو ما ورد من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب بعد الحجاب فأعجبته، وهذا الكلام المذكور ليس هناك ما يدل عليه ولم يسند إلى صحابي بحيث يصح ذلك، لكن إذا نظرنا إلى الآية من ظاهرها، وما الذي كان يراد من النبي صلى الله عليه وسلم، وما هو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم.

النبي صلى الله عليه وسلم أولاً كان قد تبنى زيد بن حارثة قديما، فكان يقال له زيد بن محمد، ففي أول السورة ألغى الله سبحانه وتعالى عادة التبني التي كان الكفار قد اعتادوا عليها {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} فبدلاً من أن يقال له زيد بن محمد أصبح يقال له زيد بن حارثة، فنسب إلى أبيه، وقصة زيد معروفة.

القضية الثانية في زيد أن الله سبحانه وتعالى زوّج زينب من زيد، وهذا يدل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} لكن زينب لما تزوجها زيد زينب تعتبر من بيت شريف، وزيد مولى من الموالي فالمرتبة مختلفة، فكانت زينب كثيرة النشوز عليه – تترفع عليه. في هذه الأثناء جاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن زينب ستكون زوجة له، فكان زيد يأتي إلى الرسول ويشتكي زينب ويريد أن يطلقها لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي زوّجه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} وهو قد أُخبر أنه سيتزوج زينب، فعاتبه الله سبحانه وتعالى على تأخير قضاء هذا الوحي الذي نزل عليه ولهذا قال: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}، ما هو الذي أخفاه في نفسه؟ هو أمر زواج زينب، وكان شاقاً جداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم

د. محمد: وكان هذا شاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان سيخالف عادة العرب وسيكون مدخلاً للعرب للثلب والسبّ في حق رسول الله

د. عبد الرحمن: لأنه سيتزوج زوجة ابنه من التبني،

د. محمد: ويقولون آذى رسول الله حقنا أن يتزوج زوجة ابنه وهو شيء مسلّم عند العرب

د. مساعد: فكان صلى الله عليه وسلم يخشى هذا الكلام فعاتبه الله تعالى {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ { إذن كان يخفي زواج زينب لأن وحي؛ لذا قال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} نسب سبحانه وتعالى التزويج له سبحانه وتعالى

د. عبد الرحمن: ولذلك كانت زينب تفتخر بهذا على بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن آباؤكن وزوجني ربي من السماء، ولا شك أن هذا شرف كبير جداً

د. محمد: ولذا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم من دون شهود ولا عقد ولا شيء من هذا.

د. مساعد: فإذا فُهمتْ هذه الآية بهذا فلا مجال لما قيل من أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى زينب بعد الحجاب فأعجبته، إلى آخر الكلام هذا، هذا كذب وافتراء، وقد وردت في ذلك رواية عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، لكنها رواية تابع تابعي، وفي هذا المقام لا تقبل رواية تابع التابعي، فنقول إن مثل هذا لا دليل عليه إطلاقاً.

د. محمد: بل هو من أذى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأننا لو تأملنا هذا الأمر كيف يقول الله عز وجل {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} كانت القضية في أمر ليس مثل هذا، ثم مما يدل على بطلان هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي زوج زيداً، أيرفضها وهي بِكْر ثم يقبلها وهي ثيّب؟َ ثم هل كانت غريبة عليه؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يراها قبل الحجاب، وكان يعرفها فهي كانت ابنة عمته، فليست بامرأة غريبة عليه حتى نقول جدّ له فيها جديد، فالقضية لا صلة لها بهذا لا من قريب ولا من بعيد،

د. مساعد: لا يدل عليه العقل ولا النقل

د. محمد: ومما يؤكد هذا قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ما هو الذي أبداه الله؟

د. مساعد: زواجه {زَوَّجْنَاكَهَا}،

د. محمد: فإن قلنا أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو عشقها ومحبتها التي نشأت في قلبه فأين ذلك من الآية؟ ما أبدى الله شيئاً من هذا القبيل

د. مساعد: فإذن خالفت حتى للنص.

د. عبد الرحمن: هناك آيات في سورة الأحزاب في ذكر الله سبحانه وتعالى تستوقف المؤمن ليعلم مدى فضل وعظم ذكر الله تعالى وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا {41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {42} هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا {43}} فهذا الأمر من الله تعالى بذكره سبحانه وتعالى؛ {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا {41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ويذكر هذا بالرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً كبيراً في السنّ، وقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فدلّني على أمر أتشبث به، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله»

د. محمد: يعني هذا يغنيك ويكفيك عن كل الشرائع التي تفوتك.

د. عبد الرحمن: وليس مكلفاً ولا يحتاج إلى طهارة، ولا يحتاج إلى توجه إلى القبلة، ولا يحتاج لأن تكون بهيئة معينة، ويمكنك أن تذكر الله بقلبك ولسانك.

د. محمد: واسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله»، وعندما نتأمل في المعنى نجد أن ذكر الله هو أفضل من هذا كله، والدليل حديث “ذهب أهل الدثور بالأجور”. قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: «هل أدلكم على شيء إن فعلتموه سبقتم من قبلكم، ولم يلحقكم من بعدكم؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تسبحون الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون الله ثلاثاً وثلاثين، وتقولون تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، دبر كل صلاة». لاحظ أن هذا الذكر الذي بعد الصلاة أفضل من الصدقة، والناس مستقر عندهم أن الصدقة أفضل من الذكر، وليس الأمر كذلك، بل الذكر الذي يتواطأ فيه القلب مع اللسان، أو يتواطأ فيه اللسان مع القلب لا شيء يعدله. وهذه الآية فيها دلالة على ذلك، ما ذكر الله شيئاً من أعمال الإسلام وطلب الإستكثار منه، إلا ذكر الله عز وجل،

د. عبد الرحمن: وكذلك العلم في قوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا {114}[طه:14] وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم

وفي فضل الذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير ما قلته أنا والنبيون من بعدي: لا إله إلا الله» فالبعض قد يورد فيقول أن لا إله إلا الله ليست دعاء، وليست ذكراً، وإنما هو ثناء على الله، ونذكر هنا قول أمية ابن أبي الصلت عندما جاء إلى أحد أغنياء مكة عبد الله بن جدعان، وقال له:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوماً

كفاه من تعرضه الثناء

أي أنت يا بن جدعان، مجرد أن تراني تعرف حاجتي، كما قال المتنبي:

وفي النفس حاجات وفيك فطانة

سكوتي بيان عندها وجواب

فالله سبحانه وتعالى عندما يُثنى عليه فإن هذا من أعظم ذكره سبحانه وتعالى، وهو من الدعاء. ولذلك يقول أحد العلماء: إذا كان هذا ابن جدعان وهو أحد أغنياء الدنيا إذا أثنى عليه مُثنٍ عرف ماذا يقصد، وأعطاه ولم يبخل عليه، فكيف بملك الملوك سبحانه وتعالى؟!! فإن الذي يثني عليه بـ(لا إله إلا الله) وأمثالها فإن هذا أبلغ الدعاء، وهو أفضل ما يستجاب به لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}. نحن كم نفرّط أيها الإخوة في الذكر، نحن نركب السيارات ونقضي أوقاتا كثيرة في صمت، كان بإمكان الإنسان أن يشغل وقته بذكر الله وهو راكب للسيارة، وهو في طريقه إلى حاجاته وما أكثرها.

د. محمد: والذكر حجة الله على عباده، فإذا قال الإنسان: أنا والله ما مُكَّنْتُ، ما صرت إماماً حتى أكون عادلاً، ولا قوياً حتى أكون مجاهداً، ولا ذا مال حتى أنفق، ولا عالماً حتى أعلِّم، فنقول: عندك ما هو خير من ذلك ويغني عن كل ذلك، وهو الذكر، فما لك حجة أن تقول لا أستطيعه أو لا أقدر عليه.

د. عبد الرحمن: أذكر إحدى النساء الصالحات ممن نعرفهم وهي كبيرة في السن، كانت تسير في الأزقة بذكر الله سبحانه وتعالى، هذه المرأة كنا لا نسمع منها إلا: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، في ذهابها ودخولها وخروجها، حتى عندما كنا أطفالاً صغاراً في الأزقة بين البيوت كنا نسمعها فنعرف أنها قد اقتربت من مكاننا بترديدها لا إله إلا الله، ثم طال بها العمر حتى مرضت في آخر عمرها فأصيبت بالبكم، فما كانت تستطيع أن تنطق بأي كلمة إلا بـ: (لا إله إلا الله)، سبحان الله! كانت تنطق (لا إله إلا الله) بكل فصاحة، ولا تنطق غيرها أبداً، فكانت إذا أرادت أن تتخاطب تقول: (لا إله إلا الله)، إذا أرادت أن تقول اذهب (لا إله إلا الله)، تعال (لا إله إلا الله) وهكذا، فعلمت فضل هذه الكلمة وفضل الذكر، وأن الذي يذكر الله سبحانه وتعالى ذكراً كثيراً فإن الله يحفظه.

د. محمد: قصة أخرى عندما كنت في المدينة، خرجت من الحرم، وفي الطريق رأيت شيخاً كبيراً يشير، فأردت أن أحمله، ففتحت زجاج السيارة وقلت له: ماذا تريد؟ قال لي: تحملني لأول الطريق؟، قلت: تفضل، فركب ومنذ أن ركب وهو يهلل: (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله..) ولا يتحدث معي بشيء، فأردت أن أقطع الحديث فقلت: يا عم، أين الطريق؟ وهو يردد (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله) – وهو يشير إلى الأمام- فمشينا قليلاً ثم قلت: يا عم، أتجه جهة اليمين أم اليسار؟ وهو (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله) – وهو يشير إلى الأمام-، فلما وصلنا وحاذينا المكان وهو يقول: (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله) يشير بالتوقف، قال: سبحان الله، ثم فتح الباب وقال: السلام عليكم، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله وهكذا، فتعجبت من هذا. ولما ذهبت إلى الرياض حدثت بهذا أحد الناس قال لي: نعم، أنا أعرف هذا الرجل، هذا الرجل لا يعرف عندنا إلا بـ(لا إله إلا الله)، حتى إن بعض الناس يسميه ويقول: (لا إله إلا الله)، يقول محدثي: لو قلنا إنه يقولها أكثر من مائة ألف مرة في اليوم لكان قليلا لكثرة ما يرددها، وسبحان الله! الكلمة سهلة على لسانه، مع ما لها من الأجر، فهذا شيء لا يوصف.

د. مساعد:: ومع هذا الفضل، ومع أنه عمل يسير يريده الله منا، نلاحظ أنه صعب على كثير ممن لم يوفقه الله تعالى، وللأسف هم كثير.

د. محمد: لأن هذه العبادة منشؤها من الحب، وأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، فتجد بعض الناس لحبّه للزواج لا يجلس في مجلس إلا ويتحدث عن الزواج، حتى إنه ليذكر الزواج أكثر من ذكره لله. ومن حبه للرياضة يذكرها في كل مكان، ومن حبه للغنى يذكره. فالإنسان إذا وقع في نفسه حب الله تعالى، وأصبح الله تعالى أحب إليك من كل شيء حتى من نفسه، فإنه ولا بد سيذكره، ليس تعبداً أو خوفاً أو رجاء، بل محبة، حتى إنه ليتلذذ بذكره سبحانه، فالإنسان لا يرى الأنس ولا الروح ولا الراحة واللذة إلا بذكر الله سبحانه تعالى، أسأل الله أن يجعلنا جميعا كذلك.

د. عبد الرحمن: وهذا مصداق قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {28}[الرعد:28]، وهذه معناها أن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله، وأما بغيره فهي لا تطمئن ولا تستقر أبداً، وانظر إلى أهل الدنيا الذين أنفقوا أعمارهم في طلب الدنيا؛ هل قلوبهم مطمئنة؟ أبداً، وهذا باعترافهم هم أنفسهم، فهم يقولون: نحن لا نجد لذة ولا اطمئناناً لقلوبنا، في حين أننا نجد أمثال هؤلاء الفقراء الذين يذكرون الله تعالى {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}[آل عمران:191] هؤلاء هم أهل الطمأنينة وأهل الراحة سبحان الله العظيم!.

د. مساعد: في قول الله تعالى في آخر السورة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا{72} هذه أيضاً من الآيات المشكلة التي قد يُسأل عنها، مثلاً: ما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان؟ وهذا لو تأملناها لعلمنا أنها أمانة التكليف، أمانة الاختيار، أمانة الطاعة التي هي افعل ولا تفعل، أنه جُعل في هذا المخلوق القدرة على الأمرين، أن يستجيب وأن لا يستجيب، فلما عرضت الأمانة على هذه الأجرام عرفت أنها لا تستطيع ذلك، فاختارت الطاعة المطلقة، والانقياد التام، الذي ليس لها فيه دخل، الطاعة المطلقة أي الكونية {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {11}[فصلت:11]. أما الطاعة الشرعية التي يكون فيها جزاء وحساب فهذه حملها الإنسان، وكلّف نفسه بها؛ ولذا قال: {عَرَضْنَا} {وَحَمَلَهَا}، إذن فهناك نوع من الاختيار في حمل هذه الأمانة. وما يذكره السلف سنجد أنه كله أمثلة لهذه المعاني التي قال عنها الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ}، وبعض الناس يقول: الختان، يستغرب البعض عندما تقول له ختان، هو نوع من الأمانة العامة.

د. محمد: هذه الآية تدل على أن الدين كله أمانة، أي أمانة بين يديك يا عبد الله، فاتق الله فيه، فالصلاة أمانة، والصوم أمانة، والحج أمانة، قم بها كما أمر الله، وأدِّها كأنها أمانة تؤديها لإنسان قد ائتمنك عليها، والذي ائتمنك عليها هو الله عز وجل.

د. عبد الرحمن: ومن فوائد هذا الختم {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} نلاحظ أن أيّ إخلال بهذه الأمانة لا يخرج عن هذين الطريقين، إما الجهل، وإما الظلم، وهذا تحذير منهما، تحذير من الظلم بكل أنواعه، أن يقع فيه الإنسان بأن يظلم نفسه، أو يظلم غيره، وظلم النفس أوله الإشراك بالله تعالى، لأنك ظلمت نفسك بالشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13}[لقمان:13]، وأدناها أن تظلم أحداً، أو تظلم نفسك فيما دون الشرك،

د. محمد: أو حتى أن تؤذي حيواناً أو بهيمة؛ «عُذِّبت امرأة في هرّة…».

د. عبد الرحمن: والسبب الثاني: النهي عن الجهل، والنهي عن الشيء كما يقول الأصوليون أمر بضدّه، كما أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فعندما تُنهى عن الجهل فهو أمر لك بالعلم، والأدلة على الأمر بالعلم كثيرة جداً.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.