في رحاب سورة
د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1436 هـ
الحلقة 3 – في رحاب سورة الكهف
تقديم الإعلامي محمد خلف
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
يعرض مساء الأحد الساعة 9 ليلا بتوقيت مكة المكرمة ويعاد الإثنين الساعة 11.30 ظهرًا.
مميزات السورة
المسلمون يقرأون سورة الكهف باستمرار طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم “من قرأ الأوائل من سورة الكهف…” الحديث فيه ثلاث روايات بلفظ: الأوائل، الأواخر أو اي عشر آيات.
قرآءة السورة سنة ثابتة، لماذا سورة الكهف بالذات ولماذا قرآءتها يوم الجمعة بالذات؟ القرآن كله عظيم إلا أن سورة الكهف لها ميزة خاصة من بين سور القرآن وميزتها الكبرى أنها جمعت قصصا لم يرد في القرآن كله ولم تكرر وما ورد من قصة موسى عليه السلام مثلا في سورة الكهف لم يرد في سورة أخرى. ومن مميزات القصص التي وردت في سورة الكهف أنها غريبة تتميز بالغرابة، قصة أهل الكهف، قصة صاحب الجنتين مع صاحبه فيها شيء من الغرابة ولم تتكرر، قصة ذي القرنين مع القوم الذين أتى إليهم وطلبوا منه أن يبني لهم السد حتى يحول بينهم وبين يأجوج ومأجوج غريبة، قصة موسى مع العبد الصالح فيها غرابة، تتميز بسرد قصص غريب لأهداف معينة.
هي سورة عظيمة وهي سورة مكية تدعو إلى التوحيد ونبذ الشرك وتدعو إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولها سبب زول وهي أن المشركين في مكة عندما ضاقوا ذرعا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعقيدته الجديدة احتاروا في أمره يتكلم بكلام عالي وكانوا متحرجين وكانوا في شك من أمرهم
مناسبة السورة: ما ورد من سؤال المشركين بإيعاز من اليهود ليسألوه عن أمور ثلاثة
قال لهم سأجيبكم ثقة منه بأن الله سبحانه وتعالى سيوحي إليه ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عليه الوحي تعليما له صلى الله عليه وسلم وتربية لأمته ثم جاءت سورة الكهف ونزل بها جبريل يشيعها سبعون ألف ملك لعظمتها وجاءت في ثناياها (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴿٢٣﴾ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) فلها مناسبة خاصة وهي تتضمن أحداثًا غريبة وعجيبة.
وردت في هذه السورة إحابتان عن سؤالين والسؤال الثالث وردت في سورة الإسراء التي ضمّنها الله تعالى الإجابة عن سؤال الروح ولعل هذا من أسرار ترتيب سورة الإسراء قبل سورة الكهف.
سورة الكهف ليست كسورة الرحمن من حيث عدد الآيات لذا سنخصص لها حلقتين. نستعرض جزءا من القصص التي وردت في السورة.
هذه السورة ورد فيها أثر عن النبي حول حفظ عشر آيات من أولها أو من آخرها والأولى أن يحفها كلها وثواب حفظها أنها تقي بين فتنة المسيح الدجال فما الرابط بينهما؟
فتنة المسيح الدجال هي فتنة نسأل الله تعالى أن يقينا منها لأن القصص الذي ورد في سورة الكهف هو قصص يتعلق بفتن وذكر حلول لها من قصة الفتية الذين آمنوا وفروا من قومهم المشركين فرارا من دينهم، وقيض الله لهؤلاء برحمته كل كهفا يعيشون فيه وكلبا لحراستهم وقصة الجنتين فيها فتنة المال وماذا يفسد الناس إلا فتنة المال مع غرور صاحب الجنتين وكبريائه وتجبره وفي ختام القصة ذكر الله تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)) زينة الحياة الدنيا لا مبادئ الحياة الدنيا، المال زينة فاستفيدوا منه، لو أحسنا تربية البنين وأحسنا استخدام المال فنعم المال الصالح للرجل الصالح، جاءت قصة صاحب الجنتين لتقي المسلمين من فتنة المال، قصة موسى مع العبد الصالح تتحدث عن فتنة العلم. الفتنة الرابعة فتنة الأخذ بالأسباب في قصة الملك الصالح ذي القرنين مكّنه الله ومع ذلك لم يغتر ونجا من الفتن (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)) وأخذ بكل الأسباب وكان مؤمنا بالغيب وقصته جميلة من أهم ثمراتها الإيمان بالغيب (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴿٩٨﴾) الحضارة الغربية اليوم فيها الكثير من الأخذ بالأسباب لكن الافتتان بالأسباب إلى درجة تأليها خطأ.
مثل هذه القصص التي فيها فتن تعلم الإنسان كيفية النجاة منها.
ورد في آخر سورة الكهف (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴿١٠٤﴾) وهذه قريبة من فتنة الأسباب.
ارتباط سورة الإسراء وسورة الكهف وسورة مريم
الارتباط موجود بين سور القرآن كلها، وهذا الترتيب العظيم مقصود وورود الإجابة عن سؤال الروح في سورة الإسراء يزيد من ارتباط السورتين، سورة الإسراء تتحدث عن إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتحدث عن بني إسرائيل، معجزة الإسراء معجزة عظيمة، معجزة جسدية ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، بجسده وروحه الإسراء خلدته سورة الإسراء والمعراج خلدته سورة النجم، معجزة عظيمة الله تعالى أسرى بنبيه وتوقف الزمن ولهذا تقتضي التسبيح والسورة الوحيدة التي بدأها الله بـ(سبحان). (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ 1) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)الكهف) الأولى معجزة كونية وأثبتت صدق النبي صلى الله عليه وسلم والثانية معجزة قرآنية. (عبده) و(عبده) تناسق وانسجام مقصود. في ختام سورة الإسراء (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴿١١١﴾) الله أكبر (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) سبحان الله، الله أكبر – الحمد لله، المسلم لا يتوقف دائما يشد الرحال حتى إذا انتهى من الجنة والناس يقرأ الفاتحة ويستحب عندما تنتهي من ختم المصحف أن تبدأ من جديد الحال المرتحل.
ربطت سورة الإسراء وسورة الكهف بين الباقيات الصالحات وتثبيتا لهذا المعنى جاء في سورة الكهف (والباقيات الصالحات ) أما سورة الإسراء فتضمنت التسبيح (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴿٤٣﴾) (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴿٤٤﴾) (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ﴿١٠٨﴾) فيها تسبيح كثير وبعد التسبيح يأتي التحميد في سورة الكهف.
سورة الكهف مع سورة مريم، سورة الكهف بدأت (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴿١﴾) وبدأت قصة أهل الكهف (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ﴿٩﴾) سؤال استفهامي إنكاري، ليس هذا هو العجب، ما هو العجب؟ كأن الله يقول لمحمد أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم هم العجب العجاب؟ لا، العجب (كهيعص ﴿١﴾ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾ مريم) وولادة عيسى من أم دون أب وولادة يحيى من زكريا على كبر، تحدث عيسى في المهد صبيا، هذا العجب العجاب ذكرها الغرناطي في تناسق سور القرآن. وقيل ليس هذا العجب إنما العجب ما في السموات والأرض.
السياق اللفظي لسورة الكهف
كل سورة لها ثوبها الخاص، سورة الكهف لها ثوبها خاص بحيث لو سمعتها تُقرأ تجزم أنها سورة الكهف. سورة الكهف فيها ألفاظ خاصة كررت بطريقة حكيمة (أحكمت آياته) مثال: عندما أفاق الفتية من الكهف (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)) نوع من الفضة، (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا) قال أزكى ولم يقل أفضل أو أطيب أو ألذ طعاما لماذا اختار (ازكى)؟ أدق لفظ في محله ولكنه ينظر إلى نهاية السورة (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) نفسًا طيبة طاهرة بريئة، هذا تجانس لفظي، (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴿٨٠﴾ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴿٨١﴾). الألفاظ منتقاة بدقة.
عندما تقرأ في السورة (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴿٦﴾) ما معنى على آثارهم؟ نقول فلان يمشي على أثر فلان، وهنا بمعنى لعلك باخع نفسك لأجلهم ولكن اختار (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ) وفي قصة موسى مع فتاه (فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا) ما قال فارتدا راجعين، عائدين فتكرار اللفظ (آثار) مقصود في السورة. وهذا من رد العجز على الصدر لما يؤتى بكلمة في النهاية جيء بها في البداية.
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) ركنوا ولجأوا، اعتصموا وفي نهاية السورة في قصة موسى مع الرجل الصالح والفتى (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ) لم يقل ذهبنا، استرحنا، لجأنا لكن أوينا أدق في المعنى. حتى الفتية لما تحدثوا فيما بينهم (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) تكررت اللفظ ثلاث مرات وليس في سورة الإسراء وسورة مريم هذا اللفظ، لكل سورة ألفاظها، هذه مفاتيح لقرآءة القرآن لنتذوق هذا الاتساق، الذوق اللفظي لسورة الكهف لا ينتهي.
هل هناك مناسبة بين مطلع السورة وختامها
البداية حديث عن الكتاب (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) وآخر آية (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴿١٠٩﴾) كلمات ربي هي القرآن، وفي وسطها (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴿٢٧﴾) خير التفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة ثم بالعلم اللغوي الصحيح.
في سورة الكهف تحدث الله عز وجلّ عن القرآن بكونه كتابا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) القرآن له اسمان علمان: القرآن والكتاب، القرآن لكونه يُقرأ والكتاب لكونه يُكتب. في هذا الإتساق لوحظ التناسب في السورة مع كتاب الأعمال (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴿٤٩﴾) في هذا السياق الكتاب أولى من القرآن وهذا من التناسق، هنا كتاب القرآن وهنا كتاب الأعمال.
في سورة الإسراء ورد الحديث عن القرآن وتكرر 11 مرة في السورة (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ) (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ) (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ) (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ) (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ) (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) لم يذكر الكتاب ولا يوجد سورة أخرى ورد فيها لفظ القرآن 11 مرة، سورة البقرة أطول سور القرآن ورد فيها لفظ القرآن مرة واحدة (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ولهما حكمة، هو شهر قرآءة وأنزل القرآن في رمضان، سورة البقرة لها شخصية، لها ملامح. ذكر في بداية سورة البقرة الكتاب (ذلك الكتاب) أما في آية شهر رمضان وردت لفظ القرآن لأنه شهر القرآءة للقرآن.
وقفة مع بعض آيات السورة
قال تعالى في سورة الكهف (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴿٢﴾) وقال في سورة الإسراء (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴿٩﴾) فلماذا قيل هنا أجرا حسنا وهنا أجرا كبيرا؟
القرآن الكريم دائما فيه اتساق لفظي. سورة الكهف بنيت على مادة الحسن (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) تكرر لفظ الحسن بشيء من التفصيل (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) (فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) حسن أن يقول (أجرا حسنا) في سورة الكهف.
في القرآن أجر حسن وأجر عظيم وأجر حسن وأجر كبير وكلها تخضع للسياق. في سورة الإسراء (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴿٩﴾) وتكرر لفظ كبيرا في سورة الإسراء (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) (وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) (فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) ولما تحدث عن الوالدين قال (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا) ست مرات وردت كلمة (كبيرا) في السورة فناسب أن يقول (أجرا كبيرا).
في سورة النساء نجد أجرا عظيما لأن لفظ عظيما تكرر في السورة، سورة النساء لها اتساق. لكل مقام مقال لكل شخصية ثوبها ولكل سورة ألفاظ تتناسق معها.
لماذا جاء الفعل (يبشر) منصوبا؟
لأنه جاء معطوفا على (لينذرَ) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴿١﴾ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) اللام لام التعليل. أما في آية الإسراء (يبشرُ) فعل مضارع مرفوع.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴿١﴾ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) لينذر من؟ الجواب معروف من السياق، الفعل ينذر يتطلب مفعولين بمعنى: لينذر المشركين بأسًا أو لينذر الكافرين بأسًا. هو ذكر مفعولا وطوى مفعولا، عرفنا أن المقصود المشركين أو الكافرين مما جاء في البشارة بعده النذارة (ويبشر المؤمنين) تدل على أنه ينذر الكافرين.
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ﴿٩﴾) فعل (حسب) من الأيقونات اللفظية المستعملة في هذه السورة، قال (حسبت) ولم يقل ظننت، فما الفرق بين الحسبان والظنّ؟ الظن الذي يظن ظنا يأخذ بالاحتمالين يرجح أحدهما، أما لما يكون هناك احتمال واحد في الذهن يستخدم حسب.
حسب وظنّ وخال وزعم أخوات لكن بينها فروق.
هل في اللغة مترادفات؟ الأرجح أن كل لفظ له خاصية.
يذكر في السورة (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (ويحسبون أنهم يحسنون صنعا) القارئ ينبغي أن يقرأ ويتدبر السورة ويتلمس الألفاظ التي تكررت في السورة والتي اختيرت بحكمة تتناسب مع السياق.
حينما سأل الله تعالى هذا السؤال الاستفهامي في الآية (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ﴿٩﴾) لإبطال سؤال اليهود والمشركين وجوابه جاء في سورة مريم وفي غيرها من السور لكن بالدرجة الأولى الله تعالى فنّد مزاعم اليهود بأن الذي سيجيب عن هذه الأسئلة هو النبي وكان الأولى بهم أن يقولوا وجدناه مكتوبا عندنا في التوراة والإنجيل يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ولكن عنادهم جعلهم ينصبون مكيدة للنبي صلى الله عليه وسلم فأنجاه الله منها وأعانه وثبته.
فائدة لغوية: ما معنى الرقيم؟ الرقيم اختلف في معناها، قال ابن عباس: وقفت عند أربع كلمات ما معنى حنانا، غسلين، الرقيم؟ القول الذي يرجحه العلماء أن الرقيم من المرقوم يقال إن الملك الذي بحث عن الفتية قال كم كان عددهم؟ فدوّن ذلك في رقيم. وورد في تفسير فتح الغيب للرازي والكشاف أن الرقيم أي أصحاب الكتاب.
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ﴿٩﴾ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴿١٠﴾) ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا، خير الدعاء ما ورد في القرآن. (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ادع بهذا الدعاء في الطواف لأنه دعاء ورد في سياق آيات الحج.
السر العجيب بهذا الدعاء في الحلقة القادمة.