في رحاب سورة
د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1436 هـ
الحلقة 4 – في رحاب سورة الكهف – 3
تقديم الإعلامي محمد خلف
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
يعرض مساء الأحد الساعة 9 ليلا بتوقيت مكة المكرمة ويعاد الإثنين الساعة 11.30 ظهرًا.
قصة موسى مع الخضر
قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح الذي اسمه الخضر كما ورد في السنن قصة مثالية تضرب مثلًا لطلاب العلم ومعلمي العلم حتى يستفيدوا من كثير من المبادئ التي فيها في طلبهم للعلم، سئل موسى عليه السلام من أعلم أهل الأرض؟ قال انا (ليس كبرا منه لكنه لم يعلم أحدا أعلم منه وهو كان رسولا ونبيا وكليم الله) ذهب موسى للقاء الرجل الصالح عند مجمع البحرين وأعطاه الله علامة وهو انفلات الحوت والقصة مليئة بالقيم كيف اصطحب فتاه وكيف كان رفيقا به ونسي الفتى أن يخبر موسى أن الحوت ضاع منه وهذا أدب من الغلام (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) فارتدا على آثراهما إلى أن وصلا إلى ذلك المكان ووجدا الرجل الصالح وهنا تبدأ رحلة العلم والقصة تبرز كيف كان موسى قمة في الأدب وهو رسول من أولي العزم ومع ذلك قال للرجل الصالح (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)) سؤال يفيد العرض بألطف أساليب: أتبعك إذا شئت، تعلمني ممنا علمت (من) تفيد التبعيض أي من بعض علمك والرجل الصالح انطلاقا مما لديه من علم لدني غيبي لا يعرفه موسى قال له اشفاقا عليه (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)) جملة خبرية تقريرية مؤكدة بتوكيدين (إنّ ولا النافية) و(صبرا) نكرة في سياق النفي تفيد العموم لا تستطيع أيّ صبر، وهذا ليس انقاصا من شأن موسى ولكنه كان يعرف أنه يتصرف تصرفات غير مقبولة لدى عامة الناس (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)) أنت تتصرف وفق علم شرعي وأنا لدي علم آخر فردّ عليه موسى (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)) لم يقل له سأصبر وإنما ستجدني إن شاء الله صابرا هذا الأسلوب أثبت في بيان صفة جلادة الصبر وهمة موسى، الأحرى بطالب العلم أن يبين همته لأستاذه (ولا أعصي لك امرا) أحرى بطلاب العلم أن لا يعصوا معلميهم.
( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)) هذا الشرط (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)) حتى إذا ركبا في السفينة (إذا) تعني أن مجرد ركوبهما خرقها، إذا هنا ليست شرطية وإنما ظرفية تفيد الزمن ومفرّغة من الشرطية يقول أحد المفسرين كأنه ركب فقط ليخرقها كأنه مسيّر مبعوث خصيصًا لكي يخرقها. سؤال استفهام إنكاري (أخرقتها ) أنكر عليه لكن بحدود المعقول. إمرا يعني فظيع شنيع شديد أما نكرا فهو أشد من إمرا. فأجابه العبد الصالح (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) )(بدون لك) هذا نوع من المعاتبة واللوم لأنه يعلم أن بشرية موسى وبحكم كونه نبيا ورسولا الأنبياء لا يسكتون عن شيء يرونه خطأ وموسى يرى خرق السفينة خطأ فالسفينة كان الأولى أن يشكروا أهلها، بعد ذلك (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)) قال صلى الله عليه وسلم معلقا: كانت الأولى من موسى نسيانا (نسي الشرط مع العبد الصالح).
ثم (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)) هذا أفظع وهذا كلام من موسى متعمّد ما تحمل أن يسكت عن هذا النكر، قتل نفس زكية بغير نفس بدون ذنب بدون جريرة وفي قرآءة نفس زاكية هذا منكر فظيع لا يقبله دين وكل ذي ضمير إذا رأى منكرا فظيعا لا يسكت فمن باب أولى الأنبياء فالثانية كان اعتراض موسى عن عمد وقصد.
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)) (لك) لمزيد من التنبيه له، (لك) هي متعلق الفعل (قال) يفيد التأكيد الجملة كلها فيها مؤكدات (استفهام ولك وإنّ ولن النافية أداة جزم) وزادها تلويما وتوجيه الخطاب المباشر لموسى (لك) قلت لك أنت فاشترط موسى مرة أخرى الأولى كان نسيانا والثانية عمدا والثالثة شرطا كما قال صلى الله عليه وسلم
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)) التفكير المنطقي البشري أن القرية يطعموهما والعبد الصالح يتصرف عن وحي (استطعما أهلها) إظهار بدل الاضمار كان المقتضى اللغوي حتى إذا أتيا أهل قرية استطعماهم لكن قال استطعما أهلها للتشنيع، قرية كاملة لم يرد أحد أن يطعمهم هذا تشنيع كانوا بخلاء إلى درجة لكن الله وجه موسى أن يسأل هذا السؤال ووجه العبد الصالح كيف يتصرف.
هنا قال العبد الصالح (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)) لم يذكر العبد الصالح لموسى سبب تصرفاته وإنما تركها للأخير. هو من البداية يعرف أن موسى لن يستطيع صبرا لكنه مشى معه درجات معينة ثم أعطاه المحصّلة والنتيجة آتية.
يبدأ يفسر الأحداث التي استنكرها موسى قصة السفينة فالغلام فالجدار.( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)) الذي نستنبطه أن الأستاذ صبر والمعلم صبر إلى النهاية ثم بدأ يحوصل ويلخص وهذه من تقنيات التعليم:
اللغة العربية تقتضي أن تقول أما السفينة الصحيحة (أَمَّا السَّفِينَةُ) صفة محذوفة (الصحيحة) أما السفينة الصحيحة دلنا على هذا الوصف قوله تعالى (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) السبب أن هناك ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبًا فخرقها حتى لا تقع في عينه وهذا ارتكب أهون الشرّين وأقل الضررين هو تصرف تصرفا منطقيا لكن موسى لم يكن يعلم الملابسات
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) بوحي من الله لو عاش ذلك الغلام نظرا لانحرافه كان سيسلك طريقا سيئة جدا ولأن والديه كانا على درجة من الصلاح فأُلهم الرجل الصالح لهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
في السفينة قال أردت أن أعيبها نسب الفعل لنفسه لأنه عيب وفيه سوء ومضرة ولكن تأدبا قال أردت أن أعيبها نسب الضرر ونسب العيب لنفسه، في قصة الغلام قال (أردنا) العبد الصالح قتل الغلام من العبد الصالحين وإبداله من الله تعالى فجاء الفعل (فأردنا) أراد أن يبدلهما منه وأما في الجدار أراد ربك لأنه خير محض، وهذه الظاهرة في كل القرآن، إبراهيم قال في سورة الشعراء (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)) المرض بإذن الله (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)آل عمران) بيده كل شيء الخير والشر لكن تأدبا مع الله لا نقول بيدك الشر، الخير يسند إلى الله والشر لا يسند إليه في القرآن كله.
(قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) ثم قال بعد أن أتم تفسير الأحداث (مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) الصعوبة لموسى كانت في البداية احتاج إلى استطاعة، أتى بالكلمة بصيغتها الكلمة (لم تستطع) وأما لما انتهت القصص ووضحت المشكلة خفّت الدهشة والعجب (تسطع) الأمر الخفيف يؤتى له بالصيغة الأخ، ذو القرنين لما بنى السد لوم الذين طلبوا منه ذلك حماية من يأجود ومأجوج لقال (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)) ما اسطاعوا أن يعلوه والنقب أصعب فاستعمل الصيغة الأخف وحذف التا لأن العمل أخف واستعمل الصيغة الكاملة للفعل الأصعب.
لماذا تم اختيار هذه الأحداث فقط في قصة موسى؟ خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار؟
ورد في السنة ليته صبر لرأينا من تصرفات العبد الصالح أكثر من ذلك. المتأمل في هذه الأحداث يجد أن الله تبارك وتعالى أعطى موسى دروسا من حياته، كف تتعجب من خرق الرجل الصالح السفينة ولم تتعجب من أمك لما وضعتك في التابوت ورمتك في اليم، أين المصلحة هنا؟! أعطاه أحداثًا مماثلة لأحداث مر بها في حياته، أنت تتعجب من الرجل الصالح الموحى إليه، تتعجب من قتله الغلام وأنت (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ 15 القصص) لم يكن يقصد أن يقتله فأنت تستنكر من الرجل الصالح أن يقتل وأنت صدر منك ذلك، هذا قضاء وقدر. وتستنكر إقامة الجدار ولم يأخذ مالا وأنت أحسنت للفتاتين وسقيت لهما ولم تطلب أجرا (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)القصص) والجدار كان لغلامين وكان أبوهما صالحا، فلماذا تتعجب من ذلك؟ الفتاتان كان أبوهما صالحًا، والغلامين اليتيمين كان أبوهما صالحا، هذا تناسق في الأحداث. وهبه الله أحداثا تعلمه من سيرته فما أحرى كل إنسان أن يتذكر وأن ينظر في نفسه وجسمه وحياته فإن ثمة أسرارا عجيبة.
قصة ذي القرنين
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)) ويبدأ بسرد قصة القرنين (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)) ذو القرنين كما ورد في التفسير رجل صالح، ثمة اشياء استنبطها المفسرون من القرآن وثمة أشياء ذكرت في التاريخ لا نستطيع أن نجزم بالأحداث التاريخية لا ننفيها لكن نحتاج إلى إثبات وسند لذلك البعض يقول أن ذو القرنين هو الاسكندر المقدوني وهذا غير صحيح، نحن نستنبط صفاته من القرآن كان رجلا صالحا (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)) وقال له لما طلبوا منه أن يبني السد (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)) كان ملكا ذا قوة كان رجلا مؤمنا كان مهندسا معماريا جبارا ونسب الفضل لله سبحانه وتعالى وهذا دلالة على صلاحه وكان مؤمنا بالغيب (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)) كان رجلا مؤمنا صالحا طوافا في مشارق الأرض ومغاربها وكان كلما ذهب إلى قوم حاول أن يساعد ويحل لهم المشاكل.
مر على قوم في مغرب الشمس وقوم في مطلع الشمس. (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ 86) عين حمئة بمعنى عين ماؤها وطينها مختلط، الحمئة الطين المختلط بالماء. بلغ أقصى مكان بعده تغرب الشمس وبعض العلماء يحدد المناطق وقد قرأت عددا من التفاسير ولكن لا أميل إلى تحديد المنطقة لأن هذا في علم الغيب.
(وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)) هؤلاء القوم كانوا على الكفر، كانوا على فساد في الرأي، هذه الآية تدل على فساد أمرهم والله سبحانه وتعالى خيّره إما أن تعذبهم وتسـتأصلهم وإما أن تتخذ فيهم حسنا، (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)) هنا نستنبط من الآيات، كانوا على فساد في العقيدة وظلم فيما بينهم والدليل على ذلك (إما أن تعذب حسنا) حتى أن العلماء شبهوا هذا الكلام بقول الله سبحانه وتعالى لرسوله (إما منا وإما فداء) تمنّ عليهم أو تفتدي الأسرى. وهنا قال (أما من ظلم) بمعنى أشرك وكفر (وأما من آمن الحسنى) (من آمن) تدل على أن الظلم تعني الشرك، ورد في القرآن (إن الشرك لظلم عظيم) لدينا شاهدان: (إن الشرك لظلم عظيم) ومن سياق الآية (أما من ظلم – وأما من آمن) الذي يعذبه الله عذابا نكرا هو الكافر، الذي يظلم ويتوب ولقي الله وهو مؤمن فيحاسبه الله على الظلم أما الذي يعذبه الله عذابًا نكرا هو الكافر بدليل ما بعدها (وأما من آمن الحسنى يسرا) من آمن مقابل من أشرك (ظلم). الاية تشير أنه اختار الاحتمال الثاني لم يعذبهم بدليل أنه قال (أما من ظلم فسوف نعذبه) سوف معناه أعطاهم مهلة ليدعوهم ويعلّمهم فإن التزموا كان خيرا، (فسوف) دليل أنه دعاهم فلو استمروا على الكفر والظلم فيعذبهم وأما من آمن فله جزاء الحسنى وفي رواية ورش (فجزاء الحسنى).
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)) يعني كانوا في أقصى المشرق بعضهم يقول ناحية الصين، كوريا. (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)) ليس لديهم شيء يقيهم ويسترهم من الشمس لا أشجار ولا جبل ولا شيء. (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)) لم يذكر قصة هؤلاء القوم لأنه في علم الغيب لكن المقصود من الآية أن مملكته كانت من مطلع الشمس إلى مغربها وأنه كان طوافًا وأينما ذهب كان يحاول الإصلاح وهذا هو الملك الصالح العادل كان يدعو إلى الله ويبذر بذور الخير والإيمان ويُصلح.
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)) إما أن لغتهم كانت غير مفهومة لا يستبينها ولا يفهم من كلامهم وهم لا يفهمون حتى كلام الترجمان لأن الملوك قديما كانوا يمشون بالتراجم لكن هؤلاء القوم كانوا في أقصة الأماكن وكانت لديهم لغة يتعاملون بها فيما بينهم لا يكادون يفقهون أية لغة أخرى، والمعنى الثاني لا يكادون يفقهون قولا كانوا من البلادة ومن الجهالة ومن الغباء بحيث كانوا لا يفقهون أي كلام يوجه إليهم. ومع ذلك لما استأنسوا بوجود هذا الملك الصالح طلبوا منه أن يضع سدا فاصلا بينهم وبين يأجوج ومأجوج.
كيف يخاطبون ذا القرنين وهم لا يكادون يفقهون قولا؟ لا أحد أن يفسر هذا لأنه في علم الغيب لكن المهم أنهم تمكنوا من إيصال المعلومة هذا بتعبير القرآن الكريم. عندما تقرأ في قصة موسى أو في قصة مويم هل أولئك القوم تكلموا بتلك الفصاحة؟ إنما الله تعالى بلسان القرآن، بالبيان القرآني عبر عما كانوا يفعلون وهم استطاعوا أن يوصلوا الفكرة لذي القرنين ولا نعلم كيف.
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94))
من يأجوج ومأجوج؟
هؤلاء قوم يفسدون في الأرض ولا يصلحون منذ قديم الزمان وجاء ذكرهم في موضعين منها موضع سورة الكهف وكانوا يؤذون أولئك القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا فاستنجدوا بذي القرنين أن يجعل لهم حلا ولأن ذو القرنين كان رجلا موفقا ذا علم وحكمة فقال (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)) سخّر العمال من عندهم استطاع أن يضع سدا عظيما بينهم وبين يأجوج ومأجوج. وذكر يأجوج ومأجوج في سورة الأنبياء (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)الأنبياء)
بعضهم فسرها أنهم ليسوا قوما بعضهم قال يأجوج ومأجود رجل ورجل آخر فهما اثنان والبعض يقول أنهما نوع من الأمراض ليسوا بشرا، أمراض يأخذوها من الفعل ماج وآج التي تصيب، هذا كلام مما قاله العقلانيون الذين يريدون أن يفسروا كل شيء غيبي في القرآن بالعقل حتى يظهروا أمام الغرب وأمام كل العقلاء بأن في القرآن كلام منطقي، والحقيقة أن أن القرآن كله منطقي نعم لكن ثمة غيبيات لا بد أن نؤمن بها والإيمان بالغيب أول صفة من صفات المؤمنين (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)) نحن نؤمن أن القرآن فيه غيب نؤمن بالجنة ونؤمن بالنار هذه حقائق. لذلك هؤلاء العقلانيون تأثر بهم الشيخ محمد عبده في تفسيره المنار مثلا يقول (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)) يفسرها بأنه أصابهم نوع من الأمراض كالجدري. لا، قالوا لا يعقل أن طائرا يستطيع أن يحمل حجارة من سجيل ولا يحترق. لكن في المشيئة الإلهية كل شيء وارد (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)) (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)الحجر) (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)النمل) الغيبيات لا بد من الإيمان بها بما تحتمله اللغة العربية. وأنا قرأت عددا من التفاسير في الموضوع: هم قوم من علامات الساعة الكبرى لكثرتهم لا نستطيع أن نجزم لأنه يكون نوع من التخرص. ثمة آراء ونقف عند ما وقف عليه القرآن.
سؤال: نحن في القرن الحادي والعشرين والأقمار الاصطناعية تحيط بنا من كل جانب ألا تستطيع أن ترصد هؤلاء القوم بهذه الكثرة؟ ألا تستطيع أن ترصد السد الذي هو من النحاس والحديد؟
الجواب أن الأقمار الاصطناعية ما استطاعت بعد أن تحيط بالأرض من كل شبر، من كم سنة اكتشفوا سفينة نوح في جبل الأكراد ذات ألواح ودسر وجدوا تلك السفينة عن طريق الدسر (جبل الجودي) هذا الاكتشاف يحقق عظمة القرآن الكريم، وجدوا ألواحا خشبية متحفرة ووجدوا الدسر المسامير الكبيرة. ستأتي هذه الأقمار وستجد الردم لكن أين؟ على أي عمق؟
(يا معشر الجن تنفذوا من أقطار السموات والأرض) الأرض قطرها 12723 كلم كم استطاع العقل البشري والناسا أن تحفر في الأرض؟ أقصى شي وصلوا إليه في الحفر 17 كيلومتر بنسبة 0,2 من قطر الأرض! العلم البشري الآن بسيط جدا بما في هذه الكرة الأرضية والسموات ممكن عندما يتطور العلم أن يجدوا سد يأجوج ومأجوج.
سؤال: بعض أهل العلم المجتهدين اجتهدوا وأخذوا بعض القرآن حددوا المنطقة التي يزعمون أن الردم فيها فوجدوا أن هناك جبلان وبينهما ردم مغطى بالثلوج فحفروا ووجدوا نحاسا وحديدا أسفل الثلج، هل يمكن أن يكون هو؟
ممكن وليس لدينا أدلة قاطعة، لكن اين القوم الذين وراءه؟ هذا في علم الغيب وعندما يأتي وعد ربي كما قال ذو القرنين جعله دكاء وكان وعد ربي حقا سيقع ذلك..
نحن نؤمن بما جاء في القرآن أنه سيقع (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) نحن مطالبون أن نؤمن بما ورد في القرآن من الغيبيات ونؤمن بما يتحقق بالعلم
سورة الكهف ثمة تقنتيان لغويتنا بارزتان هو جزء من شخصية السورة اللغوية
ظهور التمييز: التمييز في اللغة العربية الذي يميز ما قبله، يفسر إبهامًا قبله مثلا محمد أحسنهم خلقا، كثر التمييز في سورة الكهف بشكل لافت لأنها بنيت على كثير من الغرابة فجاء التمييز بشكل لافت (كبرت كلمة) (أيهم أحسن عملا) (أحصى أمد) (ولملئت رعبا) (أزكى طعاما) (لأقرب من هذا رشدا) (ساءت مرتفقا) (حسنت مرتفقا) (أكثر مالا وولدا وأعز نفرا) (أقل منك مالا) (خير ثوابا) (خير عقبا) (خير ثوابا وخير أملا) يمكننا الجزم أن التمييز أيقونة لغوية في سورة الكفف ولكل سورة تقنيات بارزة.
أيقونة أخرى أو لباس للسورة فسورة الكهف من بدايتها إلى نهايتها جاءت حافلة بالتقديم والتأخير بدرجة لافتة، في كل القرآن نجد تقديم وتأخير لكن في السورة موجود بشكل كبير (أن لهم أجرا حسنا) أجرا حسنا لهم (ما لهم به من علم) ما لهم من علم به، ما (فلعلك إن لم يؤمنوا بهذا الحيث اسفا) (كانوا من آياتنا عجبا) (ربنا آتنا من لدنك رحمة) (من دونه إلها) (ينشر لكم ربكم) (لوليلت منهم فرارا) فرارا منهم، أحصيت 91 جملة فيها تقديم وتأخير. السورة هي مبنية بهذا القالب الصوتي اللغوي لأن فاصلتها لكن البناء اللغوي التقديم والتأخير له أغراض بلاغية: للإختصاص، للإهتمام، لإبراز شيء، للحصر. شخصية السورة مبنية على التقديم والتأخير وكل سورة في القرآن لها خصوصية. لا يوجد سورة في القرآن وجد فيها التقديم والتأخير بمثل هذه الكثرة فسورة الكهف كثرة لافتة. في الجملة العربية الفعل والفاعل والمفعول به ولأجله ، هذا الترتيب موجود واستنبطه العلماء من لغة العرب وثمة ما يؤخر وحقه التقديم. نقول درس محمد القصيدة لكن لما نقول القصيدة درس محمد، فالتقديم يكون إما للإبراز للاهتمام للحصر، ثمة أغراض للتقديم. كل تقديم له معنى وفي سورة الكهف التقديم والتأخير كأنه صار أصلا فيها. وهذه التقنية لها صور أخرى ففي سورة الرحمن تكرار( فبأي آلآء ربكما تكذبان) تكرر 31 مرة هذه خصيصتها، في سورة القمر معظمها على صيغة مفتعل: (محتضر، مستقر، مزدجر مستمر، منهمر، منتشر، محتضر، مستطر، مقتدر، ) إذن الله يفعل ما يشاء في لغة القرآن ونحن نبرز هذه الظواهر.
رابط بداية السورة وختامها:
سورة الكهف (الحمد لله ) بداية بذكر الكتاب وهو القرآن ونعمة القرآن وآخر آية (لو كان البحر مددا) كلمات ربي أوسع من القرآن، كل شيء يعلمه الله جل ثناؤه وهو قادر على أن يقوله فهو كلمة وكلمات الله لا تنتهي، كلمات ربي نستطيع أن نسقطها على القرآن فالقرآن مبني بطريقة عجيبة، في أول السورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)) في وسط السورة (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)) تدرج من الكتاب إلى الكلمات وفي الختام ذكر الكلمات يقصد القرآن ويقصد الكلمات التي لا تنتهي.
رد العجز على الصدر (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) وأهل الكهف قالوا (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)) وأول السورة (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5))
(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)) لا يظنن ظانّ أن كلمات الله تنتهي لأنه ربطها بالمداد فلا تنتهي كلمات ربي ولو نفد البحر، الآية على فرض كلمة (قبل) ليس معناه ستنفد ولكن من باب الافتراض. لأن كلمات الله هي علم الله اللانهائي ومشيئته مطلقة علم الله لا ينتهي ولتقريب الفكرة للبشر قال لو انتهت البحار ما انتهت كلمات الله من باب التقريب أما كلمات الله لا تنتهي (لو كان البحر مدادا)