في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف
في رحاب سورة النور – 6
تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا
المقدم: توقفنا عند قول الله تعالى في الآية (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴿٣٦﴾ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴿٣٧﴾) لماذا بدأت الآية بالجار والمجرور (في بيوت)؟ وما المقصود بـ(رجال) ولماذا وصفهم بهذا الوصف؟
د. المستغانمي: (في بيوت) جار ومجرور متعلق بشيء، العلماء قالوا إما متعلق بما بعده وهو: يسبح لله رجال في بيوت أذن الله أن ترفع، ومعظم العلماء حسب البحث أن البيون هنا هي المساجد والرأي الثاني بعض العلماء يرجحون أن يكون الجار والمجرور متعلق بالمشكاة التي فيها مصباح، كأن التشبيه التمثيلي ما زالت توابعه مسمرة: المصباح يوقد في بيوت أذن الله أن ترفع وبالتالي نور الهداية يجنيه المسلمون من بيوت الله. أعطيك بعض الأدلة على أن البيوت هي المساجد، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف والسنّة مثل القرآن في التشريع: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة..” (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) ما هي البيوت التي أذن الله أن تُرفع؟ نذهب إلى سورة البقرة قال تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [البقرة: 127]. ما معنى (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)؟ أذن الله أن تُبنى وتُرفع، لو قال تُبنى تبني مترًا أو مترين يكفي لكن قال (أن تُرفع) تعظيم المساجد شيء عظيم برفعها حتى تزيين المساجد هذا يدخل ضمن تعظيم شعائر الله عندما نرفع بنيانها ونعتني بها نرفع شعائر الله، المسلم ينبغي أن يرتقي إلى قمم الإسلام الشامخة فهنا (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) يذكّرني بقول الله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ) إذ يبني ويرفع. لكن لو قال يبني لا تسد مسد يرفع لكن يرفع تسد مسدّ يبني ويرفع.
المقدم: البعض يقول هذا إشارة أن الأساس كان موجودًا فجاء إبراهيم وابته فرفعا البناء على هذا الأساس الموجود
د. المستغانمي: نعم هذه رواية صحيحة لكن سؤالي لم يقل “وإذ يبني إبراهيم” إشارة إلى البناء فالرفع وهنا قال (َذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)
المقدم: هل يأذن الله للناس برفع بيوت الناس؟
د. المستغانمي: المفسرون يقولون أذِن يعني أمر. أولًا قال (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) لم يقل (أمر) وفي التفاسير أذن بمعنى أمر والإذن من تقنيات السورة ونحن في سورة الاستئذان، من نفس العائلة المعجمية قال (أذن الله). ثانيًا عبّر عن المساجد بالبيوت وفي كل القرآن (مساجد) لأنه ورد ذكر البيوت في السورة وهذه سورة البيوت ولا يوجد سورة ورد فيها (بيوت) مثل سورة النور (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) في آية الطعام قال (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) هذا رحاب سورة النور، في سورة النور يحلو ويستقيم ومن الحكمة الربانية أن تسمى المساجد (بيوت)، في غيرها (وأن المساجد لله) في سورة البقرة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة: 114] لأن سورة البقرة فيها الحديث عن المساجد (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وعن السجود أما في سورة النور فالحديث عن البيوت.
المقدم: الله سبحانه وتعالى يقول (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴿٣٦﴾ رجال) الغداة أول النهار والآصال العشيّ نهاية النهار من بعد العصر. لماذا قال رجال؟
د. المستغانمي: (رجال) نكرة تنطبق على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وتنطبق على كل من يعمرون مساجد الله لو قال الرجال يقصد بهم الصحاة فقط، فكلمة (رجال) وصفهم أنهم رجال لا تلهيهم التجارة ولا الأموال عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهؤلاء يتصفون بأنهم (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) تتقلب فيه القلوب والأبصار هذا اليوم كناية عن الخوف والفزع يوم القيامة، يخافون ذلك اليوم العظيم، لا تشخص الأبصار، تتقلب فيه القلوب والأبصار.
(يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴿٣٦﴾ رجال) يسبحون في المساجد وفي البيوت يكثرون من التسبيح والتهليل والذكر. (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ) التجارة أن يتّجر الإنسان، التجارة بيع وشراء يربي أموالهم بالبيع والتجارة هذا التاجر قد يربح وقد يخسر ولكن استوقفني الوصف (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ) لم يقل شراء، التاجر يربح عندما يبيع، صفقة البيع يكسب مالا فمن باب أولى أن الشراء لا يهمهم، هؤلاء الصحابة أو اي أناس لا تلههم تجارة، هذه عامة، لو كنت تشتري شيئا وسمعت الأذان تقول أشتري بعد الصلاة لكن لو كنت بائعًا محترفًا والصفقة فيها مربح والزبون عندك والأذان يؤذن، البيع أكثر من عقل التجار يجلب لهم الأرباح لذلك إذا كان البيع لا يلهيهم فمن باب أولى لا يلهيهم الشراء. فالقرآن يبني الكلمات بحيث تفيد ثراء المعنى.
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ذكر الله القرآن (إنا نحن نزلنا الذكر)، التسبيح والتحميد والنهليل كلها ذكر.
المقدم: لماذا خصص الصلاة والزكاة وعادة ما تأتي مقترنتين ولم يتحدث عن الحج أو الصوم
د. المستغانمي: لأنه يتحدث عن المساجد، وأقرب الأشياء للمساجد الصلاة، المساجد بنيت الصلاة، لذلك هذه البيوت يسبح لله فيها ويعظّمه وينزهه رجال لا تلهيهم أموالهم (تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ)، عبّر عن الأموال بالتجارة والبيع وعبّر عن ذكر الله ووضّح شيئا من ذكر الله (الصلاة)
المقدم: خصّ الزكاة بالذكر لأنه ذكر في الآية مسائل مالية (تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ)
د. المستغانمي: لا تلهيهم عن إقام الصلاة وإذا كانت لديهم أموال يؤدون زكاتها والذي يحدوهم لهذا أنهم يخافون يومًا (يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (يومًا) نكرة، يومًا شديدًا عسيرًا (يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) كناية عن شدة الفزع والخوف، لم يقل (تشخص فيه الأبصار) مع أنها وردت في مواضع أخرى، قال (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) تتقلب وتدور من شدة الفزع. هنا ذكر تتقلب القلوب هذه حركة جسدية والأبصار تدور من شدة الخوف في الدنيا والآخرة. بعد قليل عندما يذكر الأدلة الكونية يقول (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) النهار يعقب الليل والليل يعقب النهار، في مواضع أخرى عبّر (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) و(يكوّر النهار على الليل) وهنا عبّر (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، تجاذب الألفاظ: تتقلب القلوب والأبصار – يقلّب الله الليل والنهار.
المقدم: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿٣٨﴾) ماذا تفيد هذه اللام؟
د. المستغانمي: لام التعليل ليجزيهم الله، يفعلون كل ما فعلوا لكي يجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق رزق القرآن رزق التقوى رزق المال لذي ينتهي عن التجارة وقت الصلاة هذا الله يرزقه بغير حساب.
المقدم: هنا الجزاء ليس من جنس العمل بل يجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله وبعدها والله يرزق من يشاء بغير حساب.
المقدم: الآية بعدها فيها صورة غريبة تتحدث عن الذي كفروا أعمالهم كسراب (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿٣٩﴾)
د. المستغانمي: هذا تشبيه تمثيلي ليس تشبيها عاديا، لو قال أعمالهم كسراب فهذا تشبيه عادي لكن قال (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) تصوير الخيبة والخيبة لا تصوّر في كلمة. لو قال أعمال الكافرين كسراب، قبل قليل تحدث عن أعمال المؤمنين وهنا التناسب يأتي بالبشارة ويأتي بالإنذار يأتي بأعمال المؤمنين ويأتي بأعمال الكافرين عندما تحدث عن أعمال المؤمنين وأنه يجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله كأن سائلا يسأل وما أعمال الكافرين؟ هناك إنسان كافر يبني المستشفيات وأنا كثيرون لهم عطاءات كبيرة لكنهم يجحدون وجود الإله ويجحدون لا إله إلا الله فقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ) وهذا يذكرنا بقوله تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴿٢٣﴾ الفرقانا) معناه كل ما عملواه هباء وهنا (كسراب). السراب في اللغة العربية عندما نكون في الصحراء في قافلة أو في سيارة وفي الجو الحار الشديد تأتي الرطوبة فترتفع فوق الرمال هي ظاهرة طبيعية تراها العين لكنها غير موجودة، المفسرون ذكروا هي عبارة عن رطوبة تعلو الرمال فيراها الماشي في الصحراء ولشدة تلهفه على الماء وهو ظمآن (يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ) ما قال يحسبه الإنسان، أعمالهم كسراب يحسبه الظمآن ماء يحسبه أي يظنّه الظمآن ما قال يحسبه الرآئي لكن الرائي للماء عطشان فازداد تشوقه للماء، أين يكمن السراب؟ (بقيعة)
المقدم: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً) يحسب من الأفعال التي تأخذ مفعولين يعني يحسب السرابَ ماءً
د. المستغانمي: القيعة هي المكان المنبسط (القاع) تشبيه تمثيلي ينتزع من متعدد (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) وثلّث (يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً) لم يقل يحسب الإنسان الماشي في الصحراء، الإنسان الذي يمشي في الصحراء يتلهف إلى الماء كما يتلهف الكافر يوم القيامة إلى عمل ينفعه فعندما يأتيه (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) بعد التمثيل جئنا إلى الواقع. أولًا قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ) يهمنا هنا الأعمال، ما قال “وأعمال الذين كفروا” ولكن لعنصر التشويق في التعبير قال (والذين كفروا) يتشوق السامع ويتساءل: ما شأنهم؟ ما بالهم؟ عن ماذا سيتكلم؟ عن اعتقادهم؟ عن زناهم؟ لا، عن أعمالهم. (الذين كفروا) عامة، ثم جاء يفصّل كأن السائل يتشوق لمعرفة ماذا يخبر عنهم، والذين كفروا أعمالهم بقيعة يحسبه الظمآن الماشي نحوه حتى إذا وصله المفترض أنه لا شيء ولكن هنا انقلب التعبير من التمثيل إلى الحقيقة (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ) انتقلنا إل يوم القيامة (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) على الشر لأنه كان كافرًا. هذا الإنسان الذي حسب السراب ماء عوض أن يجد الماء الذي يطفئ عطشه وجد عدوًا يريد أن يقتله ويأخذه فهنا انقلب التعبير من التمثيل إلى الحقيقة يوم القيامة (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) أعطاه الله حسابه لم يزده فوفاه حسابه الحقيقي الذي يستحقه (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). هنا تشبيه تمثيلي لخيبة الكافرين الشديدة يوم القيامة، كثير من الكافرين ينفقون بالملايين ويظنون أنهم يفعلون خيرا كثيرا هم ينالون جزاءهم في الدنيا لأنهم لم يعترفوا بأن الله هو الآمر وكل عمل خير لا بد أن تؤمن وتوحّد وأن تنتظر الجزاء يوم القيامة فالذين عملوا عملا ولم يصحب ذلك العمل ولم يصحب عملهم إيمان صحيح وعقيدة صحيحة فأعمالهم تذهب أدراج الرياح (فجعلناه هباء منثورا) هم عملوا خيرا يجنونه في الدنيا نسمع كثيرًا أكبر الأغنياء الذين لهم صيت وصولجان وعاشوا (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴿٢٠﴾ الإسراء)
المقدم: نأتي لصورة أخرى (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) الكاف للتشبيه، نفس الموضوع ولكن صورة أخرى
د. المستغانمي: (أو) تفيد التخيير: كذا أو كذا، وهي حرف عطف كأنه يقول أعمال الكافرين كسراب إن كنت من أهل الصحراء أعطيك مثال (كسراب بقيعة) وإن كنت من أهل البحر أعطيك مثال (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) يعطي أعمال الكافرين ويبين أنها لا تفيد
المقدم: وهذا لأهمية الموضوع فالمعلم عندما يشرح للطلاب يعطيهم المثال بعد المثال حتى يوصلهم إلى الذي يريد.
د. المستغانمي: في سورة البقرة يتكلم عن أعمال المنفقين (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴿١٧﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿١٨﴾ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٠﴾ البقرة) إن شئت شبههم بهذا أو بهذا، (أو) للتخيير في الوصف للقارئ والمتدبر. القرآن يشع بالإعجاز! كيف شبههم؟ أعمال الكافرين كسراب وفي سورة إبراهيم (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴿١٨﴾ إبراهيم) السؤال لماذا هنا قال كسراب وفي سورة إبراهيم (كرماد)؟ السراب يتناسب مع الإبصار مع النور في سورة النور، السراب تراه بالعين وسيرد في السورة في الآيات بعدها (لأولي الأبصار) أما الرماد فيتناسب مع النار وسورة إبراهيم ورد فيها كثير من مفردات النار (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ﴿١٦﴾ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴿١٧﴾ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴿١٨﴾) كثير من مفردات النار وقاموسها في سورة إبراهيم، وردت جهنم مرتين والنار مرتين وقطران والصديد والرماد، كلمات تتجاذب، ففي سورة إبراهيم قال (كرماد) وفي سورة النور (كسراب) وهذا من إحكام اللفظ القرآني فوصف الأعمال بالسراب في سورة النور أوقع وأحسن وأجمل.
المقدم: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ) والظلمات له علاقة بالإبصار كذلك
د. المستغانمي: شبّه أعمالهم بما يتناسق مع جو السورة. إذن (أَوْ كَظُلُمَاتٍ) ليس ظلمة، (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) عميق، اللجة عمق الماء في البحر، لجيّ أمواجه تتلاطم هناك المحيطات تكون عميقة إلى عشرة كيلومتر وفي المحيطات تتراكم الأمواج، ظلمة الموج الأول وظلمة الموج الثاني وفوقه السحاب والسحاب يحجب ضوء الشمس، ظلمات بعضها فوق بعض. إذن عندنا ظلمة الأمواج الباطنية وظلمة الأمواج السحاب كل هذا يغشي ويمنع ويحجب الأنوار من الشمس فيكون الظلام في المحيطات مغطشًا (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) أحيانا في شدة الظلام في الليل يمكن أن تخرج يدك تراها لكن هنا ظلام ليس معه إشعاع نور أبدًا. بعد أن وصف الظلمات ظلمة الموج فوقه ظلمة السحاب قال إذا أخرج يده ولم يقل ” لم يرها” قال (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) لم يقارب رؤيتها، (كاد) تفيد التقريب، من أفعال المقاربة لو قال إذا أخرج يده لم يرها، تعبير جميل لم يقارب رؤيتها هو كثير البعد أن يرى كأنه يقول من المستحيل (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) لم يكد المنفية لم يقارب رؤية يده إضافة إلى التجانس في السورة
المقدم: في شأن الظلمة قال (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) وفي شأن الإبصار والنور قال (يكاد زيتها يضيء)
د. المستغانمي: عندما عبّر عن إضاءة نور الله الذي بدون زيت بدون إيقاد يكاد يضيء عبّر عن شدة الإضاءة في نور الهداية والقرآن والإسلام عبّر عن شدة ظلام الجهل والشرك بأنه (لم يكد) وانظر إلى التناسق بين يكاد يضيء وبين لا يكاد يراها وقال فيما بعد (يكاد سنا برقه). في سورة النور: يكاد سنا برقه، يكاد يضيء، لم يكد يرها والسورة قبلها لم نرى فيها كاد، إذن القصد والحكمة في استعمال ألفاظ خاصة في ثوب خاص حكمة القرآن في التعبير وإعطاء كل سورة ثوبها التي تتميز به.
المقدم: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)
د. المستغانمي: هذه خلاصة كل ما سبق، إذا لم يرزقك الله نورا وإذا لم ينر قلبك بالقرآن والإسلام فما لك من نور، من لم يجعل الله له نور الهداية فإنه سوف يعيش في الظلام الدامس. المنطق اللفظي: ومن لم يجعل الله نورا فسوف يعيش في الظلام لكنه قال (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) نحن في سورة النور فسوّغ التعبير بالنور حتى مع الذي لم يجعل الله له نورًا. هو يتكلم عن الذي لم ينر طريقه، في غير القرآن: ومن لم يجعل الله له نورًا فهو في ظلام، قال (فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) رجّح التعبير بالأنوار ومفاها أفضل من أن يتحدث عن الظلام، هذه خلاصة التشبيه التمثيلي العظيم مع أعمال الكافرين. إذن حسن بعد وصف أعمال المؤمنين التي تستضيء بنور القرآن ونور الهداية والوحي ووصف بعد ذلك ضياع أعمال المشركين شبهها بالسراب وشبهها بالظلمات وهي كلها لا تنفع ولا تجدي فتيلا ولا نقيرا ولا قطميرا. (فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (ما) نافية ينفي عنه جنس النور، ليس لهم من النور شيء (فما له من نور) وجاءت نكرة ومنفية يعني أبدا لن يصل إلى قلوبهم شيء من النور.
———فاصل———–
المقدم: الله سبحانه وتعالى يقول (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿٤١﴾) ما علاقة هذه الآية بمحور السورة والحديث هنا عن تسبيح الله تعالى وعبادته؟
د. المستغانمي: العلاقة أن ما قبلها تحدث الله عن أعمال المؤمنين وكيف أنهم يسبحون لله سبحانه وتعالى وهذا هو الأصل الأصل أن الكل يسبح لله لأن الله تعالى خلقنا لنعبده (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴿٥٦﴾ الذاريات) (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴿٣٦﴾ رجال) إذن عندما تحدث عن المؤمنين الذين يسبحون لله ويعبدون ويقيمون الصلاة ذكر التسبيح، ذكر بعد ذلك أعمال الكافرين الذين تذهب أعمالهم أدراج الرياح ولا ينتفعون بها لأنهم لا يسبّحون ولا يؤمنون وكان الأولى بهم أن يفعلوا ذلك وهنا انتقل إلى أن يقول للكافرين انظروا إلى الخلق انظروا إلى السموات وإلى الأرض والطير كلها تسبح وهي غير عاقلة وكان الأولى أن تهتدوا بنور القرآن وبنور الهداية. (من) للعاقل و(ما) تفيد العاقل وغير العاقل. (من) يتحدث عن العاقل وأيضًا الطير.
المقدم: (من) تستعمل للعاقل لماذا استعملها هنا للطير؟
د. المستغانمي: للتغليب، الطير جنس آخر. تأتي على الجميع. (من) اسم موصول يفيد العاقل في الأغلب و(ما) تفيد العاقل ولغير العاقل (من في السموات) تنطبق على العقلاء: الملائكة وغيرهم لا نجزم (وما من دابة في السماء) نحن لا نستطيع ما ننفي بل نثبت ما أثبته القرآن وليس لدينا من الأدلة. وجه الارتباط أن المؤمنين يسبحون لله، أن المشركين والكافرين أعرضوا عن الإيمان وعن التسبيح، هنا فتح الله بابًا واسعًا (ألم تر) يا محمد الرؤية قد تكون بصرية وقد تكون علمية، هذا كلام العلماء والمفسرين يمكن أن تكون (ألم تر) رؤية عينية نرى الطير صافات الطير تسبح بحمد الله بأصواتها وبصفّها ويمكن أن تكون (ألم تر) رؤية قلبية (ألم تر) ألم تعلم (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) عامة كل شيء حيوانات أشجار كل شيء يسبح (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) كل الجماد كل الحيوانات كل المخلوقات تسبح ولكن كثيرا من الناس لا يسبحون. الآية تقول (ألم تر) والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتّى خطابه ألم تر أيها المفكر أيها العالم، أيها المثقف، أيها المشرك، الكافر، أن الكون كله يسبح؟ (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) تصفّها، هذه جملة جديدة، جنس الطير، (الطير) الألف واللام تفيد الجنس، بعض العلماء قال هي ليست في السموات وليست في الأرض وإنما بينها فلذلك ذكرها، هي تطير، ذكر أنواعا من المخلوقات التي تسبح والكواكب تسبّح والشمس تسبح وهنا قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وفي سورة الحج قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [الحج: 18] لأن الحديث فيها عن السجود وفيها سجدتان وفي هذه السورة سبق الحديث عن التسبيح (يسبح له فيها بالغدو والآصال) فناسب ذكر التسبيح. والمخلوقات تسبّح وتسجد لكن البيان القرآن يختار الأنسب مع كل سورة.
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (كلٌ) تعود على كل المخلوقات، من الذي علم صلاته وتسبيحه؟ لها معنيان: كل جنس قد علم صلاته وتسبيحه وكل قد علم الله صلاته وتسبيحه، القرآن حمّال، ما دام الجملة تحتمل قال العلماء كلٌ من الأجناس السابقة علم صلاته وتسبيحه وكلٌ قد علم الله صلاته وتسبيحه. (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) وأضاف (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) القياس كان يقول: ألم تر أن الله يسبح له – كلٌ قد علم تسبيحه” لكنه قال (صَلَاتَهُ) لأن الصلاة تعود على العقلاء بالدرجة الأولى والتسبيح عام لكل المخلوقات الصلاة دعاء والدعاء يكون للعاقل والتعقيب (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) لم يقل بما يعملون لأن يفعلون عامة، الشمس تفعل والطير يفعل والشجرة تفعل لكن العمل خاص بالإنسان، العمل خاص بالعاقل والفعل عام. الفعل عام والعمل هو للتأثير وهو خاص والصنع أخص لم يقل عليم بما صنعون بينما في غض البصر قال (صنع الله) لأن الإنسان يحذق في البصر، ما أجلّ هذا الكلام!
المقدم: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴿٤٣﴾) ما المقصود بالآية؟
د. المستغانمي: ما زلنا مع التنبيه إلى دلائل الوحدانية ودلائل الخلق وعظمة الخلق وعظمة صنع الخلق (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿٤٢﴾) كثيرا في القرآن (لله ملك السموات والأرض) هنا إنسان يملك قلما، بيتا، سيارة، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿٤٢﴾) هذه آية عجيبة نمر عليها مرة يقول (لله ما في السموات والأرض) يملك ما في السموات والأرض والعلم الآن عن طريق التلسكوب وجدوا ملايير المجوم والكواكب والنجوم فتطامن أيها الإنسان، هذا ملك ربك! ماذا نملك نحن من الدنيا؟! لا نملك حتى النفس الذي نتنفسه ومع ذلك يتلطف الله بنا وينعم!
(ألم تر) الحديث ما زال موجهًا للرؤية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) ألم تر أيها المخاطب أن الله يزجي سحابا والإزجاء هو سوق السحاب والرؤية هنا تتسق مع النور وقد تكون بصرية أو علمية. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي) يزجي أي يسوق السحاب عن طريق تسخير الرياح التي تدفع السحاب وعندما تأتي قطع تتآلف يجعله ركامًا وثمة سحاب موجب وسالب عندما تلتقي يحدث البرق بعد الركام يأتي البرق والودق هذه الآية محملة بعناصر كونية عجيبة، طبيعة فيها سحاب يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ركاما أي متراكما والركم في اللغة العربية هو الجميع والتجميع بحيث يتراكم نقول يتراكم ونقول سحاب مركوم، سحاب مركوم بمعنى اسم مفعول وفي سورة الطور قال (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴿٤٤﴾ الطور) (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) الودق هو المطر جاء التعبير عن المطر بالودق في سورتين في سورة النور وفي سورة الروم (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿٤٨﴾ الروم) لا أستطيع أن أقول لماذا الودق دون المطر؟ لماذا؟ سأبحث شخصيا عنها لكن عندما تحدث عن نوعين من أنواع السحاب ذكر الودق: ذكر الله هنا السحاب الركامي. الذين يدرسون الجو وعلم الأرصاد الجوية يفرّقون بين أنواع السحاب، ذكر الله هنا نوعين عظيمين ينقسم إليها السحاب: السحاب الركامي الجبلي تراه يتراكم كالجبال أحيانا يتراكم عشرات الكيلومترات والذين يسافرون بالطائرة يرون السحاب الركامي. ولدينا في الحياة السحاب البساطي (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ) في سورة الروم. ذكر الله كلمة الودق مع السحاب الركامي والسحاب البساطي لماذا؟ تحتاج إلى بحث.
(مِنْ خِلَالِهِ) الخلال هنا الثقوب، خلال جمع خلل، جبال جمع جبل في اللغة العربية، ترى الودق يخرج من فتوقه الصغيرة وينزل من السماء من جبال من برد كأنه يقول وينزل من السماء ليس منها كلها وإنما من جبال فيها، من الغيوم التي تأخذ أشكال الجبال من برد فيصيب به من يشاء. ينزل ماذا؟ ينزل بردًا من جبال فيها برد. وأثبت العلماء المتخصصون في علم الطبيعة والسحاب أن البرد لا ينزل إلا من السحاب الركامي لأنه يتكون في مرتفعات، السحاب يتكون من بخار وعندما يكون البخار في طبقات الجو قد يتراكم وينزل الماء فورا ويذوب وكلما ارتفع تكون البرد لأنه كلما ازداد الارتفاع ازدادت البروةد, العلماء يقولون أن البرد لا ينزل إلا من السحب الركامية وأما السحب البساطية لا ينزل منها برد! من علّم محمدا صلى الله عليه وسلم وهو لم يخرج من مكة ولم تتجاوز قدمه غار حراء وهذا أكبر دليل أن القرآن من عند الله والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف السحب الركامية ولا البساطية وعاش في صحراء كلها حرارة وأتى بكلمات دقيقة عجيبة، إنه القرآن (قل نزله الذي يعلم السر )
المقدم: ما مناسبة قوله تعالى (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)؟
د. المستغانمي: البرق يحدث مع السحاب الركامي عندما يحدث لمعانًا – هكذا قرأتها في التفسير – هو البرق يكاد يأخذ الأبصار، هو البرق ظاهرة كونية عجيبة يحدثها الله سبحانه وتعالى أولًا لأشياء علمية أنا لا أستطيع أن أشرحها وأيضًا للإخافة وردت في سورة البقرة (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) هذا في المثل الذي ضربه للمنافقين فعبّر أنهم يعيشون في الظلام عندما يأتي البرق أنار الله طريقهم وإذا ذهب البرق يعيشون في الظلام انغمسوا في الظلام، مثل للمنافقين. وهنا قال (سَنَا بَرْقِهِ) السنى الضوء، سنى (بالألف المقصورة) الضوء، السناء (بالهمزة) بمعنى الرفعة والسمو، (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) يعني ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) لشدة الإضاءة، وفي سورة البقرة لا يوجد سنا (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) سورة النور أولى أن يذكر فيها سنا، لأن سنى هي الضوء والنور يتلاءم، سورة النور جمع فيها كل الكلمات التي تفيد الإنارة والإصباح: المشكاة، المصباح، كوكب، دري، يضيء، قاموس! ظلمات معاكسة للنور. في سورة النور قال (يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) أما في سورة البقرة تحدث عن المنافقين (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) قال يخطف لأن الحديث عن المنافقين الخطف يتناسب مع سلب النور من المنافقين وأما في سورة النور فظاهرة كونية عجيبة يشرحها القرآن في سورة النور فخخفها على المؤمنين وهو يتحدث عن ظاهرة قرآنية عجيبة قال يذهب (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ).
(يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴿٤٤﴾) عبرة لأولي الأبصار ولأولي البصائر، انظر إلى التناسق والإيقاع! بينما عندما تحدث عن المنافقين قال (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) لم يقل يخطف الأبصار وإنما قال أبصارهم هم، عندما تحدث عن قوم قال أبصارهم ولم يقل الأبصار وهنا جنس الأبصار تستفيد من والضياء (يكاد يذهب) وهو لا يذهبها بإذن الله إلا لمن شاء جلّ جلاله.
المقدم: ذكر الله الليل والنهار وتقلب الليل والنهار ولم يقل يولج الليل في النهار والمفردات الأخرى التي وردت في القرآن نقف عندها في الحلقة القادمة إن شاء الله.
https://www.youtube.com/watch?v=Lthy_gd5lCc&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5&index=1