في رحاب سورة

في رحاب سورة الشعراء – 9 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 9

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: توقفنا عند انتهاء القصص القرآني في سورة الشعراء وآخر قصة كانت قصة شعيب عليه السلام مع قومه. وتختتم كل قصة بقول الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)) ثم دخلنا في موضوع جديد له ارتباط بالسورة (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192))

د. المستغانمي: لما انتهى القصص القرآني الذي جاء في سورة الشعراء وهو قصص موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب بعد أن ذكرت سورة الشعراء قصص هؤلاء مع أقوامهم الذين كذّبوهم هنا عاد السياق إلى أصل السورة , قد تقول ما العلاقة بين قوله (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بالقصص؟ هنا عودة لموضوع السورة ، موضوع السورة الأول (طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) تلك المعجزة اللفظية البلاغية المعجزة البيانية العقلية الخالدة (إنه) الضمير الهاء يعود على القرآن بدأ الله تبارك وتعالى يفصّل في معجزة محمد صلى الله عليه وسلم كأن قائلا يقول: إذا كان الله رزق موسى عليه السلام العصا واليد البيضاء ورزق صالحًا الناقة فما المعجزة التي أيد بها محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ قال: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (وإنه) ترفع شأن القرآن، الهاء تعود على غير مذكور لكنه معهود في الأذهان، الكل كل المخاطبين يعلم أن القضية قضية القرآن.

هنا قال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)) وقال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر) وقال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) تتنزل في ليلة القدر وهنا قال (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) أنزل الله القرآن وكلّف جبريل أمين السماء أن ينزله على قلب محمد أمين أهل الأرض صلى الله عليه وسلم , من البداية ما قال (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) ، وإنما قال (وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لأننا في سورة الشعراء تعرّفنا على من هو رب العالمين ، نوح سأل واستنكر (وما رب العالمين) وأجابه موسى وأجاب باقي الأنبياء والله عز وجلّ يجيب في سورة الشعراء (و وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). في سور أخرى في فصلت (تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) في غافر(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ما يضاف من أسماء مقصود لأنه يتردد في السورة وبنيت عليه السورة وهنا السورة بنيت على (رب العالمين)، حتى الأنبياء والمرسلون كانوا يقولون (إن أجري إلا على رب العالمين) في سور أخرى قالوا (إن أجري إلا على الله) في سورة هود (إن أجري إلا على الذي فطرني) لكن هنا (إن أجري إلا على رب العالمين).

(تنزيل) مصدر، نزّل تنزيلا، فعّل تفعيلا، (تنزيل) هو يتحدث عن المنزَّل، القرآن منزّل، اسم مفعول، أشار إليه بـ(تنزيل) لمبالغة وصفه بالتنزيل، هو أوقع المصدر بدل اسم المفعول كأنه يقول: وإنه منزّل تنزيلًا من رب العالمين للمبالغة منزّل تنزيلا ولا دخل لمحمد في كلمة لا بل في حرف، كله تنزيل، عبّر عن المنزّل بالتنزيل: إنه منزّل تنزيلا من رب العالمين، فيه مبالغة.

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) هذا شرحٌ للتنزيل، نتساءل: كيف نزل؟ نزل به أمين السماء على أمين الأرض فوصف أمين السماء (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ). في سورة القدر (تنزل الملائكة والروح) لم يقل هنا الروح الأمين لأن الأمر لا يتعلق بالأمين، ليلة القدر يتنزّل الروح لم يصفه في ليلة القدر، بينما في سورة البقرة والمائدة يصفه (روح القدس) هنا وصفه بالأمين لأن الأمر يتعلق بالرسالة والرسالة تقتضي الأمانة والصدق وهو أأمن من أن يعبث بالرسالة أو يزيد أو ينقص في القرآن، كلّفه الله بالرسالة وبتبليغها لمحمد صلى الله عليه وسلم وتبلغيها للأنبياء والرسل السابقين وكان أمينًا فوصفه جبريل بالروح الأمين هو إشارة إلى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمين أيضًا لأنه في سورة الشعراء كل الأنبياء قالوا لأقوامهم (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) فيتناسب وصف جبريل بالأمين. بينما في سورة البقرة تحدثت عن التقديس (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فناسب وصف جبريل بروح القدس وسورة البقرة فيها حديث عن التطهير (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ) الطهارة في سورة البقرة كثيرة فيناسبها روح القدس، لا بد أن تقرأ السورة حتى تعرف اللفظة الدقيقة التي تناسبها والله عز وجلّ أعطانا كل الألفاظ الدقيقة. إذن الأمين هو وصف الروح والروح هو جبريل عليه السلام.

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) على قلبك ليوضح القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، القلب هو الذي يستقبل، القلب هو الذي يعقل وهو الذي يفهم (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) القلب هو الذي يدرك، صحيح العقل فيه الخلايا وفيه المخ وهناك علاقة وطيدة بين العقل والقلب، العقل يعي والقلب يدرك ويتحكم في كل الجسم، هو ملك الجسم لذلك (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) هو يتحكم حتى في الدماغ. (عَلَىٰ قَلْبِكَ) أي لم ننزله على خيالك وإنما على قلبك الحقيقي والرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصف كيف كان يتلقى الوحي في الحديث الذي رواه الشيخان ورواه عدد من مخرجي الحديث ، عندما سأله الصحابي هشام بن حزام كيف كان يأتيك الوحي يا رسول الله؟ قال: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانًا كان يغطه غطًا كما قال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ، وفي حديث صحيح آخر قال: إن روح القدس نفث في روعي “في عقلي وفي وجداني” بأن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها. طريقة نزول الوحي كثيرة هنا قال: (على قلبك) لأن القلب هو الذي يعي فكان محمد صلى الله عليه وسلم يعي الوحي ولا ينساه ولا ننسَ قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ).

قال (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) الإنذار، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المرسلين واختص الإنذار للتعبير عن الرسالة لأن خصوصية السورة من أولها إلى آخرها إنذار وبيان ما لحق الأقوام من العذاب لأنهم كذبوا وأعرضوا واستهزأوا برسل الله فخصّ من أوصاف رسول الله الإنذار. هناك سور كثيرة فيها التبشير (بشيرا ونذيرا) وفيها ذكر للجنات وفيها وعظ للقلوب وفيها استمالة بوصف الجنات مثل سورة الواقعة (وأصحاب اليمين).

وقال (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) ما قال لتكون منذرًا، (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾) لو قال لتكون منذرا بلسان عربي تكلم عنه وحده لكن قوله (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بلسان عربي) أي شعيب وصالح واسماعيل هؤلاء الرسل الذين تحدثوا باللغة العربية (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾) كما فعل شعيب الذي سبقت قصته وقصة صالح، الرسل الذين نطقوا باللسان العربي هم شعيب وصالح وإسماعيل وهود ومحمد صلى الله عليه وسلم فناسب (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾)

(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) مبين يعني واضح وهذا سر الإعجاز في القرآن. الله سبحانه وتعالى وصف القرآن بأنه لسان بأنه لغة عربية واضحة فصيحة بليغة لم يستطيعوا ولن يستطيعوا مهما حاولوا أن ينسجوا على منوال القرآن! فإن كان صالح قد أوتى الناقة وإن كان موسى قد أوتي العصا واليد فأنت يا محمد صلى الله عليه وسلم قد أوتيت معجزة عقلية بلاغية خالدة. أين ناقة صالح الآن؟! رآها من رآها وذهبت، ونحن نؤمن بها لأنها ذُكرت، أين يد موسى عليه السلام؟ أين العصا؟ كل المعجزات انتهت لكن معجزة محمد مستمرة فهي معجزة عقلية لغوية فلذلك من أراد أن يعقل معاني القرآن ودلالاته وأن يفهم عن الله تعالى ماذا يريد فعليه أن يقرأ هذه اللغة التي من طريقها يُفهم كلام الله.

لا زال الحديث عن القرآن (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)) هذا تنويه ورفع آخر للقرآن, (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) لها معنيان: أنه عندما بشّرت الكتب السابقة بمحيء محمد صلى الله عليه وسلم قال بشروا بمجيء نبي اسمه أحمد اسمه محمد ويؤيده الله بكتاب، هذا ذكر قولًا واحدًا. أيضًا من حيث المعاني معانيه هي ذات المعاني التي في الكتب السابقة وهو التوحيد فما دعا إليه موسى هو التوحيد، ما دعا إليه إبراهيم هو التوحيد ما دعا إليه عيسى هو التوحيد ونبذ الشركاء، كل الكتب دعت إلى العقيدة الصحيحة وإلى نبذ الشرك ونبذ الشركاء وتوحيد الله وعبادة الله وإلى التقوى كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الشورى (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) شرع لكم ما شرع لهم، إذن مضمون القرآن هو من نفس مضامين الكتب السابقة من مشكاة واحدة إلا أن القرآن معجز ببنائه، بنظمه، ببلاغته، الكتب السابقة كانت معجزة بمعانيها ومضامينها لا بألفاظها والدليل على أنها حرّفت وتغيّرت أما القرآن فباق خالد إلى يوم القيامة.

(أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)) حدد بني إسرائيل لأن بني إسرائيل كانت لهم هيمنة وكان لهم حضور قوي في الجزيرة العربية وخصوصًا في المدينة المنورة، في خيبر وتبوك، كانوا من أهل كتاب موسى عليه السلام، هم دائمًا كانوا يقتدون بهم حتى إنهم بعثوا نفرًا من قريش إلى المدينة ليسألوا أحبار اليهود وسألوهم عن الرجل الذي بُعث فيهم فقالوا لهم: اسألوه عن الفتية، اسألوه عن الروح، اسألوه عن ذي القرنين فإن أجابكم فهو مرسل وإن لم يجبكم فهو رجل متقوّل، كانوا دائمًا يستشهدون باليهود، بأهل الكتاب، ببني إسرائيل، هم يعرفونهم. (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً) عندما أسلم عبد الله بن سلام وإن كان العلماء متفقون على أن سورة الشعراء مكية لكن هو يخاطبهم والقرآن ينطبق، عندما أسلم كثير من اليهود كانوا يعلمون أن محمد مرسل ووحدوا في الأدلة من التوراة في كتبهم ما يؤيد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

(أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً) (آية) خبر كان (أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) هذا المصدر المأوّل اسم كان، من هم علماء بني إسرائيل؟ يسميهم القرآن عادة (الأحبار) لكن ما قال هنا الأحبار لأن السورة ركزت من البداية (أرسل معنا بني إسرائيل) حتى يتناسق التعبير عبّر عنهم بعلماء بني إسرائيل ولم يذكرهم باسم الأحبار.

الله عز وجلّ يقول (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ﴿١٩٨﴾ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿١٩٩﴾) هنا الترقي في المحاججة،  يترقى في محاججتهم قال لهم في البداية (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾) ثم (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴿١٩٦﴾) ثم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٩٧﴾)، لماذا كل هذا الإنكار؟! (ول وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) أعطاهم دليلًا آخر (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) هل أنتم تريدون إعجازا؟َ قالوا: محمد لغوي وفصيح وعربي وجاء القرآن على يده. لو نزلناه على رجل أعجمي وهو لا يحسن اللغة ما كانوا به مؤمنين كانوا مصرّين على عدم الإيمان، أنت تأتيهم بآية أم لا تأتيهم هم مصرّون على عدم الإيمان.

قريش كانوا يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بعض الأعاجم (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) القرآن كلام الله أنزله على رجل عربي فصيح من قريش “أنا أفصح العرب بيد أني من قريش” لكن هو يجاريهم في المحاججة (لو نزّلناه) (لو) تفتح باب الجدال، (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) ألا يكون ذلك معجزاً؟! لو أن أحدًا من غير العرب ويأتي بكلام من نوع هذا الكلام العظيم يكون معجزة كان الأولى بهم أن يؤمنوا، قال (مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) دليل على إصرارهم فلا تحاول يا محمد.

قال (الأعجمين) ما قال أعاجم، أعجم – أعاجم، أعاجم وأعجمي هنا (أعجمي) أخضع على وزن أفعل لإيقاع السورة (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)) كل السورة فاصلتها (النون) وثانيا يمكن أن يكون نسق تعبيري تتميز به السورة (واتبعك الأرذلون) وفي سورة هود قال (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) هنا خضّع أرذلين، وهذا يسمى جمع السلامة للإيقاع العام للسورة والأعجم هو الذي لا يحسن اللغة العربية.

لا يزال الحديث عن القرآن (كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)) كذلك السلوك، كذلك الفعل سلكناه، شبّه إدخال القرآن في قلوب القرشيين وبيان القرآن في هذه الفصاحة الراقية العجيبة ومع ذلك لم يؤمنوا فقال (كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) مثل ذلك السَلْك أدخلناه في قلوبهم نظرًا لغرابة ما أتوا ونظرًا لغرابة استجابتهم كان الأوْلى بهم وهم الفصحاء البلغاء أن يعلموا أن هذا الكلام منزّل من الله، كذلك السلوك الغريب سلكناه في قلوب المجرمين، المجرمون هم المشركون عبّر عنهم بالمجرمين هنا لم يقل كذلك سلكناه في قلوب المشركين، المشركون الذين يعرفون اللغة العربية وهم أرباب اللغة العربية ولا يؤمنون بأن هذا القرآن إعجاز عجيب من الله هم في الحقيقة أجرموا في حق أنفسهم وفي حق ذريتهم.

في سورة الشعراء عبّر عن الفعل بصيغة الماضي (كذلك سلكناه) وعبّر عنه بصيغة المضارع في سورة الحجر (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴿١٢﴾) لأنها أتت بعد قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ﴿١٠﴾ الحجر) لو قال كذلك سلكناه في الماضي وأرسلنا في شيع الأولين تنطبق عليهم فحوّلها إلى المضارع لتنطبق على المشركين (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ) أما هنا لم يتحدث عن مجرمين معينين وإنما قال (وإنه لتنزيل رب العالمين) ثم قال (كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)) (حتى) لانتهاء الغاية، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب، الآية تصور إنكارهم الشديد وإصرارهم على الشرك والكفر وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿٢٠٢﴾ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ﴿٢٠٣﴾) بعد وصول العذاب يندمون الندم الأسود ويقولون هل نحن منظرون؟ هذا استفهام يراد منه التمني والتمني لا يقع، هل نحن منظرون؟ يا رب أعطنا وقتًا من الزمان مليّا طويلًا حتى نعود إلى الدنيا ونؤمن من جديد. فهو سؤال حيث لا ينفع الندم!

(أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿٢٠٤﴾) هنا الله عز وجلّ يتكلم عندما جاءهم العذاب يستعجلون؟ السؤال هنا مبني بطريقة عجيبة: أفيستعجلون بعذابنا؟ بناء الجملة أصلها: أفيستعجلون الفاء عاطفة وهمزة الاستفهام، يستعجلون بعذابنا، والله عز وجلّ قال (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) للاهتمام بهذا العذاب، هم لإنكارهم الشديد في السيرة كان أحد المشركين يقول يا محمد إلى متى وأنت تقول لنا سيأتيكم العذاب؟! فائتنا به! فالله عز وجلّ يقول (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) وعندما يقولون فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، السؤال إنكاري تعجيبي، أفبالعذاب يُستعجل؟! والله العذاب ليس من شأنه أن يُستعجل، الإنسان يستعجل على شيء يسرّه، على شيء يفرحه، أفبالعذاب يستعجلون؟!! وأضافه إلى ذاته العلية (أفبعذابنا) العظيم يستعجلون؟! هم لا يعرفون ماذا يفعلون.

الفاء هنا في (أفبعذابنا) (أفرأيت) الفاء عاطفة وأيضًا تفرّع ما بعدها على ما قبلها، لما يأتيهم العذاب يقولون (هل نحن منظرون) يقول لهم أفبالعذاب كنتم تستعجلون؟! فهي عاطفة وفي الوقت نفسه يعجّب من أمره الذين يستعجلون العذاب وكان الأحرى أن يستعجلوا بشيء يسرّهم ويفرحهم.

(أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)) (أفرأيت) بلغة القرآن أخبرني، أفرأيتم أخبروني هل تستطيعون أن تفعلوا كذا وكذا؟ فالله تبارك وتعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)) إن متعناهم سنين عددًا ثم جاءهم العذاب هل يغني عنهم ما كانوا يمتعون؟! هنا (ما) تفهم بالوجهين: إما استفهامية، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون؟! استفهام استنكاري أو ما أغنى عنهم ما كانوا يمتّعون شيئا، نافية، إما أن نقول: ما يغني عنهم الذي كانوا يمتعون لا يغني عنهم شيئا (شيئا مفعول به محذوف) أو ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون؟! هل أغنى عنهم شيئا؟! (ما) استفهامية أو نافية تأتي على الوجهين.

————-فاصل————–

(وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)) فيه تأويل، عندما نقول ما أهلكنا من قرية إلا لها منذورن، ما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال أن لها منذرين، استثنى، يريد جلّ جلاله أن يقول ما سلّط الله العذاب على قوم إلا وقد جاءهم رسول، المعنى واضح، ما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال لها منذرون الله سبحانه وتعالى لا يهلك القرى إلا بعد أن يرسل لها رسولا يعلمهم ويرشدهم، هكذا يكون استثناء حقيقيًا.

إذا جاء الإنذار ولم يتعظ الناس فيكون سببًا للعذاب خصوصًا إذا جاءتهم المعجزة الحسية الكونية. المسلمون وغير المسلمين المخاطبون بالقرآن الله سبحانه وتعالى لم يرسل معجزة حسية بيد محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي أمهلهم، لكن القرى السابقة عندما طلبوا المعجزة الحسية وأتاهم موسى بكذا وأتاهم هود بكذا ولوط استأصلهم.

(ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)) ذكرى بمعنى مذكّرين، تذكرة. (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)) هذا خبر لمبتدأ محذوف. لها معنيان في النحو: إما هذه ذكرى وما كنا ظالمين على شاكلة (هذا بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) أصلها هذا بلاغ، هنا: هذه ذكرى وما كنا ظالمين أحدًا. أين المفعول به للظالمين؟ ولا يظلم ربك أحدا (وما كنا ظالمين)

المعنى الثاني: تكذيرا، الذكرى هو اسم للذكرى كأنه يقصد الاسم ويقصد المصدر، نقرأ: وما أهلكنا من قرية إلا ولها منذرون يذكرونها تذكيرا وما كنا لنظلمهم, يذكرونهم ذكرى لا تذكيرا (اسم ذكرى) لكن أنا أميل إلى أنه خبر لمبتدأ محذوف، نقرأها [وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون- هذه ذكرى- وما كنا ظالمين]. لما تقرأ أن الله عذّب قوم عاد وقوم ثمود وعذّب قوم لوط، أنذرهم كثيرا فلم يتعظوا فلا تقل العذاب كان قاسيًا، لا، هم استحقوه عن جدارة. (وما كنا ظالمين) معطوفة على (ذكرى) كأنه يقول: نذكّركم ولا نظلمكم.

(وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)) عودة إلى القرآن. القرشيون المشركون قالوا في سورة القلم اتهموه بأنه كاهن وشاعر ومجنون (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) هم وصفوه بأنه كاهن، الكاهن هو الذي يقول عادة أنا آتي بخبر السماء والشياطين تتنزله، سورة الشعراء ذكرنا لماذا سماها الله سورة الشعراء، صحيح ورد فيها ذكر الشعراء في آية في النهاية لكن الشعر كان البضاعة الرائجة في عهد العرب وفي عهد نزول القرآن، حتى لا يلتبس القرآن بالشعر قال (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) وهنا قال (والشعراء يتبعهم الغاوون) عندما فنّد أن يكون القرآن من الشعر وأبطل أن يكون القرآن شعرا وأبطل أن يكون كهنوتًا فقال (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ). ثمة اقتران بين الكهانة والشعر، الكهان يدّعون أن الشياطين تنزل إليهم بالأخبار والشعراء يقولون لهم شيطان شعر فقبل أن يأتي بالضربة القاضية لينفي الشعر نفى عنه الكهنوت، هم يعلمون أنه ليس بكاهن والدليل (وما تنزلت به الشياطين) هذا كلام نوراني وما يستقيم وما يصح وما يستطيعونه لو أرادوه هذا كلام منزّل، وما ينبغي لهم أن يأتوا بمثله، وما يستطيعونه، نفى عنهم نفيًا قاطعًا، الشياطين تنزّل على كل أفاك أثيم (إنهم عن السمع لمعزولون) الشياطين في عهد النبوة محمد صلى الله عليه وسلم منعت منعًا قاطعا، من استرق السمع يتبعه شهاب ثاقب الكاهن يكذب مائة كذبة ويكون أفاكًا دجالًا ثم يغري الناس. محمد صلى الله عليه وسلم تعرفون أخلاقه فلا يصدر هذا منه.

(فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)) هذا صلب رسالة الإسلام ، طبعًا محمد صلى الله عليه وسلم لا يدعو مع الله إلهًا آخر، جاء بالتوحيد فكيف يدعوهم إلى إله آخر؟! إنما الخطاب له ولأمته جميعًا وللمشركين فكأنه لا تدعُ فتكون من المعذبين وأنتم أيها المشركون لا تدعوا مع الله فتكونوا معذّبين حقًا وصدقًا فهو يعرّض بالمشركين ويدعو أهل الإيمان إلى التوحيد.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)) أنت منذر لجميع البشر بلسان عربي مبين ولكن خصّ أهلك بالموعظة أيضًا، عندما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئا وإنما هي رحم أبلّها ببلاها أو كما قال صلى الله عليه وسلم. (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الأقربين ثم الذين يلونهم ثم توسع لكن هو رسول إلى العالمين.

(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)) عامل المؤمنين معاملة حسنة وتواضع مع المؤمنين واخفض لهم جناجك هذه  كناية عن التواضع وعن حسن المعاملة مع المؤمنين كما قال مع الوالدين (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) عاملهم معاملة حسنة، الوالدان يستحقان المعاملة الحسنة والمؤمنون يستحقون المعاملة الحسنة.

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216))عليك البلاغ كما فعل الأنبياء السابقون وقل إني بريء مما تشركون، لا تشترك معهم بشيء.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)) لم يقل وتوكل على الله وإنما على العزيز الرحيم، هذه اللازمة (العزيز الرحيم) تكررت 9 مرات، 8 مرات (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أتى بها مؤكّدة وإن ربّك يا محمد لهو العزيز الرحيم فتؤكد في العقل في الوجدان في النفس ثم قال له (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) هو عزيز ينصره، رحيم يسوق لك من الأدلة لكي يؤمن قومك لكن إن لم يؤمنوا فأنت توكل عليه فهو كافيك بإذن الله.

(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)) هذه رؤية عناية، لما تقرأ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴿٢١٧﴾ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ﴿٢١٨﴾) هل الله تعالى لا يرى الناس الآخرين؟! بلى، هو يرى جميع الخلق لكن هذه رؤية خاصة كأنه يقول: الذي يراك بعناية خاصة وتقلبك في الساجدين، توكل عليه كما قال لموسى (إنا معكم مستمعون) (إنني معكما أسمع وأرى) وقال في سورة الطور (فإنك بأعيننا) فقال له هنا: توكل على الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ذكر أحسن مقامين: مقام القيام (وقوموا لله قانتين) ومقام السجود وأقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)) سميع لأقوالك عليم بما في قلبك وفي خواطرك فتوكل عليه وأسند الأمر إليه تجد أقرب إليك.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)) هذا مواصلة الحديث في البداية قال (وما تنزلت به الشياطين) ثم قال (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) الشياطين لا تتنزل على مثل محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين ذي الأخلاق العظيمة (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) كثير الكذب كثير الإثم، هذا النوع لا على مثل محمد، وكلها صيغ مبالغة: أفّاك من فعّال، أثيم فعيل من الإثم. (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) لكن هنا أتى في صيغة سؤال (هل أنبئكم) بما معناه في غير القرآن هو طلب الإذن، أنا الآن أشرح لك شيئا وأنت لا تريد أن تفهم هذا الكلام، أقول لك هل تسمح لي بأن اشرح لك؟ هذا كلام سيكون فيه ما يضرّك، (هل أنبئكم) هو لا يسألهم، سؤال يفخّم المستفهَم عنه يقول لهم من شأنه أن يسوءكم، وأن يضركم لو كان سؤالًا حقيقيًا لا يجيب، هو سأل وأجاب (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ﴿٢٢١﴾ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿٢٢٢﴾) إذن السؤال صوري يريد أن يبين لهم بأن الجواب سيسوؤهم (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿٢٢٢﴾ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿٢٢٣﴾).

(يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿٢٢٣﴾) هم في الحقيقة يسمعون لكن فرق بين يسمعون ويلقون السمع، عندما تسمع تلقي السمع تقرّب أذنك ناحية السمع لتصوير شدة حرصهم، الكهّان يدّعون أنهم يسمعون الشياطين، هذا كلام فارغ وكذب (يل يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿٢٢٣﴾).

(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)) انتقل الآن إلى نفي الصفة الثانية ، نفى عنه الكهنوت ونفى عنه الشعر. (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) وفي قرآءة يتبعهم الغاوون. الغاوون هم الذين يكونون في ضلال شديد، إذا كان الذين يتبعونهم غاوين فما بالك بالمتبوعين؟! لا شك أنهم أشد غواية فهو من باب أولى الشعراء، لكن أيّ شعراء؟ الشعراء المشركون الذين كانوا يهجون الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ابن الزبعرة، النضر بن الحارث، الذين هجوا الإسلام فهؤلاء يتبعهم الغاوون ثم وصفهم وصفًا يزري بهم (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)) هنا شبههم -والعياذ بالله- بالإبل الحائرة التي تهيم في الأودية على وجهها تتردد بين العدوة والأخرى في الوديان، الإبل عندما لا تجد الكلأ في الرُبا وفي السهول تذهب إلى الأودية ضالة متحيّرة (ألم تر) سؤال تقريري (أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)) كاذبون (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)) (إلا المؤمنين) الشعراء صنفان: المشركون الذين كانوا يدافعون عن الشر وعن الباطل وعن الشرك هؤلاء تنطبق عليهم (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) لهم شياطين تدعوهم إلى الشرور، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات مؤمنون الإمام الشافعي كان شاعرًا، علي بن أبي طالب كان شاعرًا، حسان بن ثابت كان شاعرًا كان يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: اهجهم ومعك روح القدس، وقع كلامك أشد من وقع النبال. فإذا كان الشاعر مسلمًا يدافع عن الحق والعدل والإسلام فهذا شاعر عظيم.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) سيعلم الذين ظلموا لما قال (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) أتى هذا التذييل النهائي هذا آخر إنذار في السورة وسيعلم المشركون الظالمون أيّ منقلب ينقلبون، سينقلبون منقلبًا سيئًا، ما ذكره وإنما فخّمه وأبهمه (أيّ منقلب) مُبهم لتذهب النفس كلّ مذهب في توقعه، كيف يكون مصيرهم؟! سيكون أسوأ مصير بدليل أن القرآن لم يعبّر عنه وجعله مبهمًا.

تلخيص سورة الشعراء

سورة الشعراء هي سورة الإنذار أنزلها الله تثبيتًا لقلب محمد صلى الله عليه وسلم من أول آية (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٣﴾) وثبت قلبه وأتاه بقصص السابقين سبعة أنبياء ورسل كل نبي ماذا لاقى من قومه وكيف كان التكذيب وكيف ألحق الله بهم عذابًا استأصلهم، هذا المحور العام. ورأينا قصص الأنبياء ورأينا التعليق الأخير عن القرآن (وإنه لتنزيل رب العالمين) الحديث عن القرآن

لماذا قصّ الله على محمد صلى الله عليه وسلم قصص هؤلاء الأنبياء بالذات في هذه السورة؟ يوجد أنبياء آخرون، لماذا هؤلاء بالذات ومن هذه الزاوية زاوية التكذيب وزاوية إلحاق العذاب؟ سورة الشعراء في الحقيقة أنزلت لنا نحن المسلمين لنتعظ نحن، فكل ما ورد في القصص في حق الأقوام هي انعكاس للسيرة  له ما يماثله في قصة محمد صلى الله عليه وسلم، فيه انعكاس للسيرة: الأقوام السابقين قال (كذبت عاد المرسلين) (كذبت ثمود المرسلين) (كذب قوم لوط المرسلين) من أول آية (طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6)) المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كذبوا لما قال (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) قصّ عليه القصص ليرى عاقبة المكذبين , هذا هو سبب قصّ هذه القصص.

الأقوام كلهم قالوا لكل نبي ائتنا بآية والله تعالى يقول لا تنفع الأدلة الحسية ولو كانت تنفع لنفعت فرعون وقال في البداية (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴿٤﴾) لا تنفع الآية وإنما ينفع الحوار والعقل والمحاججة وأتاه بالأدلة مع الأقوام.

عندما إبراهيم الخليل حاججهم (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٧٠﴾ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴿٧١﴾) أيضًا القرآن حاججهم (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ﴿١٩٨﴾) المحاججة في قصة محمد صلى الله عليه وسلم.

كل رسول دعا قومه وحرص البيان القرآني أن يقول (أخوهم) وعندما جاء لمحمد قال (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴿٢١٤﴾) أنت أخو هؤلاء فادعهم ولا تبخل عليهم (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴿٢١٤﴾) كما دعا كل نبي قبيلته، انعكاس عجيب!

نوح عليه السلام قال له قومه (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴿١١١﴾) لن نؤمن حتى تطردهم قال (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١٤﴾) قال الله لمحمد (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢١٥﴾) هكذا ينبغي أن يُقرأ القرآن، كل ما في القصص يخاطبنا ويخاطب محمد صلى الله عليه وسلم وأتى من قصة محمد بما يناسبه (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) اخفض جناحك يا محمد لمن اتبعك كأنه يقول قل لهم كما قال نوح وما أنا بطارد المؤمنين وأنت اخفض جناحك يا محمد.

وعندما قالوا هذه ناقة، هذه العصا، هذه اليد، قال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾) أنت حجتك عقلية يا محمد وأعطاه الحجة العقلية.

عندما تكلم عن متاع عاد (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ﴿١٢٨﴾) عندما تكلم (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴿١٢٩﴾) وعندما تكلم عن فرعون (وأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم) تكلم عن ثمود (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ﴿١٤٦﴾ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٤٧﴾ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴿١٤٨﴾) كل هذا المتاع قال الله لمحمد عن قريش (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ﴿٢٠٥﴾ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿٢٠٦﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴿٢٠٧﴾) ذكر تمتيع الأقوام ثم خاطبه مع قريش قال له (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ) والله العاقبة ستكون مثل عاقبة هؤلاء، كلام حكيم!

عندما كانت الأقوام تستعجل بالعذاب (فائتنا بما تعدنا) هو ما أتى بكلام قريش وإنما علّق (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿٢٠٤﴾) أولئك الأقوام يستعجلون وهو يوجه الخطاب لمحمد وقومه (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿٢٠٤﴾) دلالة على أنهم استعجلوا العذاب فسيكون مصيرهم مصير الآخرين.

لما قالوا لصالح (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٥٣﴾) وقالوها لشعيب، الآخرون قالوا لمحمد كاهن قال الله (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴿٢١٠﴾) قالوا شاعر، قال (وما هو بشاعر) تجد مقارنة عجيبة بين جميع الأقوام وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم! خطاب دقيق!

كل رسول قال (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) قال (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾)

لما كل نبي قال (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿١١٥﴾) قال (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)

فاقرأ سورة الشعراء هذه خلاصتها من البداية وأتى بالقصص ثم أتى بالتعليق، التعليق يلخّص كل القصص ويسقط ما فعل الأقوام مع رسلهم وما بين محمد صلى الله عليه وسلم وعلاقته بقريش وبالمخاطبين فما أحرانا أن نقرأ القرآن بهذه الرؤية!