الحروف في القرآن الكريم, حرف الخاء

حرف الخاء – منظومة التذلل لله تعالى (إخبات)

اسلاميات

 

منظومة   التذلل لله تعالى   

إخبات–  تضرّع – خشوع –  لين –اطمئنان – خضوع

هذه الكلمات تتناول منظومة التذلل لله تعالى. أعظم العبادات هي عبادات القلب (إلا من أتى الله بقلب سليم) حينئذ هذا القلب السليم هو عنوان الصالحين المتفوقين يوم القيامة وهم لا يتفوقون إلا بذلك. ولكي تصل إلى أن يكون قلبك سليماً لا بد من أن يمر بمراحل من الترقّي والتدريب حتى يصل إلى سلامة القلب يبدأ بأن يكون مخبتاً ثم متضرعاً ثم خاشعاً ثم ليّناً ثم خاضعاً ثم مطمئناً حينئذ يصل إلى سلامة القلب. هذه الكلمات تبدو في الظاهر متشابهة أو بمعنى واحد (تخشع قلوبهم، تطمئن قلوبهم، تخضع قلوبهم) لكن كل واحدة منها تفيد مرحلة من المراحل وتسلمك للمرحلة التي بعدها.

الإخبات: التواضع نسبي فقد تتواضع بنسبة 10% أو 15% فإذا وصل تواضعك إلى نسبة 100% أي تواضعت لشيء أو لأحد أو لأمر تواضعاً مطلقاً ثم تلذذت بهذا التواضع حتى وصل بك الأمر أن لا ترى لك عِزّاً إلا بهذا التواضع فهذا هو الإخبات. قال تعالى (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) الاسراء) هذا الذل هو أعظم أنواع العِزّ مع أن الذل في غاية القُبح ولكن هذا الذل العبقري أن يكون ذليلاً لأبويك أي أن تتذلل لهما وتذل نفسك لهما فتقبل رجليهما مثلاً حتى أن يضربك أحدهما بنعاله مهما كان شأنك ولو كنت كبير قومك وترى في هذا الأمر عزاً قال r :إلزم أقدامها فإن الجنة هناك”. التواضع الذي تتذلل به وتراه عِزّك ومجدك وتحقيق ذاتك هو الاخبات (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الحج). إذا تواضعت لله تعالى وعبدته كل العبادات ترى نفسك كأنك لم تفعل شيئاً وأنت ضئيل في حضرته تتضاءل عنده تماماً كما قال r عن جبريل u في الملأ الأعلى: كان جبريل عليه السلام لشدة إخباته لله تعالى كالحِلس البالي في رحلة المعراج والحِلس هي الخرقة التي توضع على ظهر الدابة بين الدابة والركاب. هكذا يكون الناس الصالحون مع آبائهم وأمهاتهم ولقد رأينا صوراً لبرّ الوالدين والذل لهما من أعظم العبادات يوم القيامة وأصحابه هم من ملوك الجنة. (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) هود) بعض الناس يعمل الصالحات لكنه يريد أن يمدحه الناس لعمله أو يتعالى عليهم أما هؤلاء فأناس آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا فأنكروا ذواتهم ولم يكونوا متعالين أو مغرورين أو يطلبوا المدح من الناس على أعمالهم.

التضرّع: الإخبات هذا مرحلة تسلمك إلى الضراعة التي لها نفس مواصفات الإخبات بزيادة بسيطة ألا وهي رفع اليدين بكل ذل وانكسار بالدعاء لله تعالى كأي مسكين بائس يستجدي مالاً من ملك من الملوك أو أمير من الأمراء. قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) الانعام). بعد التواضع الشديد مع الله تعالى  في الساعات التي تدعو الله تعالى بها وتطلب منه تتضرع والضراعة هي طلب العفو من الله تعالى وليس لطلب شيء آخر والمتضرع مُخبت بزيادة دعاء وثناء واستغفار وطلب العفو. الدعاء هو طلب شيء من الله تعالى أما الضراعة فهي طلب العفو من الله تعالى.

الخشوع: إذا كان مخبتاً بهذا التواضع ثم تضرّعت سكنت جوارحك عندما تقف أمام الله تعالى وتخاطبه كأنك جدار. خاشع الجوارح هو الذي لا يتحرك ويبقى ساكناً تماماً (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) المؤمنون) يقال أن عروة بن الزبير كان إذا صلّى في الليل تقف الطيور على رأسه وتظن أنه جدار لشدة جموده وعدم حركته. قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) الحديد) الخاشع مُخبت أولاً متضرع ثانياً وثالثاً ساكن سكوناً كأنك ترى الله عز وجلّ وقد هدأت وخشعت جوارحك واستيقظ قلبك وتذكرت كل كلمة تقولها فهذا هو الخشوع وهو من أعمال القلوب كان الرسول r يصلي ورأى أحد المصلين يلعب بملابسه فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. وعندما نزل قوله تعالى ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) قال ابن مسعود ما كان بين اسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنوات. الكلام في الخشوع طويل والخشوع ثلاث درجات :

الأولى: التذلل للأمر عندما يأمرك تعالى بأمر لا تناقش أمر الله تعالى وإنما نفّذ فوراً والاستسلام لحكم الشرع مهما حكم الله تعالى عليك تستسلم لكل أحكام الشرع بلا نقاش والاتضاع لله تعالى فتعلم أن الله تعالى ينظر إليك فأنت متواضع لهذا النظر تماماً.  الثانية: مراقبة آفات النفس والعمل صحيح أنك خاشع لكن قد يكون فيك بعض العُجب أو الكُره أو تفرح لمدح أحدهم لك وتغضب إذا ذمّك أحدهم فيجب أن تنقي النفس أولاً وعليك أن تنقي عملك وكل العبادات فإذا كان في صلاتك نقص أو في صيامك مثلاً تنقيه  وعندما تترقى بالخشوع وإضافة هذا التذلل لله تعالى تنقي آفات نفسك وعملك. والثالثة حفظ الحُرمة عند المكاشفة وهذه خاصة بالصالحين والأولياء: كثير من العلماء والصالحين والأولياء يجتبيهم الله تعالى بأمر ما فعليهم إذا حصلت لهم هذه المكاشفة أن لا يظهروها وإنما يستروها ولا يحدّثون بها أحداً إلا إذا أُذن له بذلك “من عادى لي وليّاً آذنته بالحرب” (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

اللين: بعد الخشوع تأتي مرحلة اللين قلبك يلين أي لم يعد فيك توتر أو تشنّج. قد تكون أنت مخبتاً أو خاشعاً أو متضرعاً لكن قلبك خشن تستثقل طلب أحدهم أو ساعة الجهاد أو تستوحش أحياناً وتتألم لسفر ولد أو قريب أو مرض ومع أن هذه المشاعر إنسانية فهي تعبّر عن نقص في الأنس بالله تعالى. هذا الذي يصل إلى مرحلة اللين لا يعد عنده شيء من هذه المشاعر إطلاقاً (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) الزمر) الرسول r عندما ذهب في رحلة الاسراء والمعراج تركه جبريل u عند سدرة المنتهى ليخترق الحُجُب وحده فلما انطلق r وحده شعر بوحشة أنه بمفرده فما أن رأى النور حتى لان قلبه ولان جلده وزُجّ به في النور زجّاً وهذه مرحلة خاصة بالرسول r.

واللين ضد الخشونة وهي تستعمل للأجساد والقلوب يقال قلب خشن وجسم خشن. ليّن القلب “المؤمن هيّن ليّن” لا يغضب ولا يسب ولا يعاقب سريع التأثر “أكثر أهل الجنة رقاق القلوب” يُحسن الظنّ بكل الناس ولا يرى أنه أفضل من غيره مهما كان تقياً والمذنبون عنده أولى بالرعاية من الصالحين ويستر العورات.

الخضوع: كلمة ما جاءت في القرآن بمعنى القلوب. كل كلمة تكلمنا عنها سابقاً هو كلّ ما مرّ في القلب (مخبت، متضرع، خاشع، سكون تام ووقور) الخضوع ظاهري إضافة إلى القلب المنكسر جسمك مذلول لرب العالمين وهذا منهي عنه في الاسلام من حيث الشكل. والخضوع لغة هو نزول الرقبة ذُلاً وانكساراً والخضوع في القلب هو الأهم تتخيل أن لقلبك رقبة (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) الشعراء).

الاطمئنان: بعد هذا تصل لأن يكون قلبك مطمئناً لله تعالى تماماً مهما أصابك أعطاك أو منعك ” وعزّتي وجلالي لو ألقيتني في النار ما شكوت منك”. (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد)

كل ما تقدم هو الذُلّ العبقري (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) المائدة).

وهناك فرق بين الذُلّ والذِل: الذُل هو أن تقهر نفسك وهذه فضيلة أو يقهرك غيرك وهو رذيلة عليك أما الذِل فهو القهر من غير عدو كأن تكون أن بطبعك ذليلاً لا شأن لك بين قومك (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) يونس) (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) القلم) (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) المعارج). والخالد في النار هو الذي أذلّ نفسه.

فلسفة التذلل لله تعالى وكيفية مخاطبة الله تعالى لعباده:

عبادة التوبة من أعظم العبادات عند الله عز وجل وقد استأثرت التوبة بفضيلة لم تستأثر بها أي عبادة أخرى ةهي فرح الله تعالى بالعبد التائب “لله أفرح بتوية العبد من صاحب الراحلة” كم يفرح الله تعالى بالتائب عندما يتوب لأن في التوبة ذلاً وتذللاً وتضرعاً وإخباتاً لا تجدها في أي من العبادات الأخرى. تتوب وتتضرع إلى الله تعالى وتتذلل إليه. ولو علمنا كم تضرّع آدم u بعد أن أكل من الشجرة لعجبنا ولو لم تكن التوبة عظيمة لما ابتلانا الله تعالى بالذنوب كلنا يسأل الله تعالى أن يعصمه من الذنوب والله تعالى يحب ذلك لكنه لن يستجيب ذلك لعبد من عباده ويقول تعالى في الحديث القدسي: إذا كنت أعصمك فعلى من أجود وعلى من أتفضل ولمن أعفو. وإذا أحبّك الله تعالى يبتليك بذنب كي يوصلك هذا الذنب إلى عبادة لا تجدها إلا في هذا المكان.

ويقول أحد الصالحين: رُبّ ذنب أورث ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عُجباً واستكباراً. فالعُجب يُحبط الأعمال لكن لو عملت كبيرة ثم تبت إلى الله تعالى وتضرّعت إليه “أنين المذنبين أحبُّ إلى الله من تسبيح المسبّحين” “إن الله يحب المفتّن التواب” (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) آل عمران) كلما أذنبت ذنباً تبت من قريب يحبّك الله تعالى ومن كرمه سبحانه وتعالى وحُبّه للتوبة إذا كنت موحداً لله تعالى ومن أهل القبلة مهما كان ذنبك عظيماً لكنك لا تُذنب تحدّياً واستكباراً إنما من الضعف البشري فالله تعالى من كرمه يسخّر لك ملائكة خلقهم منذ مليارات السنين كل عملهم أن يستغفروا للمؤمنين طوال السنين وهذا من كرم الله تعالى (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) الشورى) (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) غافر) هؤلاء حملة العرش وهم 120حوالي  صفّاً وهم أقرب الملائكة لله تعالى.

الذنب كان لآدم ضرورة ولو لم يحبه الله تعالى لما جعله يُذنب، أخرجه من الجنة حتى يعود إليها بلذّة وهو تعالى خلق الجنة له حتى يعود إليها بدليل قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) الحجر).

يقول الصالحون مما جاء في الأثر أن أحد أنبياء بني اسرائيل قال يا رب أين أجدك؟ قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي وليس من شخص منكسر القلب كالمريض (حديث عبدي مرضت ولم تعدني إلى قوله لو عدته لوجدتني عنده). الله تعالى عند المريض دائماً والذي يزور المريض يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لأن الله تعالى عند عبده المنكسر بالمرض وأنت تزور هذا المريض لوجه الله تعالى. فإذا كان تعالى يُكرم من يزور المريض لأنه انكسر قلبه فما بالك بمن انكسر قلبه لمعصية ارتكبها وينوح على ذنبه بحيث لا يهتم بشيء. قال تعالى في الحديث القدسي: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم. ولهذا فالتوبة أعظم العبادات عند الله تعالى لما فيها من الانكسار. وما من انكسار أعظم من عبد مؤمن ارتكب معصية فانكسر قلبه مع الله تعالى وينوح على ذنبه.

رُبّ ذنب أعظم للعبد من طاعة. ابليس أحياناً يندم على أنه حرّض عبداً على ذنب يستيقظ العبد منه فيعوّض ذنبه بالاستغفار ويعمل أعمالاً كثيرة ليغطي الذنب الذي كان سبباً في اكتساب هذا العبد أجراً كبيراً فيقول ابليس ليتني ما أفسدته.

كل ذنب كان سبباً لترتّب طاعات وحسنات كثيرة أخبت قلبه وخشع ومن ضمن الوصول من الذنوب أن تصبح بعيداً كل البعد عن هذه الآفة التي تكاد تحبط أعمال الصالحين والعلماء والدعاة إذا وصلوا من هذا العلم والعطاء الى احتقار الآخرين. يجب أن لا تشنّع على أحد وأن تتغاضى عن ذنوب الآخرين وتنشغل بذنبك ولا تزدري عاصياً ولا تغضب منه وادعو له بالمغفرة فالدعاء لأخيك المسلم في ظهر الغيب من أعظم العبادات وتشفق على أخيك العاصي كما تشفق على نفسك. عندما تصاب بالذنوب الكبيرة تذوق طعم التضرع والخضوع والإخبات والتذلل ويجب أن تُحسن الظن بالناس ولا تتّبع عوراتهم وتساعدهم وتستر عليهم وتعينهم على الشيطان كما قال r: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم”. والسعيد من شغله عيبه عن عيوب الناس. والذنب أنفع بكثير من طاعات تتصور أنها ترفعك لكنها تخفضك وتحبطك إذا أصابك الغرور والعُجب ” يا آدم ذنب تذلّ به لدينا أحب من طاعة تُدلّ بها علينا” “من تتبع عورة مؤمن ليفضحه تتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته” وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ” لا تُظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك.

الإخبات نوعان : إخبات مع المخلوق وإخبات مع الخالق. الإخبات مع المخلوق تواضع (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) آل عمران) يجب أن تكظم غيظك فى تغضب ولا تشكو وأن تعفو عن من أساء إليك فلا انتقام ولا أذى ولا قطيعة وأن تُحسن إليه وهذا دأب الصالحين دائماً عندما يسيء أحدهم إليهم.  والبشارة من الله تعالى شيء عظيم فأنت لا تدري ماذا سيعطيك الله تعالى (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الحج) الإخبات مع المخلوق و (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) الحج) الإخبات مع الخالق. إذا خبت قلبك لله تعالى إيمان بصدق الكتاب العزيز فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وتذلل عبقري كما تتذلل لأبيك وأمك.قالوا يا رسول الله كيف نستحي من الله حق الحياء ؟ كما تستحون من الرجل الصالح من قومكم.

كيف نفرّق بين (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) الحج) وبين (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (103) آل عمران) حبل الله تعالى هو القرآن لا ضلالة ولا ومغالاة ولا بِدع ولا جهل ولا تطاول على العلماء والصالحين والمفسرين فأنت مع الجماعة (اعتصموا بحبل الله) ولكي تصل عليك أن تعتصم بحبل الله أما الاعتصام بالله فهو التوكل على الله تعالى التوكل الصحيح في كل أمورك بعد أن تقوم بالأسباب وتعمل جاهداً لكنك تعتقد أن الله تعالى هو الذي يوفقك . بالتوكل على الله تعالى والدعاء والتضرع تقضي على غضبك وعلى حقدك على المسلمين وتحسن الظن بأكثرهم فجوراً وتظهر حسناتهم عندها تتدرج في مدارج الصالحين.

بُثّت الحلقة بتاريخ 8/4/2005م