الحلقة 20:
نتناول في هذا البرنامج شيئاً من إعجاز البيان في القرآن وقد أصبت بحيرة في تحضير البرنامج وما زلت فالمعاني كثيرة والنماذج لا تنتهي كلما أزدادات الاختيارات زادت الحيرة. أي جوانب الإعجاز أطرق؟ أي الأمثلة أطلاح؟ وكل مثال أجمل من الآخر؟ فاستعنت بالله واخترت لكم.
في مجال سحر القرآن تحدثنا عن إعجاز الكلمات وإختيار كلمة مكان كلمة وعن الحروف وترتيبها واليوم نطرح موضوعاً جديداً مختلفاً يسمونه أسئلة القرآن. تكلم عن هذا الإمام الرازي في حديث عن أسئلة القرآن وأجوبتها.
مثال: ظلاّم: كيف قيل (وأن الله ليس بظلام للعبيد (182) آل عمران) وظلاّم صيغة مبالغة من الظلم ولا يلزم من نفي الظلام نفي الظالم، وعلى العكس يلزم فهلاّ قال: ليس بظالم ليكون أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟
صيغة المبالغة جيء بها لكثرة العبيد لا اكثرة الظلم كما قال تعالى (ولا يظلم ربك أحدا (49) الكهف) وقال (عالم الغيب (73) الأنعام) و(علاّم الغيوب (78) التوبة). لما أفرد المعمول لم يأت بصيغة المبالغة. ونظيره قولهم: زيد ظالم لعبده وعمرو ظلام لعبيده فهما في الظلم سيّان. وكذلك قال تعالى (محلقين رؤوسكم ومقصرين (27) الفتح) فشدد لكثرة الفاعلين لا لتكرار الفعل. أو الصيغة هنا للنسب أي لا يُنسب إليه ظلم فالمعنى ليس بذي ظلم إطلاقاً.
مثال آخر: كيد الشيطان وكيد النساء: كيف قال: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76) النساء) وقال في كيد النساء (إن كيدكن عظيم (28) يوسف) ومعلوم أن كيد الشيطان أعظم من كيد النساء؟
المراد أن كيد الشيطان ضعيف في جنب نصرة الله وحفظه لأوليائه المخلصين من عباده كما قال تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (42) الحجر) وقال حكاية عن إبليس (إلا عبادك منهم المخلَصين (40) الحجر) والمراد بالآية الأخرى أن كيد النساء عظيم بالمقارنة مع كيد الرجال والقائل إن كيدكن عظيم هو عزيز مصر لا الله تعالى فلا تناقض ولا معارضة بين الآيتين.
إذن كيد الشيطان ضعيف مقارنة بنصرة الله تعالى وكيد النساء عظيم مقارنة مع كيد الرجال. وهذا فيه رد على من يقول أن النساء ناقصات عقل ودين. الرسول r يقول في الحديث: ” ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب بلُبّ الرجل الحليم منهن” أي أنه رغم أنه تمر على النساء أيام لا تصلي فيها (ناقصات دين) وأن شهادتها نصف شهادة الرجل (ناقصات دين) ومع هذا تذهب بلُبّ الرجل الحليم.
مثال آخر: من الأسئلة التي سألها الإمام الرازي والتي قد تخطر في أذهان بعض الناس وكأنها تُشعِر بالاختلاف الحديث عن الأرض المقدسة وأنها محرمة على بني إسرائيل فإذا قيل أن التوفيق بين (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) المائدة) وبين قوله تعالى (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) المائدة)؟
معناها كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل (فإنها محرمة عليهم). والثاني أن كل واحد منهما عامٌ أريد به الخاصّ فالكتابة للبعض وهم المطيعون والتحريم على البعض وهم العاصون. والثالث أن التحريم مؤقت بأربعين سنة والكتابة غير مؤقتة فيكون المعنى أن بعد مضي الأربعين يكون لهم. وهذا الجواب تام على قول من نصب الأربعين بمحرّمة وجعلها ظرفاً. فأما من جعل الأربعين ظرفاً لقوله (يتيهون) مقدماً عليه فإنه جعل التحريم مؤبّداً فلا يتأتى على قوله هذا الجواب، لأن التقدير عنده: فإنها محرمة عليهم أبداً يتيهون في الأرض أربعين سنة، وهو موضع قد اختلف فيه المفسرون. هي لكم لو أطعتم الله فلما عصيتم الله فهي محرمة عليكم ثم لما أطعتم الله مرة أخرى أعطاكم إياها والآن لما عصيتم محمداً r فهي محرمة عليكم.
مثال آخر: قوله تعالى (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50) الأنعام) كيف ذكر القول في الجملة الأولى والثالثة وترك ذكره في الجملة الثانية؟
لما كان الإخبار بالغيب كثيراً مما يدّعيه البشر كالكهنة والمنجّمين وواضعي الملاحم ثم إن كثيراً من الجهال يعتقدون صحة أقاويلهم ويعملون بمقتضى أخبارهم بالغ في سلبه عن نفسه بسلب حقيقته عنه بخلاف الألوهية والملكية فإن انفاءهما عنه وعن غيره من البشر ظاهر فاكتفى في نفيهما بنفي القول، إذ غير الدعوى فيهما لا تتصور في نفس الأمر ولا في زعم الناس، بخلاف علم الغيب فافترقا، والمراد بقول (لا أقول لكم عندي خزائن الله) أي لا أدّعي الإلهية. لا أحد يتصور أن مشعوذاً يملك خزائن الله أو ملك من الملائكة فلما كان هذا بعيداً نفى القول (لا أقول) لكن لأن كثيراً من الناس يدّعون معرفة الغيب لم يقل لا أقول وإنما نفى علم الغيب أصلاً فقال (ولا أعلم الغيب) لينفي أصل المسألة عن نفسه وليس فقط نفي الإدّعاء والقول. هذه من دقة القرآن في هذه المسائل إلى درجة عجيبة فليس هناك لفظ في القرآن إلا وهو في مكانه الدقيق.
مثال آخر: كيف ذكر يوسف u نعمة الله تعالى عليه في إخراجه من السجن فقال (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) يوسف) ولم يذكر نعمته عليه في إخراجه من الجُبّ وهو أعظم نعمة؟ لأن وقوعه في الجب كان أعظم خطراً؟
إنما ذكر هذه النعمة دون تلك النعمة لوجوه: أحدهما أن محنة السجن ومصيبته كانت أعظم لطول مدتها (فلبث في السجن بضع سنين) وما لبث في الجب إلا مدة يسيرة (بضعة أيام). ثانياً: أنه لم يذكر الجب كيلا يكون في ذكره توبيخ وتقريع لإخوته عند قوله (لا تثريب عليكم اليوم) فهو ذكر نعمة الله عليه بإخراجه من السجن أمام إخوته. ثالثاً: أن خروجه من السجن كان مقدّمة لملكه وعزّه فلذلك ذكره أما خروجه من الجب كان مقدمة الذل والعبودية والأسر والرِقّ فلذلك لم يذكره. ورابعاً أن مصيبة السجن كانت أعظم عنده لمصاحبة الأوباش والأرذال وأعداء الدين بخلاف مصيبة الجب فإنه كان مؤنسه جبريل u وغيره من الملائكة عليهم السلام.
مثال آخر: ما فائدة السؤال في قوله تعالى (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) طه) وهو أعلم بما في يده جملة وتفصيلاً؟
فائدته تأنيسه وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب وهيبة الإجلال وقت التكلم معه كما يرى أحدنا طفلاً قد داخلته هيبة وإجلال وخوف وفي يده فاكهة أو غيرها فيلاطفه ويؤانسه بقوله ما هذا الذي في يدك؟ مع أنه عالم به. ثانياً أنه أراد بذلك أن يقرّ موسى u ويعترف بكونها عصا ويزداد علمه بكونها عصا رسوخاً في قلبه فلا يحوم حوله شك إذا قلَبَها ثعباناً أنها كانت عصا ثم انقلبت ثعباناً بقدرة الله تعالى وأن يقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه فينتبه على القدرة الباهرة وهذا يقرر في نفسه أن شيئاً غير عادي حدث فينتبه للمعجزة العظيمة التي حدثت أمامه.
مزيد من إعجاز القرآن وسحر القرآن وبيان القرآن في حلقة قادمة.