الحلقة 2
التقديم والتأخير في القرآن الكريم
د. محمد صافي المستغانمي
سؤال: موضوع القلوب في القرآن الكريم
كتبت بحثاً في موضوع القلوب وما زلت في اللمسات الأخيرة فيه بيانياً حول القلوب وأنا أطالع في كتب التفسير والحمد لله وجدت أن التعابير المتعلقة بالقلوب في القرآن كثيرة. ووجدت مرة يقول تعالى (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ) ومرة (طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (16) محمد) ومرة (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) البقرة) ما الفرق بين قلوبنا غلف وبين ختم الله على قلبوهم؟ مرة يقول (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ (5) فصلت) ومرة يقول (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) محمد) وأنا في الحقيقة استوقفتني وبحثت فوجدت أكثر من خمسين آية تتحدث عن القلب ولذلك لما طرح سؤال في الحلقة الماضية عن الفرق بين الختم والطبع، الطبع شديد والختم شديد أيضاً كلٌ في بابه فكتبت والحمد لله قريباً سيصدر كتيب صغير.
سؤال: أخبرنا الله تعالى عن فئة من الناس فقال (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7) البقرة) وفئة أخرى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً (23) الجاثية) لماذا قدّم السمع في آية وأخّره في آية؟
قدّم الحديث عن القلب في البقرة، تحدث مطلع سورة البقرة عن المؤمنين ثم تحدث عن الكافرين في آيتين (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)) ثم تحدث عن المنافقين حديثاً مسهباً مطنباً واسعاً. الطائفة التي تحدث عنها من الكافرين هي طائفة ميؤوس منها بدليل قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) إلى أن يقول (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) ختم على القلوب ثم (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) بالجملة الإسمية وبتقديم وتأخير بينما في سورة الجاثية (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) دليل أن طائفة الكفر هنا أقل درجة وليسوا متمكنين من الكفر كتمكّن أولئك، والإسم آكد من الفعل في التعبير في حمل المعنى وعندما تعبر بجملة إسمية تفيد الدوام والثبوت بينما الجملة الفعلية تفيد الحدوث والتأقيت. فهنا لما كانت هذه الطائفة ميؤوس منها شديدة الكفر عبّر بالآية (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ). هناك مسألة أخرى: لما تحدث عن المنافقين قال (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً (10) البقرة) الحديث مركّز على القلوب، إذن (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) وجوب تأخير المبتدأ (أصلها “مرض في قلوبهم” ولكن نحوياً لا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تُفِد) لكن ليس هذا هو الداعي فقط وإنما يريد الله تعالى أن يبيّن لنا أن قلوبهم مريضة (الظرفية) في قلوبهم مرض لا في عقولهم فقط أو في أذهانهم مشوشة والمرض إذا استقر في القلب أشد “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله”.
نأتي إلى سياق سورة الجاثية (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً (23) الجاثية) هؤلاء يعبدون أهواءهم والذين يعبدون أهواءهم لا يعبدون الله نعوذ بالله من هؤلاء، (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) اختلف التقديم والتأخير لاختلاف السياق بشكل عام، سورة الجاثية تتحدث عن تعطيل السمع قبل هذه الآية بقليل (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)) حديث عن السمع عمن يعطل سمعه ولا يتفقه آيات الله ولا يتفهم معانيها بل يستغشي ثيابه ويعرض عنها، في هذا السياق الأوْلى تقديم السمع (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) لأنه يتحدث عن السمع، عن تعطيل هذه الوظيفة الربانية العظيمة.
سؤال: حينما يعطل وظيفة السمع بالإعراض مرة يخبرنا (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ (7) نوح) يعطل أيضاً السمع هل هذا تقديم لأنه أعرض بسمعه عن ذكر الله سبحانه وتعالى والاستماع إلى كلامه؟ تقريباً هذه هي النكتة البلاغية. أما الكفار فلم يريدوا أن يستمعوا وكانوا يقولون (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ (26) فصلت) كانت آيات القرآن تجذبهم، والعرب قديماً كان بمستوى لغوي عالي وبرغم كفرهم وإلحادهم وإنكارهم كانوا على مستوى عالٍ من الفصاحة والبلاغة والبيان وكانت آيات القرآن تستهويهم مع كفرهم فلما يسمعون القرآن تجذبهم جاذبة البلاغة وعلى رأسهم الوليد بن المغيرة لما قالوا له صف لنا القرآن قال: “إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يُعلى عليه” عظمة في الوصف وهو كافر! ثم خضعت رقابهم لبلاغة القرآن.
عندما كان السياق يتحدث عن تعطيل آية السمع (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا) حتى التقديم بين أفّاك وأثيم هو يُكثِر من الكذب إلى أن تصبح قدمه راسخة في الإثم. هنا (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا) فكأن في أذنه وقر ثم بعد قليل قال (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) ما زال الحديث عن نفس الطائفة هنا قال (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ) الذي عطّله أولاً (وَقَلْبِهِ) وانتظمهما بنفس حرف الجر (على) واحدة (سمعه وبصره).
سؤال: هل ختم يعني عطّل آلية السمع وعطّل آلية الإحساس القلب؟
لكن هل المقصود هنا آلة السمع أو العقل الذي يفهم؟ عطّل آلة السمع الحقيقية، آلة الإدراك هو يسمع لكنه لا يفهم ولا يُدرك (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) البقرة) نحن لا نرى الكفار والمنافقين صماً بكماً وإنما يرون أحسن منا ويسمعون أحسن منا لكن قلوبهم عمياء عن الحق صماء عن سماع الحق والقرآن. وهنا عطّلأ الإدراك المتعلق بالسمع.
ثم قال (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) بالجملة الفعلية هؤلاء أدون مقام في الكفر، أولئك في البقرة متمكنون في الكفر (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) والجملة الإسمية أشد ثباتاً ولذلك استخدم مع الذي اتخذ إلهه هواه (جعل) ومع الكفار (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ).
سؤال: ماذا لو قيل (وغشاوة على أبصارهم)؟
نحوياً لا يجوز، والقرآن أنزله الله تبارك وتعالى معلّماً ومنه استنبطت قواعد النحو ومنه استنبطت قواعد البلاغة، عبد القاهر الجرجاني عندما يقول “هو قاهر البلاغة” وكتب الصنوين العظيمين دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة أتى بهما من التأمل في النص القرآني.
سؤال: في كلام ربنا تبارك وتعالى في السفن وهي تمخر عباب البحر وهي آية سخرها لنا قال مرة (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) النحل) وفي موضع آخر قال (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) فاطر) ختمت الآيتين بنفس الجملة تقريباً لكن التقديم والتأخير (مواخر فيه) و(فيه مواخر) فما دلالة التقديم والتأخير؟ وما معنى مواخر؟
يمخر لغة عندما نقول السفينة تمخر عباب البحر يعني تشق طريقها بصوت، هذا التفسير اللغوي ونقول الفلك مواخر والسفن ماخرة مواخر يعني تشق طريقها (نظرية أرخميدس) لا تغرق هي تمخر وتشق طريقها بهدوء وصوت وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى فهو يفعل ما يشاء ومسبب الأسباب. نعود إلى السورة، فكل سورة لها شخصيتها ولكل سورة لها جوها العام. الآية الأولى في سورة النحل (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) سورة النحل تحدثت عن وسائل النقل يقول تعالى (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)) يتحدث عن الأنعام ثم قال (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (8)) وسائل النقل القديمة هي الأنعام، الإبل، الخيل، البغال، الحمير، وردت كلها في سورة النحل، ثم قال (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8)) الطائرة، وكل وسائل النقل المعاصرة تدخل في هذه الآية وطلاقة القدرة مفتوحة، في هذه الآية إشارة إلى وسائل النقل الحديثة بعد أن تحدث عن وسائل النقل القديمة (الأنعام، الخيل والبغال والحمير). وبعد قليل قال (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)) الحديث عن وسائل النقل يقتضي تقديم كلمة (مواخر) لأنها من صفات السفن. (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) الخطاب لكل مسلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوطبت الأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم، وترى الخطاب للنبي أولاً ثم للجميع، أيها المشاهد الفلك مواخر فيه، فبما أن السياق تحدث عن وسائل النقل وعن عظمة هذه المخلوقات التي سخرها الله تعالى لنا ناسب ذلك أن تقدّم صفة الفسن والفلك (مواخر). بينما في سورة فاطر (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) سبقها حديث عن البحر (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا (12)) الحديث عن البحر فهنا يناسب (الفلك فيه مواخر) التناسق بين ألفاظ القرآن، البحر والحديث عنه استدعى وجذب كلمة (فيه) أولاً ثم (مواخر) وهذه البلاغة القرآنية العظيمة.
سؤال: قال تعالى (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) آل عمران) وفي آية أخرى (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) الأنفال) فما دلالة التقديم والتأخير؟ وما اللمسة البيانية؟
الآيتان تكادان تكونان متطابقتان تطابقاً كلياً إلا في نقطتين: في نقطة تقديم (قلوبكم) على الجار والمجرور (به) وفي نقطة (لكم) في الآية الأولى. ما الذي جعله الله بشرى لكم؟ النصر في غزوة بدر، نصر غزوة بدر كان نصراً مؤزّراً، الخطاب كان موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم والبدريون الذين شهدوا الغزوة معه. في آية سورة الأنفال قال تعالى (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى) ما قال (لكم) لأن جو الآيات الأولى في سورة آل عمران تحدثت باقتضاب وإيجاز عن أهل بدر ثم أردفت الحديث عن غزوة أُحد، وفي غزوة أُحد خرج المسلمون قرحى يغشى وجوههم الحزن على تلك النتيجة المؤلمة عندما خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي ليست هزيمة عسكرية وإنما نتيجة عدم رضوخهم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفة أمره (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) النور). هنا السياق بالدرجة الأولى عندما انتهت غزوة أُحد في الميدان بدأها الله في القرآن في ثمانين آية والمفسرون يقولون انتهت في الميدان وبدأت في القرآن (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) آل عمران) الحرب سجال يوم لك ويوم عليك، كان المسلمون في حزن شديد وكانت قلوبهم في انكسار لوقعة تلك النتيجة ولا أقول الهزيمة، كانت قلوبهم بحاجة إلى المواساة ومسح دموع المعاناة فقال هنا (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ (126)) بشرى لكم أيها البدريون وهذه عناية بهذه الطائفة المنصورة ببدر، وقدّم القلوب على الجار والمجرور (به) مواساة للقلوب الكليمة التي جُرِحت في تلك الغزوة الأليمة (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ) (به) أي بالنصر المؤزّر المؤيد من عند الله سبحانه وتعالى، وكأن هذه نعمة الله سبحانه وتعالى لطمأنة قلوبهم فقدّم القلوب.
الآية الثانية في سورة الأنفال وسورة الأنفال لم تتحدث عن أُحد وإنما تحدثت عن بدر، عن النصر المؤزّر العظيم، مقام اعتزاز بالنصر (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)) (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)) الكلام والسياق عن النصر العظيم في بدر، هنا (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى) لم يذكر (لكم) وقدّم (به) (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) على قلوبكم أي بالنصر. هنا العناية الكبرى بالنصر فقدّم وفي آل عمران العناية بالقلوب الجريحة المكلومة فجاءت طمأنتها عن طريق تقديمها.
سؤال: الجار والمجرور يتعلق بالفعل (اطمأن بـ) وفي قوله تعالى (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد) قدّم الجار والمجرور المتعلقان بالفعل نفسه على الفعل، فلماذا؟
للعناية والتنبيه والإهتمام بذكر الله، بغير ذكر الله لا تطمئن القلوب، هذه قاعدة. اللغة تحتمل أن يقال تطمئن القلوب بذكر الله وبذكر الله تطمئن القلوب لكن (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) حصراً وقصراً وتخصيصاً الطمأنة العظيمة بذكر الله لا بالموسيقى كما يقول بعض الغربيين، وبعض مستشفيات أميركا في ولاية فلوريدا قالوا لهم القرآن يطمئن القلوب فأرادوا أن يجربوا في أحد المستشفيات أسمعوا جانباً من المرضى القرآن وهم ليسوا مسلمين ولا عرباً وأسمعوا جانباً آخر من المرضى موسيقى هادئة وبعد التحاليل – وأنا قرأت هذا في أبحاص في الإعجاز العلمي عن تأثير القرآن حتى على غير المسلمين – بعد التحاليل وجدوا أن الذين استمعوا إلى القرآن تحسنوا والذين استمعوا للموسيقى ما فعلت شيئاً لهم فقالوا ربما صدفة فغيّروا العملية فتغيرت النتيجة فما أعظم القرآن! (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) لا بغيره تطمئن القلوب. وفي الوقت نفسه نقول (الباء) حرف جر متعلقة بالفعل.
سؤال: صفات الله سبحانه وتعالى بين ترغيب وترهيب في قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (156) الأعراف) يقدم الرحمة لكن يقدِّم الغفران على العذاب كما في قوله (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء) وفي آية أخرى قال (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) المائدة) فلِمَ يقدّم العذاب على المغفرة مع أن الغالب في القرآن تقديم المغفرة؟
تقديم الغفران على العذاب هذا ديدنه، هذا شأنه جلّ جلاله. تقديم العذاب على المغفرة اقتضاه جو السورة والسياق، القاعدة الأصلية أن الله تبارك وتعالى رحمته وسعت كل شيء ويغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
سؤال: لكن الرحمة مقيدة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الأعراف) إبليس قال أنا شيء كما ورد في الأثر فهل هو مشمول برحمة الله؟
لا، إبليس عصى وأبى إباء جازماً قاطعاً واستكبر (إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) البقرة) كان متعمداً، حجد.
سؤال: لكن الرحمة مقيدة (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص)
قال تعالى (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) ويبذلون جهداً في التقوى، هل يدخل الله تعالى المسلم الجنة هكذا؟! لا بد من أن يصبر ويجاهد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) آل عمران) لا بد من المشقة فرحمة الله الأصل المغفرة مقدمة على العذاب. أما آية سورة المائدة (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)) ألم تعلم يا محمد صلى الله عليه وسلم، ألم تعلم أيها المتدبر أن الله له ملك السموات والأرض يعذِّب ويغفر وفي آيات يعذِّب ويرحم (يُعَذِّبُُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء (21) العنكبوت)، نقرأ قبل آية المائدة نجد أن الآية عن أهل الحِراب، عن قطّاع الطرق (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) المائدة) هذه طائفة، والطائفة الثانية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)) آيتان تتحدثان عن قطع الطرق والسرقة يناسبهما تقديم العذاب على المغفرة لا تقديم المغفرة على العذاب. كل ذي عقل رشيد يقول (يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء) هنا السياق يقتضي أن يقدم العذاب على المغفرة لأنه لو قدّم المغفرة لتكاسل الناس ولظلوا في طغيانهم يعمهون، بينما السياق يتحدث عن الكفر، عن المقاتلين، عن المحاربين، عن السارقين فينبغي تقديم العذاب على المغفرة. الضابط هو السياق العام للسورة.
سؤال: في قوله تبارك وتعالى (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) طه) ومرة يقول (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) الشعراء) فلماذا التقديم والتأخير بين هارون وموسى مع أن سيدنا موسى هو الرسول؟
موسى عليه السلام هو رسول بني إسرائيل الأكبر وهو المقصود بالرسالة أولاً. وردت آيات كثيرة (موسى وهارون) إلا في آية واحدة (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) طه) قدّم هارون على موسى ولهذا أسباب كثيرة ذكرها المفسرون ومن يخرّجون التوجيهات البيانية والفنية في القرآن الكريم. بعض المفسرين يقولون قدّم هارون لِكِبَر سِنّه فهو أكبر من موسى، وبعضهم يشدد ويؤكد على مراعاة الفاصلة (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) طه) ونحن نعلم أن سورة طه لها نفس الفاصلة، صحيح الفاصلة مرعية جداً ولكن ليست بالدرجة الأولى، بعضهم وهذا توجيه سديد جداً، فرعون لعنه الله كان يقول (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) النازعات) فعندما قال السحرة الذيين آمنوا، المؤمنون الجدد (قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ) قد يظنّ ظانٌّ أو يتوهم واهمٌ أنهم أنهم يقصدون فرعون وقد يظن فرعون ذاته أنهم يقصدونه فهنا جاءت (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) لدفع الوهم حتى لا يُظَنّ أن المقصود بالرب هنا فرعون لأن فرعون امتنّ على موسى في سورة الشعراء فقال (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)) أنا الذي رببتك أي ربيّتك. فحتى يزال هذا الوهم قدّم (هارون). وفي الحقيقة أنا أميل إلى توجيه الدكتور فاضل وإن كان هذا التوجيه الأخير أيضاً سديد، يقول الدكتور فاضل أن هارون ذكر في سورة طه ذكراً مكثّفاً بخلاف السور الأخرى والخطاب في سورة طه كان موجهاً لموسى وهارون بالدرجة الأولى الإثنان معاً (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) هنا كان حضور هارون حضوراً واضحاً جلياً مكثّفاً في سورة طه فاستدعى تقديمه لأجل هذا المعنى للمحافظة على الإيقاع العام لسورة طه. بينما في سورة الشعراء ورد ذكر هارون مرتين فقط على طول السورة وفي سور أخرى قد لا يُذكر وإنما يُذكر موسى على الإفراد وحتى عندما تحدث موسى تحدث بالإفراد (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) الشعراء) ما قال إنا رسولا، أفردها في سورة الشعراء بينما الخطاب في سورة طه مبني على التثنية، وهذا ترجيح لذكر هارون قبل موسى أولاً لحضوره المكثّف عناية به وثانياً للمحافظة على الإيقاع العام وهو مرعيٌ في القرآن الكريم. القرآن بُنيَ بناءاً عظيماً معنوياً وإيقاعياً. مثال آخر في نفس السورة (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) طه) أصل الكلام “وكذلك تُنسى اليوم” قدّم ظرف الزمان للعناية به يوم القيامة، أيها المشرك يا من كفرت ونسيت الله سبحانه وتعالى (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) تقديم للعناية بظرف الزمان الذي هو يوم القيامة ومراعاة للفاصلة القرآنية. الفاصلة القرآنية فيها كلام كثير ولا تُنكر لكن المقدّم هو المعنى. في قوله تعالى (لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) طه) تقدير الكلام لكان أجل مسمى لزاماً، هذا التأخير لهدف معنوي ومراعاة للإيقاع العظيم لسورة طه رائعة جداً بألفها المقصورة. لذا نقول المعنى مقدَّم ثم تليه رعاية الفاصلة لأن القرآن لفظ ومعنى.
سؤال: في قوله تبارك وتعالى (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) الضحى) ما قال (قلاك)؟
بالدرجة الأولى اللخ تبارك وتعالى تحرزاً من جمع ضمير محمد صلى الله عليه وسلم بالفعل قلى الذي فيه بغض حتى لا يجمع بين فعل البغض (قلى) وبين ضمير المخاطب للرسول صلى الله عليه وسلم. القلى أبداً ففصله، إذن المعنى هو المرعي لكن جميل جداً عندما تسمع الإيقاع (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (4)) الفاصلة مرعية. مثال آخر في سورة القيامة (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)) قبلها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴿٢٢﴾ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴿٢٣﴾ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴿٢٤﴾ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴿٢٥﴾ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ﴿٢٦﴾ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴿٢٧﴾ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴿٢٨﴾ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴿٢٩﴾ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴿٣٠﴾) (إِلَى رَبِّكَ) شبه الجملة مقدّمة هنا للمعنى أولاً قصراً وحصراً ليس إلى أيّ أحد إلى ربك وحده المساق. لكن لما تقرأ (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) هذه الفاصلة العظيمة تعطيك إيقاعاً عذباً شجياً رناناً ولله في خلقه شؤون سبحانه.
سؤال: في قوله تبارك وتعالى وهو يوصينا ببر الوالدين (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) الإسراء) الملاحظ هنا إستخدام الضمير (عندك) فلماذا قدّم الظرف على المفعول به؟
سيبويه أجاب “يقدّمون ما هم ببيانه أعنى” هنا العندية مقصودة، خارج القرآن الكريم إما يبلغن الكبر عندك. (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا) لاحظ تأخير الفاعل، (عندك) الظرفية مقصودة، أيها الناس أيها الأقوياء إذا بلغ الآباء سن الكبر وبلغتهم الشيخوخة واحدودب الظهر وشاب الشعر ووهن الجلد ووهن العظم في هذه المرحلة لا ترموا بآبائكم إلى دور العجزة، (عندك) تحافظ على والديك، لا ترمِ والديك في دور العجزة والإسلام بريء من هذه الفعلة الشنعاء الموجودة في المجتمعات الغربية، دور العجزة أتحب أيها الإنسان أن تكبر وتُرمى في دور المسنين؟! (عندك) وصية من الله أن يحافظ على والديه وقبلها قال (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (إحساناً) لم يقل وأحسِن إنما داء بالمصدر وهناك فرق بين التعبير بالمصدر مهم جداً. وقال (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (15) لقمان) لم يكتف بالأمر بعد الطاعة في حالة الشرك وإنما قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) المصاحبة بالحسنى، هذان هما الوالدان. ولهذا (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) العندية هنا مقصودة لعناية المسلم بالوالديك وإياك أن ترمي والديك. وآسية زوجة فرعون عندما قالت (اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (11) التحريم) قدّمت العندية، الذي يهم زوجة فرعون المؤمنة آسية التي ربّت موسى عليه السلام (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) مقتضى الحديث أن يقال: رب ابنِ لي بيتاً في الجنة أو في الجنة عندك. إنما قالت (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) هي تريد العندية وتريد المعية (أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) العندية مقصودة فهي مقدّمة. على الأبناء أن يعنوا عناية فائقة بالوالدين ووالله مهما أكرمت والديك فلن تدفع معشار ما عانته أمك وهي تحملك وكلنا يعرف قصة الذي كان يحمل أمه على ظهره فقال له ابن عمر ولا بطلقة من طلقات الحمل. نسأل الله العافية، اللهم احفظ أمهاتنا وارحم من مات من والدينا واجعلنا بررة.
سؤال: في قوله تبارك وتعالى (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى (20) القصص) ومرة قال (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) يس) ما دلالة تقديم وتأخير رجل ويسعى مع أن الحاصل أنه جاء رجل من أقصى المدينة يسعى؟ وما الذي يفيده هذا التقديم والتأخير؟
الأولى وردت في سورة القصص (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى (20)) هذه لا نعلق عليها لأنها جاءت على سنن العربية الفاعل يقدَّم ثم المفعول ثم الظروف ثم المفاعيل، هناك في العربية مواقع محفوظة ومواقع غير محفوظة. الكلام إذا جاء على أصله فلا يُسأل عنه (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى (20)). بينما السؤال في سورة يس (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)) قرأت هذا في التفسير، العلماء يقولون وردت هذه الآية في حوار أولئك الأقوام مع رسلهم (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15)) هنا محاورة فيها نوع من الشكوك وأصبح الأنبياء يؤكدون (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)) في هذا الحوار لأهل المدينة (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) هنا التركيز والعدسة البيانية القرآنية تركز على المكان الذي جاء منه الرجل أنه جاء من بعيد واستفاد من الدعوة، الشيخ الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير رحمه الله وهو كتاب مليء بالفوائد قرأت فيه أنه جاء الرجل من أقصى المدينة وانتفع بالدعوة وانتفع بالرسل وأصحاب القرية للأسف لم ينتفعوا وعموا وصموا وضلّوا وحاوروا وجادلوا فأرادت العدسة البيانية القرآنية أن تبرز هذا المعنى (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) فقال (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) ناداهم بالقومية بأنه ينتمي إليهم، أنا أنتمي إليكم وأنا لكم ناصح ودار بينهم حوار طويل (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23)) هذا الرجل الذي نصحهم ركّز القرآن على أنه جاء من أقصى المدينة العناية بهذا المكان إفادة الثناء على أهل الأطراف وفيهم خير وبركة كبيرة وهو الذي جاء وأنقذ الموقف ولكنهم قتلوه ونال الشهادة. هذا والله أعلم.
إذا نظرنا لطبيعة إعراب كلمة (يسعى) في كلتا الآيتين نجد في الآية (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) يسعى جملة فعلية بمحل صفة (الجُمَل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات) أما الآية الثانية (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى) هنا (يسعى) جملة حال والدليل أنه في الأولى قال بعدها (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23)) هذه صفته وهذا ديدنه فحاور وقتل في سبيل الله فتلك صفة. أما رجل موسى في سورة القصص (قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) هذه إشارة وكأنها حال هذا الرجل وهو يأتي يسعى لإظهار حالة معينة فلما اختلف إتجاه الرجل اختلف التقديم والتأخير. وكل إشارة تعطي دلالات رائعة لقارئ القرآن المتدبر.
بُثّت الحلقة بتاريخ 19/6/2010م
من قسم الفيديو